نارٌ على حَجَرِ النّبيَّ،
وشهقةٌ من سورة الإسراء في بال المدينة ِ،
وابتهالُ التينِ والزيتونِ في جبلِ المكبّر ِ
والفضاء على ضياءِ السّورِ يعلو بالفضاء.
القدسُ أرضُ اللّهِ،
بيتُ الشمسِ،
ترتيلُ النجومِ،
وما تهامى من كلامِ الأنبياء.
فَلَها المؤذَِّنُ يغسلُ الآفاقَ،
قبلَ الفجرِ، حين تدبُّ أقدامُ
الذين يُرنّقونَ سقوفَها بسلالِهم ،
يمشونَ نحو اللهِ فوق جباهِهِمْ وردُ الحياءْ .
والقدسُ خانُ الزيتِ،
قوسُ العطرِ
قنطرةُ الحريرِ،
وسُكّرُ الأسواقِ،
بابُ الضوءِ،
شُبّاكُ الدوالي،
رعشةُ الألماسِ،
صوتُ العينِ،
والصبرُ المُعتَّقُ
والرجاء.
القدسُ أقربُ ما تكونُ إلى الرسولِ؛
أتى إليها الشيخُ من صخرِ الجنوبِ،
مُوَحّداً ،
ومشى إليها المرسلون؛
من الأبِ المحزون،
حتى مَنْ دَنا ورأى وصلّى،
والذين يُؤمَّنون وراءَه؛
موسى ويحيى وابنُ مريمَ
والذي غنّى وأوَّبتِ الجبالُ له ولوطٌ
والذي أنجاه ربُّ العَرْشِ والصَّهْرُ القويُّ
ومَنْ دعا وأنابَ أو ألقى إليهِ السمْعَ
والنجّارُ والمنشورُ والجدُّ المغادرُ
والذي قتلوه غدراً
والوجيهُ
ومَنْ إذا نادى تُلبّيهِ السماء .
والقدسُ طفلتُنا التي قصّوا جدائلها
بأسئلة الضغائن ِ والمكائد ِ والحروب ْ،
هُمْ غيَّروا ذَهبَ الشروق على مآذنها،
فأدركها الغروبْ ،
هُمْ هجّروا أطيارَها، من بَعْد أن هدّوا منابرَها
فَتاهت في الدروبْ،
هُمْ أبعدوها عن ملامحِ أهلها
هم غرَّبوها عن مطالعِ قلبها النبويِّ باسمِ السَّلْم
ساقوها إلى حضنِ الذي اغتصبَ الطفولةَ
والزنابقَ والهواء .
فالقدسُ لم تعد العروسَ
وزهرةَ المدُنِ الشريفة ْ ..
هيَ ذي تكابرُ تستريبُ وتستفيق على
أقانيم العماءْ .
سقطت عن السَّرْجِ الهزيلِ،
ولم تكن في الدَّرْسِ
أكثرَ من مرورٍ باهتٍ
حولَ الصعودِ بليلةِ المعراجِ ..
كانوا قد تناسوا أُمَّها في الأَسْرِ،
واكتفتِ الصفوفُ بما تبقّى
من ضفائِرها على الأبوابِ ..
هذي ليستِ القدسَ التي رفَّتْ
على أيقونةِ القسيسِ والشيخِ المجاورِ !
إنها حدْسُ الأماكنِ والأمومة ِ والسَّرائِر ِ؛
من ضريح البحرِ حتى
مَغْطَسِ النَّهر المقدّسِ
أو ما نُسَميّه بيافا والجليلِ
وبيتَ لحمَ ووجهِ غزةَ والخليلِ
ورملِ صحراءِ الجنوبِ
وكرْملِ الموجِ المُطلّ على الفنارِ
وسورِ عكا والحقولِ
وأنفِ حيفا للعريشِ
ونارِ عيبالَ العنيدِ
وزنبقِ التلاّتِ في كَرْم الشهيدِ
إلى قُرنفلةِ البحيرةِ
والسنابلِ في المروجِ
وحيث يَسْكنُ رَبُّها السّريُّ؛
إنْ كانتْ يكُنْ
وإذا أتت يأتي ..
وإنْ شاءت .. يشاءْ .
القُدس إنْ سقطت
ستسقطُ كلُ مِئْذَنةٍ وقَصْرٍ،
والممالكُ، في السواحل، وحَدَها
مَنْ يملك الطرقاتِ والآبارَ والأمرَ السواءَ،
وغيرُها أَمَةٌ وعبدٌ،
والقبائلُ ترفعُ الإذعانَ خوفاً…
إنهم سبعون ألفاً
مَنْ يَسُوقهم الصليبيون للموتِ المحتّمِ،
والمماليكُ، الذين أميرُهم قتلَ الأميرَ،
سيسمعونَ،
وسوف يدعون القتيلَ إلى الحوار،
ونبذِ أسبابِ العِداءْ !
فَهُنا تساوى الواقعيونَ القضاةُ
العالمِون بكلِّ أحوالِ الشعوب
القادةُ الأفذاذُ أصحابُ الكياسةِ والسياسة،
من أمينٍ أو وزيرٍ أو لواءْ،
وهنا تساوى هؤلاء، وفوقَهم مَنْ باعَ
أو مَنْ ضاعَ
أو مَنْ صار مسؤولاً بلا إذنٍ،
وأصبح ببّغاءْ ..
فلتهتفوا للعدلِ ،
عاش العدلُ في زمن النِخاسة والرياء !
الُقدسُ بابلُ قبل أن يأتي إليها السبيُ
أو مِن بَعْدِ أنْ جاء الغريبُ
وحَلَّ فيها سيّداً عبداً،
فَثَمةَ ألفُ لونٍ
أو لسانٍ في الطريق،
ولستُ ألمحُ أيَّ وجهٍ لي،
أنا في كل هذا الطينِ
والطيرِ المُحَلَّقِ والنخيلِ
وفي الجدارِ وفي الحجارةِ والثمارِ
وفي الزجاجِ وفي الرداءِ
وفي الهواءِ وفي النداءِ ،
وفي الجرارِ وفي السقوف
وفي الكفوفِ وفي الجفون وفي الصحون
وفي الدخانْ
أنـَا في الزمانِ وفي المكانْ
أنـَا في تفاصيلِ القناطر
والمعارجِ، والمساجدِ والمعابِد والمياهِ
وفي الجباهِ وفي السرادقِ
والقواريرِ الشفيفةِ والشرابِ
وفي الكتابِ
وفي التوابلِ والسحابِ
وفي الظنونِ وفي السكونِ
وفي الحراكِ وفي النيازكِ والسَّماكِ
وفي القريبِ
وفي المخبّأِ والظهورِ وفي العصورِ
وفي المحابرِ والمجامرِ والوجاقْ
أنَا في البراقْ
أنا في القديمِ وفي البدايةِ والنهايةِ
والوصايةِ والحكايةِ والروايةِ والكلامِ
وفي المنَامِ وفي الزحامِ
وفي الصباحِ وفي الظهيرةِ والمساءْ.
والقدسُ أولُ ما سيظهر
بعد طوفانِ السفينةِ،
كانت الأُممُ القديمةُ تَعبُد النيرانَ والأصنامَ
أو نجمَ الظلام،
وترتجي مِن وحشها البريِّ
وَصْلاً للسلامِ،
لتبلغَ الربَّ المظَلَّلَ بالغمامِ
فكان أنْ رفعتْ يبوسُ صلاتَها
لله خالصةً
على سيفِ الدّعاء .
والقدسُ لم تعرفْ رياحَ التيهِ والِعجْلَ المُذَّهَبَ
والوصايا وهي تَحرِقُ
أو تُقَلَِّعُ أو تُهَدَّم أو تُذَبَّح
أو تبيدُ وتسبيحْ، ..
الُقدسُ لم تعرف سوى عَسَلِ الرسولِ
وشَهدِ ما قال المسيحْ،
القُدسُ لم تولدْ من الحجرِ الممّوّهِ بالخرافةِ
حين كان الجنُّ والنملُ البسيطُ
وهدهدُ الإِعْلامِ في التلَّ الفسيحْ ،
القُدس كان بناؤها
بيدِ الملائكةِ الذين أتوا
إلى الأرضِ الجديدةِ،
يومَ آدمُ جاءها،
وبنوا هنا داراً له من قبل عادٍ أو ثمودٍ،
قبلَ إبراهيمَ أو إسحقَ والولدِ الذبيحْ ..
القدسُ أوّل ما أقام اللهُ
في الدنيا،
وآخرُ ما سيبقى في سموات البهاءْ .
يا أورَ سالمَ
يا قبابَ الوَجْدِ
في قلبي الجريحْ !
ها أنتِ وحْدَكِ
فوقَ جُثَّتِكِ الُممَزَّعةِ الرضيّةِ
بين جدرانِ الغُراب،
ودون أُمَّتِكِ الذليلةِ في العراءْ .
فالشكرُ كلُّ الشكرِ للحفّارِ
والحانوتِ والتابوتِ والقُطن المنُقّى والغطاءْ،
والشكرُ كلُّ الشكرِ للأُممِ التي حملتْ
جنازتَها،
ولم تبخل علينا بالرثاءْ،
شُكراً لأُمّتِنا على هذا الغيابِ
وألفُ شكرٍ للسلامِ وللتفاوضِ والذّهابِ إلى الهَباءْ.
قد قالَ جنديٌّ قديمٌ في سلاحِ الرَّصد:
جاءتنا بياناتٌ تفيدُ بأنهم لمحوهُ
خلفَ كنيسةِ اللّطرونِ،
في دُغْلِ اليمامْ !
وهناكَ لم نرَ ما يشُير بأنّ إنسيّاً أتى
أو نامَ ! لكني،
ومن بابِ الإحاطةِ،
قد أمرتُ كلابنَا للبحثِ عنه،
فلم تجدْ أحداً،
فَعُدْنا من جديدٍ للوراءْ،
وحدَسْتُ في نفسي؛
سأنظُر حيثُ أبلغني المُراقبُ،
فاستندتُ إلى حديدِ الُبرجِ،
سلَّطتُ المجاهرَ نحوه،
وبقيتُ حتى ساعةِ الفجرِ الأخيرةِ،
ثم كان هناك مَنْ يمشي
بطيئاً للأمامْ..
فهجستُ أنْ يرموا المربَّعَ بالرصاصِ،
فأطلقوا كلَّ المدافعِ والبنادقِ والسّهامِ،
وبعد أنْ راحَ الظلامُ،
ذهبتُ أبحثُ عن قتيلٍ أو جريحٍ أو نداءٍ، إنّما
لم ألقَ شيئاً !
غيرَ أنّي خِلْتُ خيطاً من دمٍ يمشي ..
وتنقطعُ الدماءْ !
وبُعَيْدَ يومٍ جاءني خبرٌ
بأنَّ جنازةً في بلدةِ الّلطرونِ سارتْ،
والقتيلُ، أو الشهيدُ كما يقولُ الناسُ،
مجهولُ الهويةِ!
غيرَ أنّ الشيخَ قال:
اليومَ في عمواسَ مات أبو عبيدةَ عامرٌ
في دمعة ِ العشرِ الأوائلِ من حزيرانِ الكئيبِ،
وكان يومَ الأربعاءْ .
وتقولُ سيّدةٌ تبيعُ الزعترَ البريَّ،
جاءوا نحو ذاك الشارعِ المرصوفِ، نحوي ..
فانتبهتُ، وقد حملتُ الفَرْشَ
قبلَ وصولِهِم،
وَبُعَيْد أنْ داسوه وابتهجوا، صرختُ ..
فقال لي مَنْ صاحَ في وجهي:
لماذا تلبسين الثوبَ هذا !
إنه من عَهْد يوشعَ، فاخلعيهِ،
وإنْ أتيتِ به غد
سيكونُ موتُك ها هنا ؛
وأشار نحو الزعترِ المهروسِ
من تحتِ الحذاءْ .
وتقولُ سيدةٌ لجارتها: تعالَيْ
إنّ بيتيَ لم يُصَبْ
ويكونُ ثَمَةَ غُرفةٌ للزوجِ والأولادِ،
والأُخرى لكم ..
لكأنَّ مَنْ قالت، بَدَتْ
مثلَ التي تتوسّلُ الأُخرى
ويجرَحُها الرّداءْ .
ويقولُ شيخٌ: أين هُم ؟
فأقولُ: مَنْ ؟
فيجيبُ: مَنْ باعوا البلادَ
وخلّفونا، ها هنا، في كربلاءْ .
وَيُوقِفُ الشُرَطيُّ حَمّالاً، ويسألُهُ:
لديك بطاقةٌ ؟
فيردُّ بالإيجابِ ..
يسألُه: وما اسْمُكَ ؟
قال: أحمدُ
وابنُ مَنْ ؟
عيسى بن موسى
واسمُ أُمَّكَ؟
إنها الخنساءُ
جَدُّكَ؟
قال: إبراهيمُ
بيتُك ؟
عندَ أسوارِ الكنيسةِ
قُرْبَ بابِ الجامعِ العُمرَيِّ، قُلْ
مَنْ جَدُّ جدّك؟
إنّه عُوْجٌ وكنعانٌ،
ووالِدُهُ عِنَاقُ ابنُ العماليقِ الجبابرةِ
الذين تقاطروا كالأرجوانِ على الزّهورِ،
فكانَ آذارُ الربيعِ وجِلوةُ الَفرَسِ
المُضَاءةِ بالغواءِ ،
فأين تذهبُ ؟
كي أضمَّ الُقدسَ أحمِلَها على ظهري
رأيتُكَ قبلَ هذا اليوم؟
في كلُّ الدروبِ
وفي المفارقِ والحواجزِ والمنونِ
وفي الجنونِ
وفي الرصاص وفي الجنازةِ والقَصاصِ
وفي النعاسِ
وفي الكوابيس الثقيلة والوساوسِ والمدافنِ
والقنابل والشظايا والمراقص واللّهيبِ
وفي السواحلِ والنحيب
وفي السوادِ
وفي البلادِ وفي الملاحمِ والبيوتِ
وفي الملاجئِ والموانئِ والخواتمِ والخيامِ
وفي الظلام
وفي المرايا والخفايا والنوايا والعظام ِ
وفي البداية والختامْ
فَأنا القوافلُ والمنازلُ والغمامْ
وأنا الحداء ُ
أنا المُقَدَّرُ والقضاءْ .
وتقولُ قابلةُ العيادةِ:
كلُّ هذي الناسِ أولادي،
أنا قد جئتُهم في الحرَّ
أو في القَرَّ،
هاتانِ اليدانِ هُما اللّتانِ تُدَبَّرانِ
لكلّ مولودٍ سبيلَ خُروجهِ
من حمأةِ الدمِ والصّراخِ،
وكنتُ أولَّ مَنْ يُلامسُهم !
.. صغاري اليومَ قد كبروا !
ولكنّي، وليلةَ أعلنوا أن المدينةَ قد هَوَت،
لاحظتُ أنّ أَجنَّةَ الأحواضِ قد رجعتْ
علائقَ في البطونِ،
وأنّ ماءَ الرأسِ عادت للوراءْ !
وخشيتُ، أَعْلَمتُ الطبيبَ، وكانَ
في المذياعِ، يسمعُ آخرَ الأنباءِ ..
قلتُ: هُمُ الأجِنّةُ، مَنْ تكوّرت البطونُ بهم
تلاشَوْا فجأةً، وتضاءَل الرحمُ الوسيعُ،
وَخَفَّتِ الآلآمُ، واخْتَفَتِ النساءُ
فلم يُجِبْ..
بل قال، بعد أنِ استبانَ الأمرَ:
هُنَّ عواقرٌ
وغداً يفيض البرقُ
إنْ حَلَّ الشتاءْ !
ويقول عصفورٌ، يرفُّ جناحُهُ:
كان الوصولُ إلى ذُرى الجرسّية البيضاءِ ،
أوّلَ ما أقومُ به صباحاً ،
كي أقابلَ نجمةً سطعت على عُشّي
وأشكرَها،
وأمضي راجعاً فوق المراجيح التي
طارت على قمر النهارِ،
وأنتقي ما شئتُ من حَبٍّ تناثر
في الخلاءْ ..
كم كنتُ، إنْ حُمَّ السُّعارُ
وَفَحّت الأفعى على الأعشاش
أو ثلجِ الظباءِ ..
أنوشُها، حتى تعودَ إلى
السَّعالي والعقارب والجِراءْ ..
واليومَ يخذلُني الجناحْ
وأخافُ إنْ علمِتْ تعودُ
وقد تكونُ أَتَتْ على سِرَّ المدينةِ
والعيون الكستناءْ .
ويقول جنيٌّ؛
بقيتُ ثلاثةً أو خمسةً
أو بعضَ ألفٍ، لستُ أذْكرُ ..
كنتُ في الفانوس حتى
حَكَّني طفلٌ وأخرجني،
ولمّا راعَهُ ما شافَ .. خافَ،
فَطِرْتُ من ذاك المكان،
وحين أَشْرَقَتِ المدينةُ
تحت أنظاري انذَهلتُ!
وقلتُ أذهبُ للنبيِّ لكي يرى
ما قد رأيتُ،
فما وجدتُ له قصوراً أو ظهوراً في الزمان ِ،
فأين مملكةُ الحكيمِ؟
وأين مَنْسَأَةُ الأوامرِ والمزاميرِ الرَّخاءِ؟
فيا مليكي يا سليمانُ الذي
مَلكَ الرياحَ ومنْطِقَ الطيْرِ العجيبَ
وكلَّ عفريت يدوّمُ في الهواءْ ..
هذا ابنُ آدم مَنْ أقام الُقبّةَ الحنَّاءَ
والسورَ المنيعْ
قد كان، رغم البربري، بأرضه صخراً
وزيتوناً وتاريخَ الربيعْ
هذا الفلسطينيُّ أقوى من جنودِكَ، يا سليمانُ القويُّ!
وليس يكسره جنونُ الأقوياءْ .
ويظلُّ نبضُ فؤادِه العربيّ يزهرُ
في الدفاترِ
والحروفِ
وفي النقوشِ وفي الطباشيرِ الملّونةِ الصغيرةِ
والحقائبِ
في نشيدِ الروحِ والجَذْرِ المُجَلَّلِ واللّحاء.
وأرى الخليفةَ فوقَ ناقتِه يُكبّرُ،
عندما انبسطت له الأرضُ العليّةُ،
لم يشأ أنْ يَجْرَحَ الإنجيلَ،
صلّى قُرْبَهُ، وتعانقا في العُهدةِ العصماءِ
.. يا دربَ الصليبِ إليكَ ثوبي
غيمةًً،
وخُذِ الهلالَ يمدَّ خَطْوَكَ بالضياءْ .
والقدسُ مريمُ إذْ تجيء بَحَمْلِها،
والكونُ مذبحةُ الجنينِ،
ودمعُ ثاكلةٍ تخبُّ به الخيولُ،
القدسُ وردةُ قلبِِنا المذبوحِ
أندلسُ الحنين،
.. يغيبُ عن جنّاتِها حَبَقُ العزاء .
والقدسُ وَقْتَ العَصْرِ ،
قبل النكبة الكبرى بأيامٍ ،
تُعيدُ وتستعيدُ حكايةَ الشهداء ؛
مَنْ عرجوا إلى الأسوارِ، أو
ساروا إلى الوديانِ ،
كانوا ثُلَّةً لم يبلغوا الخمسين ،
لكنَّ النفيرَ إلى الجهادِ
هو العَلاءُ
.. وكان أنْ صَفّوا النعوشَ، وكانت
الحاراتُ تخرج من جنازتها
إلى زمنِ الَفَناءْ.
ألقدس أبوابٌ إلى كلّ الجهاتِ السَّتِ،
نافذتي الأخيرةُ للبهاء ،
وللملائكِ يحملون العرشَ بالتسبيحِ
فوقَ الماءِ،
لا حدٌّ هنا ما بين مَنْ نادى،
و مَنْ سمع النداءْ .
القدسُ أغنية الرخامِ،
من اليبوسيينَ، حتى آخرِ الشهداء،
في الأقصى،
الذين توّردت بهم العروقُ البيضُ،
وانسابوا على المنديلِ دمعاً ،
من ورودِ الأُمّهاتِ ،
وضوّعوا شمعَ الكنائسِ ساعةَ الترتيلِ
للأرضِ الحزينةِ والدماءْ .
والآن، ثمةَ إيليا أُخرى يحطّ بها البرابرةُ الهوامُ
وتيتوسُ الهمجيُّ !
ثمةَ مَقْدسانِ وبَغْدادانِ،
فمَنْ لِثَالِثَةِ الأثافي، يا عواصمَ جوعنِا
ودموعِنا
ومعاقِل الجَهْلِ المُصَفَّدِ والشقاء ؟
فهنا.. هنا الخُوذاتُ والغازُ الرصاصُ
الحاجزُ الدمويُّ
بركانُ المدافعِ
مركباتُ الموتِ
معتقلُ النساءِ،
الحافلاتُ،
وألف نعشٍ للحقولِ
وللخيول ِ
وللمتاحف والمصاحف والجوامع
والصوامع والصغار الأبرياءْ.
وهنا .. هناك تَبادَلَ الجسرُ المعلّقُ والقبابُ
جنونَ ما اجترحوا من الذبّح المروَّعِ
والمجازر والشّواء.
أنقولُ: قد سرقوا، هناك، حصانَنا الناريَّ
والسيفَ المذهّبَ،
كنزَ آشورَ القديمَ
وتاجَ مريمَ والخزائنَ والكتابْ،
نهبوا، هنا، ثوبَ الفُراتِ،
لُقى حمورابي، الصحائفَ
والطوائفَ والكهولة والشباب ْ
نهبوا الأساورَ والمنابرَ،
برُدةَ الزهراءِ، أو
ما قد تبقّى للحواريين من خُبزِ العَشاءْ .
وهنا .. هناك تسلّقوا نايَ المُغنّي
والمُعلّقةَ الكحيلةَ
والغزالةَ
والذي عَشِق السيوفَ
لأنها لمعت على ثغرِ الجِواء.
وهنا – هناك أبو حنيفةَ والعليُّ،
وزيدُ والطفلُ الخفيُّ،
أو الوليُّ ومَنْ توسّطَ والرضيُّ
هنا.. هناك الطَّفُّ والعَطَشُ المحاصَرُ
والمَحارمُ والرحيلُ بلا عزاءْ.
وَهُنا .. هناك الأشعريُّ المالكيُّ
الحنبليُّ
الشافعيُّ
فَمَنْ يقولُ: أنا وأنتَ
ولا نرى حول الحصار سوى العواء؟
والقدسُ آخرُ ما تلفّظَت الأعالي،
فوقَ رايةِ أرضنا ؛
هي سندسُ الزيتونِ
أجنحةُ الحَمامِ
ولمْعَةُ الشريانِ
أو كُحْلُ الصَّبيةِ لم تُصِبْ من عمرها إلا البُكاءْ.
والقدسُ عينُ اللّهِ في الأرضِ الصغيرةِ،
أوّلُ الصلواتِ والآياتِ،
محرابُ البتولِ،
ونخلةُ الميلادِ،
معراجُ الأمينِ،
ومربطُ الفرس المُجَنَّحِ ،
خُبزُنا البلديُّ،
زيتُ سراجِنا الكونيُّ،
أو رَقْصُ البلادِ،
وزفّةُ الأعراسِ في وَهَجِ الغناء .
جاءوا إليها فاتحينَ مُسبّحينَ
وخلّفوا فيها الرواقَ
أو المُصلّى
أو خطوطَ النصرِ
أو تاجَ المُقَرْنَصَةِ المعقّدَ والقبابَ
أو السبيلَ أو المشافي والمدارسَ
والحصونَ
أو الأصابعَ فوقَ مرمرِها الشجيَّ
أو القصورَ أو السجونَ
أو القلاعَ أو القبورَ
أو القصائدَ والملامحَ والعيونَ
وما يسجّلُهُ الحجيجُ
من العجائبِ والطقوسِ
وما رأَوْا في الخانِ والقَصَباتِ
من أثرِ الجنودِ،
وما يقولُ الناسُ أو ما يفعلونَ،
وما يبيعُ القادمونَ من النفائسِ والقلائدِ والنقودِ،
وكان أنْ حُرِقَتْ
وَزُلزِلت المدينةُ غيرَ مِحَْرقَةٍ،
فماذا يصنعونْ ؟
ولقد أعادوا مرّةً أخرى المدينةَ
مثلما كانت على كتف الثريّا ،
أو كما تبدو الأميرةُ إيلياءْ .
والذئبُ جاء القدسَ
من غَبَشٍ سحيقِ ٍ
من عيونِ الريحِ،
قال: أنا أجوعُ
لهذهِ الأرضِ المقدّسةِ المليئة ِ
بالقفير وبالحليبِ،
وسوف أبني هيكلي فيها..
ووحدي مَنْ يكونُ هُنا.. هُنا
فَأنا الذي أعطى الإلهُ أباه هذي الأرضَ
وحدي مَنْ سيبقى
والبدائيون مَنْ مَرّوا عليها
يرحلونَ
وإنْ أبَوْا؛ سيموتُ ما فيها لهم؛
من بقلةٍ أو نملةٍ
أو نبعِ ماءْ .
فَلـْيرحلوا عنّا،
فإنّا لا نطيق لهم بيوتاً
أو مروراً أو بقاء .
وَلـْيقطعوا حَبْلَ المشيمةِ في الصحارى،
نحن مَنْ يرثُ الخُطى
وقلائدَ التينِ المجفَّفِ
والخوابي والجِرارَ
وما يميسُ على السهوبِ من الشعير ِ
ومن قرونِ البامياءْ.
وأنا الذي ينفي الضحيةَ والمذابحَ،
وَحْدَنا مَنْ يملكُ الهولوكستَ والمنفى ..
أنا الملكُ الوريثُ،
أُنقّحُ التوراةَ من حُبَّ الخلائق ِ
ملّتي؛ لا شيءَ للأغيارِ
إلاّ ما يُمكّنني الكمينُ من الرعاعِ،
أنا هنا المختارُ،
أَخْلُق ما أريدُ
بِرَنَّةِ التَّبْرِ المُرابيَ/
والمؤامرةِ / البغايا / والخطايا والثراءْ.
وحدي لديّ دمي المميّزُ،
لي عناقيدُ المراعي، والأفاعي
بعضُ أُحجيتي
ولي حَسْمُ النهاياتِ السعيدة ِ
والشعوبُ لها كوابيسُ العناء.
القدسُ واحدةٌ لنا،
ولها نشيدُ الجُرْحِ، والكوفيةُ السمراءُ،
والعيدُ البعيدُ، وصورةُ المقلاعِ
واللونُ الذي رفعَ الحنينَ
إلى المجازْ !
فهناك في المنفى هي العنوانُ
في الثوبِ المطرّزِ بالحكايا
والزغاريدِ النبيهةِ والخرائط ِ والدفاع ِ
عن المعاني، والمعلّقةِ التي فهقتْ
على الحيطانِ أو صدرِ الصبيّةِ،
في الهواتفِ والملاحفِ والمصاطبِ والحِساءْ.
وهنا، هي الرحمُ الخصيبُ، وما
تبقّى من حكايتنا، وما عقدوا عليه
من النوايا في الصلاةِ أو الممات،
أو الدفاعِ عنِ السلامِ أو الحِمامِ،
أو الذهابِ إلى النجَاء ْ.
وهي الشرارةُ والترابُ أو الغمامةُ
والهواء، هي الهيولا، والقيامةُ،
والصَّحاحُ من النّزول على النبيِّ
بعُزَْلةِ الجبَلِ المُقدَّس
أو حِراء.
وهي التي ربطوا بها قلبي
وحفّوا نهدَها بالهِندِباءْ.
هي زوجتي أُختي وأمّي وابنتي
أبتي وعمّي، خالتي، أهلي
وجيراني وأفراحي وسلطانُ الإباءْ
هي آيتي، عِرضي، حياتي
أصدقائي الأوفياءُ، مدينتي
بيتي، غدي، سندي، عمادي، زهرتي، لغتي
دموعي، قصّتي، أمسي، وأحلامي
كتابي، دُرّتي، زمني، عيوني، شمعتي
وجعي، شفائي، نظرتي، صوتي
غطائي، نوْمتي، صحوي
وخطوي والدواءُ وصرختي،
أملي، جدودي، شهقتي الأولى
وروحي، نجمتي، شُهُبي، عُروشي
نخلتي، تفاحتي، قمحي، وقافلةُ الرّواءْ ..
القدسُ أزمانٌ على زمنٍ طويلٍ،
ثم يأتي آخَرٌ .. حتى
تكونَ ذُرى ابنِ آدمَ في المدينةِ،
بعضُها يعلو على بعضٍ،
وأجْمَلُ ما يتوِّجُها السلامُ إذا
تخلّى الميّتونَ عنِ ادّعاءِ الإدّعاءْ.
فهنا البهارُ وقهوةُ العربيِّ والآياتُ
والتاجُ المُرصّعُ بالسّناءْ.
وهُنا …هُنا حريّةُ الإنسان ِ
طهْرُ الطهرِ، ترنيمُ التجليّ والخفاءْ.
فبأيِّ شمسٍ نستنيرُ
بأي ماءٍ نستجيرُ
ومَنْ يُصدّقُ أنَّ قُدْسَ اللهِ
يَحْكُمها عبيدُ المومياء؟!
القدسُ أنثى الكونِ تعرفُ طَيْشَها النسويَّ
في زمنِ الرخاءِ..
وتعرفُ الحّناءَ نارياً على يدِها
إذا جاسوا الديارَ ،
هنا، يكونُ صراخُها الوحشيُّ مكتوماً،
بِكُوزِ صنوبرٍ خلفَ النوافذِ،
فالجنودُ وربُّ هذا الشمعدان
يفتّشونَ عن البراعمِ، والطريقُ
بِرَهْبَةِ الوثنيَّ جَمَّدتِ القلوبَ،
وَحَلَّ صمتٌ ليس يكسرُه سوى
خطواتِهم في هدْأَةِ الليلِ البهيمِ،
ولا ترى غيرَ الظلالِ
على حديدِ البندقيّةِ..
ثم تَسْمَعُ زَّخةً هتكت ستارَ الرُّعبِ،
قَعْقَعةً ورشّاتٍ
وأصواتٍ تنادي بعضَها …
ويعمُّ ضوءُ الطائراتِ ..
وَيحْضُرونَ…
وكلُّ ما في الأَمْرِ؛
أنَّ عَمُوْرَةً شَبَحاً تَصدَّتْ للجنودِ،
لها ملامحُ غُوْلةٍ، قالوا:
بأنَّ بكاءَها المشروخَ يُنْذرُ بالجحيم ِ
وجمرَ عينَيْها تمدَّدَ في الوجودِ،
ونابَها كالنَّصلِ واللَّهبِ الوقودِ،
.. وقيل ؛ قد قتلوا أباها في الجرود،
وقيلَ قد هَدَمتْ منازلَها السدودُ،
وقيلَ قد سجنوا أخاها،
قيل قد حرقوا سنابلَ شَعْرِها
وعلى الرمادِ أقام حارِقُها البنودَ،
وقيل؛ هذي غُوْلَةُ الثأرِ التي
لا تستقرُّ ولا تنامُ ..
وتأكلُ الأعداءَ، إنْ مَرّوا،
ولا تُبْقي سوى بعض العظام ِ
وقيل؛ إن جاءتْ عواصِفُها
سَيُزْهرُ بَعْدَها أَلَقُ الجلاءْ.
القدسُ أوّلُ قِبْلَةٍ أو قُبْلَةٍ،
والنهرُ يجري تحتها،
وينامُ في ذَهَبِ المصاحفِ
مثلَ طفلِ السَّرْوِ،
ثَمةَ ما يضفضفُ فوقَ خَطَِّ السورِ؛
هذا سيفُ يوسفَ أو صلاحِ الدين،
مَنْ شدَّ الرحالَ إلى الحرائرِ والكنائسِ والتكايا
كي يحررّها من الغرباء، هذي
رؤيةُ الصوفيِّ في ليلِ الثناء ،
وهذه حلقاتُ أبناءِ المغاربةِ
الأفارقةِ
اليمانيةِ
الشراكسةِ
الهنودِ
الأولياءِ
وهذه بعضُ المقاماتِ التي
صعدوا بها،
والنقشبنديُّ الذي كشف المسافةَ
حلّ في نبعِ الصَّفَاء!
فلإيليا تأتي
البحارُ على دفوفِ الرَّحلِ،
والمضيافُ عاهِلُها؛
يزيِّنُها عُروشاً للخليلِ وللسبيلِ وللفراءْ.
فهنا، إذا حفروا بأرضِ القدسِ
لن يجدوا سوى حاءٍ وباءٍ.
هيَ ليلةُ القَدْرِ الأثيرةُ،
ياسمينُ البرقِ،
أو صوتُ الإمامِ
إذا ترنَّم بالقيامِ والانحناءِ،
وطافَ بالجَمْعِ المَهيبِ على الأرائكِ
والملائكِ
في القيامةِ نبعُ أطيارٍ ترفُّ
على صدى الناقوسِ ..
هذا كرنفالُ القدسِ،
مَوْقِدُ نَحْلِها،
ورِهَامُ فضَّتِها على طِيبِ البقاء.
أبوابُها؛
بابُ الخليل؛ يطلّ نحو القَسْطَلِ المنهوبِ/
الَبقْعَةِ/ القَطَمُونِ/ يافا/ مَأمَنِ اللهِ / المروجِ/
الطالبيّةِ والنخيلِ ..
هناك عنّابُ الشرايين / الصخورُ
ودمعةٌ تبكي الشقيقةَ
والشواهدَ والفداء.
بابُ الجديدِ الطفلُ في السّورِ العتيقِ،
وأصغرُ الأبناءِ
في أسطورةِ الحَجَر المُضاء.
بابُ النبيِّ داوودَ
سِحْرٌ مستطيلُ النورِ
هندسةُ الثغورِ إذا
تفتَّحتِ الظلالُ على الهواء.
بابُ المغاربةِ الذي أخذوه لـِ «المبكى»
يجوحُ على تضاريسِ المدينةِ،
والسلالمُ لم تعُدْ ترنو
إلى جبلِ المُكبَّر،
إنّه بابُ البُراقِ أو النبيَّ،
وكلُ هذا الحَفْر في قلبِ الوسائدِ
والسلاطينِ الملوكِ،
ونبعِ سلوانَ المضرّجِ بالدماء .
الأسباطُ؛
بابٌ سوفَ يُفضي للقناديل التي اشتعلتْ
على الزيتونِ في جبلِ الصفاء ..
وثَمّةَ الجسدُ الذي يعلو
على جثُمانِه الطينيَّ
في كَبدِ السماء .
العامودُ؛ هذا البابُ للبلدِ القديمةِ،
والمداخلِ والمحافلِ
نحو نَابُلُسَ الشكيمةِ،
مدخلُ السّوقِ الرخيمةِ والشآم ..
وبابُ كلِّ سُراتنِا للشمسِ،
مَنْ حَملَ الرسائلَ للبعيدِ،
ومَنْ إذا أعطى يتمُّ به العطاءْ.
وبابُنا الذهبيُّ،
رحمةُ ربِّنا،
وقَوَامُ هذا البرزخِ المضروبِ
في الدنيا،
ومَنْ ناجى وأيقنَ
أنَّهَ في حضرةِ الهادي،
وقد وصلَ الرجاءْ.
والساهرةُ! بابُ البريدِ،
ونرجسُ الريحِ الشماليِّ العنيدِ
وأوّلُ السَّهرِ / الزواهرِ..
كلُّها ما ااشتّقَهُ الورديُّ
حتى يطلعَ العودُ الخرافيُّ الفتيُّ
على الفواصلِ..
إنّه بابُ الرشيدِ
وعِطرُ مَنْ عادتْ به روحُ الوفاء .
والقُدْسُ إرْطاسُ الفَراش ِ،
وشامةُ البلدان،
والزغبُ الحرامُ،
وتلَّةُ النُسّاكِ والعُبّادِ
في صُوفِ الخِباء .
القُدْسُ ليمونُ الزوايا،
طفلةُ النارنجِ،
ليلةُ عيدِنا
وقد استباحوا يومَها القمرَ الوحيدَ،
وخلّفوها دونَ نورٍ أو كِساءْ.
يا آورَ سالمَ،
إيليا،
يا زهرةَ المدنِ الحبيبةِ
يا يبوسُ !
برغمِ أحزاني الجليلةِ والمواجعِ،
يا فضاءَ الله في هذا البلاءِ،
ويا بعيدةُ رَغْمَ رُؤيتِها،
على حَدَّ الوداع ِ..
لنا اللقاءُ
لنا اللقاءُ
لنا اللقاءْ.
المتوكــــل طــــــه
شاعر من فلسطين