ثمة ما يدفع الباحث إلى القلق والاستعداد إلى تغيير قناعته عند كتابة أو محاولة الكتابة في التاريخ, إذ أن هذا العلم وبالرغم من الاهتمام به منذ القدم مازال يُختلف حوله, سواء من زاوية كونه فنا أو علما, أو حتى في تناول مصطلحه ذاته, أهو تاريخ أم تأريخ ؟!, كذلك من ناحية الدلالة العلمية, والمقصود من مصطلح التاريخ ذاته.. ولعل من الأجدر أن نمر سريعا لإدراك ما عنيناه من قلق الباحث تبعا لقلق المصطلح ذاته, فالتاريخ من فعل (أرِخَ, وتقول أرخ إلى مكانه أروخا : حنَّ, وأرخ الكتاب وغير ذلك بكذا أَرْخا : بين وقته, وأرّخ الكتاب حدد تاريخه وأرخ الحادثة ونحوه : فصل تاريخه وحدد وقته, والتاريخ جملة الأحوال والأحداث)(1). وكذلك في معجم لسان العرب لابن منظور (إذ أن التاريخ : تعريف الوقت والتوْريخ مثله… وقيل إن التاريخ الذي يؤرخه الناس ليس بعربي محض وإن المسلمين أخذوه عن أهل الكتاب)(2).
أما ابن خلدون فهو يرى أن التاريخ (خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم, وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوجس والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الممالك والدول ومراتبها, وما ينتجه البشر من أعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلم والصنائع وسائر ما يحدث في ذلك العمران)3.
ونلاحظ أن رؤية ابن خلدون للتاريخ رؤية مغايرة لأبناء عصره, هذه الرؤية دعت المستشرق ليفي بروننسال ليقول عنه (إن صفات العبقرية عند صاحب المقدمة تتجلى كونه أحرز قصب السبق في مجالات المعارف الإنسانية, مما جعله في مسار مثير لنزعة معاصريه من المؤرخين, ذلك أن منهجه في التاريخ يعكس نظرة مطلقة أهلته لإدراك حقيقته الخفية, ومعناه البعيد في الوقت الذي ارتقى فيه بالفكر الخلدوني إلى مستوى عال في فلسفة التاريخ, عكف باقي المؤرخين أمثال الطبري والمسعودي وابن الأثير وغيرهم على دراسة التاريخ على أساس أنه سجل للحوادث والوقائع, فالتاريخ عند ابن خلدون موضوع له صلة بجوهر أعمال البشر ونشاطاتهم وأوضاعهم) 4.
وعلى هذا النحو تكمن إشكالية التاريخ في استعمال التاريخ ذاته على مسارين اثنين, فتارة يستعمل ويراد به المضمون ومحتوى المادة التاريخية من حيث أثرها وتطورها وعلاقة الإنسان بها, وتارة أخرى يستعمل على أنه إطار زمني ووعاء للفعل الإنساني وحسب, إذ تسيطر عليه جمود التواريخ وابتعاده عن بؤرته الأساسية أي الإنسان, وعليه يصبح سجلا لا كاشفا فالتاريخ (يراد به مضمون ومحتوى المادة التاريخية, وكذلك يستعمل ويراد به طريقة التعامل مع المادة)(5).
لذا فإن الآليات التي يمكن أن تقوم عليها كتابة التاريخ قد تختلف من مدرسة لأخرى, ومن كاتب لآخر, هذا ما يجعل الباحث قلقا وهو يتصدى للأخذ بطرف من تاريخ أمة, فما بالك إن كان هذا التاريخ قد تم تناوله برؤية أحادية, أو أن هذا التاريخ قليل المصادر, شحيح الأصول, ضاع أكثره أو ضُيِّعَ, وهذا ما قد يصدق في أكثره على تاريخ عمان, إذ أن تاريخها مازال في مجمله رهن الأصول ينتظر التحقيق, أو الطباعة, غير ما ضُيِّعَ بالفعل (إما لأنها فقدت خلال تاريخ طويل لم يخل من كثير من فصول الصراع والحروب, والتي كانت من نتائجها قصدا أو عفوا تدمير الكتب وإحراقها, وإما أن بعض هذه المخطوطات في حالة المحافظة عليها خضعت من شدة الاعتزاز بها للتمسك بها وعدم التفريط فيها)6 وهذا ما عناه أيضا الباحث الدكتور محمد المهري في مقدمة أطروحته للدكتوراه تطور الشعر العماني المعاصر, إذ يقول (من هنا يأتي بحثنا الذي لم يسبق تناوله من قبل, لسد ثغرة في الدراسات الإقليمية التي عنت بالشعر العربي بعد أن كانت عمان من الحلقات المفقودة في سلسلته)7.
إلا أن الغريب حقا والمثير للدهشة, أن ذلك التاريخ وإن لم يهتم به أو أهمل إلا أنه قد أشير إليه لا على وجوده فحسب إشارات عابرة, بل على اعتبار أن عمان من مصادر الفصاحة في الأدب واللغة.
هذه الإشكالية في فهم التاريخ, هي ما يمكن أن تفسر لنا بجانب عوامل أخرى خفوت الضوء عن التاريخ العماني, والإبهام الذي ظل يصاحبه بالرغم من الإشارات الكثيرة إلى عمان, والتي احتوت على ما يؤهلها وتاريخها بأن تكون محور اهتمام الباحثين منذ القدم.
ففي كتاب تاريخ الأدب العربي الجزء الثالث للرافعي (وقال الأصمعي : قال أبو عمرو بن العلاء أفصح الشعراء لسانا وأعذبهم أهل المسرات, وهن ثلاث : وهي الجبال المطلة على تهامة مما يلي اليمن, فأولها هذيل, وهي تلي السهل من تهامة, ثم بجبلة السراة الوسطى وقد شاركتهم ثقيف من ناحية منها, ثم الأزد أزد شنوءة, وهم بنو الحارث كعب بن الحارث بن نضر الأزد) 8.
وفي موضع آخر نجده يذكر ما يلي (ومن عجيب أمر الشعر في القبائل ما ذكره الجاحظ أن عبد قيس بعد محاربة إياد, تفرقوا فرقتين, ففرقة وقعت بعمان وشق عمان وفيهم خطباء العرب, وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين, وهم من أشعر قبيلة في العرب) 9.
إن ما ذكره الرافعي دال وبشكل واضح على مكانة عمان منذ القدم, وخاصة أن مصادره تنوعت وكانت مما يعتد بها سواء في الرواية أو المكانة العلمية في التقييم, مما يجعل الباحث في حيرة شديدة تدعوه إلى إفراد بحث خاص لبيان أسباب ومسببات هذه الإشكالية الهامة في تاريخ عمان والعرب, لذا فمن المهم لنا أن نستعرض ولو بشكل سريع أهم الكتب التي تناولت التاريخ في عمان وطرائق تناولها لها.
كتاب تحفة الأعيان بسيرة
أهل عمان الجزء الأول
ومن هذا الكتاب يمكن لنا أن نخرج بعدد من المفاهيم الهامة, فالكتاب يثبت أن تاريخ عمان مجهول, لدرجة أن هذا الأمر دعا المؤلف أن يذكر في مقدمته (تشوقت نفسي إلى الكتابة ما أمكنني من الوقوف عليه من آثار أئمة الهدى ليعرف سيرتهم الجاهل بهم وليقتدي بها الطالب لأثرهم مع قلة المادة في هذا الكتاب, إذ لم يكن التاريخ من شغلهم بإقامة العدل وتأثير العلوم الدينية… لذلك لا تجد لهم سيرة مجتمعة ولا تاريخا شاملا)10, وهو يتخذ منهجية تبدو أكثر علمية في توثيق التاريخ وإن كان موجزا بحسب ما طرحه المؤلف من إشكالية قلة المادة إلا أنه يشير نوعا ما إلى أخلاق أهل عمان تحقيقا لما يهدف إليه من مقدمته التي ذكر فيها هدفه من الكتاب, وكذلك يشير إلى بعض المهن والتي اشتهر بها أهل عمان مثل الزراعة, إذ يكشف من مقابلة أعرابي من عمان مع الحجاج ذلك حيث يذكر هذه المقابلة (فكيف علمك بالزراعة ؟ قال إني لأعلم منه علما)11, ثم يسترسل الكاتب في ذكر أهم أعلام عمان في العلوم المختلفة, سواء القضاء أو التأليف الديني أو اللغوي أو الأدبي, وهو يورد الأقوال التي تؤيد ما يذهب إليه فيصف أهل عمان بقوله (فمازالت دعوتهم بالحق ظاهرة وسيرتهم بالعدل شاهرة ودولتهم بالفضل زاهرة, منهم العلماء والنجباء والعقلاء والفضلاء والبلغاء والخطباء) 12.
ثم يورد ما يؤيد رأيه في أهل عمان على لسان الجاحظ فيقول (قال عمرو بن بحر وهو الجاحظ : لربما سمعت من لا علم له يقول من أين لأهل عمان البيان, قال فهل يعدون لبلدة واحدة من الخطباء والبلغاء مما يعدون لأهل عمان, منهم مصقلة بن الرقية أخطب الناس قائما وجالسا ومفردا ومنافسا ومجيبا ومبتدئا ثم ابنه من بعده كرب بن مصقلة, ولهما خطبتا العرب العجوز في الجاهلية والعذراء في الإسلام)13.
ويتابع المؤلف أسماء الخطباء الذين اشتهرت بهم عمان فيذكر (ومن خطباء عمان وعلمائها, صحار العبدي صاحب الخلفاء ومن خطبائهم صعصعة بن صوحان بن زيد وأخوه خطيبان ومن خطبائهم مرة بن البليد وهو من الأزد… ومنهم عرفجة بن هزيمة البارقي ومنهم بشر بن المغيرة بن أبي صفرة حتى قال فالذي ينكر أن لا يكون بعمان خطيب ليس يقول ذلك بعلم) 14.
ثم يعدد الكاتب أشهر علماء عمان سواء من عاش بها أو خرج منها وبرز في بلاد المهجر الشمالي (ومن أهل عمان كعب بن سور قاضي عمر بن الخطاب على البصرة… ومنهم أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي رحمه الله تعالى وكان غاية في العلم والورع… ومنهم الربيع بن حبيب رحمه الله وهو من فراهيد انتقل إلى البصرة ورجع إلى عمان آخر عمره وكان يضرب به المثل في العلم… ومنهم أبو حمزة الشاري المختار بن عوف… ومن أهل عمان الخليل ابن أحمد الفراهيدي) 15.
ويفرد فقرة كاملة لوصف الخليل ومكانته العلمية وما قدمه وأسهم به في العلوم العربية قائلا (وهو صاحب كتاب العين الذي هو لغة الكتب في اللغة وما سبقه إلى تأليفه أحد, وإليه يتحاكم أهل العلم والأدب فيما يختلفون فيه من اللغة فيرضون به ويسلمون له وهو صاحب النحو وإليه ينسب, وهو أول من بوبه وأوضحه ورتبه وشرحه, وهو شيخ سيبويه وكان قد أخذ النحو من أبي الأسود الدؤلي وأوضح هذا الفن وهو صاحب العروض والنقط والشكل, والناس تبع له, وله فضل السبق وإليه التقدمة فيه) 16.
ومن ثم يذكر أهل عمان ممن خرجوا منها واستقروا في بلاد المهجر الشمالي (ومنهم أبو بكر أحمد بن محمد أبي الحسن بن دريد الأزدي, وهو صاحب كتاب الجمهرة… ومن أهل عمان أبو العباس المبرد صاحب كتاب الكامل)17.
وأهم ما يمكن أن يسجل لهذا الكتاب, هو جملة الأشعار التي سجلها وأثبتها, سواء في الجاهلية لمالك أو لغيره, وفي العصور التالية له, مما يجعل الكتاب مصدرا هاما للأدب وتاريخه وإن لم يعن هذا أن يكون مصدرا كافيا له, كي يعكس التاريخ الأدبي الكامل لعمان أو التاريخ الشامل لطبيعة الحياة بحيث يعطي للباحث صورة كافية تمكنه من تتبع تطور ما, أو لعالم الاجتماع أن يدرك أسبابا لظاهرة ما.
إلا أن هذا لا ينفي أهمية كبرى لهذا الكتاب أن يكون مصدرا هاما لأهم الشخصيات التي توارثت نظام الإمامة على كثرتهم وتنوعهم أو المشاهير التي أثرت في الحياة الأدبية والعلمية العربية, بجانب أنه مصدر هام للحياة العقائدية لأهل عمان وأساليب مقاومتهم للظلم, واتصال ذلك بالعقيدة, إلا أننا نلمح شيئا هاما في الكتاب يضيف لأهميته وفي نفس الوقت يفسر قصوره في النواحي التي أشرنا لها سابقا, حيث أن الكتاب وكأنه يؤرخ لفكرة العدل والحق في عمان ومدى تأثيرها في الحياة السياسية ونظام الإمامة ذاته ودورهما كإطارين يؤسسان لشرعية النظام ذاته, فنراه مثلا في إمامة الوارث بن كعب يذكر (وقال أبو الحسن بايعوا وارث بن كعب على ما بويع عليه أئمة العدل وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشرى في سبيل الله وإظهار الحق وإخماد الباطل والجهاد في سبيله وتقاتل الفئة الباغية وكل فرقة امتنعت من الحق) 18, وفي موضع آخر عن نفس الإمام (وكان يرى الرؤيا في نومه على ظهور الحق على يديه) 19, ويجعله الدافع للخروج والمدافعة (وقيل أنه لما خرج الوارث لإظهار العدل… وقال أبو الحسن بايعه المسلمون على ما بويع عليه الوارث بن كعب فقام بالحق وعمل به ) 20, ويؤكد على هذه الفكرة في بيعة الأئمة الأخرى.
كتاب تاريخ أهل عُمان
تحقيق د. سعيد عبد الفتاح عاشور
وفي هذا الكتاب تبدو أهميته التاريخية في مقدمة شارحه ومحققه حيث يستعرض مكانة عمان قديما, ويشير إلى ذات الإشكالية الهامة التي أشرنا إليها سابقا, حيث يؤكد على أن عمان حظيت بإشارات عابرة في كتب المؤرخين قديما (لا تعدو تلك الإشارات السريعة والعابرة التي جاءت ضمن كتابات بعض المؤرخين كالطبري واليعقوبي والمسعودي وابن الأثير وابن خلدون وغيرهم)21, والمحقق يرجع ذلك إلى الاهتمام بقلب الدولة الإسلامية إذ يقول (دون أن تحظى أطراف الدولة في المشرق والمغرب جميعا إلا بنسب ضئيلة ومتفاوتة من عنايتهم)22, وهذا الذي ذهب إليه المحقق قد يكون صحيحا لعمان إلا أنه يعتبر منافيا للدقة العلمية بالنسبة للمغرب العربي والأندلس تحديدا مما يجعل هذا السبب قد يبدو غير كاف لتعليل هذه الإشكالية.
إلا أنه يعود ويرجح عددا من الأسباب مثل ضياع التراث العماني نتيجة لأحداث الزمان, وكذلك الحروب والفتن الداخلية والمحلية, ثم كون هذا التاريخ مازال مجهولا ومبعثرا في دور الكتب العالمية والعربية, وينبه المحقق على أن معظم المراجع التاريخية العمانية تعود إلى ما قبل القرن الحادي عشر هجريا السابع ميلاديا, وأن ما اعتمد عليه من السابقين لم يعثر على آثارهم, وهي في حد ذاتها إشكالية كبرى إذ تجعل من الرواية التاريخية متأرجحة بين التشكك فيها أو على أقل تقدير تؤخذ بحذر لدى أي باحث للتاريخ.
ويسجل الباحث في مقدمته أن هذا الكتاب يظهر فيه اعتزاز أهل عمان بجذورهم الحضارية القديمة (إذ يحرص المؤلف على الإشارة إلى سليمان بن داود عليه السلام أقام بعمان عشرة أيام وأنه حفر فيها عشرة آلاف نهر أو فلج)23, كما يشير أيضا إلى اعتزاز أهل عمان بعروبتهم (فالمؤلف يتخذ من مالك بن فهم الأزدي بطلا قوميا, أشبه بالأبطال الذين يعتز بهم كثير من الأمم والشعوب)24, لهذا يبرر المحقق تأكيد الروايات بالرغم من اهتمامها بشخوص الإمامة على إظهار صفات أهل عمان من فضائل عربية ومكارم أخلاقهم, ولم يعلل المحقق والشارح هذه الظواهر في الكتاب كإضافة يمكن لها أن تفسر عروج المؤلف لهذه الموضوعات وتسجيلها – غير مدح أئمة عمان – إلا أنها يمكن أن تفسر لنا مثلا ملاحظته عن اعتزاز أهل عمان بعروبتهم وانتمائهم والتأكيد على جملة هذه الخصال, ولعل ذلك ناتج عن اتهام عمان وأهلها بانتسابهم للخوارج, والذي أدى بدوره إلى خروج كثير من الكتابات حديثا نفيا وإثباتا لعكس تلك الاتهامات, وقد يبدو هذا منطقيا في ظل اعتراف المؤرخين بأهمية عمان وفصاحة أهلها وفضلهم على التاريخ العربي كمصدر لعلمائها الذين أضافوا لحضارة الإسلام والعرب الكثير مقابل التجاهل لهذا التاريخ, وفي المقابل لم يقم أهل عمان بالدور الذي تناساه المؤرخون العرب أو تحاشوه فسجلوا تاريخهم الحقيقي بل اقتصر ذلك على تسجيل ما عناهم من التاريخ وهو الجانب السياسي والعقائدي ما جعل جل الكتب أو معظمها يدور في فلك هذين الأمرين, مما يصعب على الباحث تناول التاريخ العماني بسهولة.
والكتاب يشير أيضا إلى أسلوب أهل عمان في دخولهم إلى الإسلام بسهولة ويسر, وهو في هذه المرحلة أيضا لا يأخذ الأمر من المنظور التاريخي والذي يعنى بالتحولات بل تشعر أنه جاء ليثبت أهلية أهل عمان لفكر إقامة العدل وصحة مسارهم, ما يثبت هذا أنه جعل هذا التاريخ هو المدخل للإفاضة في ذكر أئمة عمان, وسيرهم كرجال صالحين, حيث يصف حياتهم وصفاتهم ودورهم في الدفاع عن العروبة ضد العنصر غير العربي من الأحباش إلى الهنود وأخير البرتغاليين.
ويعيب المحقق على المؤلف في جملة من الأمور, منها تجاهله لبعض الأحداث التي تشوه الصورة النقية لأهل عمان, مثل حركة الردة وإن كانت محدودة الأثر (بحث أن حركة الردة بعد وفاة الرسول (ص) لم تجد الاستجابة إلا من فئة قليلة تزعمها ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي حتى أخضعهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه, فعادوا للإسلام, ولكن المؤلف اختار ألا يدخل في تفاصيل هذا الحادث العارض) 25, وكذلك يعيب المحقق على المؤلف إطلاق العنان لقلمه ليعبر عن أحاسيسه إزاء ما يحس به من ألم للفتن والمنازعات, وهذا الأمر يجعل من مادة التاريخ تخرج عن مسارها العلمي المأمول, بل ويمكن أن يشكك في الرواية ذاتها ويجعل الباحث حذرا في طريقة اعتمادها والأخذ بها.
وكذلك يأخذ المحقق على المؤلف الإيجاز عند الحديث عن عصور الانحلال والتفكك, مقابل إطنابه في عصور الازدهار, فبقدر ما يطنب في حلقات الازدهار, وعهود المبرزين من الأئمة وحكام عمان بقدر ما يوجز أحيانا في عصور الانحلال والتفكك, ما يؤكد على ما ذهبنا إليه في أن مادة التاريخ كانت موظفة لأجل غاية إثبات أحقية الأئمة في اتصافهم بالعدالة والبحث عن الحق وانشغالهم بهما كدفاع عن مذهب أمام اتهامات تروج في أوساط الحواضر المعروفة حينئذ وبين علمائها لا لتسجيل تاريخ أو البحث فيه لجعله كاشفا لحقيقة عمان والإنسان العماني كهدف أسمى للدراسات التاريخية, والذي يعني بطبيعة الحال قصور المادة وعدم استيفائها لمتطلبات الباحثين في التاريخ العماني.
هذا بجانب عدم عناية المؤلف بتقسيم الكتاب إلى وحدات موضوعية أو تقسيمات منهجية (وكأن الكتاب من أوله لآخره فقرة واحدة طويلة متداخلة العبارات)26, إلا إن المحقق يلتمس العذر للمؤلف إذ (ليس من الإنصاف في دراستنا للتاريخ وإحيائنا للتراث, أن ننظر إلى الماضي بعين الحاضر, أو نطلب من السابقين أن يعالجوا أحداث الماضي بنفس المنهج والأسلوب اللذين ننشدهما في واقعنا الحاضر)27, وإن كان هذا لا يعني أن ذلك الرأي يمكن أن يفسر لنا مواقف ما والإصرار عليها في كتابة التاريخ العماني أو هي في واقع الأمر ليست اتهامات, وإنما هي بيان لإشكالات تاريخية تكشف المصاعب الجمة في إعادة كتابة التاريخ العماني, وعليه وجوب البحث عن البدائل بجانب ما هو موجود بالفعل من مصادر هامة, إذ أنها تعبر عن فكر نحترمه ونجله, بل ويساعدنا أكثرعلى الاقتراب من الشخصية العمانية ذاتها وكشف جوانبها كهدف سام لعلم التاريخ, لذا فإن الكتاب هو جملة من الأخبار المتصلة بشخوص, ونسبهم وأفعالهم الجليلة, دون الإشارة إلى التاريخ الحقيقي بمنطق وفهم واللذين عناهما ابن خلدون فيما أسلفنا فيه من تعريف للتاريخ.
إلا أننا لا يمكن أن نغفل عن أهمية كبيرة للكتاب, وتكمن هذه الأهمية في أولا ما ذكره من وقائع, والتي هي محل اهتمامه الدائم, وكذلك أهمية ذكر الأنساب والقبائل, وربط عمان بالدولة الإسلامية وبيان علاقتها بها, حتى ولو كان هذا الربط من قبيل ربط أسماء بأسماء وإشارات طفيفة إلى حسن أو سوء هذه العلاقات, وهي وإن كانت إشارات طفيفة إلا أنها يمكن أن تكون منطلقا لبحث أوسع من الرؤية الأخرى أي برؤية ابن خلدون للتاريخ بحيث تكوّن مع الإشارات الأخرى لمؤرخي القلب الإسلامي صورة قد تعطي رؤية أوضح لجانب مهم من التاريخ العماني.
هذا غير الكتب التي يمكن أن تعطي بعض المعارف التاريخية المتصلة بالإنسان العماني مثل رحلات ابن بطوطة والتي إن ذكرت بعضا من طرائق المعايش وأنواع المهن والزروع والتجارة والعلاقات الاجتماعية, ومع أهمية هذا الجانب وخاصة مع وجود هذا النقص في تلك الجوانب من كتب التاريخ إلا أنه مع ذلك تبقى هذه الروايات محل نظر وشك لعدد من الاعتبارات, منها أنها روايات لم تقم على التوثيق وخاصة في تصوير العلاقات الاجتماعية أو علاقة الحاكم بالمحكوم, إذ أنها قائمة على الملاحظة الشخصية, والتي قد تقوم على الهوى من حيث البغض أو الحب, ومنها أنها مجملة وسردية أقرب للحكاية منها للتاريخ, وهذا الأمر تحديدا يجعل الباحث حذرا للغاية في اعتمادها كمصدر أساسي لتاريخ أمة, وفي نفس الوقت يجعل الأدب أحد أهم المصادر التاريخية في هذه الحالة, وبالتالي فروع الأدب هي الأخرى تدخل كعامل كاشف للتاريخ الخفي إن صح التعبير والمعبر عن التاريخ الحقيقي لعمان, وعليه كان علينا أن نتحول لتاريخ فكر نبع من هذه الأمة ورجالاتها وعاد إليها, وبه وبهم اشتهر وتداول في التاريخ العربي ونقصد به أدب المقامات حيث سنعتبره كنموذج لكشف التاريخ الآخر لعمان, ونحاول من خلال الممارسات النقدية الحديثة, أن نستنطقه ليكشف عن الجوانب الأخرى للشخصية العمانية, لعل هذه المحاولة تفتح بابا واسعا لدراسات متعددة قادمة نرجو أن يقوم بها الباحثون في مجالات الأدب والنقد واعتبارهما وثيقة تاريخية بلغة الأدب.
المقامات أنموذجا لتاريخ الفكر في عُمان:
يقودنا اعتبار النص مكوّنا من عنصرين متلازمين, هما المعنى والمبنى أو الشكل والمضمون أو بمعنى آخر قضية اللفظ والمعنى, والتي اعتبرت عمدة القضايا النقدية منذ تأسيسه على يد العلامة قدامة مرورا بالجاحظ وانتهاء بطه حسين, والاختلاف حول أهمية كلٍّ منهما في تميز النص, يقودنا ذلك إلى التفكير في زاوية الفكر أو فكرة العمل الأدبي, من حيث تشكلها وتطورها حتى وصلت إلى زمن أو عصر ما.
هذه الرؤية في تاريخ العمل الأدبي أو فكرته, هي لب ما يسمى بتاريخ الأفكار الذي نوه عنه لفنجوي, وأشار أليه كلٌّ من رينيه ويليلك وأوستن دارين في كتابهما نظرية الأدب الذي ترجمه محيي الدين صبحي, فرؤية الأدب تتأرجح بين رؤيتين(نظام غير خاضع لاعتبارات الزمن وبين النظرة التي تراه في الأصل على أنه أجزاء متممة للعملية التاريخية)28, واستنادا إلى رؤية الأدب على أنه جزء من التاريخ والمكون لرسم ملامح الإنسان وتطوره, فإن الأدب على ذلك يكون مع التاريخ والنقد علاقة لا يمكن الفكاك منها, ولا يمكن فهم طرف دون فهم الآخر, إذ يكونون معا رؤية متكاملة للأدب كنظرية متماسكة لذلك النشاط الإنساني, إذ لا يمكن فصل التاريخ أو النقد أو نظرية الأدب ككل بمعزل عن الآخر حيث (لا يمكن أن تستعمل عزلة عن غيرها, وأن كلا منها يستوعب الآخر استيعابا شاملا, بحيث لا يمكن فهم نظرية الأدب بمعزل عن النقد والتاريخ, أو فهم النقد دون نظرية الأدب والتاريخ، أو التاريخ دونهما) 29.
ولذلك فحين نتناول عملا ما, يجب أن نرجع العمل الفني أو الأدبي إلى قيم عصره, والمراحل التالية له, إذ (أن العمل الفني هو في وقت واحد أبدي أي يحتفظ بهوية معينة وتاريخي أي يمر من خلال عملية التطوير بحيث يمكن اقتفاء أثرها)30, فتاريخ الأدب شديد الأهمية للنقد الأدبي طالما يخرج هذا النقد من إطار عمليتي الميل والنفور الذاتيتين (فالناقد الذي يقنع بجهله في حقل العلاقات التاريخية, سرعان ما يضل في أحكامه الأدبية)31, لذا فالعادة أن ينظر إلى الأدب على أنه شكل من أشكال الفلسفة, أو على أنه أفكار يلفها شكل ما, لهذا فمن المؤكد أن بالإمكان معالجة الأدب كوثيقة في تاريخ الفلسفة والأفكار (لأن تاريخ الأدب يوازي ويعكس تاريخ الفكر)32, وعليه تتحول عملية التتبع لتطور العمل ذاته إلى شكل من أشكال التاريخ الكاشف لا المسجل, ويعطي بعدا نوه عنه ابن خلدون في تعريفه للتاريخ تفتقده الكتابات لتاريخ عمان القديم, ويصبح معها تاريخ الفكر وجها للتاريخ العام لأمة ما, حيث (ان تاريخ الأفكار بكل بساطة, هو منحى نوعي في التاريخ العام للفكر, يستعمل الأدب كوثيقة وأداة إيضاح)33, هذا ما يمكن أن يقودنا أيضا إلى ما يسمى بتاريخ روح العصر, كبديل لتاريخ الأفكار, أو كمعاضد له على حد سواء, إذ أن هذا المصطلح يفترض به أن يعبر عن خصوصية الفترة التي نشأ فيها العمل الفني ومراحله المختلفة, فهي أي روح الزمن تهدف إلى (إعادة تركيب روح الزمان من مختلف تموضوعات العصر, من ديانته إلى أزيائه, إننا نتطلع إلى الشمول الكامن وراء الموضوعات, ونشرح كل الوقائع بروح الزمن هذه) 44, لذلك فإن هذا المصطلح ومفهومه, وكذلك تاريخ الأفكار يرجعانا إلى ضرورة التلاحم الشديد بين كل فعاليات الإنسان الثقافية وغير الثقافية, وكذلك التوازن التام بين الفنون والعلوم.
مدخل إلى فهم المقامة :
وحسب ما أوردته الدكتورة / آسية البوعلي في دراستها لفن المقامة (المقامة – بفتح الميم – لفظ تعددت الآراء في تعريفه، على نحو اكسب هذا اللفظ مدلولات كثيرة تطورت عن الزمن.
ففي اللغة المقامة من «المقام: موضع القدمين»(1)، والمقام، والمقامة – بضم الميم- تعنيان، الإقامة أو»الموضع الذي تقيم فيه»(2) ومن ثم وردت لفظة «المقامة» بمعنى الموضع أي موضع الجنة في الآية الكريمة «وحسنت مستقرا ومقاما»(3) «أي حسنت منظرا وطابت منزلا»(4). وتعني لفظة «المقامة بالفتح « المجلس والجماعة من الناس» (5) كما تعني الموضوع « المقامة المقام» «المنبر أو المنزلة الحسنة «(6)، ولعل هذا الارتباط بين لفظة (المقام)، ورمز من رموز العقيدة هو ما جعل لفظة (المقامة) ترتبط بعد ذلك بمعنى الموعظة أو بعبارة أدق بالمجلس الذي تلقى فيه المواعظ (7) لتتضمن بعد ذلك معنى «الخطاب المواعظ»(8).)34.
على حين لم تتعرض الباحثة إلى ماهية فن المقامة إذ أشارت فقط إلى إشكالية الانتماء أهي قصة أم حكاية شعبية ؟ حيث تقرر (إن الشعور بغرابة المقامة يرجع أيضا إلى أننا نجد لكثير من الأنماط الأدبية معادلا لها في الثقافات الأخرى، بينما نفس الأمر لا يتحقق بالنسبة للمقامة.)35,والواقع أن الباحثة قد اهتمت بتاريخ النشأة والتطور دون إيراد ما يؤيد وجهة نظرها من خلال النصوص ذاتها ما يمكن اعتبارها أي المقامة نصا تاريخيا في المقام الأول, وعليه فإننا يجب أن نعود إلى محاولات تعريف المقامة كجنس أدبي يعكس تطور الفكر للعقلية العربية العمانية والتي بدورها تؤشر إلى وجه من وجوه الفكر السائد في العصور المتتالية لعمان, لهذا أشار الدكتور علي المانعي في كتابه القصة القصيرة في الخليج العربي (أما القصة القصيرة فلم تكن موجودة بالمعنى الفني, إنما وجدت المقامة التي اشتهر بها العمانيون أمثال البرواني والخليلي) 36, وفي موضع آخر يرى الدكتور أن بنية المقامة تقوم على السرد وهو (الحدث أو الإخبار لواحد أو أكثر من واقعة حقيقية أو خيالية) 37.
وكذلك هو (العملية التي يقوم بها السارد أو الحاكي والراوي ينتج عنه النص القصصي المشتمل على اللفظ أي الخطاب القصصي والحكاية أي الملفوظ القصصي… وهو نقل الحادثة من صورتها الواقعية إلى صورتها اللغوية) 38, ولعل سمة السرد كما أورده الدكتور يؤيد انتماء المقامة إلى القصة وإن لم تبلغ الصورة الفنية المكتملة إلا أنها احتوت على أهم الأسس الفنية للقصة القصيرة وهي توازي في نفس الوقت ما يمكن أن نسميه القصص الوعظية لكن بلغة أدبية عالية حيث يجعلها الأديب مرآة لثقافته وقوة بيانه, وهذا ما يمكن أن يفسر لنا استخدام غريب اللغة فيها والاتكاء على أنواع البيان وخاصة البديع منه بل وجعل محور الحكايات براعة البطل في اللغة.
وبالتالي لا يمكن أن نخرجها من فن القصة القصيرة (حيث أنها تدور حول بطل واحد لحادثة واحدة في مكان واحد في إطار لحظة ما لا تتعداها في كثير من الأحايين) لمجرد أنها لم تكن في الصورة المكتملة للقصة القصيرة ولا يمكن لأي فن أن ينشأ مكتمل الأركان جملة واحدة, إذ أن المقامة قد توافر لها أهم العناصر الفنية حيث الفضاء الزماني والمكاني والذي لعب في كثير من المقامات دورا هاما في مسار الحدث أو الكدية, نراه منذ ابن دريد في حديث الحجاج وفراشة وفي مقامات الهمذاني (القريضية والبغدادية) وهكذا عند الحريري (الإسكندرية والعمانية) وعندالبرواني (المكية والعمانية) ولعل هذا ما يفسر لنا اهتمام كتاب المقامات بالمكان وخاصة في البداية حيث يأخذ الفضاء المكاني حيزا هاما في لعب دور الانطلاق للحكاية (إذ أن وجوده يعطي للقارئ إيهاما ما بالواقع الحقيقي لذلك تتجسد الأفكار والمشاعر في الصورة الملموسة) 39, وينسحب على الفضاء الزماني في المقامة ما تقرر للمكان وإن كان في صورة أقل مع بقاء أهم ميزة للفضاء الزماني في المقامة حيث تلازم عنصري الزمن الحاضر مع الماضي وذلك في تزاوج زمن المتن الحكائي وزمن المبنى الحكائي بواسطة الاسترجاعات من خلال الفعل (قال) المنتشر في بدايات المقامات جميعها تقريبا وكذلك مع وحدة الراوي والذي يقوم بمهمة الاسترجاع لبروز البطل وقيامه بأدواره المنتظرة, وعليه فإن المقامة يتوفر فيها عنصرا الزمن المتحدان داخل المقامة (زمن الحكي وزمن الحكاية) فزمن الحكاية يقاس بالدقائق والثواني والساعات والأيام أما زمن الحكي فبحكم كونه كتابة سردية يُقاس طوله ببنية الحكي نفسه كالكلمات والأسطر والفقرات ويتناسب تناسبا عكسيا مع الحدث ذاته (إذ ان تسريع السرد بواسطة الخلاصة أو الحذف يترتب عليه زيادة مدة القصة أو زمن الحكاية) 40, وبطء الحكاية (حيث يحتفي السارد ببعض المشاهد التي يسترسل في الحديث عنها مما يؤدي إلى تعطيل الحكي وتعلقه إلى حين انتهائها) 41.
وهذا ما هو حاصل في المقامات جميعها دون استثناء منذ ابن دريد الى الخليلي, ما يعني تواجد الفضاء المكاني والفضاء الزماني بقوة وإن توارى أحدهما في مقامات وبرز الآخر في مقامات, والذي يعني التأكيد على انتماء المقامات للقصة القصيرة وإن لم يكتمل كامل الشكل القصصي الحكائي فيها نظرا لكونها النشأة الأولى لها, ولعلنا هنا ننوه بأن القصة لم تكن محببة أو قل إنها تدخل في محظور اللغو الذي حاول الكثير من كتابها أن يتبرأ منه, نجد هذا في مقامات الحريري حيث يقول (ونستوهب منك توفيقا قائدا إلى الرشد وقلبا متقلبا مع الحق ولسانا متحليا بالصدق ونطقا مؤيدا بالحجة وإصابة ذائدة عن الزيغ وعزيمة قاهرة هوى النفس وبصيرة ندرك بها عرفان القدر… وتعصمنا من الغواية في الرواية وتصرفنا عن السفاهة في الفكاهة حتى نأمن حصائد الألسنة ونكفي غوائل الزخرفة فلا نرد مورد مأثمة ولا نقف موقف مندمة)42.
إذن نحن أمام فن للقصة القصيرة نشأ ولم يكتمل لتداخل الرؤى التشريعية والعقائدية مع الخوف وتفضيل السلامة فلم يبق منها غير التحول التام للوعظ مع الخليلي حيث سيظهر ذلك عند تحليل بنية المقامة.
نظرية بروب البنيوية مدخل
لفهم التطور في المقامة:
ما من شك في أن الرؤية القديمة للأدب كانت تعتمد على اعتبار النص ذا شقين يشكلان معا هوية النص, ونقصد من الشقين الشكل والمضمون, وعلى حين لقي المضمون جل اهتمام النقاد والباحثين وأصبح القاعدة الأساسية للانطلاق لفهم بنية الشكل على اعتباره الحاوي للمضمون, حتى جاءت المدرسة الشكلية الروسية لتنوه عن أهمية الشكل أو بمعنى أدق (للتمييز بين عمليات التركيب والمواد التي يتم تركيبها)43, وفي هذا الصدد جاءت أهمية ما اضافته الشكلية الروسية من خلال نظرية فلاديمير بروب ونظرية صرف الرواية, وكلمة الصرف أو المورفولوجيا التي يستعيرها الشكلانيون من الدراسات اللغوية, تعني الشكل, إذ يقول الدكتور صلاح فضل (إنه إذا كان لم يخطر ببال أحد إمكانية تطبيق مصطلح الصرف على الأدب, فإن مجال الروايات الشعبية الفلوكلورية يعتبر من أخصب المجالات لدراسة الأشكال, ووضع القوانين التي تحكم بنيتها بدقة, ترتقي إلى مستوى صرف التكوينات العضوية)44.
وعليه فإن هذا النوع من الدراسات التركيبية ضروري قبل محاولة أي لون من البحث التاريخي عن أصل الجنس الأدبي وتطوره, إذ انه يجيب أولا عن السؤال البديهي, ما هي الحكاية الشعبية ؟.
وتعتمد نظرية بروب في صرف الرواية الشعبية أو مورفولوجيا الرواية على أن هناك قيما ثابتة وأخرى متغيرة (أما المتغير فهو الأسماء والأوصاف التي تتسم بها الشخصية, وما لا يتغير هو أعمالها, أو بعبارة أدق وظائفها)45.
وبناء على هذا المبدأ, فإن علينا الاهتمام بما تفعله الشخصية لا بطبيعتها, وكيفية أدائها, أو غير ذلك من العناصر الثانوية, إلا في حدود التطور فقط (فالوظائف للشخصيات هي التي تمثل الأجزاء المكونة للحكاية, وهي وحدها التي تصلح أساسا للتصنيف)46, ونضيف على ما تقدم أنها أيضا تصلح لكشف مراحل التطور وانعكاس ذلك على رؤية تاريخية للفكر في أدب ما متصل بأمة ما,
وعليه فإننا نلاحظ أنه برغم التنوع الكبير في شخوص المقامات في مراحل تطورها منذ ابن دريد إلى الخليلي وارتفاع عددها وتغير مشاربها, وتباين أشكالها, إلا أننا من ناحية أخرى نجد ذلك التشابه الواضح والكبير أيضا في بنية وظائفها وتعاملها مع الحدث مما يؤدي إلى الرتابة من جهة, ويؤكد أيضا على وحدة منشئها وانتهائها كجنس أدبي عماني المنشأ والمنتهى.
والوظيفة (هي الحدث الذي تقوم به شخصية ما من حيث دلالته في التطور العام للحكاية)47,ولهذا يمكن أن نعتمد على نظرية بروب لمحاولة فهم التوحد والتناص بين المقامات باختلاف كتابها نلحظ في ذات الوقت التطور الحاصل في رحلتها التاريخية حتى وصولها إلى الخليلي وبهذا يمكن (تحديد العلاقات فيما بينها, وحل مشاكل التباعد والتشابه بين هذه النصوص بطريقة دقيقة)48.
أما عن إشكالية انتماء الشخوص داخل الرواية أو المقامة فإن هناك رؤى تحاول تفسير مشكلة الشخصية في القصة أو خالق القصة, وأولهما وأقربها للمألوف, أن خالق القصة هو مبدعها, ويقع هذا الاتجاه في خطأ الخلط بين شخصية المؤلف وفنه والذي لا يعتبر في هذه الحالة سوى تعبير عن الأنا, أو عن الذات الخارجية, إلا أن التصور الآخر لتفسير هذه الإشكالية يرى أن (منشئ القصة هو نوع من الوعي الكلي الجماعي… وهو لذلك يحيط بالشخصيات علما من الداخل أو الخارج معا)49.
نشأة المقامة وتطورها :
وإذا كنا قد نتفق في اعتبار المقامة قصة قصيرة لم يكتمل نموها الفني وانتهت بفعل الفهم الخاطئ للإبداع الحكائي أو السردي كما أسلفنا سابقا, فإن المقامة ذاتها عرفت من خلال الأندية الأدبية, وعليه يمكن لنا اعتبارها فنا شعبيا بلغة فصيحة أدبية حيث يقول الحريري في مقدمة مقاماته (وبعد فإنه قد جرى ببعض أندية الأدب الذي ركدت في هذا العصر ريحه وخبت مصابيحه ذكر المقامات)( 50), وهي فن قصصي وسيط كما عبر عن ذلك الدكتور أحمد درويش بين القصص المطولة والقصيرة, ويمثل الثانية فنون الحكم والأمثال والتوقيعات, والأول القصص الشعبية والملاحم العربية مثل عنترة وأبي زيد الهلالي وألف ليلة وليلة (فالمقامة إذن كانت القالب الوسط بين كثافة المثل وترهل الحكاية)(51)، وتنسب نشأة المقامة إلى ابن دريد العماني كما قرر بديع الزمان الهمذاني (ولما رأى أبا بكر محمد ابن الحسين بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديث, وذكر أنه استنبطها من ينابيع صوره واستنتجها من معادن فكره, وأبداها للإبصار والبصائر, وأهداها للأفكار والضمائر… عارضها بأربعمائة مقامة في الكدية تذوب ظرفا وتقطر حسنا) 52.
ويبدو تأثر المقامة من شخوص ذات ملامح غير مستقرة والمركبة من بعدين ظاهر وآخر باطن سواء على مستوى الراوي أو البطل وكلاهما محبان للسفر والترحال لا لمبرر التلاقي والانطلاق في الحكي بل يمكن اعتبار ذلك ممثلا للضمير الجمعي في الشخصية العمانية والمنطبعة في الأنا لمنشئها ابن دريد والتي اختلف في نشأتها وميلادها وإن اتفق في تواجدها بين البصرة وعمان حاله حال الكثير من الأدباء العمانيين أو حتى طبيعة الإمبراطورية العمانية التي تكونت من طبيعتين مختلفتين جغرافيا (مسقط / زنجبار) والتي كان من أثرها تنوع الرافد للفكر العماني وبالتالي الأدب المنتج عنه, وكذلك طبيعة الحياة ووقوعها بين الطبيعة الصحراوية القاحلة والمتشددة المحافظة وبين المنفتحة المتحررة, ولعل هذا ما يفسر التغير الكبير بين بدايتها في التناول وبين نهايتها, وهذا ما يفسر أيضا طبيعة الشخصية الحكّائية في السرد داخل المقامة الواحدة بالرغم من تنوع الكتاب للمقامة واختلاف مشاربهم وبيئاتهم.
ومن خلال جداول التحليل للمقامات المختارة من ابن دريد إلى الخليلي يمكن أن نخرج بعدد من الملاحظات تعكس التطور من جهة ومن جهة أخرى تكشف عن أوجه الاتفاق والتشابه بالرغم من التنوع سواء في أساليب الطرح أو المنشأ.
فحقيقة هذه الملاحق أنها تخطيط قرائي للمقامات أولي يعتمد كما أسلفنا على الوظائف للشخوص لا الشخوص ذاتهم وهي بذلك يمكن أن تعطي لنا بجانب فائدتها النقدية فائدة تاريخية حيث أنها في واقع الأمر تكشف عن علاقات عامة في أوجه التشابه والاختلاف تكوّن مجرى للتاريخ الفكري لهذه النصوص (وللمخطط فائدة أخرى هي أنه يكشف علاقة عامة بين مجرى التاريخ والتغيرات في التخييل فالتقدم من الأسطورة إلى السخرية يماثل التطور من أوروبا القرون الوسطى إلى القرن العشرين)53 و هي بذلك تعبر عن جانب غير الجانب الشعري يحتاج إلى التعمق بأسلوب موضوعي لم يلق المعالجات المناسبة على أهميته للأدب وللتاريخ معا.
المقامة بين التشابه والاختلاف من منظور تاريخي :
هناك أوجه للتشابه في المقامات لا يمكن إنكارها أو تعليلها بغير مسماها الحقيقي وهو التناص الحاصل والذي لم يستطع أحد من كتاب المقامة أن يفلت منه ومن أول هذه الأوجه الإسناد.
فجل المقامات قامت على أساس الإسناد في البداية وبعيدا عن تأثر هذا الإسناد بالحديث الشريف فإنه يبقى الكاشف عن الراوي للمقامة وبه يبدأ السرد فمنذ ابن دريد يعتمد الإسناد على أفعال بعينها لا يتخطاها (حدثنا / قال) والتغير يكون في الفعل حدث إلى (أخبرنا / حكي / روى) يبدو هذا واضحا من خلال الملاحق (1 2 3 4), على أن ابن دريد اعتمد على فعل حدث (ولعل هذا ما جعل المقامات عنده تسمى بالأحاديث) ويأتي فعل (أخبر) قليلا وعلى حين يأتي أقل بالفعل قال مباشرة, على حين يتبع الفعل حدث الفعل قال, وكذلك نجد أن ابن دريد يطيل من الإسناد وهذا مؤشر على التأثر الكبير بالحديث الشريف وعلومه, فنجده في حكاية أبي حية النميري يقول (حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين بن دريد, قال : حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي, عن أبي حيان العلكي قال : أقبلت..) 54 وكذلك نجد هذا الاهتمام بالإسناد في جميع المقامات المنسوبة له ففي الحجاج وفراشة يقول (حدثنا ابن دريد قال : حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة, وذكره أبو حاتم عن العتبي أيضا قال) هذه اللغة المستخدمة هي ذاتها لغة الإسناد في الحديث الشريف وبالطبع هذا الأمر مقبول نظرا لكون المقامات في طور التشكل والبحث عن ذاتها في شكل مستقل عمّا بدأت به, على حين خف هذا التأثير في كتاب المقامة التالين له حيث يكتفي بفعلي (حدث وقال ) ويبدو تأثر الهمذاني (من خلال الملحق 2) بابن دريد, حيث يعتمد على الفعل حدث باستثناء مقامة وحيدة (الأذربيجانية) والتي اعتمد فيها على الفعل قال فقط, ففي المقامة القريضية (حدثنا عيسى بن هشام قال) 55 وكذلك في مقامة الأزدية (حدثنا عيسى بن هشام قال) 56, وهذا ما يؤكد على التأثر بابن دريد, أما الحريري (ملحق 3) فنجده ينوع في فعل الإسناد من حدث إلى حكى وروى وقال, مع الأخذ بعين الاعتبار أنه اعتمد على الفعل حكى, ما يمكن أن يجعلنا نفسر هذا الاهتمام بالفعل حكى على اعتبار النصوص عنده تتحول إلى السرد المقنن أو الحكي, وهذا أيضا يجعلنا نفسر الانضباط الكبير في بنية المقامة عنده, وإن كان من المهم أن نورد أنه استخدم أيضا أفعالا أخرى مثل حدث وروي وقال, ففي المقامة الصنعانية يقول (حدث الحارث بن همام قال)57, وفي المقامة القطيعية (حكي الحارث بن همام قال)58 وكذلك في المقامة الدينارية (روى الحارث بن همام قال)59 ولم يستخدم فعل قال مباشرة إلا في المقامة الإسكندرية (قال الحارث بن همام)60, أما البرواني فقد مال إلى استخدام الفعل حكى ولم يستخدم حدث إلا في المقامتين الأولى والثالثة وهذا مؤشر على استقرار مفهوم السرد والحكاية عند كتّاب المقامة ففي المقامة السنجارية (حدث هلال بن إياس قال)61 وفي المقامة العمانية ( حدث هلال بن إياس قال)62 أما في المقامة النادية (حكي هلال بن إياس قال)63, وعند الخليلي نجد الفعل حدث والفعل أخبر هما المهيمنان على المقامات, الأمر الذي يرجح أن المقامة عند الخليلي تحولت مرة أخرى إلى هدف آخر غير السرد والحكي إلى لغة الخطابة الوعظ والإرشاد لتقوم الوظيفة التربوية بالعبء الأكبر للمقامة وينتهي معها الإمتاع والفكاهة, ففي المقامة السمدية (حدثني أبو الصلت الشاري بن قحطان, وكان ذرب اللسان جريء الجنان ومفوه النبرات ساحر الكلمات إن قال بزّ وإن صال حزّ وإن غضب هزّ قال)64, وبذلك فإننا يمكن أن نخرج بعدد من الملاحظات كالتالي :
ـ الفعل حدث ظل مستخدما من ابن دريد إلى الخليلي مع التفاوت في هذا الاستخدام حسب مفهوم المقامة وهدفها, وهو بالتالي يعكس العقلية المنتجة له والمحافظة على جعل المقامة حينما يستخدم بكثرة عند ابن دريد والخليلي لها مهمة واحدة لا تخرج عنها وهي المهمة التربوية وإن كانت ظاهرة واضحة عند الخليلي بفعل هيمنة البيئة المنتجة والمحافظة والدالة على عصر التحول من التقوقع إلى الانفتاح ما يجعلها أشد تماسكا للهدف, وهي بذلك تعبر عن نوعية الحياة الفكرية في هذا العصر الرافض للخروج عن الشريعة أمام الإبداع كما يفهمه هو ومن منظور عصره, على حين يقل الاستخدام أمام الفعل حكى الدال على الفهم الواسع للمقامة كفن قصصي حكّائي لا يناسبه حدث بل حكي.
ـ في جميع الأحوال فإن مهمة الإسناد منذ ابن دريد لا يخرج عن كونه حيزا فضائيا للتعريف بالراوي دون الخوض في تفاصيل الشخصية (ما عدا ما حاوله الخليلي من تجديد في المقامة السمدية).
ـ أن الإسناد بدأ متأثرا بالحديث الشريف عند ابن دريد وينتهى هذا التأثير بداية من الهمذاني إلى الخليلي ليكتفي بمهمة التعريف بالراوي.
على حين يأتي الوصف كبنية هامة في المقامة حيث التشابه القوي في ثيمته أو أسلوبه أو مهامه, حيث عادة ما يكون الوصف للمكان والصحبة والمبررات للسفر وبالتالي للتلاقي وبداية الحدث أو الحكاية ففي قبر النديم لابن دريد يقول (انصرفت من جنازة من مسجد الرضا في وقت الهاجرة, فلما دخلت سكة البصرة, اشتد عليَّ الحر فتوخيت سكة ظليلة, فاضطجعت على باب دار)62 وهو تمهيد للحكاية كما في نسر بني مراد (كانت مراد تعبد نسرا يأتيها كل عام فيضربون له ظباء… ثم يأتيهم كل عام قابل فيصنعون به مثل ذلك)63, وكذلك عند الهمذاني تقوم مهمة الوصف في التمهيد للحكاية ففي المقامة القريضية (طرحتني النوى مطارحها حتى إذا وطئت أرض جرجان الأقصى فاستظهرت على الأيام بضياع أجلت فيها يد العمارة وأموال وقفتها على التجارة وحانوت جعلته مثابة ورفقة واتخذتها صحابة وجعلت للدار حاشيتي النهار وللحانوت ما بينهما)64, ويطول عند الحريري الوصف ليأخذ حيزا أكبر يناسب السرد وفهم فعل حكى ففي المقامة الدمشقية (شخصت من العراق إلى الغوطة…. ولما بلغتها بعد شق النفس وإنضاء العنس ألفيتها كما تصفها الألسن… إلى أن شرع سفر في الإعراق وقد استفقت من الإغراق فعاودني عيد من تذكار الوطن والحنين إلى العطن فقوضت خيام الغيبة وأسرجت جواد الأوبة ولمّا تأهبت الرفاق واستتب الإنفاق ألحنا من المسير)64, وفي مقامات البرواني تتأكد وظائف الوصف وتتضح معالمه حيث التصوير لعناصر المكان والزمان والاهتمام بالعنصر البشري في السفر, نجد هذا في السنجارية والمكية (شخصت من الشام إلى البلد الحرام في فتية تزهر الربى أو كزهر نجوم الدجى… وانتظمت بهم انتظام الثريا أو حبب الحميا فطفقنا نطوي السباريت ونقطع الأماريت شنشنة الصيد المصاليت والجحاجحة الخراتيت حتى انتهينا إلى الخليصاء وأشرفنا على البطحاء)65, على حين يأخذ الوصف ذات المهمة مع الاهتمام بالراحلة كإضافة وسقوط الصحبة ففي المقامة النزوية (خرجت من سمائل صحوة النهار, أقطع الطرق وأجوب القفار, وكانت ركوبتي أنيقة المظهر متينة المخبر, تسبق الطير ولا تكل من السير… حتى جاوزت الحوراء من رضوى وأشرفت على العلياء من نزوى, ومن هناك أخذت بمقود راحلتي نحو الجامع لأشهد حلقات الذكر بين المجامع)66.
هذا العرض لوظيفة الوصف في بداية المقامات على اختلافها يؤكد على مبدأ المنشأ للمقامة أولا كما أنه يؤكد أيضا على أهميته كمنطلق للسرد والتصاعد الدرامي في الحكاية ويجعلها المدخل الطبيعي لها والمناسب لشخصية الراوي والبطل معا, وهي في حقيقة الأمر تعكس شخصية الكاتب حيث نجد ابن دريد يجعلها أقرب للحقيقة منها للتخييل وكذلك الخليلي سار في مهمة الوصف على حين البرواني يجعلها جزءا أصيلا في الحكاية لا يمكن فصلها عنها ما يعني أن الفكر العماني يتحاشى الخروج عن المفهوم العقائدي إذا كان ابن بيئته أما إذا تحرر نوعا ما فهو يعود إلى بنية ما اشتهر عنه في السرد منذ القدم, وهذا أيضا يؤكد على نوعية العصر التحولي والمواجه للحداثة المعاصرة عند الخليلي فالأديب لا يريد أن يتخلى عن البراعة في اللغة ولا يريد أن يتخلى عن العقيدة من أجل الإبداع لذا لم يكن غريبا أن يوظف البرواني الوصف في الحكاية على حين يعتبره الخليلي حلية ومسببا لا أكثر للوعظ.
وكما كانت بنية الإسناد والوصف في المقامة متشابهين فإن الثيمة للمقامات أيضا تتشابه, فعنصر الكدية عند الهمذاني والحريري يقابلها عنصر الصراع بين الإنسان وقدره عند ابن دريد وعنصر التمسك بالقيم أمام الحداثة عند الخليلي, وعلى حين ينفلت البرواني من هذا ليجعل الكدية وسطا بين التعليم والتسلية كهدفين لا يتنازل عنهما فمن خلال الملحقين (1 4) نجد أن بنية الصراع تعتمد على الشراب عند ابن دريد كمسبب للحدث ليفتح الطريق أمام الاختبار الذي لابد منه فنجد الصراع في حكاية أبي حية و قبر النديم والله يحب التوابين ونسر بني مراد على حين يستبدل الصراع كوجه صريح للنمو الدرامي إلى الاختبار كصراع آخر في امرأة من العرب والحجاج وفراشة وبرج الخفاء, هو نفسه نجده عند الخليلي حيث الاختبار في كينونة السؤال مرة كما في النزوية حيث الكشف عن الأصالة أمام الحداثة وفي التساؤلية بين الشريعة الصحيحة وبين المغالطات الفقهية, وفي اللغوية التأكيد على الهوية البلاغية للغة العربية والمقدرة الفائقة لها, فهذه الموضوعات هي التي شكلت عصر الخليلي بين الاتكاء على الأصل وبين الانبهار بالغرب وهي ما تشكل محور الاهتمام عنده والهاجس المؤرق له والدافع الحقيقي للمقامة كبديل أنيق محبب للخطابة واختفاء المحافل التي هي ميدانها, وبالتالي فهو يعبر عن روح عصره المشحون بالتغييرات والتطور والخوف من ضياع الشخصية العربية وهي دالة أيضا على الاهتمام بالانتماء العربي كركيزة أساسية في الهوية للشخصية العمانية منذ المواجهات مع الفرس قديما.
وهذا أيضا دال على تواجد التناص وبقوة من ابن دريد إلى الخليلي, حيث أن التناص هنا بين (النقل لتعبيرات سابقة ومتزامنة, وهو اقتطاع أو تحويل)67, يبدو ذلك جليا بين الهمذاني وابن دريد سواء في الإسناد أو الوصف, وكذلك التناص منه (مجموعة العلاقات التي تربط نصا ما بمجموعة من النصوص الأخرى وتتجلى من خلاله)68, ويؤكد هذا المفهوم تلك الثيمات التي تسيطر على بنية المقامة عند جميع كتّابها من حيث تواجد الصراع القدري في صوره الأولية عند ابن دريد أو في صورة الصراع الأخلاقي عند الهمذاني والحريري أو الصراع التربوي عند البرواني أو الصراع الحضاري عند الخليلي.
إن التطور الذي قد يدخل إلى حد الاختلاف في المقامات يعطينا مؤشرا هاما على روح العصر التي كتبت فيه كعنصر سردي برع فيه العمانيون باعتراف أئمة البلاغة والنقد منذ القدم, وبدوره يمكن أن يتحول معه النص الأدبي إلى وثيقة تاريخية تسد النقص الحاصل في التاريخ العماني من خلال التطور للفكر في العقلية العمانية والمعبرة بدورها عن مجرى التاريخ ومسجلة ذلك التاريخ الخفي الذي تراجع أمام الاهتمام بالتأريخ لعمان وفكرة الحق والعدل اللتين هيمنتا على كتّاب التاريخ العماني منذ القدم.
الهوامش :
1 / المعجم الوسيط باب الهمزة فصل الراء والخاء
2 / لسان العرب لابن منظور المجلد الثالث باب أرْخ
3 / مجلة الأمة العدد 38 علال البوزيدي نظرات في الفكر المنهجي لابن خلدون 2003م
4 / نفسه
5 / مصطلح التاريخ / سهام عبد الرزاق موقع الشهاب www.chihab.nat
6 / تطور الأدب في عمان / الدكتور أحمد درويش ص 7
7 / تطور الشعر العماني المعاصر / المهري ص12
8 / تاريخ آداب العربية / الرافعي الجزء الثالث ص 22
9 / نفسه ص 25
10 / تحفة الأعيان / الجزء الأول ص 4
11 / نفسه ص 16
12 / نفسه ص 14
13 / نفسه ص 14
14 / نفسه ص 16
15 / نفسه ص 17
16 / نفسه ص 18
17 / نفسه ص 19
18 / نفسه ص 143
19 / نفسه ص 144
20 / نفسه ص 150
21 / تاريخ أهل عمان / تحقيق د. سعيد عبد الفتاح ص 4
22 / نفسه ص4
23 / نفسه ص 8
24 / نفسه ص 8
25 / نفسه ص 11
26 / نفسه ص 12
27 / نفسه ص 12
28 / نظرية الأدب / رينيه أوستين ت. محيي الدين ص 40
29/ نفسه ص 41
30 / نفسه ص 45
31 / نفسه ص 46
32 / نفسه ص 116
33 / نفسه ص 117
34 / مجلة نزوى / العدد 24 لسنة 2009 / ألبو علي قراءة أولية لمقامات البرواني
35 / نفسه
36 / القصة القصيرة / المانعي ص 20
37 / نفسه ص 35
38 / نفسه ص 35
39 / نفسه ص 46
40 / نفسه ص 54
41 / نفسه ص 56
42 / مقامات الحريري ص 10
43 / نظرية البنائية / صلاح فضل ص 60
44 / نفسه ص 60
45 / نفسه ص 62
46 / نفسه ص 62
47 / نفسه ص 63
48 / نفسه ص 63
49 / نفسه ص 289
50 / مقامات الحريري ص 11
51 / تطور الأدب / درويش ص 285
52 / نفسه 285
53 / نظريات السرد الحديث / دلاس مارين ت حياة الجاسم ص 40
54 / المقامات العمانية ضياء خضر كامل العتوم ص 53
55 / مقامات الهمذاني ص 9
56 / نفسه ص 14
57 / مقامات الحريري ص 17
58 / نفسه ص 237
59 / نفسه ص 32
60 / نفسه ص 87
61 / المقامات العمانية مرجع سابق ص 372
62 / السابق قبر النديم ص 59
63 / مقامات الهمذاني ص 9
64 / مقامات الحريري الدمشقية ص 117
65 / مقامات أبي الحارث للبرواني ص 97
66 / المقامات العمانية / مرجع سابق النزوية للخليلي ص 249
67 / نظرية التناص / ب م دوبياري / ت المختار السبتي / ص 59
68 / نفسه ص 59
المراجع :
1 / القصة القصيرة المعاصرة في الخليج / د. على المانعي / مؤسسة الانتشار العربي / بيروت 2010 م
2 / المعجم الوسيط / مجموعة من الباحثين مجمع اللغة العربية جمهورية مصر العربية دار الدعوة تركيا
3 / المقامات العُمانية من ابن دريد حتى عبدالله الخليلي / تحقيق ودراسة أ. د ضياء خضير د. كامل العتوم جامعة صحار 2010 م
4 / تاريخ أهل عُمان / وزارة التراث القومي والثقافة تحقيق وشرح د. سعيد عبد الفتاح عاشور 1980 م
5 / تاريخ آداب العربية / مصطفي صادق الرافعي الجزء الثالث دار الكتب العلمية بيروت 2001 م
6 / تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان / الجزء الأول مطبعة الإمام القلعة مصر
7 / تطور الشعر العُماني المعاصر / د. محمد بن مسلم المهري النادي الثقافي مسقط 2010 م
8 / مصطلح التاريخ بين المفهوم الشائع والطرح القرآني / سهام عبد الرزاق موقع الشهاب www.chihab.nat تاريخ 21 / 10 / 1427 هـ
9 / قراءة أولية لمقامات البرواني / د. آسية ألبو علي مجلة نزوى العدد 24 تاريخ 12 / 7 / 2009 م
10/ معجم لسان العرب / أبو الفضل جمال الدين بن منظور / دار الصياد المجلد الثالث 1977 م
11/ مقامات بديع الدين الهمذاني / شرح الشيخ محمد عبده دار الفضيلة
12 / مقامات الحريري المسمى بالمقامات الأدبية / أبو محمد القاسم علي بن محمد الحريري البصري تعليق وضبط الأستاذ أحمد عبد السلام الطيبي دار الكتاب العلمي الطبعة السادسة 2008 م
13/ من مقامات أبي الحارث / الشيخ محمد بن علي بن خميس البرواني وزارة التراث القومي والثقافة 1980 م
14/ نظرات في الفكر المنهجي عند ابن خلدون / علال ألبو زيدي مجلة الأمة العدد 38
15 / نظرية الأدب / رينيه ديليك أوستين دراين ترجمة محيي الدين صبحي مراجعة د. حسان الخطيب المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1987 م
16 / نظرية التناص / ب م دوبيازي ترجمة المختار السبتي مجلة فكر ونقد العدد 28 لسنة 2000 م دار النشر المغربي
17 / نظرية البنائية في النقد الأدبي / د. صلاح فضل الهيئة العامة للكتاب مكتبة الأسرة 2003 م
18 / نظريات السرد الحديث / دالاس مارتن ترجمة د. حياة جاسم محمد المجلس الأعلى للثقافة المشروع القومي للترجمة 1998م.