تعمل البروفسورة سارة ميلز SARA MILLS باحثة في كلية الدراسات الثقافية بجامعة شفيلد في انكلترا. وقد قدمت أبحاثاً متعددة في الحقول الثقافية العامة مثل اللسانيات النسوية ونظرية الأدب ونظرية الخطاب الكولونيالي والنظرية النسوية. وأصدرت مجموعة من الكتب في هذا المجال ففضلا عن هذا الكتاب الخطاب DISCOURSE أصدرت ميلز كتباً وأبحاثاً عدة من ضمنها: خطاب الاختلاف، الكتابة النسوية والكولونيالية (لندن 1991)، وكفاءة الخطاب أو كيفية التنظير لنساء قويات (بحث في HY PATIA، المجلد67 العدد الثاني، ربيع 1992)، والخطابات المفاوضة للأنوثة في (JOURNAL OF GENDER STUDIES، المجلد الاول، العدد الثالث، ايار/ مايو 1992)، والفجوة وخطاب ما بعد الكولونيالية في (المجلة العالمية للأدب الانجليزي، المجلد 26 العدد الثالث، تموز/ يوليو 1995، والأسلوبية النسوية (لندن 1995)، واللغة والجنس (هارلو 1995)، والنظرية النسوية – ما بعد الحداثة بالاشتراك مع بيرس لين (1996).
وتقدم (سارة ميلز) في الخطاب تحليلاً منفتحاً وشاملاً لمصطلح الخطاب. وتكشف عن الافتراض النظري الذي يتضمنه ليزود الدارسين ببعض المفاهيم المهمة المتعلقة بموضوعة الخطاب في مثل: التعريفات المباشرة للمصطلح والتغييرات التاريخية التي طرأت عليه، وتحليلات دقيقة للكيفية التي استعمل بها ميشيل فوكو مصطلح الخطاب ومناقشة تخصيصاته في النظرية النسوية ونظريات الخطاب الكولونيالي وما بعد الكولونيالي واللسانيات وأبحاث علم النفس وعلم النفس الاجتماعي وأمثلة لنصوص أدبية وأخرى غير أدبية توضح استعمال الخطاب مصطلحاً ومفهوماً.
مدخل إلى الخطاب
أصبح مصطلح الخطاب متداولاً وشائعاً في مجموعة من الحقول: النظرية النقدية وعلم النفس واللسانيات والفلسفة وعلم النفس الاجتماعي وعدد من الحقول الاخرى الى حد انه ترك مبهما مرارا، كما لو كان استعماله معرفة مألوفة وبسيطة. وقد استعمل الخطاب بصورة واسعة في تحليل النصوص الادبية والنصوص غير الادبية موظفا دوما في الاشارة الى خبرات نظرية معينة بطرق غامضة واحيانا مشوشة. وربما كانت لمصطلح الخطاب أعرض سلسلة من الدلالات الممكنة من اي مصطلح آخر في النظرية الادبية والثقافية. ومع ذلك كان دائما هو المصطلح الأقل تعريفا عند استعماله في النصوص النظرية. لذلك كان من الممتع ان نقتفي الطرق التي نحاول فيها ان نتحسس ونستوعب معانيه. والطريق الاكثر وضوحا في تعقب هذه السلسلة تكمن في مراجعة المعاجم المعتبرة، رغم أن المعاني الاكثر عمومية للمصطلح تبدو كما لو أنها قد وقعت في شرك، نظراً لأن المعاني النظرية دائما لها غطاء من المعاني العامة. وقد تنوع تاريخ تطور الاستعمال العام للمصطلح، فلو أخذنا الطريق الاسهل في تاريخه لأمكننا رؤية التحول في التركيز من جانب الى جانب اخر في الاستعمال.
الخطاب:
1- تواصل فعلي، حديث أو محادثة.
2- معالجة شكلية لموضوع في الكلام أو الكتابة.
3- وحدة نصية يستعملها اللساني لتحليل ظاهرة لسانية تتسلسل في أكثر من جملة.
4- أما الفعل منه TO DISCOURSE فيعني القدرة على التسبب (تعبير مهجور).
5- وإن جاء بعده حرف الجر UPON / TO DISCOURSE ON فيعني ان نتكلم أو نكتب في موضوع معين.
6- لإجراء مناقشة.
7- يقدم (موسيقى) (تعبير مهجور).
(يعني DISCURSUS في القرن الرابع عشر، من لاتينية القرون الوسطى: مناقشة، من اللاتينية، منافسة جيئة وذهابا DISCURRERE)
(قاموس كولنز كونسايز للغة الانكليزية، 1988)
الخطاب
محادثة ولا سيما ذات طبيعة رسمية، وتعبير رسمي منتظم للافكار في الكلام أو الكتابة، فضلا عن ان مثل هذا التعبير يشكل موضوعة أو بحثا… إلخ. وهو جزء او وحدة كلام او كتابة مترابطان. (يعني DISCOURS في الانجليزية الوسطى، من اللاتينية: فعل التدفق ACT.(OF RUNNING ABOUT
(قاموس لونغ مان للغة الانجليزية 1984)
ان مثل هذا الاستعمال العام للخطاب بوصفه مرتبطا بالمحادثة وذا <صلة تصاعدية> بموضوع معين او تفوه قد يعود في جزء من الى جذر الكلمة، ولكن يرجع السبب ايضا الى حقيقة مفادها ان ذلك هو المعنى الجوهري للمصطلح. والخطاب في اللغة الفرنسية ومنذ ستينيات القرن الماضي كان هو الكلمة التي ارتبطت بالتفكير الفرنسي على رغم ان مصطلح DISCOURS و DISCOURSE لا يطابق أحدهما الآخربالضبط. لذلك يزودنا القاموس الفرنسي / الانجليزي بالآتي:
أ – DISCOURS؛ الكلام في مثل: كل هذا الحديث جميل.
ب- DISCOURS المباشر / غير المباشر: الكلام المباشر/ غير المباشر (اللسانيات).
ج- DISCOURSE (في البحث الفلسفي)؛ DISCOURIR: TO:DISCOUTSE التحدث بإسهاب.
(قاموس كولنز روبيرت للغة الفرنسية، 1990)
وخلال ستينيات القرن الماضي بدأ المعنى العام للمصطلح ومعناه الفلسفي مع عدد من المعاني النظرية الكثيرة بالتباعد، ولكن بقيت هذه المعاني العامة مهيمنة دوما ومؤثرة على المعاني النظرية بطريقة خاصة. ومن الصعوبة داخل سلسلة المعاني النظرية ان تعرف أين وكيف تقتفي أثر معاني او مقاصد مصطلح الخطاب. فقد تساعد احيانا مسارد الشروحات ولكن كثيرا ما يكون السياق الصارم الذي يظهر به المصطلح مهما جدا في محاولة تحديد المعنى الذي نحمل عليه. وهذا الكتاب يهدف الى محاولة تحديد الاطر التي استعمل فيها المصطلح ليقلص قدر المستطاع من عدد المعاني الممكنة له. فعندما يتحدث اللسانيون عن <خطاب الاعلان> يشيرون بصورة واضحة الى شيء مختلف تماما بالمقارنة مع طبيب نفسي- اجتماعي يتحدث عن <خطاب التمييز العنصري>.
غير اننا قد نجد ضمن اختصاص معين مقدارا كبيرا من المرونة في نطاق الاشارة لمصطلح الخطاب. فعلى سبيل المثال حاول ديفيد كريستال تحديد مدلول استعمال المصطلح ضمن اللسانيات بمقارنته مع استعمال مصطلح النص:
يسلط تحليل الخطاب الضوء على بنية اللغة المحكية الموجودة طبيعيا في مثل <خطابات> المحادثات والتعليقات والخطب، بينما يركز تحليل النص على بنية اللغة المكتوبة التي توجد في <نصوص <مثل الأبحاث والملاحظات واشارات الطريق وفصول الكتب. ولكن هذا الفارق ليس واضحا بشكل قاطع وهناك عدد من الاستعمالات الاخرى لهذه التصنيفات ولاسيما ان <الخطاب> و <النص> يمكن استعمالهما بمعنى اوسع ليحتويا كل وحدات اللغة في وظيفة صريحة ومحددة سواء أ كانت محكية أم مكتوبة. فيتناول بعض العلماء <الخطاب المحكي أو المكتوب> بشيء من العناية بينما يتحدث آخرون وبالأهمية نفسها عن <النص المحكي أو المكتوب>.
(كريستال، 1987: 116؛ التشديد في الأصل)
وعُرِّف مصطلح الخطاب مثل أي مصطلح اخر بصورة واسعة بما ليس هو وبما يكون نقيضاً له. وهكذا فإن الخطاب غالبا ما يشخص بنقاط الاختلاف بينه وبين مصطلحات اخرى مثل: النص والجملة والايديولوجيا بحيث كل واحد من هذه المصطلحات المتعارضة يرسم حدودا لتعريف معنى الخطاب، فمثلا ناقش جيفري ليج ومايكل شورت ذلك كالآتي:
إن الخطاب تواصل لغوي يفهم بوصفه تعاملا أو صفقة بين المتكلم والسامع ونشاطا بيشخصيا INTERPERSONAL تحدد شكله مقاصده الاجتماعية.
بينما النص تواصل لغوي (سواء أ كان محكيا أم مكتوبا) يفهم ببساطة على انه رسالة مشفرة في وسائله السمعية أو البصرية.
(مقتبس من هاوثورن 1992: 189)
ويعلق هاوثورن نفسه على هذا التعارض بين النص والخطاب:
يعد مايكل ستوبس (1983) النص والخطاب متطابقين الى درجة كبيرة حين، وحينا يكون هذا التطابق طفيفا. ففي الاستعمالات الاخرى قد يكون النص مكتوبا، بينما يكون الخطاب محكيا. وقد يكون النص غير متفاعل في حين يكون الخطاب متفاعلا… وقد يكون النص قصيرا أو طويلا في حين يتضمن الخطاب طولا معينا، ويجب ان يحوز النص على تناسق ولو كان سطحيا. في حين ينبغي ان يحوز الخطاب على ترابط أعمق بكثير. وأخيرا يلاحظ ستوبس ان الباحثين الآخرين، على رغم تمييزهم بين البناء النظري المجرد والتحقق الواقعي، لم يتفقوا، باضطراب، في ما بينهم على أن أي من هذين المفهومين يمكن ان يمثل النص.
(هاوثورن، 1992: 189؛ التشديد في الأصل)
و يقارن إميل بنفنست الخطاب بنظام اللغة عندما يوضح:
إن الجملة بوصفها ابداعا غير محدد لتنوع لا حد له، تمثل حياة الكلام البشري بالذات في نشاطه. ونستشف من هذا كذلك اننا مع الجملة نغادر ميدان اللغة كنظام للعلامات وندخل الى عالم اخر، إنه عالم اللغة بوصفها وسيلة اتصال تعبر عن نفسها بالخطاب.
(بنفنست 1971: 110)
وهكذا يصنف بنفست الخطاب بأنه حقل من حقول التواصل، لكنه يسترسل في اظهار اوجه التباين بين الخطاب والتاريخ HISTORY أو التأريخ STORY (HISTOIRE) الذي تطور بشكل ملفت للنظر وعلى نحو رائع في اللغة الفرنسية اكثر منه في اللغة الانكليزية ويعزى السبب في ذلك الى استعمال ازمنة الماضي المختلفة لسرد الحوادث وتمثيلها الى حد كبير بأطر شفوية من المراجع:
ينبغي ان يكون الخطاب بمعناه الواسع: كل تفوه يفترض جدلا، وان هناك متكلما وسامعا وفي داخل المتكلم هناك القصد الذي يعني التأثير في الاخرين بطريقة ما. والتنوع في الخطابات الشفوية في اي موضوع يبدأ من المحادثات الاعتيادية وصولا الى الخطب الاكثر اتقانا… لكن الخطاب كذلك هو الكتابة التي تعيد صياغة الخطاب الشفوي او التي تستعيد اسلوبه التعبيري واغراضه مثل: المراسلات والمذكرات والمسرحيات والاعمال التعليمية DIDACTIC، بعبارة موجزة كل الانواع التي يتعاطاها المرء نفسه [كذا] بوصفه متكلما لينظمها في مقولة شخصية. ولا يتوافق التمييز الذي نصنعه بين الحكاية التاريخية والخطاب مع التمييز بين اللغة المكتوبة واللغة المحكية. فالتفوهات التاريخية هي اليوم مدخرة لصالح اللغة المكتوبة، لكن الخطاب يكون مكتوبا فضلا عن كونه محكيا. وفي الممارسة يتحول المرء من الذات الى الآخرين بشكل فوري. وفي كل وقت يظهر فيه الخطاب وسط الحكاية التاريخية، على سبيل المثال عندما يستنطق المؤرخ كلمات شخص ما او عندما يتدخل بنفسه لكي يعلق على الوقائع المروية، فإننا نعبر الى نظام متوتر اخر؛ ذلك هو الخطاب.
(نفسه: 208-9)
وبسبب أن هذا يبدو وكأنه استعمال خاص للمصطلح فإن عددا من المنظرين يفضلون احيانا الاحتفاظ بالاستعمال الفرنسي (التأريخ / الخطاب) على الاستعمال الانجليزي له.
بينما يميزه البعض الاخر عن الايديولوجيا كما يبين روجر فاولرعلى سبيل المثال:
ينظر الى <الخطاب> كلاما أو كتابة من وجهة نظر المعتقدات والقيم والفئات التي تجسدها، فهو إذن يشكل طريقة نظر الى العالم تنظيما او تمثيلا للتجربة – الايديولوجيا في المعنى الطبيعي او المقبول للمصطلح. بينما ترمز الاساليب المختلفة للخطاب الى التمثيلات المتعددة للتجربة، وأصل هذه التمثيلات في السياق التواصلي الذي يكون فيه الخطاب مجسدا.
(مقتبس من هاوثورن، 1992: 48)
وعندما نحاول تحديد الخطاب ربما نلجأ الى مراجعة المعاجم أو السياقات المعتبرة من المحادثات أو المصطلحات التي تستعمل كنقيض لمعناه. وعلى رغم من كل هذه الستراتيجيات فإننا لا نجد معنى بسيطا وواضحا لهذا المصطلح، بل على العكس ساعدت على تأكيد مطاطية fluidity المعنى فحسب.
ومن أجل محاولة تقديم بعض الوضوح في تحديد المصطلح، يهدف هذا المدخل الى تزويدنا ببعض التعريفات الواضحة والملائمة، مثلما يستعمل بشكل شائع في الدراسات المختلفة. وعلى أية حال فإن المصطلح وكما رأينا بيسر لا يمكن ان يكون ملزماً بتحقيق معنى واحد. ويُعزى ذلك الى تاريخ المصطلح المعقد، واستعماله في سلسلة من المناهج المختلفة، كما يعلق ميشيل فوكو:
بدلاً من الاختزال التدريجي للمعنى المنفلت لكلمة <خطاب> أعتقد أنني قد اضفت بعض المعاني بمعالجته، تارة بوصفه ميدانا عاما لكل الحالات، وتارة اخرى بوصفه مميزا او مشخصا لها، وبوصفه ممارسة منظمة تُحسب لعدد منها تارة ثالثة.
(فوكو 1972: 80)
لو حللنا هذه القضية قليلا فسوف نتمكن من عزل سلسلة المعاني التي انشأها مصطلح الخطاب نفسه داخل اعمال فوكو فكان تعريفه الأول هو الأوسع <الميدان العام لكل الحالات>؛ أي ان كل التفوهات والنصوص التي لها معنى ولها بعض التأثير في العالم الواقعي تعد خطابا. هذا تعريف واسع، استعمله فوكو بشكل عام بهذه الطريقة ولاسيما في عمله المبكر عندما كان يناقش مفهوم الخطاب في المستوى النظري. ولربما من المفيد لدراسة هذا الاستعمال ان يكون مختصا بمصطلح الخطاب اكثر مما يخص خطابا ما او مجموعة خطابات؛ الأمر الذي يهتم به التعريفان الثاني والثالث. فيحدده التعريف الثاني بأنه <مجموعة قابلة للتمييز من البيانات>. وهو التعريف الذي يستعمله فوكو كثيرا عندما يناقش بنيات محددة في الخطاب؛ ومن ثم فهو يهتم بإمكانية تعيين هوية الخطابات، وبتعبير أدق مجموعات التفوهات التي تبدو مُنَظمة بطريقة ما ومترابطة وقوية في اشتراكها. ففي هذا التعريف وبناء على ما تقدم فإنه من الممكن الحديث عن خطاب الانوثة، وخطاب الامبريالية وهلمّ جرا. وقد يكون التعريف الثالث للخطاب واحدا من أكثر التعريفات رنينا لعدد من المنظرين <ممارسة منظمة تمثل عدداً من البيانات>. فأستنتجُ هنا ان فوكو كان أقل اهتماما بالتفوهات / النصوص الفعلية المُنتَجة من القواعد والبنيات التي تنتج تفوهات ونصوصا محددة. هذه هي طبيعة قاعدة حكم RULE-GOVERNED الخطاب التي لها أهمية اساسية في هذا التعريف. واستعملت هذه التعريفات في معظم أعمال منظري الخطاب بشكل تبادلي تقريبا فالواحد منها يمكن أن يكون مكسواً بالآخر.
ولجعل الأمور أكثر تعقيداً، وعلى رغم من أن تعريفات فوكو للخطاب أثرت كثيراً في نظرية الثقافة عموما، كان هو، على أية حال، المنظر الوحيد تقريبا الذي استعمل المصطلح وأصبحت التعريفات الأخرى للخطاب في شرك المعاني العامة له. فعلى سبيل المثال يستعمل ميخائيل باختين الخطاب احيانا للدلالة إما على صوت كما في (خطاب مزدوج الصوت) أو طريقة لاستعمال الكلمات التي تفترض سلطة (وهذا الاستعمال متأثر بمعنى الكلمة الروسية للخطاب SLOVO (هاثورن، 48:1992). أما بالنسبة للنظرية البنيوية وما بعد البنيوية فإن استعمال مصطلح الخطاب أشار الى الانقطاع الكبير عن الآراء السابقة للغة وتمثيلاتها. فبدلاً من رؤيتها على أنها مجرد لغة معبرة، شفافة، وسيلة للتواصل وشكل للتمثيل، يرى المنظرون البنيويون وفي أعقابهم ما بعد البنيويين ان اللغة هي نظام قائم بقوانينه الخاصة وبتقيداته وتأثيراته الحتمية على الطريقة التي يفكر بها الأشخاص ويعبرون بها عن أنفسهم، واستعمال مصطلح الخطاب ربما يكون أكثر من أي مصطلح آخر يؤشر هذا الانقطاع مع وجهات النظر السابقة للغة.
وكما ذكرت أعلاه، إن ما يجعل عملية تعريف الخطاب أكثر تعقيدا هو ان أغلب المنظرين عند استعمالهم المصطلح لم يعينوا المعاني المحددة له. وعلاوة على ذلك، فإن اغلب المنظرين، وكما سأناقش في الفصلين الرابع والخامس، يقيدون حتى تلك التعريفات الأساسية. ولما كان ضروريا تقرير الاستعمال السياقي الاول في استعمال المصطلح والمعاني التي تكون قد نتجت عنه. فقد اهتم هذا الكتاب بتعيين حدود معاني الخطاب، وسأهتم في الفصول التالية بثلاثة سياقات للاستعمال: نظرية الثقافة، واللسانيات، واللسانيات النقدية / علم النفس الاجتماعي. وربما يكون مفيداً ان نضع رسما عاما لسلسلة التعريفات والسياقات التي ظهرت فيها، قبل الشروع بتحليلها تفصيليا.
نظرية الثقافة / النظرية النقدية / النظرية الأدبية
كان الخطاب عمل فوكو المؤثر في النظرية الثقافية اجمالا وقد استعمل لذلك مزيجا من المعاني المشتقة من الاصلين اللاتيني والفرنسي للمصطلح وتأثيراته (كلام / محادثة) وبشكل أكثر تحديدا، المدلول النظري الذي يرى الخطاب ميداناً عاماً للانتاج وانتشاراً لقاعدة حكم البيانات. وربما يكون من المفيد التمييز بين الاهتمام العام والاهتمام النظري المجرد للخطاب، وكذلك تحليل الخطابات الشخصية من جهة، أو تصنيف الحالات المنتجة ضمن علاقات القوة من جهة اخرى. وكما اشرت انفا، يمكن ان يستعمل الخطاب لتمثيل صوت داخل نص أو حالة كلام في أعمال باختين وكذلك في أعمال رولان بارت. أما بالنسبة لمنظرين آخرين مثل بنفنست فالخطاب يكون تمثيلا للوقائع داخل نص من دون اهتمام خاص لتطورها الكرونولوجي في الزمن الواقعي (HISTOIRE l STORY).
اللسانيات السائدة
يدل مصطلح الخطاب عند كثير من منظري اللسانيات السائدة MAINSTREAM على تحول بعيد عن الجملة بوصفها نموذج استعمال نظرياً. وبتعبير أدق تكون مثالاً على الطريقة التي تبنى بها اللغة بوصفها نظاما، مع الاهتمام بالكيفية التي تستعمل فيها اللغة (براون ويول: 1983). بينما ينطوي الخطاب بالنسبة لآخرين على اهتمام بطول النص او التفوه؛ لذلك يكون الخطاب النموذج الموسع لنص له بعض التنظيم الداخلي مثل التماسك والترابط.(سنكلير وكولثارد، 1975؛ كارتر وسمبسون، 1989). أما بالنسبة لآخرين من أصحاب هذا الاتجاه فالخطاب يكون محددا بسياق يسمونه سياق الحادثة OCCURRANCE لتفوهات معينة، كما ينراه في خطابات دينية وأخرى مهتمة بالاعلانات. وتلك السياقات هي التي تحدد المقومات الداخلية الخاصة بها كما ينبغي.
علم النفس الاجتماعي / اللسانيات النقدية
يستعمل مصطلح الخطاب عند علماء النفس الاجتماعيين واللسانيين النقديين بطرق متنوعة، لكنها جميعا تذوب في المدلولات المشتقة من اللسانيات السائدة ونظرية الثقافة. لذلك يميل النفسانيون الاجتماعيون الى توحيد الاهتمام بعلاقات القوة والبنيات الناتجة عن التعبيرات المبتكرة مثل: الرأسمالية أو التمييز الجنسي SEXISM مع منهجية مشتقة من التحليلات المبكرة للخطاب (وثريل وبوتر، 1992؛ ولكنسون وكتزنجر، 1995). وقد اتجه اللسانيون النقديون مثل نورمان فيركلوف، وبالطريقة نفسها، الى الاهتمام بعلاقات القوة وبالطريقة التي يتشكل فيها انتاج التفوهات والنصوص، لكن منهجيته كانت قد تأثرت بآخر تحليلات الخطاب، لذلك يمكنه ان يزودنا بنموذج أكثر تعقيداً للاسلوب الذي يوظف فيه الخطاب والتأثيرات التي يملكها المشاركون فيه (فيركلوف، 1992). وقد أنتج هذا المزج بين اللسانيات ونظرية الثقافة وعلى نحو لا يمكن اجتنابه تراكما لمدلولات الخطاب في كلا الحقلين.
ويؤكد هذا الكتاب بصورة رئيسة على أفكار ميشيل فوكو في الخطاب التي تم توحيدها داخل دراسات متعددة وفي أساليب مختلفة. ويقودني هذا بالطبع الى مناقشة عمله بشيء من الايجاز مع تنظير ميشيل بيشو معا، ومن ثم سأخذ بعين الاعتبار الطريقة التي يمكن النظر بها الى الأدب، على نحو نافع، بوصفه خطاباً مرسوماً في عمل فوكو. وسيكون هذا متبوعا في الفصلين الثاني والثالث بإجابات اكثر تفصيلا للاستعمالات التي وضعها فوكو للمصطلح. أما في الفصلين الرابع والخامس فسوف أفحص التعديلات التي ادخلها منظرو الثقافة على عمل فوكو وعلى الأخص هولاء المهتمين بالنظرية النسوية ونظرية الخطاب الكولونيالي – ما بعد الكولونيالي. وفحص الطريقة التي وضعها هؤلاء المنظرون لمصطلح الخطاب في العمل التحليلي. وبعد ذلك يحلل الفصل السادس الطريقة التي سار فيها الخطاب مسارات مختلفة، والطريقة التي يُعالج فيها الخطاب داخل اللسانيات النقدية وعلم النفس الاجتماعي.
نظرية الثقافة ونماذج الخطاب
يُعّد ميشيل فوكو من اكثر المنظرين اشارة إليه عند مناقشة مصطلح الخطاب، كما أوضح ذلك ديان ماكدونيل، من ان هناك عدداً كبيراً من المنظرين الذين حازت اعمالهم على أهمية في تنظير الخطاب (ماكدونيل، 1986). ويناقش ماكدونيل بالتفصيل الفروقات بين التحديدات التي طورها ميشيل فوكو وباري هندس وبول هيرست من جهة، وتلك التي تبناها لويس التوسير وفالنتين فولوشينوف / ميخائيل باختين من جهة أخرى. وتستنتج ماكدونيل من ذلك بأن الطبيعة المؤسساتية للخطاب وتموضعه SITUATENESS في الاجتماعي الذي يكون مركزيا لكل تلك المنظورات المختلفة. وتقرر ان الحوار شرط أساس للخطاب: كل كلام وكتابة في الاجتماعي (نفسه: 1). وتذهب الى القول ان الخطابات تختلف عن أنواع المؤسسات والتطبيقات الاجتماعية في ما تفترض شكلا، ومع هؤلاء الذين يتكلمون واولئك الذين يوجه اليهم الكلام. ومن ثم أن الخطاب لا يكون جمعا غير مجسد لحالات معينة، بل هو ضم لتفوهات أو جمل، بل ضم لبيانات تكون ممثلة وفاعلة داخل سياق اجتماعي يعالجها هو نفسه وتقدم الوسيلة التي يستمر خلالها بوجوده. وتلعب المؤسسات والسياق الاجتماعي دورا مهما في تطوير وديمومة الخطاب وانتشاره ايضا. وتبرز الطبيعة المؤسساتية للخطاب هذه في عمل ميشيل بيجوكس بخاصة، وتعلق ماكدونيل عند مناقشة تنظيره للخطاب بالآتي:
الخطاب بوصفه فضاء خاصاً لاستعمال لغة يمكن ان يكون تعريفه بحسب المؤسسات التي ينتمي لها ومن المواقع التي ينبع منها ومن تلك التي تُرسم للمتكلم. فلا يوجد الموقع من تلقاء نفسه، ولكن يمكن ان يفهم في الواقع على أنه وجهة نظر يتبناها الخطاب خلال علاقته بخطاب آخر، وبشكل أساس الخطاب المناقض له. (نفسه: 3)
ومن ثم فإن الخطابات، ولاسيما في عمل بيجوكس (هنا تعني مجموعة تفوهات / نصوص لها قوة أو تأثير متشابهان)، لا توجد في العزلة وانما في الحوار وفي العلاقة بـ أو، في أحوال كثيرة، في التباين والتضاد مع مجموعة تفوهات أخرى. ونضرب على ذلك مثالا بسيطا هو الطريقة التي نشأ بها خطاب البيئوية ENVIRONMENTALISM كردة فعل على سياسات التنمية الاستراتيجية والاقتصادية للحكومة، وكذلك ردة فعل على الكوارث البيئية. وبهذا المعنى تم اعتماد هذا الشكل الذي طورته الفلسفة البيئية على وقائع وأطر خطابية خارجة عنها الى درجة كبيرة. ومع ذلك يمكن القول في الوقت نفسه بأن سياسات الحكومة تم تأطيرها بالضبط لتتجاوب مع ردة فعل جماعات الضغط مثل جماعة البيئة. لذلك فإن لكل جماعة عوامل PARAMETERS خطابية ثابتة يحددها الآخرون لها.
ومن جانب آخر أن كل وجهات النظر هذه تشترك في أنها تعد الخطابات تنظيماً عن ممارسات الإقصاء في الدرجة الأولى. في حين أن الذي يمكن قوله ويبدو بديهيا وطبيعيا، وهذه الطبيعية نتيجة لما كان قد استبعده العلماء، هو الذي لا يمكن التصريح به تقريبا. ومن ثم يبدو الخطاب بديهياً عندما نتحدث مثلا عن الطمث MENSTRUATION بمعانيه السلبية واصفينه بمصطلحات متشابهة لإخفائه بسرية. ومع ذلك ما على المرء سوى ان ينظر الى اعلانات الصمامات والمناشف الصحية ليشعر بهذا الجهد غير المبرر، والى حد ما يبدو ذلك غير مثير للخلاف اكتشاف النساء الغربيات الطمث عبئاً وألماً يحدد حياتهن الطبيعية، ولكن حقيقة أن هذا الاحساس مرتبط او مشروط بضغط خطابي لا يعني ليس له وجود في الواقع. ووجهة النظر هذه عن الطمث وتجربتها اتيحت إقصاء الطرق الاخرى. وطريقة النظر هذه الى جسد المرأة يمكن ان تكون جزءاً من الخطاب الطبي لصحة النساء التي تصنف احداثاً مثل الولادة والطمث حالتين مرضيتين بالمقارنة مع معيار ذكوري مفهومة أبعاده (شُتل وريدكروف، 1978؛ لاوس، 1990). ولا يوحي هذا، كما عند شُتل وريدكروف، بأنه ينبغي للنساء أن يحتفلن بالطمث، بل تم اقصاء أي تقييم ايجابي لطريقة عمل جسد المرأة. وما حاوله منظرو الحركة النسوية في العمل خلال العشرين سنة الماضية هو التساؤل عن طبيعة تلك البنيات الخطابية المهيمنة داخل ما يبحثه موضوع صحة المرأة من اجل أن تكون هذه المواقع الخطابية المقصية متيسرة وعندها مصداقية.
أفرز ماكدونيل عاملا آخر متعلقا بكل تعريفات الخطاب وهو أن <أي شيء يدل أو يحتوي على معنى يمكن أن يعد جزءاً من الخطاب> (ماكدونيل، 1986: 4). بينما من الممكن أن ينظر البعض اليه بوصفه تعريفا مطاطا. إلا أنه يؤكد حقيقة أن الخطابات ليست مجرد تجميع لتفوهات وبيانات، بل تتألف من تفوهات لها معنى وقوة وأثر في سياق اجتماعي. وكما سنرى في الفصل الثالث ان البيانات – اللبنات الأساسية الأهم في بناء الخطاب – هي تفوهات أو أجزاء نص يكون لها تأثير(1). وهي ليست كالجمل؛ بل هي تلك التفوهات التي يمكن أن تُعرف بوصفها مجموعة حول أثر معين. فعندما يقول القاضي: <أحكم عليك بثلاث سنوات سجناً> ثمة قدر من النتائج، فالقاضي مجاز له قانوناً الحكم وتلفظه حوّل المتهم الى مجرم وتنفيذ عقوبة مناسبة له. ومن ثم <احكم عليك…> يمكن أن تكون بيانا او جزءاً من خطاب، في حين أن البيان يمكن أن يحوي أثرا فقط عندما يُفوه به ضمن سياق تفوهات أُخرى، (اذا قيدته اجراءات معينة مثلاً) واذا حدثت في اطار مؤسسي (في قاعة محكمة مثلا وصدرت عن قاض معين).
وهناك منظر آخر، من المفيد قراءة عمله بالاشتراك مع عمل ميشيل فوكو، ألا هو اللساني الماركسي ميشيل بيشو. فحاول في عمله المهم عن الخطاب (بيشو، 1982) تحليل معاني الكلمات وعلاقاتها ببنيات أكبر من دون الافتراض ان الكلمات والجمل لها معنى في نفسها. وقد اجرى اختبارا أُصطلح عليه لاحقا <تقرير مانشولت> بعد أن اعطى الطلاب نصا اقتصاديا للقراءة وقال لجماعة منهم أنه نص يساري ولجماعة آخرى نص يميني، النص نفسه، عموما، يمكن تصنيفه نصا اقتصاديا معتدلا لكن بيشو رأى ان كل مجموعة قرأت النص بشكل انتقائي لتتطابق مع الاطار السياسي الذي منحه اياها. وبهذا المعنى اعطى شكلا لعمل فوكو في الخطاب عندما قدم مثالا ملموسا للوسيلة التي يشكل فيها الخطاب تأويلاتنا للنصوص. فلو وظفنا خطاب <جناح اليسار> في النصوص الاقتصادية لتأويل نص سنصبغ ذلك النص بمعاني الاطار الاكبر للخطاب.
وعمل بيشو مهم في أنه يؤكد، أكثر من فوكو، على الطبيعة الخلافية للخطاب، التي تعني انه دائما في حوار وفي نزاع مع المواقع الاخرى. وبينما يؤكد حقيقة أن الصراع الايديولوجي هو أساس بنية الخطاب وقد قدم إضافة نافعة في التفكير حول الخطاب نظرا لاهتمامه مثل منظرين آخرين كرينيه باليبار بأسئلة المدخل ACCESS، يميل فوكو الى التعامل مع مفاهيم مستقرة الى حد ما مع مدخل الخطابات. فيشعر بيشو بالقلق لأن الناس الذين لايتمتعون بامتياز داخل النظام الطبقي بسبب النقص في التعليم والمعرفة وامكانية استعمال شبكة المعلومات ورأس المال، مثلا، ممنوعون وعلى نحو مماثل من سهولة الوصول الى الخطابات. وهكذا برغم ان تكون اللغة نفسها محكية في أرجاء بلد ما (وهذا الامر نفسه مطروح للمناقشة، على سبيل المثال البيئة المتعددة الثقافات ببريطانيا في تسعينيات القرن المنصرم)، إلا أن هناك احساسا في ان ما يتكاثر من هذه الأطر الخطابية التي تنتشر في المجتمع ليست متاحة بالتساوي للجميع. ومثال هذا هو الإقصاءات التي تنفذ في ما يتعلق بالنشر في دورية اكاديمية، فنظرياً يمكن لأي شخص أن يقدم مقالاً لدورية اكاديمية، لكن عمليا سينشر المقال فقط اذا أذعن للأعراف الرسمية للخطاب التي تحكم البنى الموجودة داخل الابحاث الاكاديمية (على سبيل المثال، أن يستعمل المقال المفردات واللغة الرسمية المعترف بها كلغة مناسبة في مثل هذه الكتابات التي يكتب عنها نقديا في مقالات اكاديمية أُخرى ويشيد بها اكاديميون آخرون في الاعلام لأنها تطابق اهتمامات ما ينشر في المجلة المتخصصة وتستعمل مفردات تتفق واياها. ومع ذلك، فهناك أعراف غير مباح بها UNSPOKEN RULES تحكم نشر مقالة ما من عدم نشرها عموماً، وهذه الأعراف تتعلق بما اذا كان الكاتب يعمل في مؤسسة تعليمية او بما اذا كان معروفا للمحررين او لمراجعي المقال.. إلخ. وعلى هذه الصورة وبينما باب النشر يبدو مفتوحا للجميع، إلا انه في الحقيقة هناك عدد من الحواجز الخطابية والمؤسساتية التي تحصرالنشر الاكاديمي لأولئك الذين يعملون في مراكز اكاديمية، الذين يعرفون اعراف كتابة المقالات الاكاديمية ولهم القدرة على معالجة شؤونهم ببراعة وبالتوافق مع تلك البنى الخطابية.
إن الخطابات تبني احساسنا تجاه الواقع ومفهومنا الشخصي لهويتنا معاً. وعمل بيشو مفيد جدا، هاهنا، لأنه يمكننا من تفهم السبل التي بها يمكن للذات أن تصل الى موقع التحرر من المماثلة، الذي بواسطته لسنا نموقع الطرق ونعزلها حسب، بل بوصفنا ذواتاً نتكون ونصبح بها. ولكننا كذلك نرسم لأنفسنا مناطق جديدة تتيح لنا أن نُشيد طرقاً مختلفة ومتحررة أكثر بها يمكننا أن نكون. وقد عدت الحركة النسوية مهمة لكثير من النساء في رسم أدوار خطابية جديدة للرجال والنساء على حد سواء. وهذه الأدوار فندها بشدة الاعلام والتصورات التي بنيت خلال ردود أفعال الناس على مختلف أنواع الصور النمطية. ولكن هذا النوع من المعرفة النقدية قد تغير بشكل جوهري وأُعيد تقديمه ليظهر بوصفه ذاتاً مجنسة BJECTGENDERED SU. ومن ثم فإن العودة الى الأمثلة المتقدمة للطمث يتضح ان الكتابة والفعالية النسوية حول صحة المرأة مكنا الحديث عن الطمث في العلن وأتاحا الإعلان عن المنتجات الصحية للمرأة في التلفزيون. وأدت التقييمات النسوية الجديدة للطمث الى عدم تركير الاعلانات على ناحية حبسه للنساء. وفي الحقيقة يمكن القول اجمالا إن ضغط الحركة النسوية أسفر عن اعلانات عجيبة مثل منتجات بودي فورم وتامبكس، وعن ممارسة المرأة الحائض ألعاب القوى (القفز في الجو والسباحة واللعب على الشاطئ ودفع السيارات العاطلة) التي ربما لا تكون بارزة في اعلانات أخرى موجهة للمرأة. ومن ثم فإن التحرر من المماثلة النسوية مع الخطابات المهيمنة التي اهتمت بالطمث، قد أسفر عن تغييرات في المزاعم التي تقال للجمهور عنه، وفي الأخير الى اتجاهات بديلة تُعنى بصحة المرأة. ومع ذلك يدل الطابع المجازي العجيب للاعلان المهتم بالمنتجات الصحية على عجز غير اعتيادي في تحمل هذه التجربة. فالإعلانات مازالت مهتمة بمحو آثار الطمث بصورة أكبر من التعامل مع مشاهد مشجعة عن فترات الحيض.
فإذن بالنسبة الى بيشو بخاصة، لا توجد الخطابات في عزلة، بل هي دافع وحلبة الصراع. وهكذا فإن الخطابات ليست ثابتة، بل هي حلبة لنزاع مطرد للمعنى.
ميشيل فوكو والخطاب
ما قد قلته ليس هو (ما أُفكر به)، بل لطالما أتساءل إذا كان يمكن ألا أفكر به.
(فوكو، 1979د: 58)
يبدأ عمل فوكو بمهمة شاقة في تفكيك ثيمة أن المعرفة تعبير عن فكر الإنسان.
(ماكدونيل، 1986: 86)
كان عمل فوكو مهما في تطور سلسلة من النظريات المختلفة التي صنفت وبشكل واسع تحت مصطلح <نظرية الخطاب> ولهذا السبب سيركز هذا الكتاب أساسا على عمله الذي كان دوما صعب الفهم ويعود ذلك في جزء منه الى أسلوبه المعقد تارة وكثافة المراجع التي يستعملها تارة أخرى. ولكن ربما يكون السبب الرئيس لتلك الصعوبة هو تحديه، أكثر من أي منظر آخر، المفاهيم الجاهزة PRECONCEIVED NOTIONS التي نمتلكها عن سلسلة طويلة من الموضوعات المختلفة مثل: الجنسانية والجنون والعقاب والذاتية واللغة.
وحاولت في الفصلين الثالث والرابع من هذا الكتاب أن ادنو من بعض كتابات فوكو التي ستساعد القراء على التفكير في مصطلح الخطاب. وقد اعطى فوكو بعض التعريفات العامة الذي سنناقشه لاحقا ببعض التفصيل، لكن ربما أن أكثر الطرق فائدة لبحث المصطلح هو معرفة كيفية استعمال فوكو له في مناقشاته للقوة والمعرفة والحقيقة؛ تلك التركيبة الأساسية للخطاب.
وليس عمل فوكو نظاما فكريا ولا هو نظرية عامة؛ إنه يمتد في موضوعات واسعة ومختلفة ومن الصعب جدا وصفه بالمؤرخ أو الفيلسوف أو المحلل النفسي أو المنظر النقدي. مثلما يقول هو نفسه:
كل كتبي… هي صناديق أدوات صغيرة… إذا أراد الناس فتحها، لاستعمال هذه الجملة أو تلك الفكرة كمفك او مفتاح لتوقف أو تشويه أو تحطيم أنظمة القوة، بما فيها تلك التي أبرزتها كتبي في الأخير… كان ذلك أفضل بكثير.
(مقتبس من باتون، 1979أ: 115)
ومن ثم فإن مصطلح الخطاب لم يتجذر داخل نظام أكبر لأفكار نظرية مفهومة تماما، لكنه احد عناصر عمل فوكو. ويسبب عدم وجود النظام هذا صعوبة أحيانا للمنظرين، وربما يكون احد أسباب وجود تعريفات مختلفة لمصطلح الخطاب، والتعديلات العديدة جدا لمعناه. ومع ذلك فعدم وجود النظام العام هذا يصنع مرونة مؤكدة عندما يحاول المنظرون استعمال عمل فوكو لقياس التغيير في الظروف الاجتماعية.
إن أحد اهم المناهج النافعة هو النظرالى الخطاب لا بوصفه مجموعة علامات او امتداد نص، بل بوصفه <ممارسة تشكل الأشياء التي تتكلم عنها منهجيا> (فوكو، 1972: 49).
فبهذا المعنى يكون الخطاب شيئا ينتج شيئا آخر (تفوها، مفهوما، أثرا) اكثر منه شيئا يوجد بنفسه او يمكن تحليله بمعزل عن الأشياء الأخرى. ومن الممكن الكشف عن البنية الخطابية التي تتكون في اطار معين، وذلك تبعا لطريقة معينة للتصرف والتفكير. ومن ثم نستطيع الافتراض ان هناك جمعا من خطابات الانوثة FEMINITY والرجولة MASCULINITY لأن الرجال والنساء يتصرفون في حدود معينة عندما يُعّرفون أنفسهم بأنهم ذوات جنسية. فهذه الأطر الخطابية تعين الحدود التي يتم فيها التفاوض حول معنى ان تكون جنسا GENDERED معينا. وتلك الخطابات هي التي يلجأ اليها المثليون والثنائيون والطبيعيون جنسيا عندما يحاولون الوصول الى فهم أنفسهم جنسيا؛ فعندما تتبنى سحاقية موقفا انثويا فهي فعلا تحوره وتعيد تشكيله، وبالنتيجة تخلخل الخطاب (بيل وآخرون، 1994). وربما يحدد الاطار الخطابي للإنوثة هذا أنواع الملابس التي تختارها المرأة، والأوضاع الجسدية التي تتبناها وطرق التفكير بنفسها وبالآخرين في ما يتعلق بعلاقات القوة.
أما في ما يتعلق بالتفكيرفي الخطاب كتأثيرات فمن المهم اعتبار عوامل الحقيقة TRUTH والقوة والمعرفة التي بسببها كانت للخطاب تأثيراته. فالحقيقة، بالنسبة لفوكو، ليست شيئا ناشئا عن تفوه، ولا هي ميزة مجردة ومثالية لما يطمح اليه الناس؛ فالحقيقة، كما يرى فوكو، شيء سلبي ودنيوي الى حد بعيد:
الحقيقة من العالم؛ إنها تنتج هناك بفضل قيود متعددة…لكل مجتمع نظامه الخاص للحقيقة، <سياسته العامة> للحقيقة التي هي: نماذج الخطاب التي يحتويها ويجعلها تشتغل كشيء حقيقي مثل: الآليات والأمثلة التي تمكن المرء من التمييز بين البيانات الحقيقية والزائفة؛ والطريقة التي يتم بها التصديق على كل واحدة منها؛ والتقنيات والاجراءات المثبتة للحصول على الحقيقة: حالة أولئك المتهمين بقول ما يحسب شيئاً حقيقياً.
(فوكو، 1979هـ: 46)
لذلك فإن الحقيقة هي شيء ما يجب إنتاجه اجتماعيا، أكثر منه شيئاً متعالياً TRANSCENDENTAL. ويحلل فوكو العمل الذي يؤديه الناس لإقصاء أشكال معرفية معينة من أن تعد أشكالاً <حقيقية>. فلنتأمل المثال الذي بحثه نورمان فيركلوف (فيركلوف، 1992ب)، في أن معرفة <بديلة> عن الصحة لا تمنح مكانة علم الطب التقليدي نفسها. وأنه تم بذل مقدار كبير من الجهد والعمل الخطابي من أجل ضمان أن ينظر الى الطب البديل على أنه ثانوي وغير متقن ويقع في حقل الدجل، مما يحفظ لعلم الطب سلطة <الحقيقة> و <العلمية>. ومن ثم فإن الخطابات لا توجد في فراغ بل في صراع مستديم مع الخطابات والممارسات الاجتماعية الأخرى التي تطلعها على مسائل الحقيقة والسلطة معا. وكما يعبر فوكوعن ذلك <أريد بمحاولتي هذه ان اكشف عن ان اختيارالحقيقة، داخل ما نقع به ونجدده باستمرار، كان زائفاً – بل كذلك كيف يتم تكراره وتجديده واستبداله> (فوكو،1981: 70). إذن لم يكن فوكو مهتما في ما اذا كان الخطاب حقيقة او تمثيلا دقيقا لـ <الواقع>، أو في ما اذا كانت العلاجات البديلة أكثر فاعلية من الطب التقليدي. فقد كان مهتماً الى حد ما بالآليات التي يقدم احد الخطابات بموجبها بأنه خطاب مهيمن، تدعمه ماليا مؤسسات وتقوم الدولة بتدبير البنايات والموظفين له، وتحترمه الجماهير جميعا، في حين ان الخطابات الأخرى عوملت بريبة وتقييم، على سبيلي الحقيقة والمجاز، في هامش المجتمع.
فالقوة، إذن، هي عنصر أساس في مناقشات الخطاب. وقد لعب فوكو دورا فاعلا في اعادة التفكير بنماذج القوة؛ بدلاً من مجرد الافتراض، مثل عدد من الانسانيين الاحرار، بأن القوة هي امتلاك (لذلك ان احدا ما يأخذ او ينزع القوة من شخص آخر) أو ان القوة تعني اغتصاب حقوق شخص اخر (مثلا فكرة ان القوة هي مجرد صد الناس عما يريدون فعله) أو كما يقول الماركسيون ان علاقات القوة تقررها علاقات الاقتصاد، وقد حاول فوكو ان يحسم تقبل المصطلحات تعقيد سلسلة الممارسات التي يمكن ان تجمع تحت مصطلح قوة. فهو ينتقد بشدة ما يصطلح عليه <الفرضيات المقموعة REPRESSIVE HYPOTHESIS> التي تعني أن القوة هي ما يمنع الناس من تحقيق أمانيهم وتحديد حريتهم ليس إلا. ويعبر جون فرو عن ذلك بالشكل الآتي:
اذا لم يعد ينظر الى القوة على أنها مجرد قوة سلبية أو قمعية، بل شرط انتاج كل الكلام، واذا فهمت على أنها بمثابة شيء قطبي أكثر منه متجانساً، وغير متساوقة ومشتتة، فسيكون كل التفوهات متشظية، وقابلة صورياً لاستعمالات متناقضة.
(فرو،1985: 206)
ويلخص هذا الكلام معنى تحليل فوكو للقوة الذي يعني ان القوة موزعة بين العلاقات الاجتماعية، أي انها تنتج اشكالا ممكنة من السلوك فضلا عن السلوك المقيد. وهذا النموذج المنتج للقوة شيء وجده عدد من المنظرين مفيدا، خصوصا عندما ننظر لطرائق تفكير الخطاب. وحول جنسانية الاطفال، في (تاريخ الجنسانية، المجلد الاول) أعطى فوكو مثالاً للطريقة التي تنتج بها علاقات القوة اشكالا ذاتية وسلوكية اكثر من مجرد قمعها، متكلماً بالخصوص عن الآراء التي قيلت حول العادة السرية وأجنسة (SEXUALISATION) الأطفال في الفترة الفكتورية فيذكر:
ليس دقيقا القول إن المؤسسة التربوية قد فرضت صمتا ثقيلا على الغريزة الجنسية للأطفال والمراهقين، بل على العكس تعددت أشكال الخطاب عن الموضوع منذ القرن الثامن عشر، وتكاثرت وجهات النظر ورسمت نقاطا عدة لترسيخ هذه الغريزة، فقد نظمت مضامين وخطباء مؤهلين. فالكلام عن الغريزة الجنسية للاطفال، واستمالة المربين والاطباء والمشرفين والآباء للكلام عنها، أو الكلام لهم عنها، وإتاحة للاطفال أنفسهم التحدث عنها، وإدخالهم في شبكة خطابات تتوجه اليهم؛ تتكلم عنهم تار، أو تفرض عليهم بعض المعرفة الكنسية تارة أخرى، أو تستعملهم أساساً لبناء علم أبعد من حدود فهمهم تارة ثالثة؛ كل هذا مجتمعا يمكننا من إزدياد حدة تدخل القوة بتعددية الخطاب.
(فوكو، 1978: 32)
لذلك، وبعيداعن الضغوطات المؤسساتية التي تقمع جنسانية الأطفال، فقد خلق هذا العمل الخطابي، في الحقيقة، اشكالاً يمكن للجنسانية أن تظهر فيها، كما يسترسل فوكو في نقاشه:
حارب المربون والاطباء جماع الأطفال الناقص ONANISM [العادة السرية الذكورية] مثل وباء يحتاج للاستئصال. مما استدعى وطوال كل هذه الحملة العلمانية ان يحشد عالم البالغين، في الحقيقة، حول الغريزة الجنسية للأطفال. فكان استعمال هذه المتع الغامضة مرتكزاً في تشكلها كأسرار (أي دفعهم الى المخبأ كي يجعل من اكتشافهم ممكنا)، وفي تعقبهم الى أماكنهم… أينما كانت هناك فرصة في ظهورها، وسائل المراقبة مركبة؛ والمصائد معدة للاعترافات الاجبارية؛ الخطابات الإصلاحية التي لا تكل مفروضة؛ الآباء والمدرسون متيقظون بريبة الى أن جميع الاطفال مذنبون. (نفسه: 42)
ويتابع فوكو في أن الحذر من قضية العادة السرية للأولاد، وبدلا من استئصالها، كان من العوامل التي قادت الى زيادة أجنسة الطفولة في الفترة الفكتورية.
ويناقش فوكو تداخل القوة والمعرفة الذي يعني أن كل المعرفة التي نملكها هي نتيجة لصراعات القوة أو تأثيراتها. فعلى سبيل المثال أن ما يُدرس في المدارس والجامعات هو محصلة صراعات كبيرة على إقرار سرديات VERSION OF EVENTS بعينها. فالمعرفة هي دائما نتاج لإخضاع الأشياء، أو يمكننا النظر اليها على أنها عملية تشكل الذوات بوصفها أشياء خاضعة؛ فمثلا عندما تراجع فهرس مكتبة الجامعة وتبحث تحت مصطلح <المرأة> ستجد مجموعة واسعة من كتب ومقالات تناقش اضطهاد المراة ونفسيتها والاعتلالات الجسدية والعضلية التي تعاني منها ونحو ذلك. واذا بحثت تحت مصطلح <الرجل> لن تجد المعلومات الوفيرة نفسها. (سأحلل في الفصل الرابع بدقة العلاقة بين النظرية النسوية ونظرية الخطاب). وستجد الشيء نفسه اذا راجعت الفهرس مرة اخرى وبحثت عن <الهند> أو <أفريقيا> في أن النتاج المعرفي للكتاب البريطانيين الذي يخص هذه البلدان في القرن التاسع عشر قد تزامن مع تلك الفترة عندما كان الصراع الكولونيالي في أوجه. (وسأتابع مناقشة هذه المسألة في الفصل الخامس الذي هو عن نظرية الخطاب الكولونيالي وما بعد الكولونيالي). وقد وصف فوكو هذا الربط بين نتاج المعرفة وعلاقات القوة بأنه <قوة / معرفة> (فوكو، 1980أ). وقد تصور أغلب منظري القوة الأفراد مضطهدين من علاقات القوة، لكن فوكو ينظر اليهم بوصفهم نتائج أو أمثلة لهذه العلاقات:
لا يعد الفرد نواة أولية… تأتي القوة لربطه… إنه بالأحرى أحد التأثيرات الرئيسية لها، حيث يأتي أشخاص واشارات وخطابات ورغبات لتعرف وتتشكل كأفراد. (نفسه: 98)
فالفرد يُعد، ها هنا، أثراً من آثار القوة وليس مَن تقرره تلك القوة.
الأدب بوصفه خطاباً
على رغم أن ليس كل قراء هذا الكتاب من طلبة الدراسات الأدبية والثقافية، تلك المجالات التي كان فيها عمل فوكو أكثر تأتيراً. وربما لذلك يمكننا السؤال لماذا يكون مفهوم فوكو للخطاب مهما بالنسبة للدراسات الادبية والثقافية، والسبب هو أنه على رغم تحليل فوكو لشيء من الادب، غالبا في شكل مراجعات، إلا انه كان بكل تأكيد ليس في صدارة اهتماماته. وفي عمله النظري لم يقدم تحليلات نصية بحد ذاتها. فيكون الخطاب، في بعض النواحي، مصطلحا مهما جدا لأسئلتنا لأنه يسمح لنا بالسؤال عن الأدب والنصية TEXTUALITY عموما. وقد حدد منظرون مختلفون الأدب بوصفه مكانا متميزا للنقد او نزوعا عفويا للتقاليد التي تعلمنا قراءتها ادبا، حيث يبين ماكدونيل:
تجعل مناهج الدراسة ومفاهيمها الحديثة للخطاب إمكانية تحليل الخطابات ممكنة في علاقاتها بالممارسات المؤسسية من خلال ما قد تم وضعه من تقسيم للنصوص وتشكيل <الادب> على أنه موضع تقديس معين. (ماكدونيل،1986: 7)
فدراسة الخطاب لا تفرق بين النصوص الأدبية والنصوص غير الأدبية، على رغم أن منظري الخطاب يدركون بشدة الاختلافات المؤسسية التي توجد بينهما. فنصوص التاريخ متميزة في علاقاتها بالقوة، على سبيل المثال كتابات السيرة الذاتية مميزة بعبارات صحتها المفترضة، الامر الذي يتعلق بصوت سلطوي؛ والنصوص الادبية لها علاقة معقدة بالحقيقة والقيمة معاً. هذا من جهة ومن جهة أخرى فتبدو تلك النصوص وكأنها تقدم <حقيقة> الشرط الإنساني، بعد عملها في الخيالي ومن أجل شكل <غير حقيقي>. ولكن لمناقشة التركيب اللغوي لخطابات الأنوثة والرجولة، مثلاً، تمكن مناقشة النصوص الأدبية الى جانب النصوص الأخرى مثل أعمال التاريخ والسيرة الذاتية، وحتى النصوص العابرة مثل كتب الطبخ والنصيحة ونحو ذلك. ومن أجل الكشف عن أوجه التشابه تعرض هذه النصوص على الحدود الأصلية. فلذلك ينفعنا الخطاب في أنه يسمح بتحليل أوجه التشابه عبر مجموعة من النصوص بوصفها نتاجات مجموعة معينة من علاقات القوة / المعرفة.
ويمكن اعتبار فوكو متشبثا بأفكار محافظة عن الادب بخاصة؛ مثلاً في جدله عنه بأنه منطقة مميزة تستعمل اللغة فيها بطرق لا مرجعية REFERNTIAL-NON. ولكنه في أغلب الامثلة التي يناقش فيها الأدب يصف الكتابة الطليعية AVANT-GARDE، وليس الادب عموما. فيذكر مثلاً:
كان هناك بالطبع وجود في العالم الغربي منذ دانتي ومنذ هوميروس لشكل من اللغة نسميه الآن <ادبا>. إلا أن كلمة[أدب] في العصر الحديث وفي ثقافتنا أيضا تعني انفراد لغة معينة بأسلوب غير مألوف كي تبدو <أدبية>… الأدب هو الصراع مع فقه اللغة… إنه يقود اللغة من النحو الى قوة الكلام المجردة، وهناك تصطدم بالوجود الجامح والمتغطرس للكلمات. (فوكو، 1970: 299 – 300)
ويبدو فوكو هنا يصور الأدب بوصفه نموذجاً محدداً للكتابة المنعكسة ذاتياً، لأنه يستمر في وصف الأدب بأنه:
توديع صامت وحذر للكلمة على بياض صفحة من الورق، حيث لا يملك الصوت ولا المحاور، حيث لا شيء ليقوله سوى نفسه، لا شيء يعمله سوى ان يسطع بإشراق على وجوده. (نفسه: 300)
مع ذلك يحلل فوكو كذلك عمليات الاقصاء التي تجري على المؤسسات مثل الأدب والخطابات النقدية التي هي ضرورية لدعم النصوص الادبية وبقائها متداولة. وكما سأوضح في الفصل الثالث المعني بالبنيات الخطابية، فإن مكونات الخطاب نفسها أقل أهمية من مجموع الممارسات التي هي ضرورية لدعم خطاب بعينه واقصاء خطابات أخرى من مواقع السلطة.
وقد ساعد عمل فوكو عدداً من المنظرين في تأمل الطريقة التي يعمل فيها الأدب الانكليزي بوصفه فرعاً معرفياً. فيذكر فوكو نفسه بأن:
النقد والتاريخ الأدبيان في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عيّنا شخص المؤلف، وشكل الأعمال الكاملة، مستعملين اجراءات معدلة ومزاحة للتأويل الديني، ونقد الكتاب المقدس، وسير القديسين، <حيواتهم> التاريخية أو الاسطورية، والسيرة الذاتية أو المذكرات. (فوكو،1981: 71)
وكانت خطوة تحليل الدعم المقدم الى الأدب بوصفه خطاباً ومؤسسة، وخطوة تعزيز الخطابات السابقة بالنقود الادبية مهمتين في الابتعاد عن التحاليل المقصورة على النصوص الادبية. فمثلا يعد عصر النهضة أو القرن الثامن عشر عصرين> فطريين <حيث ظلت مقولاتهما المستقلة في مأمن من اختراعات العلماء. وكما يبين برين دويل وكرس بالدك وتيري ايغلتون أنه رغم ان دراسة الأدب تبدو مألوفة و> اعتيادية>، اصبحت مؤسسة في لحظة حاسمة في التاريخ الثقافي الانكليزي عندما كان الايمان الديني يأفل وعندما كان هناك ضغط يمهد السبيل لمجالات دراسية للذين كانوا مقصيين في السابق من التعليم الرسمي (مثلاً، النساء وطبقة العمال) (دويل، 1982 وبالدك، 1983 وايغلتون، 1983). وفي الواقع ان دراسة الادب قد شرعت بصورة كبيرة جدا باستعمال البنيات الخطابية نفسها التي استعملت سابقا في دراسة الدين، مع بناء قوانين كنسية (المقولات الدينية نفسها للنصوص) والتركيز على الدروس الاخلاقية والقيم. وكما لاحظ برين دويل <ان تدريس لغة وأدب «قوميين» يعمل كسمة أساسية من سمات توليد العلاقات الثقافية في ما يدعى عادة مجتمعــ«نا»> (دويل، 1982: 17).
وينبغي أيضاً توضيح ذلك بأنه في ضوء الإطار الفوكوي للمرجع، والأدب، فضلاً عن كونه وسيلة يتأسس وفقا لها الاحساس بالثقافة القومية، هو أيضاً الوسيلة التي وفقا لها تتنافس نماذج الثقافة المشتركة. وتمكن رؤية هذه المنافسة في نمو الدورات الخاصة بالدراسات النسوية وإدراج أكبر للكتابة النسوية في مناهج الادب الدراسية السائدة جنباً الى جنب كتابة السود والكتابة باللغة الانكليزية. ولكن كما يعبر دويل:
ينبغي الملاحظة العاجلة الى أن «اللغة والادب الانكليزيين» بوصفهما حقلا لنشاط دلالي وتطبيقي لم يظهرا على هذه الساحة ببساطة من لا مكان تماما. بل أنه كان لا بد من العمل على ترسيم الصراعات وتحديد ملامحها بين معاني الحياة المختلفة والاشكال الثقافية. (نفسه: 19)
وبالاتجاه نفسه فإن الشعور بالثقافة الوطنية او الكنسية كان لا بد من عمل شيء ما يتجه نحو التنافس مع شكل تلك الثقافة التي هي كذلك شيء يتطلب صراعاً.
ويبين هذا مدى اهمية التحليل الاركيولجي لفوكو؛ فهو ببساطة لايهتم بتحليل الخطابات التي تنتشر في مجتمعنا في الوقت الحاضر، بل يريد أن يرينا اعتباطية ARBITRARINESS سلسلة هذه الخطابات وغرابتها على الرغم من ألفتها. ويريد فوكو كذلك أن يرسم نمواً لبعض التطبيقات الخطابية، وحتى يتسنى لنا أن نرى الخطابات متغيرة باستمرار، بدلا من أن تكون ثابتة كما يوحي بذلك الاعتياد عليها، ويمكن تتبع مصادرها في النقلات الاساسية في التاريخ. وعلى رغم ان مفهوم فوكو التأريخانية IOGRAPHYHISTOR قد تعرض الى الانتقاد (هاكنغ، 1986 وتايلور، 1986 ووالزر، 1986)، إلا أنه من المهم التأكيد على تمييز عمل فوكو في محاولته لرسم خريطة التغيرات في البنيات الخطابية على طول الزمن. وبالنسبة لفوكو فإن خطابا ما لا يعني مجموعة تفوهات ثابتة طوال الزمن؛ فهو يحاول العمل ضد مفاهيم التقدم والتطور التي تهيمن على الكثير من طرق التفكير الحرة. وبدلاً من النظر الى التاريخ على أنه مجرد تقدم باتجاه الحضارة الكبرى مثلاً، أو كما يقول الماركسيون إنه سلسلة من الصراعات الطبقية تقود الى قدر أكبر من المساواة، يرى فوكو بأن التاريخ عبارة عن انقطاعات؛ فليس هناك سرد سلس نستطيع به أن نفك شفرات الكامنة في التاريخ، ولا هناك أية استمرارية على الاطلاق. فهو يختلف مع الآخرين من أجل رؤية تاريخ انقطاعات وتحولات وتخبطات بطرق لا تقع ضمن حدود الفهم الانساني تماما، ولا تقع ضمن حدود سيطرتنا كلية. وقال في مقابلة:
مشكلتي لم تكن على الاطلاق في القول: إن هناك انقطاعا طويلا… بل بطرح السؤال الآتي: كيف يمكن ان تكون هناك تلك الانطلاقات المفاجئة في لحظات وحالات معرفية معينة، وسرعات التطور تلك، والتحولات التي لا تتطابق مع الصورة الساكنة التي لا تنقطع والتي تقبل على نحو اعتيادي. (فوكو، 1979: 31)
لهذا اهتم فوكو برسم خريطة لحظات الانقطاع هذه عندما مرت البنيات الخطابية بتغير راديكالي.
وأهدف في هذا الكتاب الى أن اشرح بالتفصيل الاستعمال الذي صنعه فوكو، نفسه، لمصطلح الخطاب، وسأقارن في الفصل الثاني استعماله لهذا المصطلح مع مصطلح الايديولوجيا. ومنذ أن كان للتفكير الماركسي تأثير خطير وفاعل في تطور فكرة الخطاب عند فوكو كان من المهم رسم تاريخ لمعنى ذلك الاختلاف والتركيز عليه. وسأحلل في الفصل الثالث البنيات التي تركب لبنات الخطاب. وبعد ذلك استمر في الفصلين الرابع والخامس بمناقشة التعديلات التي قام بها منظرو النظرية النسوية ومنظرو الخطاب الكولونيالي وما بعد الكولونيالي على تعريف الخطاب. وتقدم هذه الفصول كذلك أمثلة للطريقة التي يمكن بها أن يكون مصطلح الخطاب نافعا في التحليل النصي. واختبر في الفصل السادس بعض الأعمال اللسانية التي ركزت على مصطلح الخطاب والتي تغطي التحاليل المبكرة للخطاب وكذلك أعمال أكبر اللسانيين النقديين الفوكويين نفوذا وأعمال علماء النفس الاجتماعيين. وسيطوف هذا الكتاب من ثم حول المعاني التي تصاحب مصطلح الخطاب وحول المنابت المعقدة للقضايا المتعلقة بالمعرفة والحقيقة والقوة لتعيين حدود استعمالاتها. و لن يكون الغرض من وراء هذا الطواف هو أن هناك امتيازا خاصاً لمجموعة واحدة من المعاني التي انشأها المصطلح، ولا الايحاء بأن مجموعة واحدة من التأويلات التي صاحبت المصطلح <صحيحة> أو أكثر كفاية من الأخريات. ولا أكون مهتمة بتحجير اتجاه معين واحد لمعاني المصطلح. فبالاحرى اهتم بالتركيز في جميع انحاء هذا الكتاب على القيود والصعوبات النظرية التي تحدق بالمصطلح، وربما على اقتراح طرق يمكن لتلك الصعوبات ان تستعمل نقاطا قياسية لمزيد من البحث النظري.
هامش:
1- كانت لميشيل فوكو نقاشات عديدة وحامية الى أبعد الحدود حول معنى كلمة <STATEMENT>. وفي بعض هذه النقاشات جزم ان STATEMENT كان مثل فعل الكلام الذي طوره جون اوستين وجون سيرل. انظر دريفس ورابينو (1982: 44 – 49) لمزيد من التفصيل، وكذلك الجزء الخاص بـ STATEMENT في الفصل الثالث (60-62) من هذا الكتاب.
l هذا التقديم والترجمة هو الفصل الأول لكتاب «الخطاب».
ســارة ميـلز ترجمة وتقديم: غريب اسكندر
شاعر ومترجم عراقي يقيم بلندن