ما كان لكتابة رحيم عتيقي أن تكون على درجة عالية من الشاعرية البديهية لو لم تكن تنهل من روافد روح الإنسان الأفغاني المستباحة بجنون التاريخ الحربي والديني الذي سقطت فيه بلاده دون أن تسأل بأي ذنب قتلت. وقد ذكر رحيمي أنه انطلق في الكتابة ليبيّن عمق التمزق الداخلي الذي حدث في كيان الشعب الأفغاني ونفسيّته، وأنه اختيار الشكل الروائي بسبب حداثة المدونة الروائية في أفغانستان الذي كان مثل العرب والفرس والهنود بلد أدبه الأول هو الشعر: «أدبنا شعري. تكتب الفلسفة عبر القصائد يتحدث العلماء عبر القصائد، يتحدث رجال السياسة عبر القصائد، يتحدث المؤرخون عبر القصائد. ليس هناك سوى مكان صغير للكتابة الروائية، ما عدا شخصين أو ثلاثة من القصاصين، هم أكرم عثمان وسبوجهماي زرياب وزوجها رهنا ورد زرياب، لا نجد سوى روايات قليلة جدّا»(1).
ولا يرفض عتيق رحيمي الشعر لكنه اختار الابتعاد عن صيغ الكتابة التي تبقيه سجينا داخل الرمزية، والحال أن فن الرواية يوفر «حرية أكبر، نستطيع أن نذهب إلى أبعد، نستطيع الدخول في نفسية الناس وأن نتحدّث بشكل أكثر شفافية …»(2).
في إبداع رحيمي رغبة عارمة للتوثيق والرصد والتحليل عبر الرواية والتصوير والسينما. تتجسد تلك المقاربة الإبداعية في بحث عن سبل الذهاب بعيدا في رسم الأطوار الجديدة التي بلغها وعي ونفسية الأفغان المتنقلين من محنة إلى أخرى ومن مأساة إلى أخرى على نمط تراجيديات الإنسان الذي تتخلى عنه الرعاية الربانية في المسرح الإغريقي. كذلك مرّ رحيمي من السعي إلى توثيق ماضي وحاضر الأفغان عبر الصورة في عمله «العودة الخيالية» (2005) إلى الإيجاز في التحليل النفسي والوعي لباطن الشخصيات التائهة في أتون ضروب لا نهاية لها في رواية «ملعون دوستوفسكي».
تحولت أفغانستان، بسرعة، إلى ساحة لجنون الصراعات الدولية فعرفت خلال أربعين عاما، تقريبا، كل أصناف الأنظمة السياسية والنزاعات الإيديولوجية والدينية، وكل تنويعات العنف السياسي والعسكري، فأصبحت الحياة الاجتماعية والفردية خاضعة لإيقاع هيستيري وخطير إلى حدّ إنقلاب نواميس العيش. ولعلّ ذلك هو سبب اختيار عتيقي الجنس الروائي للكتابة الإبداعية لأن الحياة اليومية للأفغان أصبحت توفر مادة غير متناهية لذلك، كما بيّن ذلك : «نحن إزاء إفراز لبيئة من نوع خاصّ جدّا. نعيش منذ ثلاثين سنة في أجواء الحرب حتى صار كل أفغاني في حدّ ذاته (…) لست أبالغ عندما أقول أن كل أفغاني رواية كاملة»(3) لأن التاريخ لم يعد يسير بهوادة بل أنه اندفع بقوّة جارفة جعلت الإنسان يعيش خلال شهر واحد ما يتعرّض إليه شخص أخر من بلد آخر خلال خمسين عاما أو أكثر. لقد أصبحت الحياة الفردية ثرية بالأحداث مثقلة بالإبتلاءات والمحن الخارجة عن دائرة إرادة الإنسان البسيط، وكأن الأقدار تنهض وتهيج حسب عبارة … اللورد بايرون.
تطغى روح شاعرية على الكتابة السردية عند رحيمي وتدفعه إلى إجلاء روحانية مشرقية أبعدته عن منطق العنف وعن غواية السلاح والسياسة وإن كان عقله مشغولا بإفرازات كل ذلك. وهو مسكون بما آلت إليه «الروح» الأفغانية تحت وطأة التدمير التي تعرض لها من قبل الغزاة الأجانب وأبنائها المحترقين في أتون الصراعات المتنوعة والمتجدّدة التي تعصف بالكيان الوطني وكأن الأمر حتمية ثابتة. والأفغاني العائش في جحيمه الماثل أمام رحيمي قاتل ومقتول، لكنه وبالرغم من كونه يعرف كيف يُقتل أو كيف يقتل فهو لا يفقه لماذا ؟ وبأي حق ؟ ولصالح من ؟ … أهو عبث الأقدار أم مشيئة الكبار وجهل الصغار وضعف الأحرار … ؟ لكن رحيمي الذي لا يتجرأ على التفكير في المستقبل له هوس به وهو يعبر عنه بشغفه بماضي الأفغان وتراثهم وبحرصه على الحفاظ عليه دون نوستالجيا ودون تفريط لأنه (أي ذلك الماضي …) يحتوي على عناصر أمل ممكن وواقعي قد لا تنجح آلة التدمير الفاعلة في الواقع الأفغاني، راهنا، في القضاء عليها نهائيا. إن أفغانستان الذي احتفظ به رحيمي في صورة فوتوغرافية (بالأسود والأبيض) وفي الثنايا الملتوية لكتاباته السردية يعبق سلما وانفتاحا وإعتدالا وحبّا للفنّ والتنوّع الثقافي. لذلك يتوجع رحيمي مما آلت إليه أوضاع بلده إلى حدّ الدمار المادي والمعنوي. وإن نلمس في إبداع رحيمي تعلقا إلى حدّ التماهي مع الزمن الضائع من حياة الأفغانيين قبل الانحدار في أتون جهنم الحروب الدينية والأيديولوجية والصراعات الدولية وما رافقها، فإن الهاجس المركزي لكتاباته هو البحث عن مآلات ذلك التدمير وعن تأثيره عن نفسية الإنسان الأفغاني وعن الوعي الفردي والجماعي الذي رافق السقوط في الجحيم.
اختار عتيق رحيم ألا يكون شاهدا محايدا أو شاهدا زاهدا، بل أنه أراد أن يكون حارسا لذاكرة وطن محطم ومفكك محاولا حماية نبض ضعيف في جسد متهالك على أمل أن يستعيد قوة أو حياة إذا ما انقشع الكابوس. كما أنه لم يعتبر أن لغة الكتابة الأدبية أو السينمائية مسألة مهمّة حيث أنه استعمل الفارسية والبشتونية وحتى الفرنسية مركزا عنايته على التوثيق والرصد من ناحية وعلى السعي على فهم منطق التفاعل النفساني والذهني للإنسان الأفغاني مع محيطه وحروبه من ناحية أخرى. ويحيلنا ذلك التساهل في اختيار لغة الكتابة والسرد والحوار إلى جانب التنوّع الثقافي الذي يعرفه ويمارسه المجتمع الأفغاني دون تشدّد مفرط وهو المتنوّع الأصول والعروق والمعتقدات. وحتى بخصوص المعتقد الديني فإن رحيمي يتناول المسألة بنوع من أريحية هادئة التي تقرّ بإسلامية الممارسة الثقافية والدينية للإنسان الأفغاني المتنوّع الأصول الأثنية (أوزبيك وطاجيك وباشتون وهزارة …) والتي لا تتمثل تلك الهوية كسياق خصوصيّ ومنغلق عن ذاته ورافض لللآخر الذي يعايشه ويوازيه. إن أبطال روايات رحيمي متجذرون في معتقدهم الديني لكن دون مغالاة أو إستنفار ولا يتعاملون مع محيطهم على قاعدة الانتماء الديني أو المذهبي بل أنهم، جميعا، يكشفون استغرابهم وعدم استيعابهم للتحوّل التاريخي الذي أصبح بمقتضاه البعض منهم أكثر تديّنا أو أكثر إسلاما من البعض الآخر، كما أنهم لا يتمثلون كيف يمكن لأحدهم أن يقتل الآخر تحت عنوان تجسيد الدين الإسلامي وممارسة أحكامه وتعميق قيمه التي بدأت تتغير مضامينها حسب ظروف السياسة وشروط الحرب. كل أبطال روايات عتيقي تجاوزتهم الأحداث التي واجهوها ولم يفهموها، كلهم يتساءلون عن سبب ما يحدث وكلهم عاجزون عن الفهم وعن صياغة جواب. إن عالم عتيقي هو عالم استنكار بسبب سوء الفهم أو قلته أو حتى إنعدامه. وهو كذلك عالم شحيح ومغلق أو حتى انه مفتوح على المجهول حيث لا يجد فيه الإنسان جوابا على أي سؤال. وكأنه أبكم أو أصم أو الاثنين معا. هو عالم صمت قاتل وصمت يقتل فيه الناس دون منطق ودون سبب جليّ ودون تفسير أو تبرير، بل أنه عالم الصدفة الخرساء والعبثية التي تفاجئ الناس بتركهم على قيد الحياة أو خارج دائرة الضحايا لمجرد أن غيرهم سقط وانتفى. لذلك تصبح الحياة لا حياة لأنها لا تحتمل أي معقولية وأي مشروعية، بل انها في جوهرها موت مؤجل.
لقد اغتالت حروب أفغانستان كل الأجوبة الممكنة لأسئلة الإنسان الأفغاني وهزمته وقتلت فيه حتى رغبة السؤال، لذلك نراه يصمت (حجر الصبر) أو يرفض الكلام (ملعون دوستوفسكي) أو يرفض الاستماع (أرض ورماد). وقد تكون علاقة رحيمي مع الكلمة (ومع اللاكلمة أي الصمت) غريبة في حدّ ذاتها لأنها حاضرة في كل ما كتب. كل أبطاله (في كل رواياته) فقدوا القدرة على الكلام أو على الاستماع. كذلك تصبح الأجوبة على أسئلة الحياة لديه حكاية يرويها أبكم إلى أصم فلا يفهم كلاهما مآل تواصلهما مما يجعل في النهاية علاقتهما جحيما ينفي استمرارية الوجود (كما يتجلى ذلك في رواية «أرض ورماد»).
إن تأملنا المسألة عن كثب تجلـّت لدينا صعوبة الكتابة عن الصمت. لأنه – في الظاهر – جهد لحصر المخفي والسكون، والإبهام. لأن الصمت البليغ قد يكون مصدرا لتحدّي كل كلام بليغ لكن اللاقول يحيل إلى الخوض في مدى حقيقة الحقائق ومدى واقعية الواقع. وقد نجح رحيمي في تجاوز الصعوبة الكامنة في عملية الكتابة عن الصمت لأنه لم يسقط في مطب عدمية الحقيقة بل ان مقاربته انبنت على فكرة عجز أبطاله على فهم كنه حقيقة ما يجري حولهم، محاولا رسم صورة لكياناتهم الداخلية والدفينة ليحلل ذلك العجز وليستنطق صمتهم وليجعل منه «صمتا فاعلا، يمارس تأثيره في الاستياء، إنه صمت ينتظر لحظة الإفلات والانفلات، سواء من خلال دعامة ذاتية. فالصامت لا يستمرّ طويلا في صمته، إذ لا بدّ أن ينتظر ظرفا ما، يخترق المحظور، أو يتهيأ للكلام، ويفصح عمّا في نفسه»4 كما جاء ذلك في رواية «حجر الصبر›، حيث أن زوجة شابة عانت أبشع أنواع الاضطهاد والإهانات من محيطها الاجتماعي والعائلي (بما في ذلك الاغتصاب) تقبع ساعات وأيام قرب جسد زوجها المقاتل العائد من إحدى جبهات «الجهاد» وهو في غيبوبة دائمة لتقطع صمتها نهائيا وتسرد له كل ما تعرضت له وما خالج فكرها ووجدانها من أفكار وآراء ورغبات دفينة وطموحات وآمال عميقة وشهوات حميمية. وهي تسترسل في كلامها دون توقف ودون هوادة ودون انقطاع وهي معتقدة أن زوجها الجاثم أمامها كان يسمعها وإن كان عاجزا عن الكلام، فينقلب صمتها على كلام لا ينتهي وتنقلب سطوة الزوج «المجاهد» إلى عجز وصمت كبيرين. ذلك الانقلاب هو بالنسبة لرحيمي بلاغة عميقة كما وسم ذلك إبراهيم محمود. تصبح بلاغة الصمت بلاغة كلامية … «حيث ان وعي الصمت، هو وعي حضوره المتنكر وعن امتداده فيما، حيث يتلبسنا على أكثر من صعيد (نفسي واجتماعي وسياسي وتيولوجي … الخ). أو يقيم فينا «حراكه الخفي»، حتى ينكشف أمره، أو يكشف هو نفسه، عن حقيقته، من خلال التعامل مع واقع ما مادي ومعنوي»(5).
فقد أعاد عتيق رحيمي عبر مقاربته لمسألة الصمت في رواياته الحياة لكلمة الشاعر الفرنسي أرتور رنبو «كنت اكتب بعض الصمت» …
في رواية «أرض ورماد»(6) يواجه الشعب الأفغاني رعب حرب الغزو السوفييتي : إثر هجوم للغزاة على قرية دمرت على رؤوس سكانها لم ينج منهم سوى شيخ (داستاغوير) وحفيده (ياسين) فقد السمع من جراء انفجار قنبلة. «القنبلة كانت قوية جدّا أسكتت كل شيء. أخذت الدبابات أصوات الناس ورحلت. حتى أنها أخذت معها صوت جدّي. لم يعد يستطيع جدي الكلام، لم يعد يستطيع توبيخي …» حسب الطفل ياسين الذي، في الحقيقة، قد جعله قصف القرية أصمّ. «لم أعد أعرف كيف أفهمه. أحدثه كما من قبل. أوبّخه … إنها العادة فقط» (ص 34.)
ويتنقل الجدّ والحفيد عبر ولايات أفغانستان لإبلاغ الإبن (والد ياسين) بخبر موت كل أفراد العائلة ومنحه قسطه من الفاجعة والألم. وكان ياسين على يقين أن الحرب أخذت أصوات كل الناس وجعلتهم عاجزين على التواصل والكلام. «لقد أصبح عالم ياسين عالما آخر، عالما صامتا. لم يكن أصم، لكنه أصبح كذلك هو نفسه لم يع الأمر بعد. يندهش من أن لا شيء يصدر ضجة …» (ص 22) … «لم يعد للناس صوت، (…) العالم أصبح صامتا» (ص 23). تلك هي الحقائق التي تصدم ياسين و«رأسه الصغير المليء بالأسئلة» (ص 23)، والتي تصدع عقل الجدّ ألما لا حدّ له. ألم إما أن يذوب ويسيل عبر العيون وإما أن يصبح قاطعا مثل شفرة تنبثق من الفم، وإما أيضا، يتحوّل الى قنبلة داخلية، قنبلة تنفجر ذات يوم وتفجرك معها» (ص 35). رحلة الألم عبر قرى وجبال أفغانستان التي يقطعها الجدّ والحفيد تجعل هذا الأخير يقتنع أنه خسر كل علاقاته مع الكبار (الجدّ) أي مع الماضي ومع الجذور القديمة لأن الحرب أفسدت كل ذلك، في حين أنّ الجدّ اقتنع بأنه خسر الماضي والحاضر لأن «في هذه البلاد، إن تساءلت لماذا، عليك أن تبدأ بسؤال الأموات في قبورهم» (ص 41) ليخلص إلى السؤال المطلق : «أي خطيئة ارتكبت ليحكم عليّ بالحياة …» (ص 41).
لأنّ الحرب غيّرت منطق الحياة وأسباب الموت وصيغ التعامل البشري مع كل منهما، فإن كل الناس الذين عرفهم جدّ ياسين لم يفلحوا في الحفاظ على مكوّنات هويتهم الماضية لأنها دمّرت، ولم يفلحوا في صياغة هوية جديدة لأنّ راهنهم يسير دون قوانين ولا هم مطمئنون لما سوف يكون عليه المستقبل … إن وجد. تلك هي حقيقة الحروب التي تفرض على الناس.
وإذا كان صنّاع الحروب (عساكر، مجاهدون، مناضلون، سياسيون …) يفقهون لماذا وكيف ومتى وأين وضد من تطلق العمليات الحربية، فإن الناس العاديين هم الأبطال الحقيقيون لتراجيديا الحياة الحربية لأنهم – مهما كان مصيرهم – يصبغون مادتها الأولى والرئيسية، ويدفعون ثمنها قاسيا وغاليا، لأنها تعدمهم جسديا ومعنويا وتدمر ثرواتهم وتراثهم. ذلك هو استبداد الواقع الحربي لأن قانون الحرب هو قانون التضحية. وفي التضحية، إما أن تكون الدماء في عنقك وإما على يديك … «الحرب والتضحية تتبعان المنطق ذاته …» (ص 47). لكن الحرب الأفغانية ليست حربا تقليدية في نواميسها وأسبابها وأهدافها، حيث انها انطلقت حربا ضد الغزاة السوفييت لتتحوّل إلى حرب الجميع ضدّ الجميع أعراقا ومذاهب دينية وطوائف عقائدية وعرقيات إثنية. كل ذلك يسحب منها كل معاني الحياة والجهاد والموت ويفقد الناس معاني حياتهم الفردية والجماعية، فيتصرفون دون منطق وضدّ مصالحهم وعقائدهم.
ويخلص عتيق رحيمي، عبر استحضاره الملحمة الفارسية «الشاهنامة» ليعمق تحليله لمأساة الإنسان زمن الحرب. إن القصيدة الملحمية «كتاب الملوك» التي كتبها الشاعر الفارسي الفردوسي (القرن الحادي عشر) تروي الحروب التي خاضتها عشيرتين عدوتين في فارس القديمة إحدهما في المنطقة الشرقية والأخرى في المنطقة الغربية. وكان من نتائج تلك الحروب أن قتل فيها رستم ابن زال بطل الشهنامة الأسطوري ابنه زهراب الذي لم يكن يعلم بوجوده حيث كان قد ولد من علاقته السرية مع تامينا أميرة طوران التي كانت في صفوف خصومه طوال الحرب. وإن قتل رستم إبنه لا إراديا فقد كان ذلك نتيجة انعدام تواصله معه ومع والدته بسبب الحروب التي سدت قنوات الحوار مع الآخر وأعدمت «الأصوات» وصمّت الآذان». تلك هي الحروب منذ القديم. لذلك يفقد أبطال عتيق رحيمي أصواتهم وسمعهم ويصبحون موزعين بين أبكم وأصمّ ويستحيل التواصل والتعايش بينهما. كذلك يسأل ياسين (الأصمّ) جدّه : «… جدّي، هل جاء الروس لأخذ أصوات الجميع ؟ ماذا يفعلون بكل هذه الأصوات ؟ لماذا تركتهم يأخذون صوتك ؟ لو لم تفعل، هل كان قتلوك ؟ « (ص 47) … بالنسبة للطفل (ياسين)، تأخذ الحرب أصوات الناس أو حياتهم، كذلك ينعدم التواصل بينهم في الحالتين لأن الموت أو الصمت يضع حدّا للوجود الذي امتلأ بما لا يقال حسب عبارة عمر الخيام.
وما من شكّ أن تركيز عتيق رحيمي على مسألة صمت أبطاله أو تصميتهم هو صيغة اختارها للتنديد بالحروب التي دمّرت بلاده. إلى حدّ أنها أصبحت من مجال الذي لا يقال ولا يروي بسبب فظاعتها وخرابها. وتلك مقاربة طورها إييمانويل ليفيناس إزاء الحرب العالمية الثانية وجرائمها معتبرا الكلام بشأنها نوعا من «إفشاء سرّ الأم الذي لا يجب أن يقال». أو على الأقل «وجب العثور على كلام يحتفظ بالصمت» حسب عبارة الفيلسوف جاك دريدا في كتابه «الكتابة والاختلاف». إن اختيار مسألة الصمت كمبحث يتطرق من خلاله لمسألة الحرب أو لمسألة خيبات الحياة البشرية مقاربة برع في تعميقها سمويل بيكيت من خلال أهمّ مسرحياته (7) التي حاول فيها تأصيل مفهوم الصمت كشكل لخرق الجوانب القاسية من الحياة الشخصية والجماعية (الممكنة حقيقة أو وهما) وذلك عبر تغييبها أو تصميتها كشكل من أشكال رفضها التعبير عن عذاباتها.
وقد بيّن جورج بن سوسان في مؤلفه عن «أوشوييتز كميراث»(8) أن الجرائم التي رافقت الحرب العالمية الثانية كانت بمثابة عثرة في الحضارة «لا يمكن تجاهلها لأنها كشفت صعوبة جديدة بالنسبة للأدباء تتعلق بإختلال التوازن بين الكلمات ودلالاتها حينما يكتبون حول الكوارث التي ترافق الحروب الحديثة. فالأدب وأهله الذين كانوا – قديما – قادرين على المبالغة وتجاوز الحقيقة عبر الوصف والسرد والتقرير، أصبحوا بعد تعاظم حجم ونوع المآسي – خلال الحروب في العصر الحديث – عاجزين عن رسم كل ملامح الوجه الحقيقي للفواجع التي تواجهها الإنسانية راهنا – ذلك «ليس الأدب المستحيل» الذي تحدّث عنه رولان بارط كشكل من أشكال البحث في ماهية الحداثة بل إقرار الإنسان بضعفه إزاء حجم المأساة واعترافه بهزيمته أمام فساد الدنيا والحياة الذي يصنعه الإنسان بنفسه ضدّ نفسه.
أما ياسين (الأصمّ) في رواية (أرض ورماد) ورسول الشخصية الرئيسية في رواية (ملعون دوستوفسكي) الذي يفقد صوته حالما يحدث طارئ حوله، ينفتح باب العدم بسبب الصمت الذي يتقبله الأول أو ينتجه الثاني. ويتمثل ذلك العدم في غياب العلاقة مع المحيط، لكنه يتسع مداه في الروايتين إلى درجة أن يتحوّل إلى أفق بعد أن كان ظرف حياة كما حلل ذلك فرانسوا نودلمان في دراسته عن مسرح بيكيت(9).
ومهما يكن من أمر عمق الصمت أو ثقله فإن الكتابة عنه وحوله عملية إبداعية كما أشار إلى ذلك موريس بلانشو في سياق تحليله لدوافع الكتابة ومآلاتها بالنسبة إلى أدباء القرن العشرين (وما بعده) وذلك بسبب ما عرفته شروط حياة الإنسان من تحوّلات نوعيّة ومن صدمات (10).
في كلّ روايات عتيق رحيمي يخفي الصمت حقيقة مرعبة يرفض الصامت أن يرويها (أرض ورماد) أو أن يتذكرها (حجم الصبر) أو أن يفهمها (ملعون دوستوفسكي). كذلك يصبح الصمت كلاما بليغا وإن كان ذلك منتجا لصعوبة الكتابة حول الصمت باعتباره كلاما عن غياب الكلام كما أشار إلى ذلك إبراهيم محمود.
كتب إبراهيم محمود أن الكلام هو «فعل مؤثر ومسموع وحركة عضوية ولفظية، ذات معنى، هو الذي يقدم لنا باستمرار، باعتباره الشارة الأولى والوحيدة على وجودنا بل باعتباره سلطة في قوّة وسلطان المعرفة، ومعرفها، وحاويها، في مؤسسته بالدرجة الأولى لكون الذي يدقق في حقيقة الكلام، وحراكه اللفظي، وإستراتيجية إنبنائه، فلا بدّ أن يكتشف أن هناك ما هو أكثر حضورا منه، رغم أنه غير محسوس به، وما هو أكثر تجليّا منه، رغم أنه غير ملموس أو غير مرئي ومقروء»(11).
والكلام على الكلام صعب لأنه معقد وواسع الأفق بالضرورة حتى يقف عند كل ما يبرر الكلام وما ينتجه وما يخفيه وما يحدّده، لذلك يستوجب الكلام على الكلام الفهم والاستيعاب والقدرة على ممارسة حرية الكلام والاطمئنان على مآلاته لدى المتلقي. لذلك تكون علاقة الكاتب ومتلقي كتابته منتجة لواقع يمتدّ من خلاله الواقع الذي يعيش فيه كل منهما. وتلك علاقة حدّد مختلف جوانبها والتر بنيامين : «من يصغي إلى حكاية يكون مجتمعا مع من يحكيها … ومن يقرأ يشارك كذلك فيها. إن قارئ الرواية شخص منعزل. وهو كذلك أكثر من أي قارئ آخر. (…) في تلك العزلة، يتمكن قارئ الرواية بالمادّة المتوفرة لديه بنهم أكثر من أي كان. وإزاء كل تلك المادّة فهو يتحوّل إلى اللهيب الذي يعدم ويلتهم حطب المدفأة. إن التوتر المضمر في الرواية يشبه منفذ هواء يقوي الشعلة ولعبها في الموقد»(12).
يتمثل رحيمي دور القارئ للرواية حسب رؤية والتر بنيامين، لذلك نراه إختار مقاربة خاصة في صياغة إنتاجه الإبداعي الروائي. أراد رحيمي أن يخرج الخطاب عن مأساة الشعب الأفغاني من دائرة التوظيف السياسي والأيديولوجي والديني كما أنه انساق إلى تأسيس منهج يدفع قارئ سرده أن يتوقف ويتساءل لماذا الصمت ؟ ولماذا العجز عن الفهم ؟ وماذا يجب أن نفهم في مكوّنات الوضع الأفغاني وتطوراته، ولماذا أنتج ذلك الوضع كل ذلك العذاب الذي يطغى على عالم رحيمي الروائي والذي اختار أن يقاومه عبر صمت أبطاله وعبر الكلام عن صمت الأفغان الذي لا ينحدر من ذهنية «دفع الله ما كان أعظم» ومكوّنات الذهنية الثقافية التقليدية المتمحورة حول مقولات «الله أعلم …» أو «كل شيء بقضاء وقدر …» بل أن رحيمي يذهب أبعد من ذلك ليقول أن للصمت كلام وأن الذهنية التقليدية لا تفسّر نفسية الأفغاني منذ انفجار الحروب المتتالية التي عرفتها بلاده، بل أن المسألة أعمق وأخطر، «إن تاريخ الصمت هو أكثر عمقا وغنى وإثارة، من تاريخ الكلام المسوع، والكتابة المقروءة، والأثر المنصوص أو المفصح عن ذاته في صورة ما. وهو الأكثر إغراء وتشويقا، وامتلاكا للمفاهيم إذ دقق بعمق مركز في رفع الستار عنها»(13).
إنّ الصمت الذي فرض على ياسين في رواية «أرض ورماد» بسبب الصمم الذي أصابه والصمت الذي مارسته زوجة المجاهد المحتضر في النصف الأوّل من حياتها، والصمت الذي سقط فيه زوجها المجروح في رواية «حجر الصبر» والبكم الذي يصيب رسول من حين لآخر في رواية «ملعون دوستونسكي» هو نتاج للحرب الأهلية التي هي أبشع الحروب لأنها تفسد حاضر الأهالي وماضيهم ومستقبلهم، حيث انهم يتقاتلون في الحاضر باسم الماضي الخاص بكل مشارك في الحرب التي تعلن للجميع أن المستقبل المشترك صعب المنال. تنتج الحرب الأهلية – خاصّة وإن كانت نابعة من إرادات خارجية عن الذين يخوضونها – تفسد الحياة والبشر وتدمّر نفسياتهم : «… في الساعة الراهنة، الأموات أسعد من الأحياء. ما العمل ! الزمن صعب. فقد البشر كرامتهم. أصبحت السلطة إيمانهم بدلا من أن يكون إيمانهم هو السلطة. لم يعد أحد يستحق أن يكون من البشر، لم يعد هناك بشر شجعان»(14) لا يفقد الإنسان المهزوم شجاعته فحسب بل مروءته وحتى شرفه لأن ظروف الحرب الأهلية تجعل كل شخص يشعر بأنه أصغر من كل ما يجري حوله وأنه عاجز على تغيير مجرى حياته أو على تقرير مصيره. ذلك هو شعور رسول الذي لا ينهي أي محاولة لتسوية أوضاعه الشخصية التي لم تكف عن التعقد والانخرام مما يعزّز لديه الشعور بالفشل المهني، والاجتماعي، والعاطفي. لذلك يقترف رسول جريمة (اغتيال عجوز سيئة السمعة والسلوك) دون مبرّر بديهي ويبقى يتخبط في عذابات ضميره مثل راسكالينكوف بطل رواية «الجريمة والعقاب» لدوستوفسكي.
قتل جميع أفراد عائلة داستاغوير باستثناء حفيده (ياسين الذي أصبح أصم) وابنه (مراد الذي يعمل في مقاطعة بعيدة من البلاد التي يجوبها الجدّ والحفيد لإعلام مراد بما وقع ولتدبير حياتهما معه بعد فناء كل باقي أفراد العائلة وتدمير كامل القرية. لكن فساد الحياة دمر مراد قبل أن يصل إليه والده وابنه. حيث أنه علم بالواقعة ولم يحرك ساكنا لأنه عاجز على القيام بأي شيء يغيّر مجرى الأحداث أو يؤثر عليها. لذلك يقرّ الشيخ بأن إبنه «مراد جبان عديم الشرف» (ص 81) ويرفض مقابلته … ولن يبقى له إلا الصمت بخصوصه …
أمّا رسول بطل رواية «ملعون دستوفسكي»(15) فهو يدفع – رمزيا» ثمنا مقابل أخطاء كل المتصارعين في أفغانستان والذين لا يشعرون بأي ذنب تجاه التاريخ الدموي الذي صنعوه في بلادهم : شيوعيون ومجاهدون وطالبان. كلهم محل مساءلة وكلهم محل إتهام وكلهم مسؤولون وكلهم أبرياء … ذلك هو الوضع السريالي واللامعقول أو ما فوق المعقول الذي يتناوله رحيمي بالتحليل عبر سلوك رسول الذي قتل – في بداية الرواية – عجوزا ثرية وفاسدة تحاول العبث بشرف خطيبته، لكنه بعد قتلها عجز عن الاستحواذ على ثروتها بسبب تأنيب ضميره. ومن ثمة بدأ الجحيم النفساني لرسول الذي يفقد صوته كلما حدث له حدث جلل وخطير (أي عدّة مرات في اليوم …) نتيجة وعيه بأن حياته وماضيه ومستقبله لا قيمة لهم ولا ضمان فيهم ولا معنى لهم. فهو ابن مناضل شيوعي قضى حياته في خدمة الفقراء والمضطهدين وقتل من أجل ذلك من قبل مجاهدين إسلاميين حرّروا البلاد من الاستعمار السوفييتي فتأقلمت عائلته الأوزبكية مع ذلك الوضع الجديد، لكن جاء دور الطالبان ليدمروا ما بقي من بنية البلاد وهياكل المجتمع التي ولدت بعد التحرير الأول ثم جاء الغزو الأمريكي بحلفائه وخصومه الجدد وأصبحت أفغانستان بلادا مستباحة من قبل أبنائها المقاتلين منذ عشرات السنين إلى حدّ تملك جنون جماعي بكل الأفغانيين الذين أصبحوا لا يفهمون من يحارب من، ولماذا الحرب وإلى أين يسير البلد وما مصير الناس … ؟
إزاء كل ذلك يتمزق رسول كما مزقت حياته. حيث انحط من وضعية مثقف جامعي إلى وضعية عاطل مجرم عاشق ومدمن للأفيون وعاجز على تسديد حاجيات خطيبته وعائلتها وأمه وأخته المهددة في شرفها من زعيم حرب أوزبكي … ليخلص إلى أسئلة وجودية خطيرة : «لكن لماذا تهت ؟ لماذا ؟ لم أعد أعرف طريقي ؟ أين هو الدرب ؟ أليس هو الطريق الذي أسير فيه كالعادة ؟ ما الذي يجري ؟ لماذا لم أعد أتعرّف عليه ؟ لماذا يبدو لي هذا المسار غريبا ؟ هل بسبب الليل ؟ أم أنه الخوف ؟ أو التعب ؟ أو الشك؟ وبما أنه لم يجد جوابا شافيا، فقد تحوّلت أسئلته على ذهول» ( 129).
تحوّلت حياة رسول إلى ذهول أمام تغيير سلوك خطيبته رغم إعلانها أنها ما تزال تحبه، وأمام سقوط جميع الناس في حضيض قبول ما يجري من أحداث دون الرغبة في تغييرها أو معارضتها، وأمام ازدواجية خطاب وممارسة كل الفصائل المتقاتلة وانقلابات تحالفاتها وأمام حقيقة الدوافع التي تقودها رغم شعارات الدين والحرية التي ترفعها. رسول هو شاهد على السقوط الشامل لمجتمعه وبلاده. وهو الحائر بين السبل حيث لا يمكن له أن يبقى مخلصا لأي قيمة ولا يمكن له أن يتحوّل إلى نقيض ما كان يحلم به. لذلك تصبح حياة رسول حياة مستحيلة. وهو يريد الموت ويطالب بمحاكمته بسبب الجريمة التي اقترفها والتي لا احد يعتبرها أمرا يستحق العناية (بما في ذلك السلطة الأمنية والقضائية).
يلاحظ رسول أن المجتمع الأفغاني تحت الحرب – قد فقد كل قيمه خصوصا قيمة العدالة والحال أنها هي أهم القيم بالنسبة إليه : «أرحب دوما بالقصص المتعلقة بالعدالة، فمن خلالها نفهم بشكل جيد تاريخ البلد وروح الشعب» (ص 171).
فقد المجتمع الأفغاني ذاكرته كما فقد مصيره وحاضره بسبب استمرار الحرب الجنوبية التي انخرط فيها، لكن رسول يعتقد أن ذلك هو بداية السقوط أو سببه : «نعم، بإمكاننا هدم كل شيء، إلا الذاكرة، لا يمكن حذف الذكريات …» (ص 155) ليصرخ بعد ذلك حين أراد الانتحار وسط معركة بين فصيلين أفغانيين وسط العاصمة. «هيا أطلقوا ! ها أنا ذا واقف هنا. وسأبقى هنا، أمامكم، أنتم أيها المكفوفون، أيها الصم والبكم» (ص 157).
يرى رسول أن المجتمع الأفغاني المدمّر فقد وعيه بهويته وأصبح عاجزا على التعامل مع ذاته لأنه فقد – رمزيا – البصر والبصيرة والصوت والسماع … مثل رسول – ذاته – الذي كلما تأزّم وضعه أو المحيط حوله إلا وفقد صوته وأصبح عاجزا عن السؤال والجواب والفهم والتفاهم. مما عزز لديه أنه شخص «فارغ» (ص 136) لم يعط لحياته معنى (ص 173).
إن الصمت الذي فرض على ياسين في رواية (أرض ورماد) الصمت الذي أصاب رسول في رواية (ملعون دوستوفسكي) هو عنوان الذهول وعدم الفهم والعجز عن التواصل وفقدان الوعي وفقدان القدرة على تغيير الواقع. وفي ذلك الصمت «غضب أخرس أمام عجزه عن قول كل شيء» (ص 138)، وهو يحيل إلى أزمة وعي عميقة يشير إليها الاعتماد على رواية فيودور دوستوفسكي «الجريمة والعقاب» كمرجع أو كإطار لتوليد رواية «ملعون دوستوفسكي». ومن هو الملعون هنا، أهو رسول أم راسكانيكوف أم عتيق رحيمي ؟ وما هو سبب اللعنة الحقيقي ؟ أهو الوعي بخطر الانخراط في عدمية الحياة إذا ما فقدنا العقيدة الدينية وذلك أمر يجعل رسول يرفض أن يشارك في الجهاد أو أن يصبح شهيدا «أصبح شهيدا ؟ آه لا إنها عقيدة الجميع الآن ولم يعد لها قيمة» (ص 132) و«لديّ رعب من الشهداء» (ص 182) …
ولما كانت مسألة فهم ما يجري في البلاد عسيرة بالنسبة لرسول فهو يميل تدريجيا نحو الإنغلاق ورغبة القطيعة مع محيطه معتبرا أن الحرب الأهلية قد عجلت بظهور ونموّ كل الظواهر السلبية التي أفسدت الروح الأفغانية. فهو، وكأنه، يريد أن ينسلخ من كل روابطه وكل التزاماته وأن يتخلى عن حقوقه الطبيعية وأن يسقط واجباته التي أصبحت لا مبرّر لها بسبب الانقلاب الذي بعثر الحياة الفردية والجماعية في بلاده أثناء الحرب. وصمت رسول، هو صمت الإنسان الذي له ما يقول لكنه يفتقد إلى متلقين مهما كانت أسباب ذلك، كما أنه صمت الإنهيار الذي يصيب من يفتقد القدرة على فهم ما يجري فيتحوّل العجز على الفهم إلى ترك السؤال وصولا إلى انقطاع الكلام. عالم الصمت هو عالم أغنى وأعقد من عالم الكلام. ووعي الصمت هو وعي ثري في مضمونه ودلالاته لأنه مفتوح على إحتمالات مفتوحة، «لأن في هذا الوعي، تتشكل للكلام نفسه صورة، أو هوية أخرى، كما أن الإنسان نفسه يتكوّن ويكون له حضور آخر أكثر دلالة وغنى وإنما يكون إغلاقا للعالم، يصعب التعرّف على جغرافيته المفاهيمية، وخطابه اللجي والصدامي، لأنه في الوقت الذي لا يفصح فيه عن وجوده، كي يلتفت إليه يكون هو الإفصاح، دون أن يمارس تعبيرا، لأنه كيان ممتدّ، ومنتشر في كل الجهات، وقائم في كل منا، ويتوغل في كل موضوع»(16).
إن المعنى هو مقياس أهمية الخطاب الكلامي، لكن المعنى قد يفسد من جراء الوعي الزائف (لوكاكش) أو سوء النية (ريني جيرار) أو «الثرثرة» (مارتان هايديغير). أما الصمت فمقياس أهميته تكمن في وفرة معانيه وتعدّدها وتمدّدها … لذلك اشتغل رحيمي على صمت الأفغان القابعين تحت وطأة الحروب.
أشار عتيق رحيمي في رواية «الأرض والرماد» إلى القصيدة الملحمية الفارسية «الشاهنامة» للفردوسي ليقيم موازاة بين بعض أحداثها وبعض ما يجري في بلاده مبرزا النهايات المأساوية للصراعات غير المشروعة أو تلك التي لا يسيطر البشر على كل جوانبها. ويستدعي رحيمي في رواية «ملعون دوستوفسكي» أشعار عمر الخيام، وفريد الدين عطار ليبرز ما في وجدانه من عواصف وما في عقله من أسئلة. وهو أورد سؤالا لصاحب «منطق الطير» أن تكون أو لا تكون، ألديك أم ليس لديك شعور بالوجود، أأنت في الوسط أم لا، أأنت على الحافة، أنت مرئي أم مخفي، فان أم أبدي، هل أنت هذا وذاك أم لست هذا ولا ذاك، هل أنت موجود في النهاية أم غير موجود». تلك الأسئلة الدائرية تعذب عتيق رحيمي وهو يتأمل حاله وحال الإنسان الأفغاني زمن الحروب الأهلية التي لا تنتهي وهو يختار من أجوبة العطار في ذات القصيدة «وادي الحيرة»(17)الجواب الذي يؤكد ذهول السائل والمسؤول والسؤال لأنه جواب يلغي السؤال كما تلغي الحرب الدينية جمال ورفعة مبادئ وقيم الدين لأن الحرب الأهلية هي قتل الأنا للأنا الآخر …
يقول رسول رحيمي عطار … «لا أعرف، أجهل ذلك وأجهل ذاتي، لكن لا أعلم من، لست مؤمنا ولا ملحدا، من أكون إذن ؟ أجهل حتى من هو حبيبي، فقلبي فارغ من الحب وممتلئ في الوقت نفسه». وشعور الذهول أو الضياع هو الموضوع الذي تناوله رحيمي في روايته «الألف منزل للحكم والرعب» (2002) والذي صدر باللغة الفارسية والتي حملت عنوانا ثانيا يلخص الشعور الذي يفيض من كل رواياته : «المتاهة» وهي مستوحاة من التراث الفارسي حيث تقول أسطورة الأف غرفة (أو المنزل) أنها هي المتاهة. والمنزل الذي يحتوي ألف باب المداخل فيها هي المخارج من يدخل فيها لا يخرج والمخارج ليست سوى خديعة حيث يفقد الإنسان الذي دخل المنزل عقله محاولا الخروج أو أنه ينساق شيئا فشيئا إلى الانتحار. تلك الرواية الكفكاوية المستوحاة من التراث الفارسي لخصت الكابوس الذي تحولت إليه الحياة في كابول تحت السيطرة السوفييتية، والتي عرف فيها طالب أفغاني – الملاحقة والسجن والحب والتعذيب والضياع وخسارة كل من الحب والقناعات والآمال ليكتشف أن الرعب الذي يخيّم على أفغانستان مزودج الهوية : أيديولوجي وديني. فرهاد (بطل الرواية) يعجز على تجاوز مصائب حياته الفردية عبر العودة إلى المعتقد الديني المهيمن في مجتمعه والذي يعتبره متمحورا حول مبدإ الخوف من العقاب الذي لا يصحح المسارات الخاطئة بل يرعب البشر ويدفعهم إلى التمويه والكذب والاستيلاب. أرعب الاستبداد الشيوعي كل قوى المجتمع الأفغاني وبخاصة الفصائل السياسية الدينية التي بعد أن حرّرت البلاد من الغزاة السوفييت لاحقا قهرت بدورها كل قوى المجتمع وأقحمتها في أتون حروب أهلية وطائفية حولت بمقتضاها البلاد من متاهة دموية مرعبة. ورواية «المتاهة» هي إعلان رحيمي أن الليل الأفغاني طويل وكثيف حيث لا يمكن للإنسان فيه – مثل الشاب فرهاد – أن يكون متدينا أو لا دينيا، أو أن يكون له، رأي سياسي خاص به وأن يحب من يشاء ويعيش معه. وعلى أساس ذلك تكون رواية «المتاهة» أو «الألف منزل للحكم والرعب» رواية تصميت المجتمع والفرد من قبل الحاكم المستبد مهما كانت شعارات وعقيدة حكمه. وتصميت الفرد هي مقدمة لسحقه وقتل قواه الداخلية وقطع علاقته مع المجتمع مهما كان وضعه وسنه إن طفلا (ياسين) أو شابا (فرهاد) أو كهلا (رسول).
لكن ضحايا القهر في المجتمع الأفغاني من جراء الاستبداد والحرب الأهلية ينتمون إلى كل الأصناف الاجتماعية والعمرية حتى أن الصورة التي تبرز للكيان الأفغاني في مدونة رحيمي تظهره وكأنه تجمع لضحايا قطعت جذورها مع ماضيها وانسدت لديها الطريق نحو المستقبل. وما من شك أن المرأة تحضى بنصيب من العذابات أكبر من نصيب الرجل في أفغانستان.
في رواية «حجر الصبر»(18) يقتحم رحيمي عالم المرأة ليسرد مآسي أفغانستان من زاوية نظرها مكملا بذلك عناصر المشهد الذي ما انفكّ يرسمه في مدونته الروائية. ورواية «حجر الصبر» هي رواية المرأة المقهورة التي تنتهي إلى التمرّد على وضعها ومحدّدات حياتها الذليلة التي جعلت منها ضحية صابرة وصامتة. وهي لن تتحرّر إلا بعد تمردها عبر الانطلاق في حديث طويل انخرطت فيه وهي جالسة إلى جانب زوجها المصاب بجروح بليغة أخذت منه الحركة والوعي والنطق والذي كان يموت أمامها موتا بطيئا.
تنطلق المرأة في حديثها لتوفر لنفسها شجاعة مواجهة المصير الذي آلت إليه كزوجة رجل منغمس في أتون حروب أفغانستان، تزوجته وهو غائب (علقت صورة له في حفل الزفاف). وبعد عودته جريحا محتضرا. أصبحت المرأة زوجة مجاهد معاق وربما تتحوّل إلى أرملة شهيد … وهي تنطلق في كلامها من البسملة وأسماء الله الحسنى لتؤكد إلى ما لا نهاية له على صفته السادسة عشر : القهار. ثم تعيد الكرّة وكأنها تدعو وتتوسّل وتتمنى وتيأس عبر صلواتها الصامتة التي تحاول – عبر تكرارها – أن تعزّز إيمانها الديني وأن تتغلب على خوفها من حصول ما تخشاه. لكن الجسد أمامها (زوجها) لا يتحرك ولا يعي أي شيء، وهي تسترق النظر إليه منتظرة رمشة جفن وحركة إصبع أو شفة لكن مساحة الموت أمامها آخذة في الاتساع وفاتحة لها بابا نحو المجهول الأسوأ من الجحيم الذي مرت به في سابق عمرها وحياتها قبل زواجها، وخاصة بعده. وقد اعتبرت المرأة (التي لم يمنحها رحيمي إسما وكأنه أراد أن يقول أنها يمكن أن تكون أي إمرأة أفغانية) أن موت زوجها المؤكد هو خيانة كبرى يقترفها المجاهد الجريح ضدها وضد صبرها التي تحملت بمقتضاه أيام «جهاده» كل أصناف الإهانات … ليعود إليها «ذلك الجسد في الفراغ. ذلك الجسد الفارغ» (ص 24). فالبطل الذي تزوج غيابيا جمّد حياة «زوجته» وبقي يجاهد في جبال أفغانستان. ترك زوجته تعاني فقر عائلتها الذي أجبر والدها على منح أختها الصغيرة إلى شيخ مقابل ديون عجز على تسديدها وهو يقضي وقته بين تنظيم معارك السمّان والتخاصم مع زوجته وضربها. وإثر انتقالها إلى بيت عائلة زوجها، (وهو غائب)، فهي لم تتخلص من الفاقة والاحتياج لتنتهي ضحية اغتصاب أخ زوجها وأبوه لها …
عاشت المرأة منذ طفولتها إلى حدّ عودة زوجها الميت الحيّ وهي صامتة وقابلة بكل شيء وبكلّ الانتهاكات ومستبطنة دونيتها وضعفها وهشاشة حقوقها ولا مشروعيتها. لكن مشهد الزوج المسجى أمامها دون علامات الحياة الحقيقية والذي لا يملك سوى صفة البطل المتحول إلى شهيد، أي زوج غائب مؤقتا متحول إلى زوج غائب نهائيا. ذلك المشهد يقنعها بأن صبرها الطويل لن يعيد إليها جسد زوجها ولن تنفعها مستقبلا بطولته أو شجاعته. إزاء ذلك يتبعثر توازن المرأة الداخلي ويتزعزع إيمانها بكل شيء. لأنها تأكدت أن عذابها سوف يتواصل بعد عودة زوجها. وأن صمته وشلل كل حركاته عنوان عذابها لذلك فهي تكثر من ذكر أسماء الله الحسنى وتلاوة آيات القرآن والحديث عن سوء حظها والتمني بحصول معجزة ما تغيّر كل ما يجري حولها.
هي تخاطب السماء لتسأل عن ذنبها وحتى عن ذنوب زوجها الذي دفعه إيمانه الديني على الانخراط في «الجهاد في سبيل الله» (ص 29) مؤكدة أنها سوف لن تتركه يشارك إن عاد إلى الحياة في أي صنف من الحروب مستقبلا حتى وإن كانت حربا بإسم الله … (ص 30).
لكن المرأة تتوجّس من تثاقل الصمت حولها – رغم استمرار المعارك والتفجيرات في المدينة – وشعور الفراغ الذي بدأ يكتسح وجدانها وروحها مما ولد لديها خوفا جديدا لم تعرفه من قبل (ص 31) زاده شعور باقتراب الموت منها، ذلك الموت الزاحف على جسد زوجها الراقد أمامها والزاحف على المدينة من جراء الحرب الجارية في أزقتها.
صمت زوجها المحتضر يخيفها، والخوف من مجريات حرب العصابات في المدينة تخيفها والصمت الاضطراري الذي أجبرت عليه في منزل فارغ من أي إنسان طبيعي يخيفها، فتخاف ويزداد صمتها … ويتواصل صمتها .. محدّثة نفسها ومناجية السماء … ومخاطبة رجلا هو أقرب إلى الموت من العافية – على ما يبدو – طالبة منه العودة إلى الوعي حتى نبدأ الحياة معه وبينهما (رغم زواج بالغياب دام عشر سنوات …).
وحين تتأمل المرأة في حقبات حياتها تجد أنها لم تحيا كما كان لها أن تشتهي أو أن ترتضي حيث أنها لم تكن ترى أو تعتبر من قبل الذين عاشت معهم (خاصة منهم الرجال) إذ «عاشت في خانة الغياب، في خانة الصمت والتصميت»(19) الذي ولده المجتمع والتراكم الثقافي الذي تنتمي إليه. حيث أن حضورها «هو حضور جسد مصموت، ووعي مكبوت، وعي تاريخ لا يفصح عن تاريخه. فهناك دائما نسيان، يمارس فيها فعله الوظيفي والإجتماعي، نسيان يراقبها، ويشدها إلى عالم مجهز له، من قبل «القوام عليها» هكذا تتجلى صورة المرأة في المجتمع العربي والإسلامي»(20).
كانت المرأة حائرة في أمرها وفي أمر زوجها العائد ليموت وفي أمر أسرتها وأسرة زوجها وما صنعته بحياتها معهما، وهي كانت حائرة وخائفة من الخطوة التالية التي كان يجب عليها أن تخطوها حيث أنها وجدت نفسها في مفترق طرق يستحيل فيها مواصلة مجرى حياتها كما عاشتها، ويستحيل معها صياغة مشروع حياة جديدة … فهي التي قضت حياتها صامتة وغير مؤثرة على سياق وجودها والتي أهدت لها الحروب الأفغانية جسد زوج سلبت منه كل عناصر الحياة يتماثل نحو موت بطيء وصامت.
عاشت المرأة صامتة في عالم صمت وبعد عودة زوجها تبقى صامتة بحكم صمته مما يجعل توضيح الأشياء وإصلاح الأوضاع حاضرا ومستقبلا أمرا مستحيلا بالنسبة لها (لهما). و»الصمت الذي يشكل زينة النساء» كما صرح بذلك آجاكس لزوجته تاكماس في مسرحية سوفوليكس (آجاكس)، ذلك الصمت الذي يرافق حياة النساء منذ قديم العصور كان محل عناية الأدباء وحتى الفلاسفة الإغريق. فهذه بينيلوب تستعمل خديعة الصمت لترفض عروض الزواج من أعيان المدينة الذي ابتهجوا – بشكل من الأشكال – بغياب القائد عوليس وقد تمكنت بينيلوب في «الأوديسة» أن تقاوم الزمن بغزل الصوف كما تمكنت كذلك من مقاومة قلة الوفاء للقائد عوليس من قبل المحيطين بها وبه.
وقد قاومت بطلة رواية «حجر الصبر» محيطها بالصمت وانغمست في خدمة عائلة زوجها بحماس كمحاولة لمقاومة ذلك المحيط الذي لا يتوانى في العبث بها. وهي قاومت الاعتداء عليها بالاغتصاب بالصمت مثلما فعلت فيلومال في مسرحية سوفوليكس «تيزي» والذي قطع لها هذا الأخير (زوج أختها) لسانها حتى لا تفشي سر اغتصابه لها لزوجته الأميرة بروكني. لكن فيلومال العاجزة عن الكلام تصنع سجادا تصور فيه كل ما حدث لها كخطوة مقاومة ضد الصمت المفروض عليها عنفا وقهرا. ونحن نلاقي مسألة الصمت في «إلياذة» هوميروس في صورة مختلفة. أندروماك اقتنعت أن الصمت هو عنوان هزيمة أمام الأقدار من ناحية ثم أنه كان مقدمة مرحلة الحزن الطويل (بعد مقتل هكتور) من ناحية أخرى، أما كاسندرا فهي التي يجمع كل أهل المدينة على تصميتها لأنها تنقل لهم أحلامها وتنجيماتها السوداء والتي أعلمتهم بثقل هزائمهم في الحرب ضد الأثينيين. فكاسندرا تريد الهروب من القدر المفجع – عبر الكلام والإخبار – وهي تبدو وكأنها تشارك الرأي مع أنروماك التي اعتبرت صمتها هزيمة إزاء الأقدار وإقرار بضعف إزائها.
وقد لاحظت دورا ليونتريدو أن تصميت النساء قسرا قد دفعهن إلى البحث عن صيغ للتعويض عن القهر والتهميش بوسائلهن الخاصة وحسب أمزجتهن وأوضاعهن (21). فمنهن من يتمرّدن على ظروفهن في حين تقبل البعض منهن مصيرهن بالخضوع لمشيئة تصميتهن. ذلك ما تميل إليه المرأة في «حجر الصبر» في محاولة للسيطرة على صعوبات حياتها عبر الإعتقاد في الأسطورة الفارسية القائلة بوجود حجر يساعد على الصبر إذا ما سردت له كل مآسيها وبلاويها. لكنها توصلت إلى قناعة مفادها أن ذلك لم يعد ممكنا لأن ظروف تحسين حياتها أصبحت منعدمة في مجتمع كسرت كل مكوناته وقيمه بسبب حروبه الطويلة التي أصبحت لا معنى لها.
في البداية تنطلق المرأة في الكلام. كلام خائف ومرتعش. كلام لا ينتهي سردت لزوجها الجريح والممتدّ أمامها دون أي قدرة على أي حركة في أي من أعضائه، كل حياتها وكل ما تعرضت إليه خلال غيابه وكل ما عانته كامرأة من قهر واضطهاد، معتبرة أن مسؤولية ذلك تعود إلى الثقافة «التقليدية» المهيمنة في المجتمع الأفغاني وإلى العادات البالية وإلى إنخراط الرجال في تيار معاكس لمصالح الناس البسطاء والبلاد عبر تفجير حروب أهلية لا فائدة من وراءها ولا معنى لإنطلاقها ولا تطابق فيها بين الأفعال والشعارات (خاصة منها الشعارات الدينية). أعادت المرأة تجربة شهرزاد وإن كانت هذه الأخيرة تبحث – عبر سرد حكاياتها – عن سبل النجاة من خطر الموت، فإن المرأة في رواية «حجر الصبر» انساقت في كلامها في محاولة إبعاد شبح الموت عن زوجها الجريح وتصفية حساباتها مع ذاتها ومع ماضيها الذي لعب فيه زوجها (الغائب) دورا سلبيا وكأنها كانت تريد – مثل شهرزاد – تعديل طبيعة العلاقة بينها وبين وزوجها. وقد كان كلام المرأة كشفا لصمتها الماضي أو كلام حول المسكوت عنه. وكان صوتها «صوت المرأة الأخرس الذي أسكتته رقابة الرجل وجعلته الهيمنة الذكرية أبكم، أو كلام المرأة المكبوت الدفين في أعماق أعماقها، يتحيّن الفرص لينفجر في هدير الكلام»(22). في سياق هدير كلام المرأة نجد الأمل في شفاء الزوج والحصول على رعاية ربانية تضمن سعادة ممكنة وإصلاح ما فسد في دنياها سابقا. ثم يتحوّل مضمون الكلام تحت وطأة الواقع داخل البيت وخارجه لتنتقل إستراتيجيته إلى الكشف عن المستور والتوغل في الأسباب والصراحة في سرد الوقائع أي أن خطابها يتحوّل من أفق البحث عن الإنسجام إلى أفق تحقيق قطيعة مع الماضي، مع الرغبة في قول كل شيء وفي إطلاق حريتها في الحديث عن شعورها وعن الوعي بجسدها المقموع والسجين في أطر اضطهادية مرعبة. كانت المرأة مقتنعة أنها لا يمكن أن تقف في منتصف الطريق، وأن تكون رغبتها الذاتية في الكلام الصريح مخنوقة أو مبتورة بالميل الطبيعي إلى الصمت الذي نمى عندها منذ بداية حياتها.
إن الصمت مخاتل مثل الكلام، حيث يمكن أنه يتسلل إلى الكلام ذاته. «ففي كل كلام يقبع الصمت، وهو صمت غير قابل للمعرفة. وهذا الصمت لا نسميه مسكوتا عنه لأنه ليس شيئا مختفيا طي الكلام، ولا هو كلام ضربت عليه الرقابة فمنع فأضحى من قبيل الممنوع قوله، وانما هو قول موسوم بافتقار جوهري، وهو ما يحدّد حقيقة الصمت بوصفه شبه قول لا القول كله، ولأجل ذلك لا نعلم في الصمت كل العلم بما أنه لا يقول كل شيء»(23).
لكن المرأة تقول ما لا يقال عادة، وما صمتت عنه سنوات (اضطهادها وتعاستها واغتصابها وحزنها وشعورها بأنها خسرت أو ضيعت حياتها …)، بل أنها لا تكتفي بذلك بل تمرّ إلى ممارسة الممنوع أمامه مجسدة وعيها القديم / الجديد بجسدها حيث أنها تقبل المضاجعة مع مجاهد شاب دخل البيت للهرب من المجاهدين الذين كانوا يرومون قتله في حين كانت المرأة تناجي زوجها الجريح. ومنذ ذلك الحدث أصبحت المرأة تضاجع المجاهدين المسيطرين على الحي كمومس تبيع جسدها كما يبيع المجاهدون دمهم (ص 87) لتكتشف بالمناسبة صلف المجاهدين من أجل قيم عليا وتحت شعارات دينية والحال أن السلاح والدماء هما ولعهم الأول ووسيلة حياتهم الوحيدة. وأنهم يحتاجون «حجر الصبر» مثل بقية الضحايا … وهي تقول لزوجها «الجثة» «التي مازالت على قيد الحياة» (ص 115) : «… آه يا حجر الصبر، عندي كلام كثير أريد أن أقول لك، (…) أن الأشياء قد تراكمت داخلي منذ مدّة. لم تكن لنا فرصة الحديث. بل لنكن نزهاء، لم تعطني أبدا، فرصة للكلام …» (ص90). ولكنها تستخلص في نهاية الرواية (ونهاية كلامها) : «آه يا حجر الصبر عندما يكون صعبا أن نكون امرأة، يصبح صعبا كذلك أن نكون رجلا» (ص135) تلك الخلاصة التي حصلت في ذهن المرأة، نتيجة حياتها وحياة الناس من حولها، وهي في تناغم مع عقيدتها الدينية المتسامحة والمنفتحة والتي على عكس زعم رجال الدين لا تهمل الجسد والوجدان والمشاعر، لذلك تبوح لزوجها – عساه يسمع – … – «إذا كانت كل ديانة تاريخ ووحي، وحي حقيقة، إذن يا حجر صبري حكايتنا هي كذلك ديانة. ديانتنا الاثنين (…) نعم إن الجسد وحي (…) أجسادنا وأسرارها وجروحها وعذاباتها وملذاتها …» (ص 135-136) وتنطلق المرأة في هذيانها بخصوص الصبر الذي يساعد على تجاوز ابتلاءات الحياة ومحنها وهو (أي الصبر) ذو علاقة بالاسم التاسع والثمانين من أسماء الله الحسنى (الصبور) مما يعطي حسب قولها للصابرين والصابرات شيئا من الصفات الربانية والتي لها شيئا منها مثلها مثل زوجها الذي يوجد ولا يتحرّك والذي يرى ولا يرى وهي صفات ربانية … (ص 136).
يستفيق الزوج الجريح فجأة ليرتمي على المرأة ويحطم رأسها عقابا لما قالت وما فعلت وهي – في ذهولها – تتمكن من طعنه بخنجر في صدره. وفي احتضار كل منهما طرق الباب من قبل أحد الزائرين الذين اعتادوا على لقاءاتهم مع المرأة فتفتح هذه الأخيرة عينيها، ويقوم الرجل والخنجر في صدره ليفتح الباب …
قبلت المرأة كل مجريات حياتها واعتبرتها شيئا عاديا وطبيعيا وتجسيدا للمشيئة الربانية. وكان الصمت علامة رضاها وقبولها بكل شيء. وهي جسدت بذلك الصورة النمطية للمرأة الشرقية. وقد زادت الأوضاع التي ولدتها الحروب العبثية والمجنونة التي عرفتها أفغانستان في تعميق صمت النساء وقبولهن ظروف حياتهن القاسية. والصمت النسائي هو نتيجة تصميت المجتمع لقلب المرأة وعقلها وجسدها، أي تجميد كل الأعضاء الحيوية فيها حتى تتوقف عن الحركة والحراك ويلغى وجودها كإنسان. وقد صاغ رحيمي منعرجا في روايته شكلت نهايتها السردية.
في اللحظة التي تخلصت المرأة من صمتها وصمت قلبها وعقلها وجسدها. عندئذ استفاق زوجها «الجثة التي ما تزال على قيد الحياة» ليعيد الأمور إلى نصابها الطبيعي ويقتلها. لأنها أصبحت إنسانا جديدا ومغايرا، يقلب الأوضاع رأسا على عقب. فالمرأة فهمت – في النهاية – أن ثقافة الصمت التي هي نتاج قرون طويلة، لم تسمح بها – كامرأة – أن تؤسّس لجسدها، ولعقلها كيانا معترفا به، وتساوي به كيان الرجل، أو بشكل أصحّ سلطته.
فالصمت يرافق البنى الاستبدادية في المجتمع، وهو رفيق الدرب للخضوع للقهر والقبول بالطغيان في جميع أصعدة الحياة الفردية والعامة، وكما يصمت الفرد، تصمت الجماهير خضوعا أو خوفا أو جهلا أو كل ذلك مجتمعا. لكن المرأة– كل النساء – يجمعن في صمتهن صمت المجتمع وصمت آخر يضاف إليهن بسبب كونهن نساء. لذلك يكون صمت النساء في حقيقته كلاما بليغا أو صراخا مكثفا وإن اختلفت المجتمعات في صيغ سماعه وصيغ فهمه … لذلك بقدر ما يتسع فضاء الصمت (وصمت النساء على وجه الأقصى) بقدر ما يضيق مجال الحرية لأن الصمت وجه آخر للاستبداد.
الهوامش
1 أورده اسكندر حبش في تقديمه للترجمة لرواية عتيق رحيمي : أرض ورماد. دار الآداب. بيروت. 2002. ص 6-7.
2 تصريح عتيق رحيمي : لجريدة الصباح التونسية بتاريخ 3-5-2009. ص 11.
3 جريدة الصباح (التونسية) في 3-5-2009. ص 11.
4 إبراهيم محمود : جماليات الصمت في أصل المخفي والمكبوت. مركز الإنتماء الحضاري. دمشق. 2002. ص 16.
5 المصدر السابق.
6 عتيق رحيمي : أرض ورماد. ترجمة اسكندر حبش. دار الآداب بيروت. 2002. ص 87. وتعود الإحالات المثبتة في النصّ إلى هذه الطبعة.
7 Julia Siboni : L’écriture transgressive du silence chez Samuel Beeket : « Une indiscrétion à l’égard de l’indicible » In. Loxias.
www.revel.unice.fr/loxias.index.html?id=6761.
8 Georges Bensoussan : Auschwitz en héritage ? D’un bon usage de la mémoire. Paris. Mille et une nuits. 1998. P 138.
9 François Noudelmann : Pour en finir avec le rien. In. Lire Beckett. Ed. Press Universitaires de Lyon. 1988. P12-13.
10 Maurice Blanchot : L’espace littéraire. Ed. Gallimard. 1955. Collect. Idée. P 320.
11 إبراهيم محمود : جماليات الصمت. مصدر مذكور. ص 14.
12 Walter Benjamin : Le narrateur. In. Rastelli raconte … et autres récits. Ed. seuil. Collect Points. Paris. 1995. P 143-178.
13 إبراهيم محمود : جماليات الصمت … مصدر مذكور. ص 14.
14 عتيق رحيمي : أرض ورماد. مصدر مذكور. ص 44.
15 عتيق رحيمي : ملعون دوستوفسكي. ترجمة رغدة خوري. دار دال للنشر والتوزيع. دمشق. 2012. ص 238. وكل اإحالات اللاحقة سوف تكون لهذه النشرة وبين قوسين.
16 إبراهيم محمود : جماليات الصمت . مصدر مذكور. ص 19.
17 أورد رحيمي مقاطع من هذه القصيدة في «ملعون دوستوفسكي». ص 116.
18 Atiq Rahimi : Syngué Sabour. Ed. Ed. POL. Paris. 2008. Ed. NRF. Coll. Folio. 2008.
سوف نعتمد في الإحالات على طبعة سنة 2008.
19 إبراهيم محمود: جماليات الصمت … مصدر مذكور. ص 155.
20 المصدر السابق. ص 156.
21 Dora Leontaridou : Silences, métamorphoses de la parole et transcendance dans le discours féminin. In. Loxias n°32. www.revel.unice.fr/lexias/index.
22 عادل خضر : صمت النساء. في كتاب جماعي : صورة المرأة في الرواية العربية. دار سحر. تونس. 2005. ص 40.
23 المصدر السابق : ص 40.
زهيـــر الذوادي\
\ ناقد وأكاديمي من تونس