ظاهرة الكتابات والنقوش الصخريّة مارسها الإنسان منذ أقدم العصور، ذلك لأنّ هاجس الزوال كان يقلقه، خصوصا حين أدرك أن مايحدث في الحياة أكبر مما يمكن أن تستوعبه الذاكرة، ففي بحثه عن ضالّه تعين ذاكرته كانت الرسوم أولا وبعد دهور طوّرها إلى الكتابة التي كانت في البداية صوريّة ثم اختزلها لتكون تجريديّة ثم أصبحت هجائيّة وهذا ما وصل إلينا، ومكث الحامل الذي يضطلع بوزر هذه المهام، غاية بحثه،فتحوّل من خامة إلى أخرى بيد أن الحجر كان باكورتها ثم انتقل إلى الطين ثم الجلد، ثم الورق (البردي)، والكتابة على الرمال مضرب مثل،لمن يكتب وكتابته تمضي إلى فناء سريع، ولعلّ قيس بن الملوّح عبّر عن هذا القلق المداف بالحزن واللوعة بقوله:
عشيّة مالي حيلة غير إنني
بلقط الحصى والخط في الدار مولع
أخطّ وأمحو كل ما قد خططته
بدمعي والغربان حولي وقع
لذا كان يتطلّع إلى كتابة لا تمحوها الأيّام، فراح يبحث عن مادّة تجعل مدوّنته تبقى محط أنظار الأسلاف، وبعد تجريبه لكلّ تلك الخامات، وجد أن النقش على الحجر هو الأطول مكوثا ورأى في صلادته, ما يجعله أكثر اطمئنانا، على بقاء مايكتب لأطول مدّة ممكنة، فكانت الكتابات الصخريّة التي هي إرث إنساني جعل من المكان متحفا طبيعيّا، ومحل اهتمام المؤرخين بعد أن اختار الإنسان الحجر كـ(حامل) لتفريغ ما بدواخله من هواجس وأشجان.
حينما اصطحبني الدكتور صالح بن عامر الخروصي إلى صخرة كبيرة تقع في وادي بني خروص بالعوابي ليريني نموذجا لكتابة على الصخر، لم تتأثّر بعوادي الزمان، صامدة في المكان حيث مكثت تلك الكتابة المخطوطة بعناية، واحتفظت بتفاصيلها من نقاط وتشكيل، حتى ليظن الناظر بأنّها خطت من أمد قريب.وشرع صديقي الخروصي يقرأ مقطعا من نص، يوثّق لحادثة جرت في المكان يختلط فيها الواقعي بالأسطوري، فسألته عن تاريخها،فقرأ التاريخ المكتوب حسب التقويم الهجري، بعد اسم كاتبه، فعرفت أنه يعود إلى أكثر من 400 سنة خلت!!. وهذا يكسبها حظوة كونه ينقل لنا أخبار حقبة اضمحلت بها جذوة الظاهرة التدوينية في الثقافة الإسلامية عموما والعمانية خصوصا، والتي عادة ما نلجأ في سبر أغوارها لمدونات الرحالة الأجانب وآراء المستشرقين والأرشيف الإستعماري.
وتلك النقوش ليست إمضاءات شخصية أو خواطرعابرة تدوّن للذكرى، كالتي نقرأها على الحيطان القديمة وجذوع الأشجار المعمّرة، بل هي نصوص توثيقية ومدوّنات خبرية وأشجان محفورة على صخور عمان. لقد عدّها الباحث يعقوب بن نبهان الخروصي في كتاب» ملامح من تاريخ العوابي عبر العصور «الذي أشرف عليه د.صالح الخروصي ظاهرة ثقافيّة تميّز العوابي ووادي بني خروص عن سواها رغم تواجدها في مناطق أخرى مثل «الحمراء» و«مدحا»، تحمل سمات وملامح خاصة يندر أن نجدها في ثقافات أخرى. أما موضوعاتها فهناك آيات من الذكر الحكيم، وأبيات شعرية وأخبار لأحداث مرت بها عمان وليس الوادي فقط، نقرأ نصا فيها مثلا: «اعلم أيها الواقف على هذا الكتاب أنه وقع في آخر سنة 1173 هـ «يونيو أو يوليو 1759» سيل عظيم بكافة عمان ووقع على أصحابها الضرر وعطاب في القيظ والزرع ولم يبق لهم الا بقدر ما يحتاجون إليه من التمر والبر والله يرزق من يشاء بغير حساب. وفي سنة 1174 وقع غلاء كثير». ونقرأ في نص آخر: «اعلم أيها الواقف على هذا الكتاب أنه وقع علينا في عام 1271هـ (1854م ) محل كثير، ولم يأخذ أحد صاعا من البر ولا شيئا من التمر، والذين خرجوا من بيوتهم لطلب الرزق خمسون رجلا، والعاقبة لله تعالى».
ويبدو أن عبارة «اعلم أيها الواقف..» الواردة في بداية كل نص، تحاكي عبارة «إعلم يرحمك الله» التي وجدناها مبثوثة في مدونات التراث الإسلامي الأول والوسيط، والتي توحي بهواجس روحانية وموقف صوفي.
وقد يكتفي الكاتب بتدوين خبر مقتضب، مدفوعا بهاجس توثيق الحادث، وكأنّه يجعل من الصخر صحيفة من عنوان واحد، بدون تفاصيل أو تعليق، حيث يقول «وقع ضرر على سوق روي، كتبه مبارك بن خميس بن مبارك الخروصي سنة 114 هـ 1759أو 1760م»
لقد بهرت نقوش وادي خروص الشعراء، فالغشري يقول في وصف ماكتب في الحجارة الواقعة على الجانب الغربي لمدخل وادي بني خروص:
محمد قد أحسنت فيما كتبته
على جانب الوادي بظهر صفاة
إذا ما أتيت الفتح عرّج مغرّبا
تجده كضوء الشمس لاح بمرآة
كتاب فلا تبلى الليالي جديده
بتكـرار أيّــام ودورات ساعـات
ولم تكن كتابة مثل تلك النصوص بالأمر اليسير، بل احتاجت إلى جهد عضلي، وجلد، وأناة، ووعي مثقف وحس بيئي وذوق فني وموهبة بالخطوط، جسده الأزميل وقد رسم أخاديده على محيا الصخرة، ويقول الخروصي، مستدركا «ومع إن استخدام هذه الطريقة يكلّف الكاتب وقتا أطول إلا انها تكفل بقاء الخط فترة طويلة يقاوم فيها عوامل التعرية الجوية من أمطار، وحرارة، وأتربة، وكان الكتبة يختارون الوجه المضاد لاتجاه مياه الوادي، وذلك خشية من تأثير الماء عليها».
حري بأن تخضع تلك النصوص بعد نقلها بأمنة إلى التصنيف الزماني والمكاني وطبيعة الحدث، ثم تمحيصها نقديا وإمرارها من مرشح (تحليل الخطاب)، وهو ماسوف ينفعنا في دراسات تاريخية حقيقية وإجتماعية ترصد تطور الظاهرة، ونفسية لما يقرأ من شعور عام وخاص يخص الحدث. وهذا يجعلنا نعدها ثروة تدوينية لايستهان بها، وتأريخا يكاد أن يكون حيّا، من حيث إن الورق يهترىء والنسيج يبلى والخشب يحترق والحيطان تقوض،والجلود تتلف وتبيد، لذا لجأ إلى الحجر الصامد صمود الأزمنة.
لكن عوامل التعرية الجوّيّة من أمطار ورياح بدأت تؤثّر على هذه الكتابات ومع مرور الزمن طمست بعض معالمها، لذا أتمنى من الجهات المسؤولة حصر هذه الكتابات والإهتمام بها، وهذا يدعونا إلى وضع خطة للعناية بها بأساليب علمية،وتنظيم العرض والتهيئة المتحفية للمكان المفتوح،من خلال إدارتها وحراستها، وإضفاء مسقفات حامية، ووضع حواجز رادعة للعبث واللمس، مثل وضع ألواح زجاجية يرى النص من خلالها، مع وضع لوحة جانبية تبين النص بالعربية وترجمتها للغات أخرى، كي تكون في متداول السائحين الأجانب. إضافة إلى تنظيم رحلات منظمة لها ولاسيما أنها لاتبعد كثيرا من مسقط. وكل تلك النفحات الحضارية، إستثمار إقتصادي للتراث لايهمل أو يستغنى عنه في مشروع النهضة الصاعد والواعد في السلطنة،فحماية هذه الكنوز المكشوفة لرياح الزمن واجب علينا، لتظلّ تلك الأشجان محفورة على حجارة عمان .