مــحمـد بـــرادة*
الــكـلامُ أســبق في الـوجودِ مـن الكـتـابة، يـمكن أن نــسـتــدلّ على ذلك، إذا استـحـضرنا، عـبْـر الخيال، ساعـــة نـزول آدم وحـواء من الـجنّــة إلى أرضٍ بَـلْـقـــعٍ مُـتـطـلّـعةٍ إلى مَـنْ يـبعـث في جـنباتها الحـركة والحياة. ولا شــكّ أن أول ما فــكّـرا فـيه، هو أن يـتـكـلـما لـكيْ يـبـتــكـرا لـُـغـة ًومـن خلالها يـبتـكــران العالـَـم، ذلك أن تسـمية الأشياء ومحاولة التـمـيـيـز بـينها، تُـضفي صـفة الـوجود على مـا كــانَ في ثـنايـا الـعـدم…
يـهـمّـنا من تـجـربة آدم وحواء، أن كـلامهما عند النزول من السماء، كان مـرتبطا بـلحظةٍ مسـتـجدة عليهما، تـفرض ابتكار كـلام يساعدهما على مواجهة اللـحظات والمواقف الـعابرة أو المتـكـررة، وتُــسـعـفهما أيضا على امـــتــــلاك ما يُــصادفانه من خلال الكـلمات ومن خلال ما يـنـتــسـجُ بـينهمـا من كــلام الحوار. هذا «الأصـل» المـتخـيّل للكــلام، يجـعلنا نتصـور أنـه مـرتبط باللحظة الـعابرة وبالارتجال في استـعمال اللـغة لتـكون لـغة كـلام، تـتـلـوّنُ باللحظــــــة والموقف والسياق… لذلك أتــناسى تلك الأسطورة الواردة في بعض الكتب الدينية، والمتصلة بـ « بـرج بـابــل» الذي كان الغـرض منه صيانة لـغة واحدة تـتــداولها النخبة…لأجـل ذلك، أفضّـلُ أن أستـعمل لغة الكلام بـدلاً من اللغة الدارجة، لأنها تـتــمايَــز بحـــســــب مَنْ يـتـكـلم، وتـكتـسب تـضاريس ونـتـوءات بـحسب وضعية المـتكلم الاجتماعية والثقافية، وتتــفاعل مع لغة الكــتابة التي هي اللغة العربية بالنسبة لــي، والتي تــنـشـقّ منها لغة الكلام في معظـــــــم كلماتِ مُـعجمها…
لا يمكن إذن أن نفصل الـكـلام عـن الـمتــكلـم، لأن هـدف التــواصل السـريـع الـمـتـوخّى من الكلام، يدفع المتكلم إلى الاستــعانة بالإشارات وحركات الجسـد، وتـلويـنات الصوت، حسب السياق الخـارجي الذي يـتواجدُ فيه المتكلم، والذي من خــلاله تـظهـر مـمـيّـزاتُـه كـــفـَـرْدٍ. لكن، على رغم أهمية الكلام في مجال التـواصل والتـعـبيـر، نـجد أن سجـلّ الثقافة الســائـدة يـمـيـل إلى الـتقـليل من أهمية الكـلام وإعــفائه من مـسؤولية ما يـتــلـفّـظ به المـتكلمون: « كلام الليل يـمحوه النهار»، «اللســان ما فـيه عــضـم»، «قـل كلمتك وامش» … مثل هذه الحِكَـم والـمُــردّدات، تـريد أن تقـلـل مـن أهمية الكلام وأن تـعـتـبره عـنـصـرا غَـيْـر حاسـم في مواجهة مشــكـلات الحياة ومـواقفهـا المـتـنوعة والشــــائـكة. إلا أن وظيـفة الكلام أهـمّ من ذلك، ولـها تـجليات عديدة تُـجاوز التواصلَ المباشر، الآنـي، كما سنـبيّـن فيما بعد، بـعد تقديـــم مفهومــنـا للكتابــة.
إذا اعتـبـرنا الكلام مـرتبـطا بالتـلقائية ولحظات التواصل والمواقف اليومية، والتقاط مشاهـد من الحياة في سُخونتها، فـإن الكـتابة تــأتي لاسـتـيعاب أهداف الحياة والأحداث من أجل تخليدها، وتحقيـق نوعٍ مـن التـأريخ والاستمــرار بعد الموت…كــأنــما الكتابة، في أشكــالها المختلفة المتصلة بتـنـظيم المجتمع أو تصوير عـواطفه وصراعاته، تُــتــرجــمُ نـزوعـا ًإلى تـذكـيـر الأجيال اللاحـقة بـما أنـجـزتْه أجيالٌ ســابـقة. مـهما يكنْ، دائمـا ومِـنْ قديـم، ارتبطت الــكــتابـــة بـِفـَــلك السّــلطة سـواء عـند تأسيـسها أو عـند محاولات هــدْمـها لـبناء سلــطة جديدة…
غـير أن «الـكتابة /السّـجـلّ « أو الحافـظة من الضياع والنسيـان، لـم تحـمل دائما اسـم الـكاتب، وكانت في فترات من التاريخ تُـنسبُ إلى كُـتّاب مجهولين أسـهموا في إنتاج الأدب الشعبي لـثـقافات مختلفة. لـكن تـوقيع الكاتب لِـمَا يـكتـبُــه ويُـبدعه، تــزامَـنَ مع تــبـلوُر الـفـرد الـمُـبدع وسـعـيه إلى التـمـيّز وسط نُـخَــبِ المجتمع، وإلى إثــبـات مـهنـة الكـتابة ضـمـن بــقية الـمـهـن والـنشاطات.
بـعـد هـذا الـتــميـيـز العامّ بيـن الكلام والكتابة، نلاحـــظ أن كــلاّ مـنهـما يُـحيـلـُـنا على مـنـاطق مـتــداخـلة يـحُــفُّ الالــتـباسُ فيها مجالاتِ استـعمالهـما والتـــعـاطي مـعـهما:
+ بالنسبة لـلكلام، يُـصبح، مثلا عند الـمحـلـل النـفساني، عـنـصرا أساسا لـلـكشــف عن الـعُـمق المُـختفي داخل كلّ ذاتٍ، أي في اللاوعــي ومُـنـعرَجــات الذاكــرة. لذلك يعـتـمد التحليل النفسـاني، عـند مُـمارسة الـعلاج، على استنطاق الذاتِ المُــتكلمة عـند مَــنْ يخضع لـلـتحليل. ومِـنْ ثــمّ يُـــطرح سؤال: مَــنْ يـتـكـلم؟ هل هو الفـرد الواعي، أم الفرد بـِـمَـا هو ذاتٌ واعية لـها امتدادات وخـبايـا لا واعيـة ؟ في هذه الحالة، يـنـتـقل الكلام من وظيفتـه الأولى القائمة عــلـى التواصل الواضح وتـبـليغ ما يـلـتــقطه الفـردُ عـبر سخــونة الأحداث، إلى منطقة الكشف عـن «الكلام الـمُخـزّن» الذي يُـضيء ما لا يســتـطيع الكلام الواضح، العادي أن يُــفشي دلالاته…
+ وبالنسبة للكـتابة الأدبية التي تهـمنـا هـنا، نلاحـظ أنـها تـبـتعـد عن منطقة التـدوين والتـأريخ والـرّصـدِ والإقناع المُـباشـر، لكـيْ تــرتاد مـناطق الـظلال والاستــعارة والتّـرميـز؛ وبذلك تـكتـسي الـكتابة الإبداعية طابعا ذاتيا يُخرجها من دائـرة الكلام الواسـعة، العمومـية، لـيـنـقلها إلى دائــرة الـتـجربة الـفردية حيث يُـواجهُ الكاتب/المبدع الـــعــالَـــــــمَ والآخــرين، وحيث يـلـتــقط ذبذبــاتِ مـشاعـره وانــفـعالاته وهو يـعيش عـلاقته الـمُــمـيّـزة من خلال استـبطان العالم والــذكــريات. وإذا كان الأدبُ قــدْ عـرفَ تـحديـداتٍ مُـتـبـايـنة عـبْـر العصور، فـإن تـراكمات الإنتاج الأدبي في كلّ الـثقـافات، آلــتْ إلى تخصيص عــلاقة الأدب بالكــتـابة على هذا النّــحو الذي نـجده عند ناقدٍ فيلسوف، هو جــــــــاك رانـــسـيـيــرْ الذي قال : « ..الأدبُ هـو مُـمارسة مُـحدّدة لــفـنّ الكتابة». وهذا يعني أن للكتابة الأدبية خصوصية تـتـمـثـل في مجموعة من العناصـر الـفنيـة والجمالية، تشمل الـشـكل واللـغة والخـيال…وهذه العناصــر تُـميّـزها عــن بقـية الكتابات وتُــعـَــرّفُــها في الآن نـفسه. لأجـل ذلك، لا يـمكن الخـلطُ بين الكتابة الأدبية والكتابات الأخــرى التي تتـوخّى الـتـبشيـر السياسي والإيديولوجي، أو تـقصد إلى التأريخ أو الـوعظ والإرشاد. ومن ثمّ، عندما تـقصد الكتابة إلى الإبــداع، عـليها أن تـوظف العناصر الفنية التي تـراكمتْ عبر العصور في إبــداعاتٍ شـيّـدتْ «جمهورية الأدب»، وحدّدتْ مجالات الصراع والتجديد لــفـنّ الكتابة في نـطاق ما يُـسمى الأدب.
مـا الكتابة ُعِـــنـدي؟
لـيســتْ الكتابة مُـعطى سابقا عـن الإنـجاز، بـل هي تـتـكوّنُ وتـتـبـلور في سـياقٍ يُـحيل على إستـراتيجية الكاتـــــب وعلى درجة وعـيه وعلاقته بالـزمن والذاكرة والتـخـيـيـل واللـــغة. الكتابة هي حـصيلة وعـيٍ واخـتـيارٌ وتجسيـــــــد لـمفهوم مّـا، في الأدب والجمالية والعلاقة مع العالم.
لا تـعني الكتابة فقط العلاقة باللغة وتـدفــقـها لـوضع مسافة مع الموصوف والمـحكيّ والـمُـفـكّــر فـيــه، بل هي تغدو الشكـلَ والمضمــون في تـرابُـطٍ مـع رؤيـةٍ إلى الـعالـم، تـُـمـيّـز موقــــف الكاتب عن الرؤيات الأخـرى، وتُـــبـــــرّرُ النـصّ المكتـوب رغـم عـبـثيـة الـعالم وسـديمية الــدلالات، وعشـوائية الحيوات، وشـسـاعة اللـغة…وإذا كان صحيحا أن الكتابة ليستْ مُعطىً سابقا عن الإنجاز، فإنها تظـلّ مع ذلك، ذات خصوصية مُـسـتعـصية على التشريح والتوضيح. ذلك أنها، رغم تفاعلها مع السياق والتاريخ، تـظلّ مـعبّـرة عـن عـنصـر غـامـض، كــامـنٍ في ذات الكاتب ولاوَعْـيه، وهو يسـعى إلى أن يعبـر عن ذلك العنصر المجهول الذي يُـكوّنُ خصوصيته وتـمـيّـزه. وخلال ممارسة الكتابة، يكون الكاتب مـعزولا عـمّا حـوله، مُـبارزا الكلماتِ والأفكارَ والمشاعــر، جــسدا لِــجســد، حـريصا على التقاطها وإسْكانِـها لـغة مخـتلفة عـن اللغة الـمَــشاع. وخلال هذه السـيْـرورة، تتحـوّل الكتابة من عملية تـرجمة أو تـعبير عن دلالة عامة، إلى معاناة تحرص على اقـتـناص الجانب الذي يُـحرك أحاسيس المبدع وذاكـرته ورؤيـتـه إلى الأشياء. من هنا، تبــدو الكتابة أشــبه ما تكون بـعملية ولادة عـسيـرة تـريد أن تجعل شكل المولود مُـطابقا لما يـعتملُ في ليل الأحـشاء.. ولأن الكاتب المبدع لا يـتـوخى الوصول إلى حقائق علمية، إذ أنّ مجاله متصل بالمشاعر الـزئبقية واللحظات التي يـلـوّنـها السياقُ والمـزاج ونـزواتُ الذاكرة، فـإنـه كـثيرا ما يـلجأ إلى تـخـيُّـلِ أكثر مِـنْ مســار وأكثر من ردود فعل، خاصــــة عـبْـر الشخصيات والأزمنة والفضاءات الـمُــتـباينة. بـل إن الروائي غالبا ما يـلجأ إلى المواقف المتـعـارضة داخــــــل الشخصية الواحدة، فـيجعلها تـعيش التجربة ونـقيـضَها لــيـرى إلى أيّ حـدّ تـتـغـيّـرُ ردود الفعل والمصــائــر.
أعـتـقدُ أن الكتابة تـستـمدّ نـبضها وحيويتها من مُعانقتها لـذلك الصـراع الظاهـر والخـفيّ الذي يتسـتـر وراء سيرورة الحياة وتـجلياتها الـمُــتـناقضة. لذلك أنـا لا أكــتـب لأســتنـسخ واقـعا أوْ أحــاكـي أحـداثـا، بل لأقــدّم رؤيـتـي إلى مـــا أعيشه في سياق مـعيّن، وضـمـن ما تـتـوفـر عليه ذاتي مـن فـرادةٍ في العيش والتـفـكـيـر. ولأن الكتابة الإبداعية تـعني قـبل كـل شيء، التـوسّل بـأشكالٍ فـنية وجمـالية مفـتـوحة على رحابة التـخـيـيـل، فـإن حـريتـي تـتحقـق ضمن شسـوع المضمار الإسـتــتيـقي الذي يُـسعـفني على تخصيص اللغة وإضـفـاء الفـرادة على الشكل والدلالة.
مـع التجربة والتـقدم في الـعـمـر، أصبحتْ كتابة الرواية عـندي تطمـح إلى أن تـجسـد الحياة، لا في مظاهـرها المادية وحـسب، وإنما من خلال أسئلة الوجود والـغائية الحياتية والأفـق الـميتافـيزيقي ودروبه الشـائكة… لذلك لا يمكــــــــن لـكتابتي أن تـظل في حدود الـوضوح المـنـطقي ما دامت تـصدر أيضا عــن رغبة في إضاءة ذلك الصـراع الأبـــــديّ بـين الحياة الـمُـتـدفّــقة، والـمنظومات الـفكـرية المجـردة التي تريد أن تسجن الحياة داخل قـمـقـم العقل والمُـواضعات. على ضوء ذلك، أحـسبُ أن الكتابة عـنـدي، هــي كتابة الـذاكرة، ومُـحاورة الذات والتاريخ والــنسيــان. ولأنني أكتب داخـل عالم يـغادر واقـعـيّـته إلى فسـحة الاحتمالات وإلى كـمائن الحروب والكـوابيس والـغـرائز المـتوحشة، فإنـــنــي لا يمكن أن أكتب نصوصا فقط للمتعة الخالصة، لأن ما أنسجه عبر الكلمات والمحكيات والاستعارات يـــــــــــــــؤول بالضرورة إلى صوغ جـزء من الأسئلة الـقـلقة التي يحْـبَـل بها عـالـمُ اليوم؛ من ثـمّ صعوبة هذه الكتابة التي لا تتقصد التـسلية والتـرفيه الســريع.
في رواياتي، يـحـتـلّ الــكلام مكانة أساسية لأنه يـلتقط نُــسغَ الحياة وتلقائيتها، ويُــمايـز بين الشخوص عـبْـر مــا يتــلـفظون به مـن كــلام. بالنسـبة لي، أدركتُ أهمية الكلام في الكتابة الروائية خلال إقامتي في مصـر، من 1955إلى 1960، أثـناء دراستي الجامعية. ذلك أن لغة الكلام المستـعملة في الحياة المصـرية اليومية، نـبّـهـتْـني إلى شيـئيْـن: أوّلــُـــهُما أن اللغة العربية مـتـنوعة داخـل وحدتـها الـكتابية، إذْ أن الكلام الجـاري على ألســنة المـتكلمين داخـــــــــل الفضاء الـــعــربي يتـخذ أشكالا في التـلفظ والإيــقاع متـباينة لكنها تشتـرك في معظــم كلمات المعجم؛ وهذا ما يمنحها غـنىً ورحابة… وثانيهما، أن مصـر أيقظتْ لغة الكلام المغربية التي مارســتُـها وأنا طفل في فاس والـربـــــــــــاط، واختـزنـتْها ذاكـــرتــــــي في إحدى زوايا الـنـسيان. ومن ثم، فـإن ممارستي للكتابة الإبداعية جعـلتنـي أنــتــــــبه إلى حيوية لغة الكلام وضـرورتها في التـعـبـير عن المشاعـر والمواقف الـمـتــبـاينة؛ وكانت قـراءتي لنصوص قصصية وروائية مصرية حافزا لي على استـثمار الكلام المغربي المخزون في الذاكرة. وبعــد ذلك بــــقلـيل، تـعـرّفــــتُ على تـحليلات ميخائيل باخـتـيـن، واقـتـنـعـتُ بما كـتبه عن مكونات الخطاب الـروائي، وبـخاصة ما يـتـصل بـ «الـمُـتـكـلـّم في الرواية»، حيث أكـد أن الإنسان الذي يتكلم في الرواية وكــلامَـه، هما موضوع لتـشخيص لفـظي وأدبي، وخطاب الـمتكـلم في الرواية يكون مُشخصا بطريقة فنية. والمتـكلّم في الرواية هو فــرد اجتماعي ملموس ومُـــحدد تاريــــخيا، ومن ثم يمكن لخطاب شخصيةٍ روائية أن يصبح أحد عوامـل تصنيف اللغة، ومـدخلا للـتـعدّد اللساني. ويضيف باختين بأن المتكلم في الرواية هو دائما وبدرجاتٍ متفاوتـة، مُــنـتجُ إيديولوجـيـا…لا يـتـسع المجال لإيــراد تحليلات باختيـن، لكنني أشيـر إلى استخلاص هــامّ يقول فيه: « في الكلام العادي لـكـلّ إنسان يعــيش داخل مجــتمع، يكــون نـصفُ مـا يـتــلـفـظ بـه، على الأقـل، هـو من كلام الآخـريـن (يقع التـعـرّف عليه كما هـو) منقولا ًحَـسب كـــلّ الـــــــــدّرجات المـمكنة من الدقّة والتجـرّد( أو، بالأحـرى، من التـحيّـز).»
لأجل ذلك، أحاول في كتابتي الإبداعية أن أفسح مجالا للــغةِ الـكلام، لأنها كاشفة ومُـلـتـقطة لـتـلـقائية اليـــــــــوْمي المعيش، ومُـختـزنة للدلالات الاجتماعية والإيـديولوجية ( اللغة الآمــرة، واللغة الـمُـقـْـنِعة…).
إنـني لا أجـد تناقضا بين اللغة العـربية الأدبية ولغة الكلام، لأن العربية عـرفتْ تحولات كثيرة في تركيب الجملة والمعجم وتـوليد الكلمات واستـيعــاب المصطلحات، والتفاعل مع لغة الكلام التي تستـمدّ، بدورها، الكثيـر من لـــغــة الكـتابة. والكتابة بالعـربية يمكن أن تُـقـرأ وتُـفهم داخل فضاء يــسعُ أكثر من 400 مليون نسمة، ولها قواعد ومرونة يجعلانها قادرة على التـعبيـر والانتـشار والتـطـور.
يـبدو لي، في نهاية التحليل، أن الكتابة والكـلام محكوم عليهما بالزواج والتفاعل، لأن مسألة التـعـبـير والكشف عـن المشاعـر، والتــأريخ للذاكرة وصـراع الـقيـم والحضارات، ونـبْـش ما يـرقـدُ في الــلاوعـي الـفردي والجماعي، هي مسألة ملتحمة بالـوجود المادي والمـعنوي للـفـرد والمجتمع، ولا يـمكــن الفصل بين لغـة مكتوبة وأخـرى منــطوقة ونحن نـتطـلع إلى الاقــتـراب من أســرار الحياة المعقدة التي تـحـثــنـا على الاستمرار في العيش.
الهوامش
1 – قدم محمد برادة شهادات حية عن الأدوار التي اضطلع بها. انظر كتابه : سياقات ثقافية ( مواقف، مداخلات، مرافئ)، منشورات وزارة الثقافة، ط1، 2003 ، ص-ص283-307
2 -أسئلة النقد أسئلة الرواية، منشورات الرابطة، ط1، 1999.
3 – المصدر نفسه، م.سا ص-ص 36-37.
4 – المصدر نفسه، ص81.
5 – نسبة إلى أسطورة بروكست.
6 – محمد برادة: فضاءات روائية، م.سا ص91.
7 – يتميز التهجين الواعي والقصدي ( قدرة الروائي-مثلا- على تعرُّف الفروق اللغوية واستثمارها لتمييز الشخصيات وتفريدها) عن التهجين التلقائي والعفوي الذي يجعل شخصا عاديا ينتقل يوميا من لغة إلى أخرى دون أن تكون مترابطة حواريا داخل وعيه. لا ينظر إلى اللغة ( أو إلى العالم اللفظي الذي يوازيه) بعيون لغة أخرى وإنما باعتبارها نسقا مغلقا ومنفصلا عن الأنساق الأخرى.
8 – محمد برادة: أسئلة الرواية أسئلة النقد، م.سا، ص8.
9 – محمد برادة، فضاءات روائية، م.سا ص91.
10 -محمد برادة، أسئلة الرواية أسئلة النقد، م.سا ص68.
11 – محمد برادة: فضاءات روائية، م.سا ص14.