كتب "نجيب محفوظ " في سنة 1939 أولى رواياته " عبث الأقدار" فهل كان من مجرد المصادفة أم من توفيق الحدس أن يطلق عليها هذا الاسم ، الذي يبدو لأول وهلة رومانتيا ساذجا في رومانتيته ، بل يبدو كأنه من عناوين تلك الروايات التي تعج بها أسواق التسلية والتلهى ، كروايات "ريدار هاجارد" الذي كان نجيب محفوظ عندئذ معجبا به ، يقرؤه بشغف ، ولعلك تلمس تأثيره واضحا في كتاباته الأولى ؟!
يخيل لي أن "عبث الأقدار" هو مقوم رئيسي من مقومات عالم "نجيب محفوظ " ، ومهما أجلت النظر في كتاباته طولا وعرضا خلال السنين الطوال فلن يسعدني أن أفلت من اليقين بأن هذه القدرية من مميزات فنه وفكره ، ولعل القدرية أيضا من خصائص رؤيتنا الأصيلة نحن المصريين منذ أقدم عصور تاريخنا . لست أقطع في ذلك بشيء . ولست أفسر هذه القدرية في الوقت نفسه تفسيرا ضيفا يقصرها على الاستسلام للمصير استسلاما سلبيا خانعا ، فقد تكون شجاعة العمل ، والصبر عليه ، والكفاح الدؤوب ، بل قد تكون المغامرة ، وركوب المخاطر ، كلها واقعة في داخل إيمان – يتجاوزها كلها – بالقدر وبالقضاء المحتوم ، بأن "المكتوب على الجبين لا بد أن تراه العين " . وليس ذ لك تناقضا الا في الظاهر ، وهناك مواقف فلسفية تعرف مثل هذا التناقض بين الياس الكوني وبين حرية الانسان في تخطيط مصيره ، بين القلق الوجودي وبين الاختيار .
ومهما يكن من الأمر ، فقد اتخذت المشكلة أوضح قوالبها وأكثرها عريا في رواية "نجيب محفوظ " الأولى ، وهي المشكلة التي ستصبح فيما بعد من أولى بؤرات اهتمامه ، وسوف تتصل عنده أوثق اتصال بمشكلة حرية الانسان في العمل ، ومصيره في العالم .
"عبث الأقدار" هي قصة ارتقاء "ددف رع " عرش مصر، خلفا عظيما لسلف عظيم هو "خوفو" صاحب الهرم ، وهي أيضا قصة ارتقاء ابن وفي نموذجي من أبناء الطبقة الوسطى ، مدارج المجد حتى أسمى مراتبها – وهذه قصة أخرى لن يفتأ "نجيب محفوظ ا، يرددها في كل أعماله على وجه التقريب ، بكل تنويعاتها – ولكنها فوق ذلك كله قصة القدر المضروب ، النافذة كلمته ، أو بالأحرى قصة الحوار الذي يدور دائما بين الانسان إذ يتحدى الجبرية المفروضة عليه " وهذه القوة العليا المطلقة الكلية التي تحدد في النهاية مسار حياته مهما تملص من قبضتها . حوار ينتهي دائما باخفاق الانسان واندحار بطولته ، ينتهي دائما بسيادة شيء ما أعلى من منطق الانسان وأقوى من كل جهوده "لقد اتفقت كلمة الحكمة المصرية التي لقنتها الأرباب للسلف . . بأن الحذر لا ينجى من القدر . . لو كان القدر كما تقولون لسخف معنى الخلق ، واندثرت حكمة الحياة وهانت كرامة الانسان ، وساوى الاجتهاد الاقتداء ، والعمل الكسل ، واليقظة النوم ، والقوة
الضعف ، والثورة الخنوع ، كلا . . . إن القدر اعتقاد فاسد لا يخلق بالأقوياء
التسليم به " .
وعلى الرغم من هذا الاحتجاج القوي فمن العجيب أن تنتهي الرواية بنفاذ كلمة القدر . فهل يرى الكاتب ان معنى الخلق لسخيف ، وان حكمة الحياة المندثرة ، وان كرامة الانسان هي حقا من الهوان بمكان ؟ والغريب أن مضي حكم القدر انما يتأتى ، في أولى روايات "نجيب محفوظ " ، عن طريق فروب الكفاح الشريف والخلق الفاضل والشجاعة وحصافة العقل وفطنة القلب معا .
جاءت نبوءة ساحر بكمة القدر أن "سيرتقى عرش مصر "ددف رع " وهو بعد طفل رضيع ، ومن ثم فلن يخلف "خوفو" على عرشه ابنه من صلبه ، لى اذن فلينهض ا،خوفو" ليقضي على هذا الطفل الرضيع ، ان "ددف رع " يفلت من المصير ، ولكن ينتحر أبوه كاهن "رع " الكبير ، ويفتديه طفل آخر فيموت عوضا عنه ، وتهلك أمه في طريق الهرب . هذه الكوارث التي تحل دائما بالأبرياء في مجرى فاجعة منطلقة في مسارها لا تتمهل ، هي نغمة أخرى من النغمات الثقيلة التي لن تفتأ تتردد بأصدائها الموجعة طالما صحبنا هذا الكاتب القاسي في عالمه الرهيب . لكن قسوة الكاتب هي قسوة الأمانة والصدق بازاء رؤية لا تهاب المواجهة .
وتمضي الرواية حتى يعنو "خوفو"في النهاية لكلمة القدر ، ويموت ، على عظمته وحكمته واحاطته بأسباب السعادة كلها ، مقهورا.
في هذه الرواية ، اذن ، نلتقي لآول مرة ، في اكثر القوالب عريا وبساطة بالكثير من المواقف والشخوص التي سوف نتعرف عليها مرارا فيما بعد . الموظف الطيب بملامحه المرسومة بعناية وتشخيص حريص ، كم مرة سوف نلقاه ، بين موظفي الحكومة الذين تغص بهم روايات "نجيب محفوظ " ، هذه الملامح الجسمانية والقسمات النفسية مرصودة في تسجيل دقيق ، مركزة في تقطير مكثف في واحد، أو موزعة على كثيرين ، لكنها هي لا تتغير ، كأنها من ظواهر الطبيعة في مصر ، والفتى الذي يحب الأميرة بنت الملك من آول نظرة ويخلصها الحب حتى النهاية ، ويخطبها لنفسه من مقام أبيها العالي ، ان قصة هذا الحب وهذه الخطبة سوف تلاحقنا في روايات "نجيب محفوظ " ، وقد اتخذت صورا شتى ولكن نمطها باق ثابت أبدا لا يحول – "بنامون " و "رادوبيس " في
" رادوبيس " ، " ا سفينيس " و " امنريديس " في "كفاح طيبة" ،"محجوب عبدالدايم " في " القاهرة الجديدة " ، "رشدي " و " نوال " في "جان الخليلي " ، "كامل رؤية" و "رباب جبر" في "السراب " ، " كمال وعايدة" في "قصر الشوق " ثم "عيسى وسلوى" في "السمان والخريف " بل ان خطبة "عباس الحلو" و ا"حميدة" في " زقاق المدق " قد لا تخلو من أصداء ك الموقف النمطي بعينه .
هل هي إحدى خصائص الطبقة الوسطى الصغيرة ، تطلعها الى التعلق باذيال الطبقة التي تعلوها في مدارج السلم الاجتماعي ، هل هو شق من أشواق النفس الانسانية – تطلعها الى الارتقاء علوا في مدارج السلم الذي يصل بين الأرض والسماء ، كأنه سلم يعقوب في التوراة ، أيا كان الأمر فالغالب الأعم أن يسقط المتطلع الى أعلى ، وان تتدهور درجات السلم تحت قدميه .
وعلى الرغم من أن الروايات الفرعونية الثلاث تدور في مصر القديمة ، وعلى الرغم من احتفال الكاتب بأن يسوق التفاصيل ، كعادته ، فلست أجد فيها روايات تاريخية بالمعنى الحقيقي ، هي روايات أفكار وأقضية وتحليلات ، وان اتخذت اطارها من التاريخ القديم . فهي لم يقلب رائحة التاريخ المميزة ولا تبعث نكهته ومذاقه . لم تهتز الحياة بكثافتها في الأسماء التاريخية ، ولم يتح لنا أن نغوص في أعماق بصائرهم وعقائدهم ورؤيتهم للحياة. . والأرجح ان هناك حيودا عن التزام الدقة ، كل الدقة " في تصويرالعادات والأدوات وأنماط السلوك وتصوير العقائد – بل في أسماء المدن والبلدان حيث يستخدم الكاتب في الغالب الأعم الأسماء اليونانية للبلاد في عصر لم تكن اليونان فيه قد عرفت عنها شيئا عل الاطلاق – "هيراكيونبوليس " مثلا بدلا من "هاتنن نسوت " (أهناسيا) و"أمبوس " بدلا من " نوبيت "- ولكن الأسماء المصرية القديمة ترد أحيانا بدلا من الأسماء اليونانية في الوقت نفسه : "نخب " بدلا من "ايلثيابوليس"(الكاب ) .. وهكذ ا . .
تلك مسائل متروكة للباحثين التاريخيين وأضرابهم ولكن ذلك كله يهون ، بالطبع ، فإنني زعيم بأن هذه الروايات ليست بالروايات التاريخية ، وهي ليست على اليقين روايات رومانتية ، مهما أحب الكاتب أن يسميها بذلك ، بل هي في ظني الارهاصات الأولى للأبنية العقلية التي سوف يبنيها ا"نجيب محفوظ " ، والتجارب الأولى التي يتيح فيها لمقومات فكره الأساسية أن تتشكل خلقا سويا .
سوف نلتقي بالقدر والمصادفة في "رادوبيس " ثانية الروايات الفرعونية كما نلتقي بها في كل رواياته عل وجه التقريب : "مصادفة . ان هذه الكلمة . . مهضومة الحق ، يظن بها التخبط والعمى ومع هذا فهي المرجع الوحيد لأغلب السعادات وأجل الكوارث ، فلم يبق للآلهة الا القليل النادر من حادثات المنطق . كلا . . ان كل حادثة فى هذا العالم لا شك موكلة بارادة رب من الأرباب ، ولا يجوز أن تخلق الآلهة الحادثات – جلت أو تفهت – عبثا أو لهوا.. -وما المصادفة ؟. . إنها قضاء مقنع ! -انها كالعاقل المتغبي " . "رادوبيس " هي قصة هذه "المصادفة" أو هذا القضاء المقنع الذي ربط مصير فرعون مصر العظيم "مرتدع الثاني " بالغانية "رادوبيس " ، وفقدانه العرش في سبيل هواه الجموح ، وهزيمته من جراء هذا الهوى ، في صراعه مع كهنة آمون . وتنتهي القصة بنهاية أخذنا منذ الآن نتعرف عل ملامحها وننتظر فربتها ، تنتهي بمقتل الملك ، وانتحار "رادوبيس " وقضاء " طاهوا، القائد العظيم -على نفسه بالخيانة ثم بالفضيحة ثم الانتحار . في "كفاح طيبة" ثالثة الروايات الفرعونية ، وأصلبها عودا وأحفلها بمشاهد الكفاح والحرب والتدبير المحكم لتحرير مصر ، والارادة النافذة الى هذا الغرض ، تلعب المصادفة أيضا دورها في التقاء " ا سفينيس" ـــ وهو " أحمس " مستخفيا تحت اسم تاجر ، متنكرا بزيه – و "أمنريديس " بنت ملك الرعاة الأعداء – وهي الأميرة التي علقها قلبه حتى النهاية – قصة الحب والهوى المنكوب في هذه الرواية ، وهي القصة العاطفية الوحيدة فيها ، يدور محورها حول مصادفة – انها قضاء مقنع !-ثم تأتي الى خاتمة حزينة بالغة الأسى .
أما في "القاهرة الجديدة" فالقدر يعلب بيد جسور ، والمصادفة فربة "قاصمة " . "محجوب عبدالدايم " ، البطل العدمي السافل بتجرده من كل أصول الخلق القويم في سبيل المصلحة ، والمصلحة الأنانية وحدها ، البطل الذي رسمه "نجيب محفوظ " بدقته " البا ثولوجية " التي سنألفها فيما بعد – البطل المتحلل الذي رفع شعارا واحدا يظلل حياته حتى الخاتمة الفاجعة المحتومة شعار "طفل " كل شيء "طظ " الا أنا ومتعتي وسعادتي ومجدي وثروتي -"محجوب عبدالدايم " قد جاء ليعقد قرانه على عشيقة "قاسم بك فهمي" وهو لا يعرفها ، يتزوجها حتى يغطي بزواجه الشائن على العلاقة الأثيمة التي تربط بينها والرجل الخطير ، ويتقاضى الثمن – وظيفة في الدرجة السادسة لها مستقبل باهر مضمون – فاذا هو يلتقي وجها لوجه "بإحسان شحاته" حبيبة صديقه القديم ، الضحية الأخرى في مجرى الكارثة ، والطرف الآخر من طرفي الفضيحة.
– "أما تستفيق " ؟ فنظر إليه بعينين ذاهلتين وتمتم قائلأ : – اني أعجب لهذه المصادفة ! -كيف ترى هذه المصادفة ؟ -مصادفة سعيدة بلا جدال ! وجعل الاخشيدي يتكلم عن المصادفة متفلسفا .. وظن عم شحاته انه أحاط بالموضوع حين قال : ان المصادفة من صنع الله وبأمره سبحانه ".
وينعقد الزواج ، ويقول "محجوب " لشريكته . -"تآلفت حياتنا بمعجزة ، وما كنت أحسب قبل اليوم أن المصادفة تلعب هذا الدور الخطير فى حياة الانسان ، فما أحقها أن تسخر من منطقنا ومن سنن الوجود جميعا" .
التكآة الواهية لا تكاد تستقيم على عودها : هناك دائما نافذة مفتوحة بالصدفة تفضي الى أبواب لا يمكن إغلاقها ، هناك زيارة في سبيل غرض ، هو أبعد الأغراض عن الحب والزواج ، تنتهي بالمصاهرة وتشابك أوثق الوشائج ، هذه النافذة المفتوحة نجدها في "خان الخليلي " ، في "زقاق المدق "، في "السراب " – هذه الزيارات نجدها في "بداية ونهاية" وفي "قصر الشوق " . أما التقاء " نور" ، البغي القديسة ، و "سعيد مهران " اللص والضحية والرمز ، وقد كاد ينساها ، فمثال متميز علمجرد صدفة تبدأ مسارا من أخطر المسارات . ولعل "اللص والكلاب" ابعد أعمال نجيب محفوظ دلالة على القدرية ، في عالمه . فاللص يشتبك مصيره بمصير الغانية ، نتيجة لهذا اللقاءالذي جاء مصادفة ، ولكن الآمر الأخطر هو المناخ السائد .
***
مواقف الحب ، والموت ، مواقف اللقاء والافترا ق والسعادة ، الهزيمة أمام قوة أكبر من أية إرادة ، فالكارثة والتعرف الى الجنس والغوص في أغواره ، كلها تتخذ قوالب يدعو بعضها البعض بأوجه الشبه والتساوق من رواية الى رواية ، ومن جانب الى جانب في هذا العالم الغريب .
إن الكوارث تنزل بالأبرياء ، الأخيار دائما مصابون ، هناك الشوكة الصلبة الدقيقة المغروزة في لحم كل فاكهة غضة . بذرة الخيبة في قلب الانتصار . قيم الخلق موضوعة دائما في الميزان ، وقياسها الى السعادة والمتعة والاستقرار قياس مهتز يميل بالشك والتردد والحيرة ، فالفساد مثاب والخير منكور الحظ من الثواب. ولعل صدق الكاتب بازاء مشكلة الخير والفساد هذه ، هو القيمة الخلقية في عالمه ولعل صراحته وأمانته في مواجهتها هي التي تعصمنا من مغبة الإنكار التام والعدمية والكفر بكل قيمة خلقية .
ولعل هذه الصراحة المطلقة في مواجهة عالمه بكل ما فيه من شر وقبح هي التي أوهمت بحياد صانع هذا العالم الفني ، وبموضوعيته ، وليس الأمر في ظني حيادا وموضوعية بقدر ما هو أمانة قاسية لا تتراجع امام الشائك والمنكر والمظلم المخوف .
***
على أن ثم ظاهرة أخرى تمتاز بها أعمال " نجيب محفوظ " الأولى ، حتى ،.صلت الى مراحلها الأخيرة ، ظاهرة الشمول الذي يسعى الى ان يمد أسبابه على كل شيء ، واتساع رقعة العمل الفني اتساعا شاسع المساحة عريض الجوانب ، وكثرة الشخوص والمواقف سواء كانت جليلة أو تافهة ، وتسلسلها في احتفاء شديد بالتفاصيل الصغيرة والتطورات الكبيرة سواء بسواء ، ومعالجتها كلها بنغمة واحدة سواء ، نبرة هادئة بعينها تتناول عملية ركوب ترام أو عملية إجهاض ، وتسرد شرب فنجان القهوة وحساب مصروف البيت او تبتعث مأساة حب مدمر أو انهيارا مدويا لصروح حياة كاملة ، هذه النظرة الشاملة للكون بصغائره وجلائل أحداثه ، تأتي على نغمة واحدة لا صعود فيها ولا هبوط .
هذا التسطيح في العلاج ، مقرونا بالاتساع العريض في الرقعة الكلية للوحة ، يكاد – وحده – يوحي بموقف الكون نفسه من الانسان في مواجهة محايدة صامتة تبالي ، ويكاد يشف ، بأسلوب البناء وحده ، عن موقف الكاتب نفسه من الكون ويقينه بأن العالم في الجوهر لا يبالي بالانسان ، تستوي عنده صغائر حياته وكبائرها . ومن ثم يتسلل الى عالم "نجيب محفوظ " هذا المناخ البارد العام الذي يخامر كل ركن فيه ، وما قد نراه أو نحسه خطيرا أو عميق الأثر يفقد وزنه على قدم المساواة مع التوافه واندراج الكل في نفس واحد متعادل النبرة ، أو تكتسب هد التوافه ثقلا في الوزن اذ تضارع الكوارث الكاوية والنكبات القاصمة والسعادات المحلقة والنشوات الثملة سواء بسواء في كفتى ميزان هذا العالم اللتين لا ترجح إحداهما الأخرى .
يرتبط ذلك بالأسلوب اللفظي الذى يتبناه "انجيب محفوظ " في تلك المرحلة فنحن نجده يقول : "عندما بدأت الكتابة كنت أعلم اننى أكتب باسلوب أقرأ نعيه بقلم " فرجينينا وولف " ، ولكن التجربه التي أقدمها كانت فى حاجة الى هد الأسلوب . لقد اخترت الأسلوب الواقعى في هذا الوقت الذي كانت "فرجينيا وولف " تهاجم الأسلوب الواقعى وتدعو للأسلوب النفسي . والمعروف ان أوروبا كانت مكتظة بالواقعية لحد الاختناق . اما انا فكنت متلفا على الأسلوب الواقعي الذي لم نكن نعرفه حينذاك ، والأسلوب الكلاسيكي الذى كتبت به كان هو أحدث الأساليب وأشدها اغراء وتناسبا مع تجربتى وشخصي وزمني ، وأحسست انني لو كتبت بالأسلوب الحديث سأصبح مجرد مقلد".
ولكن تقليب النظرة في أسلوب نجيب محفوظ – في هذه المرحلة – لا بد أن يدعوللتساؤل عن هذه الكثرة الكاثرة من القوالب القديمة المحفوظة ، الجاحظيه تقريبا ، التي تتراص في كتاباته ، وقد كان بوسعه في ظني أن يتخفف منها أو أن يتفادى منها أصلا ، ولكنه عن عمد أو عن غير عمد يترك هذه القوالب التي لا حياة فيها تقف جامدة في أحرج المواقف وأدعاها الى استخدام الأسلوب المتحرك النشط الحي .
لم أهتد في تفسيرذلك الا لشيء واحد أحسسته بمعاناتي ، هو ان لهذه القوالب من العبارات والألفاظ تأثيرا وظيفيا هو تأتير المخدر والمسكن ، استخدامها أجدى بكثير من الاستغناء عنها ، فهي لا تروع سواء بجدتها أو حيويتها ، أو بغيابها وبالفراغ الذي تحسه عند افتقادها ، بل هي تسمح للذهن ان يمر عليها دون أن يتوقف ، كما يكون من شانه أن يتوقف في الحالتين ، وما زال الذهن مشغولا بالحدث الذي تشير اليه هذه القوالب ، وللخيال مطلق الحق في أن يستند الى هذه الإشارة الجامدة دون ان يهتز بها ، الحواس لا ترتج باصالة العبارة ولا يبهرها رونق الجدة أو ضوء الكشف الجديد ، لكن الحواس أيضا لا تستشعر فقدانا ولا يستلفتها الفراغ والنقص ، ويتاح عندئذ للصورة أن تستقر على هونها ، أن تثبت في الوجدان على مهل .. وبذلك نقبل دون معارضة أخطر الأمور وأيسرها ، وبذلك يسكن الكاتب من نفرتنا ويروض العقل على المطاوعة والتصديق .
ولكن الارهاصات بالأسلوب "الحديث " تفاجئنا عند "نجيب محفوظ " ، في أعماله اللاحقة .
وهو يسمي هذه المرحلة "بالواقعية الجديدة" : "تستطيع ان تقول إنني فى المرحلة الأخيرة أتبع الواقعية الجديدة، وهذه لا تحتاج إطلاقا لمميزات الواقعية التقليدية التي يقصد بها أن تكون صورة من الحياة . . الواقعية الجديدة تتجاوز التفاصيل والتشخيص الكامل ، وهذا ليس تطورا في الأسلوب . . بل تغيرا فى المضمون .
الواقعية التقليدية أساسها الحياة ، فانت تصورها وتبين مجراها وتستخرج منها انجاهاتها وما قد تتضمنه من رسالات ، وتبدأ القصة فيها وتنتهي وهي تعتمد كل الحياة والأحياء وملابساتهم بكل تفاصيلها ، أما فى الواقعية الجديدة فالباعث على الكتابة أفكار وانفعالات معنية تتجه الى الواقع لتجعله وسيلة للتعبير عنها".
وايا كانت صحة التسمية التي يطلقها الكاتب الكبير عل أعماله في مراحله الأخيرة ، وأيا كانت صحة تحليله للواقعية التقليدية – فإنه قد أشار الى أهتم ظواهرهاعلى وجه التحقيق -لكنني ما زلت أرى في "واقعيته التقليدية" ظاهرة فنية أخطر من مجرد أن تكون "صورة للحياة" وأرى وراءها "أفكارا ومعاني " هي أعمدة الهيكل منها ، وخلف تفاصيلها المتنوعة أنماطا رئيسية وصورا أولية ، ونماذج أسطورية أو قالبية تحكمها جميعا قدرية صارمة محتومة ومرسومة سلفا .