منذر عياشي
السرد نسقٌ لغويٌّ يقوم من خلفه نسق لغة الأمّة التي أبدعته وأبدعت معه ومن خلاله نسقها الثقافي. ولذا، فهو في حضوره يشتمل، لسانيًا وسيميائيًا، على ضفيرتين متضايفتين ومتلازمتين: ضفيرة النسق اللساني، وضفيرة النسق الثقافي السيميائي.
ولعله من المفيد أن نعلم أن السرد بهما معًا يكون، ولا يمكن من غيرهما معَا أن يكون. وإذا كانت هذه واحدة من البدهيّات التي يتأسس بها السرد وجودًا، فذلك لأنه، من حيث هو نسق لساني، يقول كل مساحات الحياة، ولأنه، من حيث هو نسق ثقافي، يملأ كل المساحات التي يقولها النسق اللساني. فما من سرد إلا ويقوله نسق لساني، وما من نسق لساني إلا ويملأه نسق ثقافي سيميائي.
ولكن السرد ليس شيئًا واحدًا لا في نسقه اللساني ولا في نسقه الثقافي السيميائي. وما كان ذلك كذلك إلا لأنه في مساحات الحياة الواسعة يشتمل على ميادين عديدة: حواريّة، وعلمية، وتاريخية، ودينية، وفلسفية، وأسطورية، وأدبية، إلى آخره. فكل هذه الميادين وتفرعاتها، لا تمتد إلى كل مساحات الحياة وجودًا إلا ويكون السرد جسرها الواصل وأداتها المنجزة لذلك. والسؤال الذي يطرح في هذه الحال هو: إذا كان السرد، في مساحات الحياة الواسعة، يشتمل على ميادين عديدة، فما هو نمط التضايف السردي أو نموذج التضايف السردي الذي يستضيف كل هذه الميادين؟ ولعل ما يتبادر إلى الأذهان مباشرة هو أن نمط التضايف أو نموذج التضايف هو القص أو الحكي أو الروي. وإذا كان هذا صحيحًا، فإن هذه الصحة تطرح، مع ذلك، إشكالية كبرى، نجدها عند رولان بارت في كتابه: “التحليل البنيوي للقصص”. وهي إشكالية تدور عنده على مفصلين:
* المفصل الأول، ويقول فيه:
“كثيرة هي قصص العالم. ويمكن القول، بادئ ذي بدء، إنها نوعية من الأجناس معجزة. وتتوزع هذه الأجناس على مواد مختلفة فيما بينها. وقد يتراءى لنا أن كل مادة هي مادة صالحة للإنسان كي يعهد إليها بقصصه. ويمكن للقصة أن تعتمد على اللغة المفصلية، شفوية أو مكتوبة. ويمكنها كذلك أن تعتمد على الصورة سواء أكانت ثابتة أم متغيرة. كما يمكنها أن تعتمد على الحركة، وعلى الاختلاط المنظم لكل هذه المواد. وإنها لتكون حاضرة في الأسطورة، والخرافة، وحكايات الحيوان، والحكاية، والقصة القصيرة، والملحمة، وفي التاريخ، والتراجيديا، والمأساة، والكوميديا، والمسرح الإيمائي، والصورة الملونة ( فلنتأمل لوحة القديسة أرسولا لكار باكسيو). وإنها لتكون حاضرة أيضًا في كل واجهة عرض زجاجية، وفي دار الخيالة، وفي المسرحيات الهزلية، وفي المنوعات، وفي المحادثة. فالقصة حاضرة، إذن، في كل هذه الأشكال غير المتناهية تقريبًا، في كل الأزمنة، وفي كل الأمكنة، وفي كل المجتمعات. وإنها لتبدأ مع التاريخ الإنساني نفسه. فلا يوجد شعب لا في الماضي ولا في الحاضر، ولا في أي مكان من غير قصة. وإن لكل الطبقات، ولكل المجموعات البشرية قصصها. وغالبًا ما يتم تذوق هذه القصص جماعيًا بين أُناس من ثقافات مختلفة، وربما متعارضة. فالقصة تسخر من الأدب جيده ورديئه. ولأن القصة كونية، ومتجاوزة للتاريخ والثقافة، فإنها كالحياة، حاضرها هنا”.
(رولان بارت: “التحليل البنيوي للقصص”. تر. د. منذر عياشي. دار نينوى. دمشق. 2014. ص. ص / 25 – 26 /).
* المفصل الثاني، ويسأل فيه:
“هل يجب أن نستخلص من هذا أن كونية القصة تتمركز في لا معناها؟ أم أنها جد عامة، بحيث لم يبق للمرء ما يقول فيها، اللهم إلا أن يصف بعضًا من أنواعها الفريدة جدًا، كما يفعل التاريخ الأدبي؟ ولكن كيف يمكننا أن نسيطر على هذه الأنواع ، وكيف يمكن أن نؤسس حقنا في تمييزها، وفي معرفتها؟ وكيف يمكن أن نعارض بين الرواية والقصة القصيرة، وبين الحكاية والأسطورة، وبين المأساة التراجيديا (وقد فعلنا ذلك ألف مرة) من غير أن نرجع إلى نموذج مشترك؟ ولكن هذا النموذج هو نموذج قائم في كل كلام يدور على الأشكال السردية الأكثر خصوصية، والأكثر تاريخية. وما دام الأمر كذلك، فإنه لمشروع إذن، أن نهتم دوريَا بالشكل السردي (منذ أرسطو)، بعيدًا عن أي طموح يتخاذل في الكلام عن القصة، بحجة أنها واقعة كونية “. (المرجع السابق . ص / 26 / ).
وهكذا، فإن القصص كثيرة، وإذا كان السرد هو الجامع بينها، فإن نمط التضايف أو نموذج التضايف هو الفاصل بينها والمميز لتجنيسها الذي تعود إليه. وانطلاقَا من هذا المبدأ المائز، سنقف وقفتين: وقفة نمايز فيها بين الأسطورة والقصص القرآني، ووقفة أخرى نمايز فيها بين القصة الفنية والقصص القرآني.
1 – الأسطورة والقصص القرآني
” وقالوا أساطير الأوَّلين اكْتَتَبَها فهي تُملى عليه بُكْرَة وأصيلًا ” (الفرقان-5)
تمثل الأساطير في وجودها وجودًا مضادًا وبديلًا للدين. ولقد تمثل أيضًا، وفي أحايين كثيرة وعند كل الشعوب وفي كل الأديان، وجودًا مساوقا ومثاقبًا لوجود الدين، أو مختلطًا بالدين وممتزجًا به. وإنها لتكون كذلك لأن ثمة سببًا رئيسًا من بين أسباب عديدة يمكن أن تُرد إليه. ويكمن هذا السبب في أن إرادة الشخص، في تحقيق وجودها وإنجاز وجوده بها، تتناقض جوهريًا مع إرادة النص (الكتب السماوية) التي تخرجه من ذاته وإرادته الشخصية وتحوله إلى ذات نصية يفقد بها خصائص “إرادة الأنا أكون” ليصبح “إرادة الأنا النص الذي به أكون”. وهكذا تكون الأساطير في كل تمثلاتها، قربًا وبعدًا من الدين، هي الوجود المضاد والبديل للوجود المحض والنقي للدين.
وبهذا المعنى إذا كان الدين يمثل اتساق الإنسان مع النظام، والشرائع، وثقافة المجتمع التي ينتجها الدين، فإن الأسطورة تمثل خروج الإنسان على النظام والشرائع والثقافة، كما تمثل في الآن ذاته تمرد الإنسان على النظام والشرائع والثقافة. ولذا، فقد جاء في تعريفها، باتفاق كثير من الباحثين، أنها ضرب من اللانظام. وهذا ما يبرر لدينا القول في توصيف منجزها: إنه إذا كان الدين يحول الإنسان من كائن شخصي تحكمه الأهواء وتصنعه إلى كائن نصي تحكمه الشرائع وتصنعه، فإن الأسطورة هي استعادة للإنسان وإعادة تحويل له من كائن نصي تحكمه الشرائع إلى كائن شخصي تحكمه الأهواء. وإنها لتعد، بهذا المعنى أيضًا، نكوصًا يرتد فيه الإنسان إلى مادة يعبر عنها التجسيد، في حين أن الدين يعد، بالمعنى المعاكس، ارتقاء بالإنسان إلى قيمة عليا يعبر عنها التجريد.
وإن أكثر ما تكون الأسطورة ظهورًا في المجتمعات (ليس في المجتمعات المتخلفة علمًا وحضارة فقط، فالمجتمعات المتقدمة علمًا وحضارة لها أساطيرها أيضاً)، عندما ينسحب الدين من هذه المجتمعات، وحينئذ تستيقظ أنساق الأساطير الكامنة أو النائمة فتحل محل الدين معتمدة بشكل أساسي على أسس ثلاثة، تكون لها في هذه المجتمعات قداسة تمثل قداسة الدين وتحل محله. هذه الأسس هي:
* العقيدة أو الاعتقاد: (وهو شيء غامض ومفهوم غير محدد، ويمكن أن يكون كل شيء ويتمثل في كل شيء، وهو في كل الأحوال فكرة هَوَسِيَّة تتمركز على شيء من الأشياء: شجرة، أو طائر، أو إنسان، أو حيوان، أو قبر، أو سلطة الأموات، إلى آخره) . والمهم في الأمر هنا، هو إرساء المبدأ وترسيخ التصور بأن هذا المُعْتَقَد يملك فاعلية خلاصية بالنسبة إلى المُعْـتَقِد.
*الطقوس الشعائرية: (وهي تختلف باختلاف المجتمعات وحياتها ومعاشها والتصورات التي تخلقها الأساطير فيها. ولذا، فهي تذهب من التمائم، والحركات المصحوبة بالأصوات، والموسيقى أحيانًا، وتقديم الفتيات العذراوات فدية، إلى الصلوات التي تمارس أمام صنم أو تقدم لصنم أو تقام لمجرد رؤية صنم صاحبه غائب في أعماق التاريخ، أو لم يكن له وجود في الحقيقة، ولكن المجتمعات تبني عليه ومن حوله الأفكار والمعجزات زمنًا بعد زمن. ومن الطقوس الشعائرية أيضًا عقيدة عقدة الذنب التي تقوم على تعذيب الجسد عقابًا له أو توبة من ذنب لم يرتكبه صاحب هذا الفعل، ولكن ارتكبه السلف الأول البعيد الغائب في أعماق ما قبل التاريخ، إلى آخره) .
* التأليه: (وهو مخالقة الآلهة للخلق الإنساني، بحيث يكون الإنسان إلهًا، أو نصف إله، أو يقوم بأفعال معجزة لا يفعلها إلا الله، كأن يأتي بالشمس من مغربها، أو أن تكون له قدرة خلق السماوات والأرض، أو أن يغير أقدار البشر، أو أن يجري دم الله في عروقه، إلى آخره). وهو ما يشار إليه أيضًا في القصص الأسطوري بالبطل المعجز. وهو يمثل في هذه الحال الشخص المقابل والمضاد لشخص الرسول في الأديان، أو هو شخص حاضر في الغيبة ويتجاوز الرسل بممكناته لأنه يمتلك قدرة تكوينية تمكنه من القيام بأفعال لا يقوم بها إلا إله مُخْتَرَع أو مُتَصَوَّر.
ولما كان ذلك كذلك، فإن التباين بين الدين والأسطورة لا يخفى على دارس وباحث. ولذا نضع خلا صة ترقى إلى مرتبة الحدود والبدهيّات الفاصلة، تقول: إن الأسطورة لا تنشأ من أو عن المعتقد الديني، ولكنها تنشأ بالتضاد مع المعتقد الديني. وهي في حدوثها صورة من صور النكوص عن المعتقد الديني، وصورة من صور العودة من الكائن النصي إلى الكائن الشخصي، وهي صورة من صور انحطاط الفكر فهي تهبط به من التجريد الذي هو من مزايا الفكر السامي إلى التجسيد الذي هو من خصائص الفكر المنحط .
2 – الأسطورة: تعريفها، أنواعها وسماتها
لقد انتقل العقل الإنساني مع القرآن، وعلى مدى عشرين عامًا من نزوله، من بناء القص الأسطوري رؤية وعقيدة، إلى بناء القصص القرآني رؤية وعقيدة. فسجل بهذا نهاية العقل الأسطوري وبداية نشوء العقل المفكر: “أفلا يتفكرون”، “أفلا يعقلون”، “أفلا يتدبرون”.
ومع ذلك، يجب أن نقول: إذا كان العقل الأسطوري عقيدةً، قد أفلت شمسُه مع بزوغ شمس العقل الإسلامي، ولم يعد حيًا بوصفه بديلًا مضادًا للدين، إلا أنه لا يزال قائمًا وفاعلًا في أنساق العقل الإنساني رؤيةً وثقافة عند كثير من الشعوب التي ترى في مرآته صورة نفسها بوصفها بديلًا أعلى من سامق الإله في الأديان: شعوب آسيا القصوى وأسطورة العملاق الاقتصادي، أمريكا وأسطورة عملاق القوة والتفوق، أوروبا وأسطورة عملاق التقدم والأرقى عرقًا، روسيا وأسطورة عملاق الصناعات الحربية والتدميرية، وهكذا. وهذا أمر لانسعى إلى مناقشته هنا، لأنه لا يرتبط بموضوعنا مباشرة.
ولكن يبقى لنا، على صعيد البحث، أن نتساءل عن الأسطورة وتعريفها، وأنواعها، وسماتها، وذلك قبل أن نذهب إلى مناقشة أطروحة ترى أن الأسطورة نشأت عن الدين وليس بالتضاد مع الدين.
* تعريف الأسطورة:
جاء في المعجم الوسيط قوله في تعريف (الأساطير): “الأباطيل والأحاديث العجيبة. وفي التنزيل: إن هذا إلا أساطير الأولين. واحدها إسطار، وإسطير، وأُسطور” ص/ 429/. وإذا عدنا في هذا المعجم نفسه إلى كلمة أسطورة ، فهو لا يزيد عن القول : ” الأسطورة : الخرافة . والأسطورة الحكاية التي ليس لها أصل ، جمع أساطير ” ص / 17 /.
(المعجم الوسيط. المكتبة الإسلامية. بلا تاريخ. استانبول- تركيا).
ولقد نرى أن هذا التعريف على إيجازه، يتضمن نظرة الإسلام -بوصفه دينًا- إلى الأسطورة: إنها لا تعدو أن تكون مجرد أباطيل، وأحاديث عجيبة، وخرافة، وحكاية لا أصل لها. وهذا معنى مُحَدِّد، يجب أن يؤخذ بالحسبان إذ يمضي الحديث عن التمييز بين الدين والأسطورة.
وأما إيتيان سوريُّو في معجمه “معجم الجماليات”، فيقول: “تعني الأسطورة في اللغة الإغريقية الكلام، والقصة، والخرافة (…). ولقد غدت الكلمة تشير إلى قصة من الأحداث الخيالية”.
(Vocabulaire d , Esthetique – Ed . PUF . Paris . 1990 . P 1049)
* أنواع الأسطورة:
وإذا عدنا مرة أخرى إلى إيتيان سوريُّو في البحث عن أنواع الأسطورة، فسنجده يتكلم عن نوعين:
– “الأول: وهو القص الخرافي الشعبي. ويروي هذا القص إما أفعال الكائنات المُشَخِّصَة للقوى الطبيعية الكبرى ومغامراتها، وإما أنها تروي مفاخر الآلهة، أو الأبطال”. و”ويشكل هذا القص أيضًا بنية دائمة تحيل تزامنيًا إلى الماضي، والحاضر، والمستقبل”. و”تتحين الأسطورة فتكون واقعًا في احتفالات دورية وطقوسية، وتُتَرْجِمُ، بشكل مصور، العقائدَ، والأحاسيسَ الدينية لمجتمع من المجتمعات. وتتمثل وظيفتها الجوهرية في ضمان تماسك هذا المجتمع”.
– “الثاني: وهو نوع من القص الأدبي. وتكون جذوره موجودة غالبًا في الأسطورة الشعبية. وهكذا، فإننا نعرف أساطير ذات أصول إغريقية (…)، انتقلت إلى الأدب. ومما لا شك فيه أن معظم الأساطير الإغريقية قد عدلها ومفصلها وأقام أنساقها كل من هيريود وهومير. وهكذا، فإنه بفضل الثقافة قد تشكل كونٌ دينيٌّ، منزوع القداسة، وعلم أسطوري منزوع الأسطرة، غذَّيَا الحضارة الغربية” م. إلياد”. وتمثل الأساطير الإغريقية الكلاسيكية انتصار العمل الأدبي على المعتقد الديني”. (المرجع السابق والصفحة)
ولقد نستطيع أن نضيف إلى هذين النوعين من الأساطير أنواعًا أخرى، مثل:
– أسطورة الطقوس: وهي تمثل الجانب الكلامي لطقوس الأفعال التي من شأنها أن تحفظ رخاء المجتمع.
– أسطورة التكوين: وهي التي تصور عملية خلق الكون.
– أسطورة التعليل: وهي الأسطورة التي يحاول الإنسان البدائي عن طريقها أن يعلل ظاهرة تسترعي نظره وتشد انتباهه.
– الأسطورة الرمزية: وهي تضم أشكالًا متنوعة من الأساطير: التاريخية، والتفسيرية، والدينية. ونلاحظ أن الرمز في الأساطير يمثل شيئًا أو حدثًا مُدْرَكًا، ويمكن التحقق منه. وهو يستدعي بوساطة صيغته أو طبيعته، شيئًا مجردًا أو شيئًا غائبًا.
ولقد يمكن أن نقول أخيرًا إن الأساطير تتعدد نوعًا بتعدد الشعوب التي تبدعها لأغراض متعددة هي الأخرى في تنوعها: أسطورة النماء، أسطورة الحصاد، أسطورة قتل الشر، أساطير عبادة الموتى، إلى آخره. والجدير بالذكر أن كل هذه الأنواع على اختلافها تستند إلى حاملين: لساني وسيميائي. ألا وإن الأساطير، غالبًا، ما تتجلى في سرد قصصي تقول به نفسها وتدل به على غير نفسها في الآن ذاته: إنها تقول به نفسها قصة أسطورية، وتدل به على غيرها بوصفها علامة رمزية.
* سمات الأسطورة:
الأسطورة قصة في تكوينها. فما هي سمات الأسطورة بوصفها قصة، وما هي سمات أبطالها، وما هي السمات التي تخصها موضوعًا بوصفها أسطورة؟
إذا عدنا إلى المعجم الفرنسي لاروس (المفردات) ، فيمكن أن نستخلص منه إجابات على أسئلتنا تتحدَّد بها سمات الأسطورة. وكذلك يمكن أن نرفقها بأمثلة وشروحات تبيينية وتوضيحية. فالقصص الأسطوري، بموجب هذا المعجم، قصص خرافي، ومن أصول شعبية، تنقله التقاليد ويتم التعبير عنه بشكل مجازي. وهو يتحدث عن سماتٍ شخصيةٍ تاريخية، يغير المخيال الجمعي صورتها. وغالبًا ما يكون هذا التغيير مواكبًا للمكان والزمان ولمقدار التطور العلمي والمعرفي المرافق لوجود هذه الأسطورة.
وكذلك، فإن من سمات القص الأسطوري أنه تضخيم يقوم به المخيال الشعبي لشخصية ما، لها وجود في الواقع (لننظر في تراث القص الشعبي عند فئة أو طائفة من الطوائف مثلًا كيف يتم تضخيم صورة علي بن أبي طالب. فلقد اكتسب صفات لا يملكها إلا الخالق، وهو عند بعضهم أفضل من الرسل وأعلى مرتبة، كما إنه عند بعضهم الآخر هو من خَلَقَ الخالق). كما يقوم المخيال الشعبي بتضخيم لأحداث تاريخية (مقتل الحسين مثلًا)، ولأحداث اجتماعية (ميلاد الأئمة من خاصرة أمهاتهم وليس من فروجهن، وكل القص الذي يروى عن هذا الميلاد). وباختصار، فإن من سمات الأسطورة أن تغطي كل ميادين الحياة مع إحداث تغييرات، يكون التضخيم هو السمة الأساس فيها.
Larousse : dictionnaire de la langue francaise . Lexis . Paris . 1979 . p / 1216 /.
والجدير بالذكر أن من السمات التي يتصف بها الأبطال في القص الأسطوري، تتمثل في قدرتهم على أن يأتوا بأفعال لا يستطيع أن يأتي بمثلها أحد من البشر، وأن يحدثوا أحداثًا تتجاوز الواقع، اجتماعيًا وإنسانيًا ، تأكيدًا لقواهم الذاتية. فهم آلهة أو أنصاف آلهة، أو تجري في عروقهم دماء الآلهة، وهم مخلدون لا يدركهم الموت وهم يخلقون الموت والحياة، إلى آخره. ولقد نجد من هذا القبيل، ما قاله أحد شعراء الخرافة عن جعفر الطيار -رحمه الله- وهو من سلالة علي رضي الله عنه:
كلما نابني من الدهر خطبٌ
صحت يا جعفر إله الأنام
أنت ربي وخالقي ومليكي
وأنت ذو الكبرياء وليّ النعام
وأنت فوق السماء على العرش تعلو
وأنت في الأرض حاضر على الكلام
وأنت أسماؤك الحسنى وموسى
وعليًا ، وأنت محيي العظام
وهكذا يبدو جعفر الطيار في هذا الشعر خالقًا، كما يبدو ثالث إلهين هما علي وموسى.
(انظر كتاب: محمد بن جرير بن رستم الطبري الإمامي “نوادر المعجزات في مناقب الأئمة الهداة”. تحقيق ونشر مؤسسة الإمام المهدي- قم- برعاية السيد محمد باقر. عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية).
3 – الأسطورة بين دين الإنسان ودين الله
لقد قلنا إن الأساطير تغطي كل مجالات الحياة. وقلنا إن لكل عصر أساطيره التي يعيش بها أيضًا. ولقد تأخذ الأساطير طريقها سربًا في سراديب تفكير بعض الباحثين، وتتأصل فيها حتى إنها لتغدو عندهم هي أصل الفكر، بل هي كل الفكر أصولًا وفروعًا. ولدينا من ذلك مثلًا أطروحة، تزعم أنها من مصفوفات البحث العلمي، بينما هي في الحقيقة من مصفوفات العقل الأسطوري ومنتجاته. فلقد يحصل أن بعض الباحثين -لأسباب نفسية غامضة وشبيهة بالعقيدة في الأساطير الغائرة في ظلمات العمق التاريخي لمولدها- يبحث في شيء فتتلبسه حالة الشيء الذي يبحث فيه، فيتخيل ويتوهم أنه هو بذاته ذلك الشيء، فينطق وكأنه هو. فهل هذا سحر يُؤْثَر، أم هو قص أسطوري يُذْكَر، أم هو علامة دالة على أشياء أُخَر؟!
والمثل الذي نريد أن نتوقف عنده هنا، هو واحد من أدلة لا تحصى على أن الأساطير، تمثل في أصل نشأتها وأصل وجودها البديل المضاد للدين، وليس الوجود المشتق أو الناتج عن الدين، وذلك كما توهم بعضهم. وهذا المثل نأخذه من باحث في الأساطير، حدث ان تلبسته الحالة الاسطورية، ربما لكثرة معاشرته لها ومعايشته لأجوائها، أو لخفاء قوة اعتقاده بها، وإذ ذاك صار يرى الأسطورة في كل شيء، حتى إنه اندمج على سبيل التماهي في تمثيلها، فغدا، من ثمَّ، هو نفسه عين الأسطورة الناطق بها لسانًا ورؤية. وكان بسبب هذا أن وضع كتابًا سماه “دين الإنسان”. ولو أمعنا النظر في هذا العنوان، محللين ومفككين، لوجدنا أنه قد تغيا أن يحل بديلًا مضادًا لعنوان ممكنٍ آخر، وموجودٍ افتراضًا وضمنًا بالتضاد مع هذا العنوان، هو: “دين الله”. وبهذا يكون هذا الباحث قد وضع أطروحة تضايف بين الدين والإنسان جاعلًا من الإنسان خالقًا لدينه، مما يعني أن الدين أسطورة من خلق إنساني. ولقد نرى أن هذا يؤكد أن الأساطير ليست مشتقة من الدين أو ناتجة عنه، ولكنها، من حيث أصل نشأتها، وجود بديل للدين ومضاد له، ومنفصل عنه، ونكوص صنعه الإنسان، كما سبق أن ذكرنا.
أ – نظرية الأسطورة وخلق الإنسان للدين:
ينطلق هذا الباحث في تأكيد نظريته هذه حول ما سماه “دين الإنسان” من أطروحتين:
* تقول الأولى: “تنشأ الأسطورة إذن عن المعتقد الديني، وتكون امتدادًا طبيعيًا له، فهي تعمل على توضيحه وإغنائه في صيغة تساعد على حفظه وعلى تداوله بين الأجيال”. وبما أن الدين من خلق الإنسان، فإن الأسطورة توضح المعتقد الديني للإنسان وتغنيه، وتساعد صيغتها (ربما يقصد هنا شكل الأسطورة اللساني) على حفظه وعلى تداوله بين الأجيال”.
وإذا صح فهمنا لهذه الأطروحة، وأنزلناها على القرآن تطبيقًا، فسيكون القرآن، وهو الكتاب المسطور والحامل للدين، خَلْقًا إنسانيًا، وستكون الأسطورة توضيحًا له وإغناء، وسيساعد شكله اللساني، بوصفه نصًا أسطوريًا، على حفظه وتداوله بين الأجيال.
ولقد يعيدنا هذا النظر جذعة إلى وقت نزول القرآن، حينما اجتمع القوم في لحظة سجلها القرآن لهم فقال: “وقالوا أساطير الأولين اكتتبها، فهي تملى عليه بكرة وأصيلًا” (الفرقان: 5). وبهذا لا يكون هذا الباحث قد أضاف شيئًا سوى تأكيده أن الحالة الأسطورية التي كانت قد لبست القوم آنذاك، لاتزال فاعلة، ويمكن أن تتلبس آخرين مثله، وغيره كثير، في أزمنة أخرى لا تكف حدوثًا وحضورًا. وللتثبت من هذا الأمر، يمكن أن نسأل موضوعية العلم في درس الحياة الإنسانية والاجتماعية عن مصداقية مثل هذا الحدوث واحتمال حدوثه، فنقول: هل يمكن للأنساق الأسطورية أن تعيد نفسها بعد كمون زمني يطول أو يقصر؟ ونترك لحقائق البحث العلمي أن تكون جوابًا على سؤالنا، وإنها لتقول: يمكن للأنساق الأسطورية أن تعود بعد كمون. وبالنسبة إلينا، فإن قيام هذه الفرضية، التي تزعم، في جوهرها، أن الدين اختراع إنساني، لهو دليل قاطع على إمكانية عودة الأنساق الأسطورية وغير الأسطورية بعد كمونها. فقد حدث هذاسابقًا ( وقالوا أساطير الأولين اكتتبها…)، ويحدث هذا الآن. وعلى الهامش الأوسع لهذا الأمر، يمكن أن نستدل به أيضًا على العمى النرجسي الذي يصاب به الإنسان عامة، ويصاب به الباحثون أحيانًا فينسبون الأشياء إلى أنفسهم وذواتهم بوصفهم بشرًا. فالأطروحة تقول: “الدين هو اختراع إنساني”، وأي أمر أعظم من أن يكون الباحث نفسه أحد هؤلاء المخترعين وذلك تحقيقًا لما حددناه واصفين بأنه العمى النرجسي!!!
* وتقول الثانية: إن الأسطورة تزوِّد المعتقد الديني “بذلك الجانب من الخيال الذي يربطه إلى العواطف والانفعالات الإنسانية”.
وبما أن القرآن مسطور لساني، ويشتمل على سرد قصصي، فإن الأسطورة تزوده بما يحتاجه من الخيال لكي يرتبط بالعواطف والانفعالات الإنسانية. وفي هذا تأكيد يخرج به القرآن، والدين معه، من دائرة الوحي إلى دائرة المتخيل والفعل الإنساني . وبهذا، تُسْقِط هذه الأطروحةُ الوحيَ، ليعلو وجود الإنسان في خلق الدين على وجود الله، بل إن وجود الله ليصبح وفق منطق هذه الأطروحة خلقًا إنسانيًا، ويرتد بهذا الخلق إلى وجود أسطوري .
ثم لا يقف الأمر عند هاتين الأطروحتين ، فثمة شرح تابع لهما يذهب صعودًا فوق المعتقد الديني نحو الخالق، يقول: “يبدو أن المهمة الأساسية للأسطورة هي تزويد فكرة الألوهة بألوان وظلال حية (…) . فالأساطير هي التي ترسم صور الآلهة وتعطيها أسماءها، وتكتب لها سيرتها الذاتية وتاريخ حياتها، وتحدد صلاحياتها وعلاقات بعضها ببعض “.
ولكي تكتمل نظرية هذا الباحث، فإنه يختتمها ببيان يقول فيه: “الإله النظري القابع فيما وراء الزمن الجاري، هو إله نظري وذو طبيعة فلسفية”.
(فراس السواح: “دين الإنسان”. منشورات دار علاء الدين. دمشق. ط/ 4/. 2002. ص ./57/).
ب – مناقشة النظرية وأطروحتيها:
1 – يمكن للمرء أن يلاحظ سريعًا عدم تماسك هذه النظرية وتناقض منطقها الداخلي. فالأطروحة الأولى فيها تقول: “تنشأ الأسطورة إذن عن المعتقد الديني، وتكون امتدادًا طبيعيًا له”. وإذا كان ذلك كذلك، فيجب، منطقيًا إذن، أن يكون الدين فاعلًا في الأسطورة وموضحًا لها، ومغنيًا، ومثبتًا، إلى آخره. ولكننا هنا نرى عكس ما يستوجبه منطق هذه الأطروحة. ولما كان صاحب هذه النظرية حاطب ليل، وجمَّاع أقوال يقصها من كتب غيره ويلصقها كيفما جاء واتفق، ولم يكن باحثًا حقيقيًا، ولا مفكرًا، ولا علاقة له بنظريات المعرفة ومناهجها ونقدها، فهو لا يعلم أن للنظريات وأطروحاتها منطقًا داخليًا لا يناقض بعضه بعضًا، وأن هذا المنطق يعطيها تماسكها وصحتها النظرية والعملية والواقعية. وإنه لأمر مفجع أن يكون هذا مفقودًا فعلاً في نظرية تستهدف أمرًا خطيرًا كالدين والأسطورة بسبب عدم التكوين المعرفي لصاحب هذه النظرية، أو بسبب أميته المعرفية والمنهجية على نحو أدق.
2 – تقول هذه النظرية: إن “الإله الأزلي، القابع فيما وراء الزمن الجاري، هو إله نظري وذو طبيعة فلسفية”، وإزاء هذا القول، نبدي ثلاث ملاحظات مع ما تستوجبه من الأسئلة:
*- الملاحظة الأولى تتبدى في سؤال يقول: ما علاقة هذا الإله الأزلي، وجودًا أو افتراضَ وجودٍ، بمنطق الأطروحتين ما دام الدين هو دين الإنسان؟ أهو القص واللصق كيفما جاء واتفق؟ أم هو وضع الأقاويل خبط عشواء جنبًا إلى جنب كما يفعل تكديسًا كمن لا يرى بعقل بنائي ما يجب أن يفعل؟
*- الملاحظة الثانية، وتتناول أسئلتها استفسارًا عن الزمن في قوله: “الإله الأزلي، القابع وراء الزمن الجاري”، والأسئلة هنا هي كما يلي: هل الزمن في كينونته هو وجود فيزيائي يقبع فيه الإله الأزلي ويشغل فيه حيزًا معينًا؟ وإذا كان هو كذلك بحسب المفهوم الناتج عن هذا القول، فثمة سؤالان يطرحان بهذا الخصوص. يقول الأول: كيف يقابل زمن الوجود الفيزيائي وهو المتناهي، زمن الأزل الإلهي وهو غير المتناهي؟ والسؤال الثاني يقول: إذا كان للزمن وجود فيزيائي، فهل لله وجود فيزيائي أيضًا لكي يقبع فيه؟ وهنا نسأل مرة أخرى أيضًا: إذا كان لله وجود فيزيائي، فكيف يمكن أن نتلمسه حسًا وكيف يقابل الزمن المتناهي وجودًا الإله الأزلي غير المتناهي وجودًا؟ وهنا، تقف لنا أسئلة أخرى بالمرصاد كذلك: ما هو الزمن الجاري مادةً لكي نستطيع أن نقابله بالإله القابع وراءه؟ وهل يمكن تحديده؟ وإذا كان يمكن أو لا يمكن تحديده، فكيف يمكن تحديد الأزل الإلهي في حيز زماني بما أن الإله يقبع وراءَه، والوراء حيز وتعيين في مكان؟ وسؤالنا الآخر هنا هو: ما هو الزمن؟ هل هو وحدة قياسية تقوم تصورًا في الأذهان أم هو وحدة قياسية تقوم حقيقة في الأعيان؟ وهل الزمن مفهوم كمي عددي؟ وإذا كان كذلك، فما هو كمه وعدده؟ وإذا كان الزمن أزليًا فكيف نعرفه وما هو أزله؟
ولقد يحسن بنا هنا، في ختام هذه الملاحظة الثانية، أن نستعيد ما نقله بول ريكور عن أوغسطين سؤاله وجوابه: “ما الزمن إذن؟ ” يسأل أوغسطين، “إنني لأعرف معرفة جيدة ما هو، بشرط أن لا يسألني أحد عنه، ولكن لو سألني أحد ما هو، وحاولت أن أفسره، لارتبكتُ”.
(بول ريكور: الزمان والسرد- الحبكة والسرد التاريخي. تر: سعيد الغانمي، فلاح رحيم . ج / 1 / . دار الكتاب الجديد. بيروت. 2006 . ص / 16/.
*- الملاحظة الثالثة، وسؤالنا فيها هو: ما معنى عبارة: “إله نظري ذو طبيعة فلسفية”؟ وما المقصود بعبارة “ذو طبيعة فلسفية”؟ هل المقصود هو أن الفلاسفة في تأملهم هم من أوجدوا مفهومًا ذهنيًا هو الإله النظري؟ وهل يمكن لهذا المفهوم أن يقابل على سبيل ثنائيات التضاد مفهومًا آخر يقول: إن الرسل في رسالاتهم قد أكدوا وجود إله واقعي؟ وأي الإلهين في هاتين الحالتين هو إله أسطوري، هل هو إله الفلاسفة أم إله الرسل؟
لا نعتقد أن هذه النظرية، المتناقضة داخليًا وغير المتماسكة منطقًا، تستطيع أن تجيب على هذه الأسئلة والتساؤلات ولا على غيرها كثير مما يمكن أن يثار أمامها. وهذا هو شأن كثير من الأطروحات التي لا تنطلق من المعرفي في تأسيسها، ولا من المنهجي في بنائها، ولكن من الأيديولوجي تارة، ومن العدمي والعبثي تارة أخرى. ولو أن الباحث وضع فرضية تقول: الأسطورة وجود تصوري إنساني، مضاد ونقيض لوجود الدين، لاستقام في طرحه. ويمكن حينئذ أن تُقبل الأطروحة التي تقول إن الأساطير أنساق ثقافية كامنة، تعود بالإنسان، بعد ظهورها، من وجوده النصي (الكتب السماوية) إلى وجوده الشخصي، وتبني كائنه على هذا الوجود. ونقول لو أنه فعل ذلك لأمكن أن يفتتح حوارًا ثريًا بين الدين والأسطورة، وبين القصص الديني والقص الأسطوري، وبين العقل الديني والعقل الأسطوري، ولكن، للأسف، لم يكن هذا هو هدف مكتوبِه. فهدفه هدف قصد به المغالبة، ومن ثم إقصاء الدين. وهذا توجه في المكتوب تحيُّزِيٌّ، وأيديولوجي، ولا علاقة له بالبحث العلمي وإنشاء المعارف.