نديم الوزه
شاعر وناقد سوري
تتجاوز أهمية أعمال الكاتب السوري خليل النعيمي السردية موضوعاتها، بما يجعل قراءتها نقديًا ضرورة راهنة. إن كان في جدل النص وأشكاله، أو في محددات النوع الروائي وخصائصه. وأن تفرض رواية (القطيعة) عليّ هذه المهمات دليل واضح على ما تحتويه من جماليات مبتكرة، وفرضيات جديدة، أحاول فيما يلي شرحها والبرهنة عليها.
جدل النص:
عمل الشكلانيون الروس على اختراع علم جديد لدراسة أدبية الأدب هو البويطيقا كمقابل لبويطيقا أرسطو. وعلى ما يبدو لم يتوصل هذا العلم إلى شيء مجدٍ يتجاوز تفكيك البنية النصية، على الرغم من تطوّر البحث من بنياته الألسنية الأولى إلى محاولة التمييز البنيوي بين النص والخطاب والعلاقة التوالدية أو الجدلية بينهما. وكلّ ذلك لتجاوز فهم أرسطو للأدب -وهو الشعر في زمنه- على أنّه محاكاة.
وربما لا أضيف شيئًا هامًّا من لدني إذا ما أخذت بتعريف النص على أنّه شكل الخطاب -الجملة، أو الملفوظ، أو التلفّظ- وقد توقّف، ليمتاز هذا الشكل بنوع أدبي كالقصيدة أو الرواية أو المسرحية أو المقالة أو حتى النص اللا نوعي. ومع أنّ البويطيقا الجديدة تطمح إلى دراسة أدبية الأدب بغض النظر عن نوعه؛ لكنها، ولذلك، لم تدرس هذا التمايز النوعي، بل اقتصرت في معظمها على دراسة الرواية، محاولةً استبدال محاكاة أرسطو أو توسيعها بالبلاغة مرة، وبزمن الخطاب السردي مرة أخرى، إلا أنّ كلا الشيئين قد لا يعنيان سوى البحث في التجليات البنيوية الحديثة لهذه المحاكاة لا أكثر، كما ألمح إلى ذلك من قبل تزفيان تودوروف في كتابه البويطيقا. وربما يمكن فهم نظرية جان كوهن في الانزياح انطلاقًا من المحاكاة أو المطابقة -حسب تعبيره- طالما لا يمكن الانزياح عن شيء غير موجود.
وربما تصريح رولان بارت بأنّ عمله يقتصر على بنية الحكاية، ولا يطول الشعر؛ وتنويه تودوروف إلى أنّ ما يقصده بالبويطيقا هو الأدبية و ليس الشعرية -كما تمت ترجمة عنوان كتابه إلى العربية- سوف يمنحاني ثقة منهجية فيما أقيم دراستي عليه. وهذا لا يعني بأيّة حال أنّني أهمل النتائج الباهرة التي توصّل إليها النقاد من قبل، وربما من يقرأ دراستي لرواية خليل النعيمي (دمشق 67) سيلحظ الجهد المبذول من قِبلي لتفكيك القول البلاغي، وزمن السرد وحتى تفاصيل هذا الزمن فيها، و هذا لأنّ جماليات الخطاب في نص الرواية تقوم على هذه البلاغة، بلاغة المكان وبلاغة الشخصيات من جهة، وعلى تداخل زمن السرد وحذف شيء من سوابقه من جهة أخرى. ولكن من غير أن يمنعني ذلك من التأكيد على نوع النص باعتباره رواية على الرغم من تداخله مع الأنواع الأخرى كالمسرح والسينما مثلًا. وبهذا المعنى سوف تكون مقاربتي لرواية خليل النعيمي (القطيعة) مشروطة أيضًا، بخطابها الجمالي، وقد توفّرت فيها متطلبات النوع الأدبي وهو الرواية.
النوع الروائي:
ما يؤكّد أنّ نصّ (القطيعة) هو رواية، وليس نصًا لا نوعيًا مثلًا، هو أنّ الخطاب المطبوع في الكتاب المعنون بالقطيعة والمكتوب من قبل خليل النعيمي، يتكوّن من القصة والسرد. ولكن، هل هذا المكوّن كافٍ لاعتبار كتاب القطيعة رواية، وليس حكاية أو ملحمة أو حتى قصيدة في بعض أشكالها، وجميع هذه الأنواع هي خطابات مكوّنة من قصة وسرد؟. ويمكن أن أجيب ببساطة: إنّ ما يميز الرواية هو أنها واقعية وأكثر تحديدًا زمنية. وما يميزها عن القصيدة هو طول السرد وتفاصيله. وربما أغنية (بالاد ممتازة عن جورج بارنويل) التي ظهرت في بداية القرن السابع عشر، لتتحوّل إلى رواية في نهايته، تبدو مثالًا واضحًا على ذلك. وأما ما يميّز الرواية عن الملحمة فهو تقطع السرد في الملحمة إلى قصص بطولية فردية، واعتماده على النظم الأسطوري، بينما السرد في الرواية نثري يعتمد على قصة بطل في علائقه ذات الأثر الاجتماعي المتبادل في مرحلة تاريخية. ويبدو التمييز بين الرواية والحكاية مشابهًا مع فارق أنّ الحكاية نثرية وقد تخلّت عن البطولة الأسطورية. ويمكن ملاحظة الحكاية في مختلف سرديات الشعوب ولا سيما في حكايات الفرسان التي تعتمد على المبالغة الذاتية أكثر من الخوارق. وربما تكون معظم الروايات المسلية المفرغة من الحوارات أو من الصراعات ذات الأثر الواقعي الزمني هي حكايات بهذا المعنى. وربما تعاملت مع الحكاية كنوع سردي وليس كبنية سردية -على خلاف مع معظم منظري الأدبية الحديثة- لأنّ اصطلاح مفهوم الخطاب يغني بنيويًا عن مصطلح الحكاية بمعنى التلفظ من جهة، ولأنّ اصطلاح مفهوم القصة يغني بنيويًا عن الحكاية بمعنى الأحداث من جهة، ولأنّ الحكاية نوع سابق على الرواية من جهة. و(القطيعة) رواية لأنّ حكايتها طويلة ومحدّدة واقعيًا بزمن الإقطاع -بما لهذا الزمن من أثر على تكوين شخصية الراوي ونموّها ووعيها، وبما لهذا الراوي من أثر على هذا الزمن المتقاسم قسمة ظالمة بين الإقطاعي ابن جليوي مالك الأرض ومواردها والناس الفقراء الذين يبحثون عن عمل لديه.
خطاب الرواية:
يتألف نص الرواية من ثلاثة أقسام، بينما يتركّب خطاب الرواية من زمنين: زمن خطاب الروائي وزمن خطاب الراوي. يبدأ زمن خطاب الروائي من الجملة الأولى للرواية «أنا خليل النعيمي، من البوادي والسراح.» وإذ تحدّد الجملة الأولى أنّ الراوي والروائي شخص واحد، تحدّد الجملة الثانية «في الثامنة والخمسين وسنوات أخر» أنّ الزمن التاريخي يبدأ في الثامنة والخمسين وهو العام الذي حصلت فيه الوحدة بين مصر وسوريا. ثمّ يتداخل زمن الخطابين، خطاب الروائي وخطاب الراوي، من خلال كلمات «صمت… صوت… حسّ… ضجّ… غامض» ليبدأ زمن خطاب الراوي بجملة «دبيب هائل». وهذا الدبيب هو خطوات عباس الذي يقترب.
ومع تتبع زمن خطاب الرواية سوف يلاحظ القارئ أنّ خطاب الراوي يتكوّن من السرد والقصة. بينما خطاب الروائي يتكوّن من السرد والتعليق على القصة وما تثيره لديه من تأملات. وربما صار واضحًا أنّ خطاب الرواية يتوزع بشكل تعاقبي بين خطاب الروائي وخطاب الراوي أو بشكل تداخلي بينهما لولا أنّ الأولية تبقى لخطاب الراوي باعتباره هو من يسرد أحداث القصة وشخصياتها.
قصة الرواية (أمكنتها
وأحداثها وشخصياتها):
تتعاقب أحداث القصة وتتوزع حسب حركة الراوي بين عدّة أمكنة شمال شرق سوريا: -1 أمكنة بائسة، ينبغي التحرّر منها، وتتكوّن من المنازل الرثّة والفارغة إلا من فرش النوم الأرضية وأغطيتها وبعض أواني البلاستيك والألمنيوم مع ندرة الطعام والمياه، إلى جانب موقد بدائي للحطب، وتقع بجنوب الحسكة مؤلفةً حيّ غويران الفقير والعشوائي و مكبّ خردة المدينة وقمامتها، والمتاخم لمقالع الجثان بغبارها ودخانها. والحقول المتاخمة للحي على ضفاف نهري الخابور و جغجغ. -2 أمكنة الحلم والأمل والتغيير وتتمثّل في مدينة الحسكة حيث مدرسة التجهيز ومطعم البلور وقصور المحافظ وابن جليوي والتجار والأثرياء وساحات التظاهر. -3 الطرق الترابية المليئة بالأشواك والصعاب على ضفاف النهرين الموصلة من حيّ غويران إلى المدينة. -4 أماكن هامشية في أحداث الرواية تؤمن لجوءًا مؤقتًا للشخصيات الهاربة بسبب قيامها بالسرقة أو القتل، مثل نواحي القامشلي والعزيزة والدرباسية التابعة لمحافظة الحسكة.
تتمحور أحداث القصة حول انتهاء الراوي من مرحلة الطفولة الأولى ودخوله في مرحلة المراهقة وبداية تعرّفه على العالم من حوله بشكل مُفكّر به من قبله. وينقسم نصّ الرواية حسب أحداثه إلى ثلاثة أقسام:-1 في القسم الأول، كان مقتل عباس من أبرز الأحداث، وحدث ذلك بسبب تمرّده الدائم ضدّ الفقر من خلال السرقة. وضدّ الذلّ حين قتله لأحد أتباع ابن جليوي بسبب بصق هذا الأخير في وجهه أثناء مرور صبية تتغزّل بجسده. وقد كان صديقًا لخليل ومثالًا وسندًا. لتبدأ معاناة خليل من الجوع والعري وحتى العطش وحيدًا، في بيئة مريضة وعنيفة حوله، تضطره لضرب ابن المختار بحجر على رأسه بسبب تحرّشه الدائم به. أما معاناته الموازية فكانت تحقيق حلمه في الدخول إلى مدرسة التجهيز في الحسكة. -2 يدخل خليل، في القسم الثاني من الرواية، إلى المدرسة، لتبدأ معاناته من سخرية زملائه بسبب ما يأكله من حبات تمر مليئة بالدود، وإذلاله بما يرمونه له من بقايا طعام كعلبة سردين فارغة يلحس زيتها. مع ملاحظة أنّ ذلك لم يمنعهم من دفعه إلى المشاركة في المظاهرات الاحتجاجية ضد الحكم الإقطاعي. ليتطوّر وعي خليل من شكله الفردي مع عباس إلى شكله الجماعي مع المظاهرات، والذي لم يخلُ من القتل -قتل ابن الغسالة، مثلًا، على يد أتباع ابن جليوي أيضًا. -3 مع بداية القسم الثالث من النص يكون قدّ مرّت سنة على دخول خليل إلى التجهيز الثانوية. حيث يتبنّى الوعي الثوري الجماعي، فيبادر من تلقاء نفسه إلى المشاركة بالمظاهرات، ويدعو إليها، بل ويورّط إحدى عشيقاته بها لتلقى حتفها على يد أخيها الحوت هذه المرة بينما ينجو خليل منه. وحين عودته إلى البيت، بعد اعتقاله المؤقت، تخبره أخته بموت أمّه غمًا و حزنًا على غيابه. وربما بسبب ذلك، أو بسبب رفضه لموتها يرفض زيارة قبرها رغم إلحاح أخته عليه. لتنتهي الرواية وقد تحقّقت الوحدة بين سوريا ومصر التي كانت تطالب بها المظاهرات ضدّ الاستعمار، ولكن بلا أيّ تطوّر في حياة خليل المعيشية. بما يجعل جواب التمرّد الجمعي مستمرًا في عجزه عن سؤال الذات حول كينونتها ووجودها: «من أنت خليل النعيمي؟ من أنت؟»، وذلك بعيدًا عن مثاليها: الفردي -عباس، أو الجماعي -رفاق الدراسة والمتظاهرين.
لا يهتم الراوي بشخصيات قصته إلا من حيث أثرها عليه، أو من خلال أفعالها الدالة: عباس يشعره بالتميّز، وينمّي الخيال والتفكير والعاطفة لديه من خلال حكاياته وغنائه، ويبعث مقتله روح التمرّد فيه. وصالح يحاول تنمية شعوره بالتعالي على بقايا خبز الكباب التي يلتقطها عن أرصفة المطاعم أو تجلبها سيري لكن دون جدوى. وابنة سيري تخرجه من نرجسية طفوليته ليشعر بالآخر. بينما تأخذ أخته طرفة وزوجها دلالة العنف الأسري. ويأخذ برهوم وعائلته دلالة الطعام المغمس بالموت. وليأخذ ناظر المدرسة ومديرها دلالة العقبات الإدارية التي يمكن تجاوزها بالمال. ولا تلبث هذه الشخصيات أن تختفي ليحلّ محلها جرجيس بكتبه وموته في المظاهرات بدل عباس. ورفاقه في المدرسة بدل صالح. وغرنوكة التي يقتلها أخوها في المظاهرة بدل ابنة سيري… إلى آخره.. لذلك يبدو حضور هذه الشخصيات عابرًا، وبلا امتداد زمني سوى بانتمائها التراتبي المتناقض بين الأغنياء والفقراء، أو بين الإقطاعيين والأجراء لديهم. ربما لأنّ الراوي فتى صغير، ولا يمكن للشخصيات المسنّة أن ترافقه في جميع مراحل حياته. وربما لأنّ رواية القطيعة لا تحاكي الأحداث واقعيًا كما حدثت فعلًا أو كما يمكن أن تحدث، وإنما تلمح إليها. والاستعاضة عن المحاكاة الواقعية بهذا التلميح -إضافة إلى أنه قيمة ما بعد حداثية- هو نتيجة لشعرية خطابها.
شعرية الرواية:
أن تأتي أحداث القصة على شكل تلميحات شعرية، فهذا بسبب المكوّن الآخر للخطاب، وهو السرد. وشعرية السرد في خطاب هذه الرواية تختلف كليًا عن المفاهيم والمقولات الأدبية للبويطيقا الحديثة. ولا أريد -حاليًا على الأقل- أن أنقض هذا الجانب الحداثي الذي لا يميز الشعر إلا باعتباره بلاغة؛ لولا أنّ شعرية رواية (القطيعة) تستدعي قول أرسطو، باعتباره قولًا تاريخيًا، وجد له نسقًا تطوريًا في النقد الغربي، حيث تحوّلت جميع الأنواع التي رصدها أرسطو من ملحمة ومسرحية إلى أنواع نثرية في الأدب الحديث. بينما الشعر حقيقة، وكما تقرّ سوزان برنار في كتابها قصيدة النثر، هو ذو منشأ موسيقيّ؛ وكون (القطيعة) رواية حديثة قد لا يخطر على بال ناقد نسقيّ اكتشاف شعريتها الموسيقية، والتي تظهر في سرد الراوي على شكل انبثاقات غنائية غير موزونة، وغير مقفاة بالضرورة:
«قفْ. قفْ. للتفتيش.
ويقف عباس في الأرض خاليًا، وغريبًا. ويرفع يديه عاليًا حتى السماء:
ما عندي شيء. ما عندك شيء؟! أنت الذي قتلت الكلب، كلب صاحب الأرض، وهربت.
وأنت الذي كسرت رأسه، رأس صاحب الأرض، وهربت.
تحقد على الدنيا وأهلها. أوصافك تدل عليك؛ عيونك جمر مثل الدم. وأقفز صائحًا بهياج: عباس. عباس».
من البديهي أنّ الموسيقى في الرواية لا تتتالى واضحة كما هو حالها في المقتطف السابق، ولا سيما في السطرين الثالث والرابع، بقدر ما تؤكّد الهاجس الغنائي في خطاب السرد، حيث صوت الراوي -بما هو تعبير عن ذات الروائي- يصخب على صوت شخصياته، ويقوّلها ما يرغب: «أنت الذي قتلت الكلب، كلب صاحب الأرض» فوصف رجل الإقطاعي بالكلب ليس من قول العسكر، وإنما الروائي قوّلهم إيّاه في انفعال سرده الغنائي. ويظهر هذا الانفعال الذاتي في مجمل سرد الراوي على شكل جمل قصيرة، سريعة متلاحقة؛ وعلى شكل تكرارات للألفاظ واللوازم مثل: «ابن جليوي ابن الكلب» كلازمة هجائية للإقطاع، و«عباس» كلازمة للرغبة برفض الظلم والتمرّد عليه.