الصوت
كنت أخطو وحيداً في ممرّ مدرستي كما خطوتُ ذات شتاءٍ بعيد، يشغلني صمتُ الممرِّ وهو يمتدُّ تحت عتمةٍ خفيفةٍ تتكثّف مع كلِّ خطوةٍ وتزداد. لم تمنعني العتمةُ من مواصلة المشي، ولم تكسر أملاً يراودني في رؤية زملائي، أُحدّث نفسي بأنهم كبروا جميعاً وتوزعوا في الجهات، منهم من غدا موظفَ مساحةٍ، كلّت عيناه من طول النظر عبر العدسة، وآخرُ حارساً ليلياً لمرسى الزوارق القديمة، وثالثٌ غادر مهنةَ جدّهِ وأبيه بعد أن زاولها أعواماً، لم يُطق الرائحةَ، كان يختنقُ كلّما هبّتْ رائحةُ الذبائحِ من حوله، ولم يفهم معنى ارتجافها لحظةَ ينخزها الخطّاف، فضّل أن يغدو بائعَ ألبسةٍ مستعملةٍ، يغرقُ في الرائحةِ البشريّةِ الرطبةِ وقد خزنتها الثياب. كنت أستعيدهم واحداً واحداً كلما أوغلتُ في الممرّ.
فجأة أخذني الصوت، صوتٌ بعيدٌ غامرٌ، لم يكن نداءً ولا صيحةً، كان صوتاً فحسب، عارياً من شُبهة الشكل ولوثة الزمن. تركتُ الممرَّ يمتدُّ في العتمةِ وسرتُ باتجاه الساحةِ، كان مصباحٌ يشعُّ وسطها، معلّقاً في رأسِ عمود، تعلوه قبعةٌ واسعة، مكتومة الفضّة، مسطّحة الحواف. رفعتُ رأسي ورأيتهم قربَ سور الطابق العلوي، أمامَ كلِّ صفٍ فتىً. عاودني الأملُ في رؤية زملائي، ورجوتُ أن يكونوا هم فأخذت أُنادي، أخترعُ لكلٍ منهم اسماً وأُنادي عليه، مع كلِّ نداءٍ يقتربُ فتىً من السور وحالما يصدمه الإسم يتهاوى مثل دميةٍ من قماشٍ محشوّةٍ بنشارة خشب، يدوّمُ في الهواء وقد مدّ يديه، قبل أن يُتعبه التحليقُ ويسقط سريعاً ليرتطم بأرض الساحة المبلّطة، قريباً من الممرّ، ويسيلُ من فمهِ المفتوح دمٌ قليل.
شكوك
لا تكون الكتابةُ بنتاً للغة، ولا تعيشُ على حافّتها. الكتابةُ لا تأكل أعشابَ اللغةِ، ولا ترعى مثل شاةٍ على سفحها، باحثةً عن أغصان المجاز. الكتابةُ كتابةٌ، منذ فكّر الانسانُ أن إنساناً يولدُ من نفسه ليزحفَ، مثل كلِّ وليدٍ، بين الكلمات. يدُ الوليد اللاهيةُ تنحتُ كلَّ شئ، تجعلُ لكلِ شئٍ صورةً، وتمنحُ كلَّ صورةٍ روحاً تهيم في الشوارع الخلفيّة للوجود. بين الكتابةِ واللغةِ، سرعان ما تتناهبنا الشكوك.
الغابة
تقرأُ الكتابةُ الغابةَ وهي توغل في أعماقها.
كلُّ شجرةٍ، في غابة الكتابة، ورقةٌ، وعلى كلِّ ورقةٍ كلمةٌ وحيدةٌ لا غير.
تولدُ الشجرةُ وتنمو من أجلِ كلمةٍ، تحيا طويلاً على أمل أن يلتقطها كاتبٌ وحيد.
مكتوب في فنجان
إنها المرأة التي رأت الكثير من الأشياء ولم تحدّث بغير القليل، حيث يبدو كلُّ شئ مكتوباً في فنجان، خيول وسلاحف وأشجار، كمانات منسيّة في عربات قطار، وسيدات منتظرات، كما لو أن يداً ماهرة نقشتهن على زجاجٍ، منذ زمنٍ بعيد.
رأت حروباً متلاحقة، تندفع مثل غيومٍ، على كل غيمةٍ كثير من الأسماء. بصمتٍ وعلى مهلٍ، رأت كلَّ اسمٍ يختفي فور قراءته. ما كان يُحزنها حقاً هو ما قرأته ذات يوم من إن الحروب تمرُّ مهما كانت طويلة وقاهرة، ولا تبقى غير الأسماء. عاشت شعوراً لم تعشه امرأةٌ قبلها وهي تُدرك أن الحروب ستبقى وأن ما سيمرُّ ويُنسى هو الأسماء.
منذ سنوات صعدت سُلّماً، ومن أعلى درجةٍ تركت الفنجان يتهاوى. قيل أنه استغرق زمناً قبل أن يسقط على أرض تملؤها حفرٌ صغيرةٌ مثل عملات معدنيّة صدئة، فتهتزُّ لسقوطه الجدران.
ولأنها لم تحدّث بغير القليل، فقد كُتبَ عن سيدة تشبهها صعدت أعلى السلّم مستجيبةً لحلم امرأة تقرأ في فنجانٍ كلماتٍ ممحوّةً ورسوماً مثل نقش على زجاج. حاولت من جهتها أن تلتقط ولو حرفاً، لكن المرأة التفتت لتحدّثها عن رجل يطعن ضفدعاً بسكين.
كان الضفدع ينقُّ مع كلِّ طعنة، والرجل يواصل عمله بدقّةٍ واجتهاد.
ابتكار
تبتكر الكتابة الموت
تمنحه قفازاً ومنزلاً
تأويه وتدلّلـه مثل ذئب وحيد. تناديه، كلما نزل الليل، بأسماء جديدة.
الصمت
كانوا يشقّون النهرَ بقواربهم الرشيقةِ مثل السهام، متوجّهين صوبَ الغابةِ، قادمين من البرّ الرئيسي حيثُ يُصنع الصابون البنّي بروائحه الفاغمة، ويُترك في الساحات صفوفاً طويلةً ليجفَّ تحت الشمس، يهتفون مع ضرباتِ المجاديفِ كما لو كانوا ينادون الأشجار. من جنوبِ الغابةِ يصعدون، حيثُ صخور الضفّة أكثر رحمةً بأقدامهم، لا تجرّحها إلا قليلاً. إلى قلب الغابة يمضون على الطريق الذي قطعوه في مثل هذا النهار من العام الماضي. عامٌ مرَّ وما زالت دماؤهم رطبةً على العشب، على قطرات الدم ستعلُق قطراتٌ جديدةٌ، وسنتخفض أصواتهم وهي تواصل نداءها، حتى إذا وصلوا إلى الأشجارِ العظيمةِ العاليةِ أخذهم الصمت. ما كانوا يتحمّلون هذا العناء من أجل صنفٍ معيّنٍ من الثمار، إنهم يأتون كلَّ عامٍ كي يقفوا صامتين أمام الأشجار ثم يقفلون عائدين عبر خليج باريا إلى المصبّ المتدفّق من نهر أورينوكو، رائحةُ الصابونِ هناك، وهناك الكلامُ يحيا ويموت.
الحكّاء
كان ما يفعله سونج لنج بو، الحكّاء العظيم، بسيطاً جداً، إنه يحكي حكايته على طريقته كما لو كان يطارد شبحاً في مرآة، ولم يكن من الصعب على حكّاء مثله أن يتحوّل إلى نبعٍ عندما ينام، يسمع أرواح الناس المخبوءة في الأصداف، ويرى ثيراناً تتقافز بين يديه، وأيائل تتخاطف في أحلام الصيادين، إنه يتسلل إلى أحلامهم كي يداعبهم قليلاً قبل الصحو. في حكاياته حيث يجلس على كرسي بلا ظهر، محرّكاً قدميه جرياً على عادة قديمة، ومن ورائه، في الفضاء الفسيح، تواصل رائحة روث هبوبها، تُشرق الشمسُ أيضاً، وتتحرّك عقارب الساعة مثل حركتها كلَّ يوم، لكنها تُشير لوقتٍ آخر يُحيط بالأشياء مثل هواء مغبر ويتسلل إلى أعماقها. الرجل الذي يتهاوى من أعلى مخازن الخشب وقد زلّت قدمه على سقف شديد الانحدار، لن يسقط على كومة أحجار مرميّة على الجانب، سيهوّم طويلاً مثل نسرٍ فتي في حكاية سونج لنج بو، من عامٍ إلى عامٍ تأخذ الحكايةُ النسرَ فيمرّ على أرض جديدة كلِّ عامٍ. الحكّاء سيكون هناك، على كلِّ ارض، يواصل حكاية النسر الذي هوّم من أعلى مخازن الخشب، عند نقطة محدّدة يتوقّف كي يسمع خفق جناحيه ويلتقط صرخته.
الذكرى
من دونجبي بجاومي البعيدة يتحدّث الرجل عن أبيه وأخوته وزوجته وابنته وحفيدته التي لم تتخط شهورها الستة عشر. في حديثه عن كلٍ منهم نستمع لروحه تخفق مثل علمٍ في قارب، وهي تتطلّع نحو حديقةِ خوخٍ بشرق القرية. صوته يتباعد، ينخفض مع كلِّ كلمةٍ، ووجهه يتغضّن كما لو كان وريثاً غير مباشر لأحزان العالم. في السنة الماضية، يتحدّث الرجل، وبسبب تشييد خط سكّةِ حديدٍ يمرُّ بالحديقة اضطررنا لنقل قبرها لمكان آخر بعيد، انتبهت عند فتح القبر أن الصندوق الذي يضمُّ الرماد قد اندثر وصار جزءاً من الأرض، ولم يسعنا إلا أن نقبض على قليل من التراب كذكرى.
في الكتابة تجتمع العائلة، ومن بعيد، أبعد من حديقة الخوخ، تراقب الأم المشهد وتستمع لما يدور.
لا الرماد، ولا التراب الذي صار ذكرى.
حيوانات الذكرى
حجراً بعد حجر نُقطّع الأحجار من جبال حياتنا، نكسرها مثل موهومين بالضوء الأزرق البعيد، ومثل حالمين سعداء ننحتُ، على مهلٍ، ثعالبَ لا تشبه الثعالب كثيراً، لكلٍ منها قدمٌ رفيعةٌ واحدة. ما أن نُغمض عيوننا وقد استبدَّ بنا التعبُ ـ ليس ثمة عمل أكثر مشقّةً من تقطيع الأحجار ـ حتى نسمعها تقفز من أعالي الجبال. الثعالب بأقدامها الرفيعة، لم تُخلق لغير قفزةٍ وحيدةٍ، تموت إثرها في القيعان السحيقة المعتمة.
إنها حيوانات الذكرى وقد أخذتها، بكل أسف، فتنة الهاوية.
الغرفة
الغرفةُ الفسيحةُ الخالية، المطلّةُ على الصمت كما لوكانت تابوتاً، لها نوافذُ محكمة، وبابٌ محفورٌ جُدّد مرتين، يدخلها، في كلِّ حينٍ، ضيوفٌ طيّبون، كم يتمنى كلٌّ منهم لو يتريّثُ قليلاً، لكنهم يواصلون المشي مخترقين الجدران، لتظلَّ الغرفةُ فسيحةً خاليةً، تهبُّ عليها الريحُ من كلِّ جانبٍ ولا تترك أثراً فيها. ليس ثمة ما يُشير لهبوب الريح على السجادة: رجلٌ من خشبٍ يتمدّد على أرض الغابة، تتساقطُ على جسده الأوراق.
رجال
الرجلُ السائرُ، منذ قرونٍ، في صحراء الربع الخالي، لا يشبهك في شيء، يؤسفني ذلك حقاً، لكنه يواصلُ السير، غير عابئ، وأنت تواصلُ حكايتك، كلما حلّ الليل، عن رجال ينامون تحت مطحنة معطّلة.
في الجيش
في ثمانينيات القرن الماضي، ولم أكن قد تجاوزت العشرين بعد، صادفتُ جندياً يفتح صدره بسكّين، ثم يقف تحت الشمس طويلاً كي ينظر داخله بمعونة مرآة. في ليل القصف، قرب الساتر، كان يحدّثني عن قسوة أن يغفو بصدر مفتوح، وأن يترنّم، قبل ذلك، بلحن عابر قديم.
موسوعة العذاب
في يوم محدّد من كلِّ عام تفرغ المدينةُ من سكّانها، تخلو شوارعها من المارّة، وتهبُّ الريحُ طليقةً في الساحات، والحدائق، والأسواق، ليس ثمة وجهٌ ينعكس على الزجاج، ليست ثمة شتائم أو ترّهات. أواصل المشي من شارع لشارع، أُحسُّ وحشة الحدائق، وأدور منفرداً في الأسواق، لا يمرُّ بجانبي أحد، ولا تصادفني شتيمة أو ترّهة واحدة، ولا أرى وجهي، ولو مرّة، على زجاج. إلى الأزقة القديمة التي طالما أحببتها تقودني خطاي، أعبرها زقاقاً بعد آخر في طريقي إلى النهر، على ضفّته أقف، في الرائحة العفنة حيث تتحلل الأفكار على الشاطئ وتتخاطف الأمواج، على كلِّ موجةٍ يرتسم وجه ويختفي. إنهم سكان المدينة يؤكدون غيبتهم، حدّثت نفسي في اللحظة التي أخذت الوجوه تفتح أفواهها، لحظة يصعب معها ادراك معنى الانفتاحة: شهقة، أو تثاؤباً، أو لوعة موت، سريعاً ما تتشظى الموجة بعدها، ويغيب الوجه. في وقفتي على النهر، وكما لو كنت على موعد، تذكّرت أنني أبحث، منذ انتهت الحرب، عن موسوعة العذاب. لكم عذّبني أن أواصل البحث نهاراً بعد نهار، حتى إذا عُدّتُ لمنزلي المرتفع عن الشارع ـ سُلّم قصير يؤدي إليه ـ وأكلت طعامي القليل ممدّداً على السرير بكامل ثيابي، رحت إلى النوم سريعاً ورأيتني أفتح باباً وأدخل، صوتٌ ما يُحدّثني أنني في الموسوعة الآن، أتجوّل في غرفها الرطبة شبه المعتمة، أنزل عبر سُلّم قصير إلى قاعها، تحيطني رائحة العفن القديم، ويتملّكني شعورٌ أنني كنت هنا من قبل ويؤلمني أنها موسوعة فارغة أيضاً، لا صرخة، ولا وجه، ولا عذاب.
مثل طائر وحيد
على الطريق الواسع بين (فايسنفالس) و(لايبزيغ)، مروراً بـ(لوتزان)، تمتدُّ قرية (روكن) مثل طائر وحيد، هناك أو في أي مكان آخر بإمكانك أن تولد، في أية قريةٍ على الطريق، وفي منتصف أيِّ قرنٍ تشاء، مثلما بإمكانك أن تُسمّى بأيِّ اسم، فريدريك فيلهالم أو سواه، لا فرق، ففي كلِّ يوم تزداد الآلامُ حدةً ويغدو العالمُ أكثر عتمةً مع الفقدان البطئ للبصر، ويبدو الجسدُ شديدَ النحول، إنها بشائرُ الدماغ المتفجّر مثل عاصفةٍ ثلجيّةٍ موّارةٍ تردم في طريقها كلَّ شئ: الفكرة، وعيني السنجاب البرّاقتين، وأشجار التنوب التي تتخلى عن صمودها، حيث يهيم الأب في الهبوب العاصف ولم يكن عمرك قد تجاوز الرابعة بعد. فلتكتب، إذن، عن (ناومبورغ)، وعن الخوف الذي يقرص الجلد، وعن الحياة إلى جوار الكتب. قلاعٌ قديمةٌ تطلُّ من بعيد، ومعلّمُ موسيقى بلا مواهب، وكلماتٌ، هكذا يُبنى العالمُ، وهكذا تُستعاد الحياة: موسيقى موجعة وقلاعٌ من كلمات، قبل أن تنزلق للبئر العميقة ولا يعد ثمة ما يميّز بين الأب الميّت في بيتٍ محاطٍ بالحدائق في قرية (روكن)، والابن الذي يواصل النزول من أعلى الفكرة مثقلاً بأعباء الوحدة، مواصلاً الانشغال، بما تبقّى في ذهنه من نور، برذائل الاعتقاد بما تتوهمه ذكرياتنا، وبالراحة العميقة في مصالحة المرض.
ها أنت تمضي سيد فريدريك، بلا اسم ولا مرآة، محاولاً الخلاص من الخيول التي تتراكض في جوف البئر، ومن ارتجافة نار الفانوس.
يحدث أن ينهار العقلُ المتوهج، يسقط في مغاور العتمة، لكن الكتابة تحافظ على وسامتها في ضرب من مناورة خياليّة بعيدة وغير مفهومة، متحدّثة عن الأمواج التي تُسمع في الليل.
نم هانئاً سيد فريدريك، وراء العتمة، وراء الضوء، وراء كلِّ ما للخير من معنى وما للشر، لعلّك تصحو وقد لمستك المعرفة بجناحها، لتكتب مرّة أخرى عن « اللذات المكلّفة للأوهام، واللذات الأكثر كلفةً لتقويضها».
سيد يوسا
نعم سيد يوسا، كما تقول تماماً، نحن نقف في صفِّ المخربشين على الورق، سيئي الطالع، بلا ناشرين ولا مكافآت ولا قرّاء، قد تُكتشف مواهبُنا من قبل الأجيال القادمة، وإنه لعزاءٌ حزين! نشكرك بصدق أن تصنفنا زملاء، وإن كنا قليلي الحظ، فنحن مثلك تأخذنا أحلامنا للكتابة، وتُعيدنا الكتابةُ لما يُحيط بنا من ظلام. جادون نحن في المضي بأوهامنا حتى آخر الشوط، حيث لا توقّف ولا انتهاء.
تعلم، أيها العزيز، بأننا لم نعش على التراب الاسباني يوماً، وليست لنا ومضةُ ذكرى عن برشلونة الجميلة لنُسعد باستعادتها، لكن ذلك لا يمنعنا من أن نجتهد في ابتكار عزائنا، حيث الكلمةُ وحدها تمنحنا برشلونة أخرى، لا نُضطر لاستعادتها كلّما استبدَّ بنا الحنينُ لأننا، ببساطةٍ، نحيا فيها، فبرشلونة كلمةٌ مثل آلاف الكلمات لها أبوابٌ عاليةٌ، وشوارعُ واسعةٌ، ومزارعُ كرومٍ، وفتياتٌ جميلات، ولها أيضاً كتّابٌ سيئو الطالع ـ يا لسعادتنا ـ عزاؤهم أن أناساً يشبهونهم يواصلون الخربشةَ في أماكنَ كثيرةٍ من العالم كلَّ يوم. إنهم يكتبون، كما تقول سيد يوسا، من أجلِ عَيشِ الحيوات المتعدّدة التي يرغبون فيها، هم الذين لم تتوفر لهم إلا حياةٌ واحدةٌ بالكاد، وهي حياةٌ تستحق أن تُعاش، رغم ذلك وبسببه ربما، وأن تتعدّد أوهامُها. إنها مساحتهم الوحيدةُ للتخيّل، حيث يَحيَون من جديدٍ مع كلِّ فكرةٍ، ولن يكون بمستطاعهم، وقد ضاقت خياراتُهم، غير أن يواصلوا الكتابةَ مع كلِّ موتٍ يموتونه، ومع كلِّ حياة.
قلتَ، سيد يوسا، إن الأدب الجيّد يمدُّ الجسورَ بين الناس المختلفين، ذلك صائب حقاً، ومن الصواب أيضاً أن نفكّر بأن لا جسر في الكتابة، لا باب، ولا شارع، ثمة حياةٌ طليقةٌ فحسب تأخذ الناس تحت جناحيها في تجربة فريدة لا تنقضي.
إنقاذ اللغة من الغرق
ما أبعد الخامس والعشرين من نيسان 1937، ما أصعب الوصول للصفحة الثامنة والعشرين من النيويورك تايمز، حيث يأوي همنغواي مُقتَبَساً من الحرب التي تتجلّى نابضةً بالحياة في مدريد. في هامشٍ وحيدٍ، مثلَ طيفٍ عابرٍ، يمكنك رؤيةُ جنديٍ يستلقي على الرمل بثيابه الكاملة، عيناه مفتوحتان، عظمتا وجنتيه بارزتان، يمسحهما ضوءُ آخر النهار، خوذته مائلة قليلاً وقد التفَّ حزامُها على الرقبة. في جيبه العلوي، إن حدّقت مليّاً، سترى دليلاً للنجاة كُتب خصيصاً لإنقاذ اللغة من الغرق.
طريق ابن فضلان
التتارياتُ الفتياتُ يؤدين رقصاتهن تحت غيومٍ رماديّةٍ، في باحةِ المسجدِ الأبيض، في قريةٍ على نهر الفولجا. شهراً بعد آخر يواصلُ ابنُ فضلان رحلته على الخريطة التي تقطعها سلاسلُ جبالٍ كثيرةٌ، مستقيمةٌ وملتويةٌ مثل خطوطٍ من النمل. البُلغار بأنهارها وخيولها وفرسانها، بحدّاديها وربّات بيوتها، تترقّبُ ما تأتي به الرياح. طويلٌ طريقك يا ابن فضلان، لن ينتهي بين يدي ألمش بن يلطوار، الملك، ولن يغيبَ في شعابِ أحلامهِ الفسيحةِ. ها أنت تقرأ كتابَ الخليفة وقد صمتت الطبولُ من حولك، ورفرفتِ الرايات.
في القارب
الرجلُ في القارب منذ سنوات، لم يبرح الماءَ في ليلٍ أونهار. يأخذه القاربُ في رحلة طويلة إلى حياته، حيث نزلَ مرّةً على الشاطئ، وسارَ على الرمل، ورأى جنوداً منكسرين. كان شاباً وقتها، سعيداً بالرمل الذي يعلُق بقدميه، حاولَ أن يُحدّث الجنودَ عن سعادته، وعن سنواتهِ على القارب، لكن أحداً منهم لم يسمع أو يُجيد الكلام، كانوا قد خسروا اللغة، لا ريب، مع زخّات الرصاص. منذ وقتٍ لم ير طيراً ولم يسمع زقزقةً أو نعيباً، إنه يواصل حياته ممدّداً على السطح، ناظراً للسماء. صامتٌ كلُّ شئ من حوله، حتى الماء الذي يدفعُ القاربَ، يدفعه بلا صوت. عند هذه النقطةِ من النهار يسحبُ كتاباً من بطن القارب، يُطيل الوقوفَ أمام كلماتهِ التي لم يُبق الماءُ منها غيرَ الظلال، كلُّ ظلٍ غيمةٌ عابرة. من صفحةٍ إلى صفحةٍ يواصلُ القراءةَ حتى يغلبه النوم.