كان ناصر في طريقه إلى الفراش عندما ملأ جرس الهاتف الشقة الصغيرة بالرنين.
– هالو!
– كم يؤسفني يا سيد ناصر أن أعلمك أن نتائج التحليل لا تبشر بالخير, ومن الأفضل مقابلة الدكتور غدا ما رأيك بالساعة الواحدة?
– لا مانع…
هكذا إذن! ومهما بدت المفاجآت المؤلمة غير قابلة للتصديق, يهوي المرء في حفرته الأخيرة بهذا الشكل أو ذاك!
إنه السرطان, الرعب الذي لا يمكن الاستهانة بجبروته, إلا عندما يذهب إلى الآخرين, عليه, منذ الآن, إعداد نفسه لقبول هذا الوحش في داخله, إلى أن يقضي عليه.
ظل منكمشا قرب الجهاز الذي قال كلمته ثم صمت, وتخيل للمرأة, بمريلتها الطبية البيضاء, عشرات الوجوه, تلقي عليه النبأ, ثم تعود إلى عملها المعتاد, وهي تعرف الحزن الذي سوف يحطم قلبه, لكنها لا تستطيع غير ذلك, ولو أنها عادت بعد لحظات, لتقول: »عفوا سيد ناصر, كنت أقصد مريضا آخر« لكم بدت رحيمة, جديرة بالحب والغفران, رغم خطأها المريع!
ربما تكون الكلى وراء أوجاع الظهر! قال له الطبيب منذ شهرين, أو الروماتيزم بسبب البرد, لهذا لم يكترث, ثم ينسى الموضوع بأكمله, بعد أن ترك في المختبر عينات قليلة من الدم, إلا أن الصوت الذي رج نسيانه قبل لحظات, كشف له أن المرض كان يشيد متاريسه وأبراجه داخل جسده منذ فترة طويلة من دون علمه.
وسط الحزن والخوف اللذين هدا كيانه وسمراه إلى المقعد, شعر برغبة قوية, حاجة مهلكة للارتماء على السرير والغرق في النوم, فترة قصيرة من الخلاص, من الغياب العميق, ليفكر بعدئذ في المحنة التي زعزعت هدوءه وإطمئنانه.
أغلب حياته, التي بدت له الآن بلا قيمة, ومسلوبة الأمل, اعتاد النوم ساعة واحدة بعد الغداء, حدد لها منتصف النهار, يتمدد على قفاه في ارتخاء لذيذ, بين النوم والصحو, ينهض بعدها لمواصلة روتين أيامه.
إنه أشبه بالكابوس الثقيل, الخبر الذي بلبل أفكاره منذ لحظات, مثل فأس حادة تهوي على العنق, لا يعرف المرء إن كان يصحو من أثرها القاتل أم لا!
حين غطس رأسه في المخدة, راحت عيناه تفكران في السقف, في زوايا البيت وأثاثه, في المرايل البيضاء تدخل وتخرج من الأبواب على جانبي الأروقة الطويلة, في وجه الطبيب يفصل له مراحل المرض وجغرافية تفشيه, وفكر أن مصائب الإنسان تزداد شبها بالحلم كلما عظمت وطأتها على القلب, فهل يجوز أن يكون كلام الممرضة رنينا في وهدة النوم?
رغم إنغلاقهما, ظلت عيناه تنتقلان من رعب إلى آخر, شاهد كل صور العذاب والبشاعة التي تنتظره في الأسابيع والأشهر القادمة, ثم تمنى, في غمرة اضطرابه, أن يكون مستسلما للنوم, وينهض منه بعد قليل, مع أثر خفيف من القلق, وشعور عذب بالارتياح, كما حدث له من قبل في عدد من أحلامه المزعجة.
لم يستطع النوم, مع ذلك بقي منشدا إلى الأمل, معلقا بخمس دقائق من الاغفاء, هبوط سريع تحت سطح النوم, يتأكد بعده إن كان ضحية حلم كريه, أم أن ما نقلته الممرضة هو المصير القاطع لخاتمة حياته?
لكيلا تختلط عليه الأمور, ويغدو ضحية الوساوس القوية, راح يسترجع صور وجوه وأبواب ومكاتب لها علاقة بالمستشفى, ليربطها في تسلسل محكم, فهو يعرف أن الأحلام إذا لم تجد في حياة الانسان واقعة حقيقية تدعم منطقها المخادع, افتعلتها بذاتها لتسيطر على الذهن الغافي!
إلا أنه وجد الأحداث التي انتهت بكلام الممرضة في الهاتف مترابطة, لا يعتور أيا منها الغموض أو الشك.
سار داخل الشقة, فبدت له أصغر مما عهدها, أكثر ضيقا, حدودها منطبقة على بعضها, لا تسع خطوات حياة في أيامها الأخيرة, وحين وقف وراء النافذة, هجم عليه شعور بالضيق, راح يعصره ثم يرميه في الفراغ, في الوحدة التي ستكون أشد إظلاما منذ وفاة زوجته, بيد أن ثغرة ما لاحت في الفراغ الأسود أمامه, إن الممرضة, وكل الممرضات في العالم, مهما كان جفاف طباعهن, لا ينقلن نتائج التحليل عن الأمراض الخطيرة في الهاتف! فتراجع الضيق عنه, لينزل عليه شعور هادئ بالارتياح, نفس الشعور الذي جربه مرات عديدة أثناء النوم, حين يستيقظ الوعي, ولو بشكل غائم, داخل الحلم, فيعرف النائم أنه يحلم, وأنه يتلوى داخل كابوس, سرعان ما سيتملص من قبضته ثم ينساه.
لكنه ظل على وقفته, معذبا, في الفراغ, من دون أن ينهض من نوم, أو يتخلص من حلم.
هيأ الطبيب نظرته وجلسته الواثقة قبل أن يعلن لناصر أنه فعلا المرض الخبيث, قال: »مع ذلك على المرء مواجهة الحقائق الخاصة بالحياة والموت بشجاعة, ان التهرب أو التحايل لن ينفعا في شيء«.
ثم تكلم عن حالات تعجز فيها الأدوية عن تقديم أمل كبير في العلاج, بينما تكون الشجاعة ذاتها علاجا فيما اعتاد أن يسميه وضع العصا بين سيقان المرض, وهذا, على ضوء تجاربه الطويلة, يمثل شفاء.
بدل أن تشجعه, أو تواسيه, خلفت كلمات الطبيب أثرا مدمرا على نفسية ناصر, إذ لخصت قدره المؤسي في عبارات قليلة.
إنها النهاية إذن! الموت بصورته البشعة! لم تخطئ الممرضة في الأسماء, لم تلتبس النتائج على قطرات الدم, ولم يترك الطبيب فرصة ضئيلة للشك, والتكهنات والآمال وأحداث نهاره منذ خروجه من البيت حتى عودته من المستشفى تساقطت كلها في حفرة ضيقة مليئة بالأفاعي والغيلان, كما يسقط النائم من فوق سريره, فيعرف أن أوجاعه تنتمي إلى الواقع, ولا شأن لها بالأحلام.
بدأت ساقاه تضعفان, والبرد يصفع جبهته التي ينزف منها العرق, وأنظاره الغائمة تبحث عن مكان يجلس فيه, بينما الحزن والخوف يشتدان عليه, والناس والبنايات والسيارات تدور داخل عينيه مثل غشاوات تتحرك وهي واقفة في مكانها.
»لا يشتد العذاب بهذا القدر, بهذا الظلم الكبير إلا في الحلم« قال بذهن متعب. لقد رسمت الحياة لكل شيء حدودا لا يتجاوزها الواقع مهما بالغ في الحمق والجنون, وإن المصير الذي حكم به الطبيب والممرضة عليه يجري ضمن كابوس كلما تشتد وطأته تقترب نهايته, عكس ذلك لا يمكن أن تكون الحياة بهذه القسوة, بهذا التخبط في رسم مصائر البشر وكأنهم مذنبون لمجرد مجيئهم إلى الدنيا!
بالتدريج عاد الهدوء يتسلل إلى قلبه, راح الصفاء يجمع أسبابه وقناعاته الجديدة, شعر أنه يستطيع تجاهل الواقع والدوس بالأقدام على مرارته ومفاجآته الخبيثة. فتح عينيه على سعتهما ليتحدى الأشياء من حوله, ليهزأ بالمخاوف التي تعكر أيام الانسان على قلتها وتفاهتها, يرفعه إلى الأعلى زخم كبير من الشجاعة, جعله بلا قلق, بلا كثافة, أخف حتى مما يشعر به النائم في الأحلام. بيد أن حركة الناس والسيارات وصور البنايات عادت بعد قليل إلى وضوحها العنيد, لتتحول الى واقع لا يمكن نكرانه, يعرض أمام ناصر, من بين كل البشر, وجهه المكفهر, الذي لا يرحم وهو يرفع اصبع الموت باتجاه من يريد الانقضاض عليهم!
كانت المرأة التي تسبقه عدة خطوات تتوقف وتلتفت, باسمة, بانتظار أن تلحق بها طفلتها, المشغولة بمعالجة غلاف الحلوى, لتأخذها من يدها وتعاود السير, فتتبعها الطفلة بيد معلقة بقبضة الأم وعيناها مسلطتان على اليد الطليقة التي تحمل الحلوى.
فكر بحزن في السعادة التي خفقت تلك اللحظة في قلب المرأة وهي تمسك اليد الصغيرة, فكر بلحظات كثيرة يفوت الإنسان فيها التمتع بملامسة الأشياء, بالأصابع أو بالنظر. أن تتأمل حجرا صنعته الطبيعة بشكل غريب, أن تشم رائحة ثمرة طرية لعدة مرات, أن تصغي بكل جوارحك الى أغنية عذبة, أن تتوقف أمام غصن يلفظ أوراقه الصفراء ويهيئ براعمه للتفتح, أو تسير تحت المطر الى أن يلدعك البرد, فتدخل أول مقهى لتستمتع بالدفء أمام فنجان قهوة ساخن, هذه الأشياء هي الحياة ولم نكن نفهم هذا! لأننا لا نتوقف عندها, نمر بها راكضين, لا ننتبه إلى قيمتها إلا حين نشعر أننا سنفقدها إلى الأبد!
بدا له أن الشعور بالفقدان هو الذي يجعل الموت قاسيا, صعبا على النفس, فنهض من العتبة المواجهة للصيدلية التي قعد عليها ليسترجع قواه المضعضعة, وأحس أنه معلق في فراغ كبير, لا يسمح لأقدامه أن ترسو في مكان واضح, ثم انزلق الخوف إلى أعماق جديدة من روحه عندما لاحظ أن الباب وراءه قد سد بالاسمنت.
؛ماذا يعني اهتمام المرء بصحته?« تساءل في هوان, إذ شعر أن الحياة كانت تسخر من آماله بشيخوخة هادئة. ؛ماذا يجدي الاستماع إلى نصائح الأطباء ومذيعي التلفاز عن الوجبات الغنية بألياف النبات? عن الهرولة اليومية لتنقية الدم? عن تجنب هذا والالتزام بذاك, إذا كان الموت يعيش داخل الانسان منذ الصرخة الأولى إلى أن يطرحه في القبر?«.
لقد انخ لق هذا الكون وت رك في فوضى مريعة, فكر وهو يعود أدراجه الى البيت. أفلاك ومجرات عائمة في الفضاء بلا هدف, حرائق وغازات ولهب تشتعل وتختفي إلى الأبد, نجوم تولد وتنطفئ بلا فائدة, نصيبنا من كل هذا حياة بسرعة رصاصة عابرة, تفقد حرارتها بعد خمسين مترا لتخمد في التراب قبل أن تلاحظ العين مرورها! ولن يعرف الانسان يوما إذا كان وراء هذا سر كبير, فلماذا لا تأخذ هذا القانون, عادلا كان أو جائرا, باستخفاف, وننزل ببطء تحت الأغطية إلى أن يحل النوم الأخير, الطويل والمريح?
عاد إليه التماسك والهدوء, شعر باللامبالاة تفعم قلبه بالصلابة, تطرد عنه الخوف والحزن, وبدأت الأشياء أمامه تتخذ وجها جديدا, ضاحكا, فقد كان مخدوعا بالحياة, بمعانيها الزائلة, لأن الأمراض, الخطير منها والبسيط, ما هي إلا أشباح جوفاء, هدفها ترويعنا بإضفاء الأهمية على الحياة التي نعيشها, بينما هي تافهة, كل ما فيها زائف, لا يقوم على تدبير محكم!
أطلق ضحكة قصيرة متهكمة, وتساؤلا: كيف تستطيع كائنات مجهرية أن تصرع كائنات عملاقة بحجم البشر, إن لم يكن وراء ذلك فوضى عارمة?
الأفكار الجديدة عزته عن أية خسارة حدثت, أو ستحدث له. أدرك أن الواقع أكثر ألفة من الأحلام, إذا فهمنا منطقه وتعاملنا معه باستخفاف, إذا هزأنا بالحياة وبقانونها الذي لا يمكن تغييره. حياة وموت, ولن يكون لديها شيء آخر تقدمه, مهما عصرت أمعاءها!
بحساب معقول أجراه في خياله, أصبح في ذروة الإطمئنان, شعر بفرح خفيف ينبعث من قدميه ويتصاعد مع الدم إلى بقية كيانه, وخطواته أنعشتها الحيوية, كأنها ترتفع به عن الأرض, مصحوبة بإحساس لذيذ بالخفة التي شاعت في جسده, وخيل إليه أنه يمشي كالسائر فوق الماء, لا يمنعه شيء من الاندفاع إلى الأمام.
– أيها الأخ!
– قطع أفكاره وخطواته المنسابة صوت من الخلف, كانت صبية تنادي عليه.
لا , إنها شابة جميلة!
بل امرأة في مثل سنه!
ثم وجده رجلا أنيقا للغاية عندما عاد الوضوح إلى عينيه, يرفع نحوه كتابا!
لا , إنه كيس أبيض من الورق!
– هذه الأغراض تخصك!
وقف أمامه كهل قصير, بثياب مهلهلة, ويد مشوهة بالكاد تحكم الإمساك بعقب سيجارة منطفئ. »لقد نسيتها وراءك, على العتبة! « قال الكهل, فتذكر ناصر كيس الأدوية.
– شكرا, رد ناصر وهو يأخذ الأدوية, ثم انتبه إلى الكهل يتابع السير الى جانبه كما لو أنه قد دعي إلى ذلك.
– لو كنت مكانك لما استعملتها, قال الرجل.
– من? سأل ناصر.
– الأدوية! قال الكهل, أنا شخصيا لا تخدعني هذه العقاقير.
رغم بلاهة كلامه, شعر ناصر بالارتياح لوجود الكهل إلى جانبه, ربع ميل بصحبة شخص, ولو كان غريبا, مخرفا, سوف تسمح بتبادل القليل من الحديث قبل عودته الى البيت الموحش.
– يبدو أن تدبر أمورك بدونها! قال ناصر وهو ينظر باستغراب الى متانة الرجل رغم كهولته.
– هكذا تعودت, أجاب هذا بثقة.
– مع ذلك فشلت في معالجة يدك, إنها مشوهة بصورة مقرفة!
– لكنها سليمة من الداخل, أوضح الكهل, ثم كشف باطن يده راح يقلب السيجارة بأصابع رشيقة في عدة اتجاهات من غير أن تمسه النار أو ينقطع عمود الدخان. هذا ما تفعله الأعشاب, أضاف الكهل ليجيب على نظرات ناصر المستفسرة.
؛اتبعني!« أمسك بيد ناصر وعرج الاثنان في أول طريق صادفهما, سوف آخذك إلى بقال صيني, بعشبة واحدة تستطيع مقاومة الموت نفسه!
– الموت! قال ناصر باستهانة. لم يعد يخيفني.
– عشبة واحدة لاجتثاث الموت من جسد هذا الرجل. قال الكهل من غير مقدمات, فمد البقال الصيني نبتة جافة تتدلى منها الجذور بالصورة التي تتدلى بها لحيته.
أحس ناصر بالفرح, وبدا خفيفا, فراودته رغبة لذيذة في الطيران. لقد تخلص من المرض, تحرر من الموت ونسي وحشة البيت. راحت أقدامه ترتفع عن الأرض تغمره أحاسيس عذبة وفرح ساحر, بينما يداه تتشبثان بالكيس والكهل يحاول انتزاعه, وهو في طيران مستمر, أثيري, وعندما جذب الكيس إليه في الأخير استيقظ من النوم, ووجد نفسه فوق السرير ويداه تقبضان على كيس الأدوية فوق صدره.
في سرعة تلاشت الأحاسيس العذبة, ليحل مكانها الانقباض والخوف. ثم شعر وهو يجيل النظر في عتمة البيت أن الفكر يأخذه الى كابوس بغيض, لا يعرف الحركة أو العلامة التي ستدل على نهايته!
عارف علوان كاتب من العراق يقيم في لندن