يُعتبر جان- كريستوف روفان Jean-Francois Rufin من أهم الروائيين الفرنسيين الحاليين، وقد حصل على جائزة الغونكور، سنة 2001، عن روايته «روج برازيل» Rouge Bresil (تتخذ من غزو فرنسا للبرازيل في القرن السادس عشر موضوعا لها)، وقد قدم روفان إلى الكتابة من مجال الطب حيث اشتغل طبيبا (نائبا لرئيس منظمة «أطباء بلا حدود») وسفيرا سابقا في السنغال وانتخب، مؤخّرا، عضوا في الأكاديمية الفرنسية، مجمع الخالدين. وهذه القصة التي ترجمناها هي واحدة من سبع قصص نشرها روفان في مجموعة قصصية حملت عنوان: «سبع قصص تعود من بعيد» (سنة 2012)… وما يجمع بين هذه النصوص هو البعد الجغرافي الذي يرتبط بالتاريخ. إذ لا يمكن لنصوص روفان أن تبتعد عن التاريخ وعن تفاصيله، ولعلّ روايته الفائزة بالغونكور شاهدة على حضورالتاريخ في النص الروائي. والقصة الحالية: «الغرقى»، لا تشذ عن التاريخ. فالتاريخ الاستعماري موجود فيها بقوة بكل ما يحمل من رواسب الحنين والجراح التي لمّا تندمل بعدُ، كما أن روائح ومعتقدات الشعوب المضطهدة موجودةٌ فيها بقوة. ولعلّ مواقف الكاتب الإنسانية والإنسانوية حاضرة في النص هي أيضا، حيث نحس بها من خلال بعض الشخوص، التي لا تستطيع الفكاك من ماضيها. والجدير بالذكر أن أعمال الكاتب إنْ في الطب الإنساني أو في العمل الدبلوماسي أتاحت له امتلاك معلومات وثقافة واسعة عبّرت عنها روايته الشهيرة: «كتيبة»Katiba، وقد اختار لها عنوانا عربيا، وفيها ما يشبه تنبؤات بأحداث جمهورية مالي الأخيرة. وحين تمتزج الإنسانية بالدبلوماسية بِحُبّ الرحلة والسفر والاستكشاف يكون الأدب هو المنتصر الأكبر.
النصّ:
اكتشفتُ الأمر في السحر. كنت أتخيل هذه اللحظة منذ زمن بعيد. لكني كنت أجهل الشكل الذي سيكون عليه الحدث. وفي تخوفي منه، كنت أنتظره.
منذ أكثر من أربعين سنة، أخرج من بيتي كل صباح للسباحة في المحيط. أقصده عند الفجر، الذي يأتي في مناطقنا، تقريبا طيلة السنة، في نفس الساعة. أغادر البيت وأنا أتزر تنورة زرقاء وبيضاء. الشاطئ صخري أمام البيت. يجب السير حوالي خمسين مترا تقريبا للوصول إلى الشرم الرملي الذي منح اسمه للمكان : شرم-القرصان. عندما أصل إلى الماء تكون الشمس بالكاد تلامس الأفق. تنتصب أشجار النخيل والنباتات المحيطة بها ببطء نحو السماء بينما تتمدد السحب، حين تواجدها، نحو الأفق وتستدفئ بنار الشمس الصغيرة بعد تعبها من الجري طيلة الليل خلف القمر. أتجرد من التنورة، أتركها تسقط على الرمل وأتمشى عارية إلى الماء. في تلك اللحظة بالضبط، لاحظت وجودها.
كانت تدير لي ظهرها، لأنها كانت تنظر إلى البحر. أقصر مني قليلا، كتفاها عريضتان وذراعاها متباعدان. تراجعت من الرعب. لم يكن بالإمكان تحديد لونها في انعكاس الضوء. كانت فقط خيالا أسودَ يرتسم في الأفق المتوهج. بعد تبدد الخوف الأول، اقتربت ببطء وأنا أتقدم في البحر أيضا وتجاوزتها لأتمكن من مواجهتها. وأنا أكتشفها أدركت أنها مجرد تمثال. محل الجزع الخارق للحظة الأولى حل بغض بشري متعقل لم يتوقف من ساعتها من أن يزداد عمقا.
هل أجرؤ على قول إنها كانت جميلة، رغم كل شيء؟ كان مرفقاها منثنيين وكفاها مضمومتين وأصابعها مفتوحة في وضعية صلاة. الرأس كانت خشنة. تتضح، من الوهلة الأولى، القولبة الكلاسيكية: غطاء الرأس المحدد، الأنف المسطح، العينان الكبيرتان الشبيهتان بحبتي لوز. كانت فعلا الإلهة شيفا لكن آلهة شيفا للعوام، بلا حسن، الشيء الذي يعمق أكثر الاستسلام للخرافات والتطير. لا شك أن المادة التي نحتت منها لم تساعد الفنان على تحديد التفاصيل. الطفح الرمادي الذي يشكل تربة جزيرتنا. كنت أفضل لو تم النحت على الخشب، أو المعدن، أو البلاستيك، ما أدراني؟ كونها من الطفح جعلها تبدو تعبيرا عن قارتنا الصغيرة مما خفف من طابعها الغريب وغير الشرعي والمثير.
تشرق الشمس بسرعة. كنت ما أزال أتأمل الإلهة الهندية التي حلت في المكان خلال الليل، عندما أضاء الشاطئ بأكمله. نحو الجنوب كانت الأمواج ترفع زبدها نحو رأس الغرقى. وداخل اليابسة أخذ نقش من الظل يرتسم على الغطاء النباتي. كان بإمكان عيون فضولية أن تختبئ فيه. حانت ساعة استعادة التنورة، الاتزار بها ثم الدخول. قمت بذلك وأنا أرتعش، متجمدة كما يكون عليه الحال في أيام شتاء النصف الجنوبي من الكرة الأرضية عندما تهب الرياح الباردة القادمة من القطب الجنوبي. لم أكن قد تبللت بالكامل.
وصلت إلى البيت. البيت الذي شيده والدي من أجلي في الستينات. كان عمري عشر سنوات حينئذ. كان والدي يفكر بعيدا. فيلا بسيطة على مستوى واحد نوافذها دائما مفتوحة. تعبر الريح الغرف وتأتي بالقليل من الانتعاش حتى خلال الأيام شديدة الحرارة. حسب اتجاهها، تكون معطرة بالرذاذ أو متخمة بحبات اللقاح من الداخل. حول البيت، كل شيء عنيف: البحر الذي يتكسر على الصخور، الشمس التي تدمرنا طيلة السنة، الحرارة الرطبة. لكن في هذا المكان الهندسي حيث تنتفي كل هذه القوى المتضادة يصل السلم إلى كثافة لا تضاهى، يجب أن أقول كان يصل لأنها هي أصبحت هنا.
في الأوقات العادية، أقصد المطبخ المنفتح من جميع الجهات على الصالون والشرفة. أشرب فنجان قهوة وحدي، وأتخلص من إثارة السباحة. ثم أقوم بإيقاظ زوجي من أجل الإفطار. هو فرنسي من أوبان. سبح طيلة طفولته في الخيران، لكنه رغم ذلك لا يعرف ماذا تعني جزيرة.
أحتفظ بذكرى محددة عن اليوم الأول الذي أحسست فيه جسديا بما كانت عليه أرضنا المسيجة. كان والدي قد حضّر السيارة، سيمكا فرساي كبيرة، بأجنحة مطلية بالكروم وكراسي من الجلد الأزرق. ساعدنا على التسلق إليها أنا وشقيقتي وشقيقي. كان اليوم الموعود: ننطلق أخيرا للقيام بجولة كاملة حول الجزيرة. اتجهنا نحو الشمال عبر مسالك تتلوى بين حقول القصب. من رأس إلى خليج، استغرقنا اليوم بأكمله لنرى كل شيء. وفي المساء، دون أن نعود إلى الخلف، وجدنا أنفسنا في بيتنا. أصبحت معطيات المشكل معروفة: نحن نعيش في مكان مغلق، تحيط به المياه. منذ ذلك اليوم، لم نتوقف عن النظر إلى البحر والجزيرة بتناوب عنيف من الحب والكره.
أحيانا كنا نختنق في هذا السجن المائي، نبغض البحر الذي يفصلنا عن العالم. الوقت الذي نرغب فيه بالسفر، مغادرة الجزيرة، اللحاق بباقي الإنسانية. مررنا جميعنا من هنا. أحيانا نرى البحر كدرع يحمينا من مآسي الخارج. تأرجح كل واحد منا طويلا بين الحالتين، ثم شيئا فشيئا تباطأت الساعة ثم توقفت ذات يوم. يرجع من كان بعيدا. ومن بقي يشكر السماء. هذه كانت السعادة التي حصلت عليها منذ حوالي عشرين سنة. وهي التي تحطمت هذا الصباح.
دخل زوجي إلى المطبخ دون أن أسمعه. وجدني واقفة، ذراعاي متدليان وعيناي تائهتان في الفراغ، أنظر ناحية الشرم. انتفضت عندما قبلني.
إيريك رجل لطيف . نحن متزوجان منذ أكثر من ربع قرن وقد سافر جميع أبنائنا للدراسة في الخارج. هو الكائن الوحيد الذي يفهمني دون أن أحتاج إلى النطق بكلمة. من الأصح القول إنه يعرفني. إذا كان يدرك مشاعري وانشغالاتي ورغباتي، أنا متأكدة أنه لا يدرك الواقع على طريقتي. الجزيرة بالنسبة إليه جزء من العالم الشاسع الذي قرر أن يجوبه عندما كان في العشرين من عمره. مخر عباب المحيطات والتقى الحب – يعني أنا، صدفة. استقر بالجزيرة وأسس عملا. في العمق، يمكن أن يكون في مكان آخر، بينما أنا ليس لي سوى هذا المكان. جاءت عائلتي في القرن الثامن عشر. يوجد ضمن أسلافي فرنسيون وإنجليز وهولنديون وبلطيقيون، لكن قبل كل شيء، الشيء الذي كان يعرفهم هو الجزء من الجزيرة الذي استقروا فيه. بالنسبة لمن يعيش على الضفة الغربية، يعتبر سكان الضفة الشرقية أو نجود الوسط أجانب حقيقيين.
أحس إيريك في الحال أن شيئا ما قد حدث. أنا التي أكون نشيطة في الصباح، كنت كمن أصيب بالشلل. لم أكن أملك القوة التي تمكنني من أن أشرح له ما حدث. قلت له ببساطة : « اذهب إلى الشرم.» ارتدى سروالا قصيرا وانطلق.
مهما كان الشيء الذي قررناه، فقد أصبح الوقت متأخرا في ذلك اليوم لفعل أي شيء.
ذهبت للجلوس في الصالون، أدرت ظهري للبحر. عاد إيريك في تلك اللحظة.
– متى قاموا بذلك؟
كان غاضبا. مثلما يحدث غالبا، أحسست أن سوء تفاهم يحل بيننا بخبث. كنا نتحدث عن نفس الحدث، لكني كنت متأكدة أنه لم يكن يضفي عليه نفس المعنى. بالنسبة له، مجيء التمثال كان خلاف جوار، مسألة محافظة على الموقع، مثلما يحدث في الشاطئ اللازوردي أو في مكان آخر.
لو تحدثت بدقة أكبر لقلت إنها نهاية النهاية. لأني في الحقيقة إذا قمت بتقييم لحياتي على هذه الجزيرة وحتى حياة أسلافي فنحن لم نتوقف من أن ينتابنا، ببطء، إحساسٌ بالانحطاط الذي هو إحدى نتائج محدودية جنسنا. كل حقبة من التاريخ، وهي تملأ الجزيرة شيئا فشيئا، وهي تستقبل سكانا جددا، كانت تعجل اللحظة التي سينتهي فيها كل شيء. شيء يستعصي فهمه على الذين أتوا من القارة. الفراغ بالنسبة لنا هو الطبيعة والغنى والحياة. الامتلاء هو نفاد كل شيء والافتقار والموت.
تفحصت جيدا، قال إيريك وهو يوافيني إلى الصالون بفنجاني قهوة. وضع على سطح الأرض. فهمت في الحال ما كان يرمي إليه. خطرت ببالنا نفس الفكرة، لكن بالتأكيد عبر مساري أفكار مختلفين.
– أتظنه ثقيلا؟ سألته.
– لا، إنه من الطمي الفقاعي. بتعاوننا نحن الاثنين سيكون الأمر يسيرا.
– سنقوم بذلك الليلة؟
ابتسم لي. نهضت وذهبت بالقرب منه وأحطت عنقه بذراعي. لم نعد شابين. يمكن أن أقول إننا بدأنا نشيخ. الحنان بيننا بدأ يأخذ نغمة مؤلمة تقريبا لكنها أجمل مما كانت عليه أيام شبابنا. ما نتقاسمه ليس فقط الصحة والجمال والقوة، لكن أيضا مساوئ التقدم في السن والقلق من الوقت الذي يأتي والذكريات التي شكلت حياتنا، سواء الجميلة منها أو السيئة.
أكبر أسطورة في الجزيرة هي أسطورة بول وفرجيني.
لا يمكن أن يقع المرء في الحب هنا دون أن يفكر فيهما. حتى لو حاولنا أن ننساهما فالمعلمة، على بعد بعض الأمتار من بيتنا، موجودة لتذكرنا بهما. في الليالي العاصفة، خلال فصل الأعاصير، أضم إلي إيريك. كل شيء في البيت يفرقع، تعبر الريح البيت وهي تعوي، ترتمي أغصان النخيل المنخلعة على السطح. أتخيل نفسي على ظهر الباخرة مع بول، وأنا فيرجني. أقاسمهما مشاعرهما. كل شيء قوي في ذكرى العاصفة. كل شيء له مذاق لا نجده في مكان آخر: الخوف من الموت، مذاق الرذاذ المر، العطور الآتية من اليابسة. البيض هنا كلهم أبناء حوادث غرق.
انطلاقا من اللحظة التي اتخذنا فيها قرارنا، مر كل شيء على أحسن ما يرام. لم أظن يوما أن النهار يمكن أن يكون بهذا الطول. تناولنا الغداء في الشرفة وشغلت ذهني بتحضير طبق كاري معقد.
في الشرم كان هناك القليل من الناس، كما العادة، خلال نصف النهار الثاني. لا توجد قرى قريبة من بيتنا. يجب السير عدة كيلومترات للوصول إلى المكان. نحن في معزل عن الزحام.
في الماضي، عرفت هذا المكان خاليا تماما طيلة أيام السنة. عندما كان والدنا يأخذنا إليه، كان يحدث أن تكون نفس الفكرة قد خطرت على بال عائلة محلية أخرى، كنا نعرف بالضبط بمن يتعلق الأمر. كان السيدان يرفعان قبعتيهما، يتبادلان بعض الكلمات، يمسدان صداريهما، ثم يصحب كل منهما صعاليكه إلى طرف من الشاطئ.
يوجد بيتنا العائلي على بعد بضعة كيلومترات من هنا. بعد وفاة والدينا ورثته أختي الكبرى. هو بيت كبير بأعمدة. وضع زوج أختي، الذي يعتبر صيادا كبيرا جوائزه في القبو مع مجموعته من البنادق. وبالتالي أصبح لزاما تصفيح الأبواب ووضع أجهزة إنذار. عندما كنا صغارا، لم يكن البيت يغلق أبدا. في الأيام التي كنا نقصد فيها الشاطئ، كنا نصحب الجميع، من الطباخين إلى الخدم، وكان البيت يظل فارغا. يجب القول إن المنتزه أصبح محدودا. تحيط المدينة بالبيت، في حين كان في الريف تماما في تلك الحقبة.
كيف يمكن أن أتحدث عن هذا الماضي دون أن أبدو مفرطة في الحنين إلى الحقبة الاستعمارية؟ لا يمكن أن نصف اليوم ذلك المجتمع المتحضر جدا والمرتكز على العنف والرق. كان متمدنا وهمجيا، ينقسم إلى طبقات جامدة لكن متساوية، تحكمه العديد من القوانين والأعراف التي يستحيل خرقها ومع ذلك كان أكثر حرية مما نحن عليه اليوم. ولد مجتمع آخر، جعل المجتمع الذي سبقه غير مفهوم.
بعد ولادة ابننا الأخير، خطرت لي فكرة كتابة رواية عن تلك الحقبة الغابرة، على طريقة ذهب مع الريح. توقفت بعد حوالي مائة صفحة. لا تزال في أحد الأدراج. الصعوبة بالنسبة لي لم تكمن فقط في الكتابة. العائق الحقيقي، أمام ذكر ذلك العالم، كان هو التحدث عنه بصيغة الماضي. لأنه إذا كان قد اختفى، فنحن لم نخرج منه بعد. عندما أقول نحن، أتحدث عن الذين ولدوا فيه مثلي. أنا ما زلت أنتمي إليه بشكل سري. أعدنا بناءه قدر الإمكان. انغلقنا في أملاكنا، شيدنا أسوارا محيطة، هربنا إلى الأرياف ثم إلى الساحل. وفي النهاية أوقفنا المحيط. وها نحن في بيتنا المنعزل، قبالة البحر. باحتفاظنا بأعيننا متجهة نحو الأفق، نوهم أنفسنا أن الجزيرة لم تتغير. ثم ذات يوم، عند الفجر، يمسك بنا الواقع…
رغم أن زوجي متقاعد، إلا أنه يواصل تسيير شركة إلكترونية بحرية من أجل أصحاب اليخوت. توجد المكاتب في مدخل العاصمة. كان عليه الذهاب في ذلك اليوم من أجل بعض الاجتماعات. تركني وحدي. بدل أن أظل وحدي في البيت أقوم بالاجترار، قصدت فندقا كبيرا، على بعد بعض الكيلومترات من البيت، من أجل تناول الغذاء والمرور عند مصفف الشعر. هذه القصور تأوي سياحا لا يعرفون الجزيرة وهم يكونون عنها فكرة فقط عبر المؤسسة التي تستقبلهم. كل شيء مخطط كي لا يحتاجوا إلى الخروج منها. نجد في المكان جميع الخدمات المتنوعة، من صالون التدليك إلى المكتبة، مرورا بجميع الأنشطة الرياضية التي يمكن تخيلها. في الماضي كان يحصل أن أدخل في حديث مع السياح. لكن اليوم، جهلهم يثنيني عن ذلك. فلنتجاوز عن كونهم لا يعرفون شيئا عن الجزيرة. لكنهم يعوضون الفضول بيقين التقطه المرشدون . يستعرضون عليك حتما نفس المقطع «التعايش المتناسق لجميع الأعراق» لو حدث أن اعترفنا بانتمائنا إلى طبقة المزارعين القديمة، لصرخوا وهم يهزون رؤوسهم بطريقة معينة: «آه، العشرون في المائة من الساكنة التي تتشبث بامتيازاتها». بالكاد هم يحبسون أنفسهم عن سؤالنا عما إذا كان ما يزال عندنا عبيد.
نحن نمثل في نظرهم نظاما يدينونه بدون أية محاكمة. ومع ذلك فهم لا ينزعجون من كون تنظيم الفنادق يحاكي حياة منازلنا في حقبة الدومنيون الكبيرة. يتولى البيض المناصب القيادية؛ تهتم الأفريقيات بالغرف وهن يرتدين بدلات العمل؛ يهتم الهنود المبتسمون بالخدمة؛ والصينيون في المطابخ. الشواطئ ممنوعة على السكان الأصليين. فقط يُسمَح لبعض الصيادين في قوارب تقليدية بالقيام ببعض الحركات أمام المظلات، كي يضفوا بعض اللمسات الجميلة والملونة على شاشة البحر الفيروزية.
لو أوقفت أحد السياح الذين التقيت بهم ذلك اليوم في الفندق، وشرحت له ما نحن بصدد فعله، لانتفض من الرعب.
شبيهو بول وفيرجيني التوافه هم ألد أعداء الغرقى الحقيقيين الذين نمثلهم نحن سكان الجزيرة.
حوالي الخامسة، التقيت، وأنا عائدة بالسيارة، مجموعة من الهنود القادمين من الشواطئ والعائدين إلى داخل الجزيرة. عندما وصلت إلى البيت، كان الغروب يتهيأ. غروب الشمس على هذه الجزيرة مشهور بجماله، لكني أكره ذلك المنظر. بقدر ما أفضل الفجر، بصقيعه المتجمد، تبشيره بيوم جديد، الإحساس برؤية شمس جديدة تطهرت بغوصها الليلي في المياه، بقدر ما يبدو لي الغروب دراما بشعة. أكره الأحمر. لا توجد عندنا ولو زهرة بهذا اللون، ولا حتى الكركدية. بينما كانت الشمس تغرب، أخذت حماما وغيرت ثيابي. دخل زوجي في تلك اللحظة. هو أيضا بدل ثيابه وارتدى ثيابا ملائمة للمهمة التي كنا بصدد القيام بها : جينز أسود، قميص داكن بدون أكمام، حذاء رياضي.
– لقد راجَعْتُ التقويم القمري. أخبرني إيريك من الحمام.
حسب نبرته عرفت أنه بحالة جيدة.
– وإذا؟
– ستكون الليلة مظلمة إلى حدود الثانية صباحا.
– ممتاز!
كنا، للمرة الأولى من فترة طويلة، سنقترف جرما. في الجزيرة كما هي اليوم، لا يوجد خرق أشد، بالنسبة للبيض، من الذي كنا سنقترفه. رغم ذلك، وربما بسبب ذلك كان إيريك سعيدا. كنت أحب فيه تلك الطاقة والشجاعة والحماس. مقابل العصاب الخفيف لسكان الجزيرة كان يقدم القوة النقية والساذجة لشخص أفكاره بسيطة عن الخير والشر.
تناولنا عشاء خفيفا ونحن نختلس النظر إلى الشرم. كانت الرياح قليلة والبحر هادئا، الشيء الذي كان يسهل لنا المهمة. شاهد إيريك عناوين النشرة على التلفاز. كان الرئيس الهندي ذو الهيئة البريطانية يعقد اجتماعا في وسط البلد. في الجموع المتجمهرة أمامه كانت تظهر بقع حمراء لفساتين الساري. طلبت منه تغيير القناة بسبب الأحمر.
في العاشرة أخرج إيريك السيارة رباعية الدفع. لم تكن السيارة المناسبة للقيادة ليلا. لكن كان علينا التقدم بعيدا في الشاطئ دون أن نغور في الرمل. بالسير إلى الخلف استطاع إيريك أن يصل إلى خمسة عشر مترا من الماء. انتظرنا لحظة في الظلام، كي نتحقق من عدم رؤية ظلال مريبة. خلال الليل يظل في الشاطئ بعض العشاق أو السكارى. ذلك المساء لم يكن ثمة شيءٌ يتحرك.
إذا، خلعنا أحذيتنا وطوينا أسفل سراويلنا. دخلنا إلى الماء وتقدمنا إلى التمثال. كان البحر دافئا وهادئا. في الظلام التام كانت شيفا أكثر تأثيرا مما بدت عليه في النهار. كانت تبدو أكبر. شككت لحظة فيما إذا كنا نستطيع نقلها، لكن إيريك كان قد أمسك بها من كتفيها. مال التمثال دون مشاكل، وفي الحال كان ممدودا على الأرض مثل جثة أو جذع شجرة.
– امسكيه من رجليه، قال لي إيريك.
كانت كتلة الطمي ثقيلة لكن ليس بالمقدار الذي كنت أخشاه. مع ذلك كان علينا القيام بالعملية على عدة مراحل حتى السيارة. كان الرمل رخوا مما كان يجعلنا نتعثر. كان إيريك قد نزع المقاعد الخلفية مما ترك لنا ما يكفي من المكان كي نمدد فيه التمثال.
– ليس لنا وقت نضيعه، صاح بي إيريك.
صعدنا إلى السيارة. ونحن صامتان ومضطربان بسبب الوجود الأخرس للإله الممدد وراءنا، سلكنا طريق الداخل. عند الخروج من المنزل كانت الطريق تقطع حقول قصب السكر التي كانت بالضرورة فارغة. كنت ألقي على إيريك نظرة من حين لآخر. كان يزم شفتيه ويشد على فكيه. عندما يكون متهيئا لخوض أحد الأخطار، كان يحتفظ بردة الفعل هاته، كأنه ثور صغير. ظهرت أول صعوبة عندما دنونا من القرية التي تطورت في ملتقى الطرق بين طريق الشاطئ والطريق الرئيسي. عندما كنت صغيرة، كان يوجد في المكان فقط كنيسة صغيرة يقصدها العمال الزراعيون وحانة تبيع نبيذ القصب ومصلح عجلات.
اليوم، هي مدينة هندية. تنسل الطريق بين صفين متصلين من الواجهات بطابق أو طابقين. هي بنايات فقيرة، من الطوب الإسمنتي؛ عشوائية بشكل لافت. طليت بعض الحيطان بألوان صارخة، وغطيت أخرى بمربعات الحمامات، وتركت أخرى عارية. كل المنازل تتوجها قضبان من الحديد والإسمنت تقوم بشكل عمودي، شبيهة بشعر منتصب. هي موجودة تحسبا لأي اتساع مستقبلي عندما يصل أبناء جدد.
كنّا دوما نسقط في الفخ: عندما يكون كل شيء حول بيتنا مظلما ومقفرا، تكون القرية لا تزال تعج بالناس وتلمع بكل أنوارها. يبدو أن النشاط لا يتوقف فيها أبدا. هي إحدى الميزات البارزة في الهنود ألا يرتاحوا أبدا. رغم الساعة المتأخرة، حللنا وسط جموع مزدحمة.
ونحن نسير في شوارع القرية، كانت أضواء الواجهات تضيء السيارة بالكامل. كنا قد أهملنا تغطية شيفا. إذا اضطررنا للوقوف، سيكون بوسع أحد المارة أن يرى شيفا بمجرد أن يلقي نظرة داخل السيارة. من حسن الحظ أننا اجتزنا القرية بدون مشاكل. على ضوء آخر مصباح، لاحظت أن جبين إيريك يقطر عرقا، رغم أن الليل لم يكن حارا.
على الطريق الرئيسية التي نسميها الدائرية لأنها تدور حول الجزيرة، كانت السيارة وهي تسير بأقصى سرعة تغرغر بشكل خطير. اجتزنا قرى أخرى دون أن نبطئ. كانت إحداها تنتهي ببناء كبير من الإسمنت، على شكل متوازي أضلاع تضيئه أضواء زرقاء من النيون وفوقه صليب كبير. كان معبدا لوثريا، « إخوة اليوم الأخير». رمقني إيريك بنظرة وابتسم. كنا غالبا ما نمزح بخصوص هذه الكنيسة. كنت أقول له إنهم نحن، إخوة اليوم الأخير، آخر المنحدرين من الرجال الأوائل، الذين يعود إليهم امتياز وضع حد لإقامة ثلاثة قرون في الجنة.
كان إيريك يستهزئ من نظرتي للعالم، هي عكس نظرة المسيحيين. كان يقول لي : «بالنسبة لك، الأرض أبدية والجنة هي التي لها نهاية». لم يكن مخطئا تماما. كان بالإمكان تتبع المجاز. في الجنة ارتكبنا ما اعتبر في حقنا الخطيئة الكبرى، الرق. لم يكن باستطاعة بول وفيرجيني بناء المجتمع الأبيض اللامع الذي ساد على الجزيرة دون اللجوء إلى هذه الجريمة.
إذا قارنا غرقهما بالخلق، يجب الاعتراف أن الله لم ينزل على هذه الجزيرة كائنين، رجل وامرأة، لكن ثلاثة. الكائن الثالث كان عبدا. الانسجام والسلم والازدهار الذين ميزوا تلك الحقبة الذهبية كانوا يحوون باطنا أخفي بعناية. هذا الجزء من الظل لم يتوقف عن أن يكبر وينازعنا النور خاصتنا. كان لعالم العبودية دوما وجهان : الوجه الأمومي، المألوف والوديع لمرضعاتنا وطباخاتنا ومدبرات بيوتنا، والوجه العنيف والخطير للعبيد الآبقين والثورات الدموية والمحاكمات الدولية. وفي الأخير استبدلنا الرق بالعمل الحر، لكنه بئيس. قمنا باستقدام صينيين وماليين وهنود من بهار، حلوا محل جميع الآخرين في النهاية. وأخذت الحياة مجراها.
ولدت في أواخر حقبة الحفلات تلك. كنا نذهب في العربات من منزل لآخر، كنا شبانا، لامبالين، أغنياء، بِيضاً وعلى قدر من الجمال. كنا أسيادا، وفي العالم المرتب الذي كنا نسود فيه، كان كل واحد منا يشغل منصبه. لم تكن الطبقات تختلط. لا يوجد بالنسبة لنا شيء خارج طبقتنا. كان الهنود في الحقول أو في القرى، لكن لا أحد كان يهتم بذلك. كان لهم مكانهم، كما للأبقار مكانها في الحظائر وللأدوات مكانها في المستودعات وللغلال مكانها في المخازن.
في كل مرة كانوا ينتظمون فيها للحصول على بعض الحقوق، كنا نترك لهم قليلا من المكان، مثل شخص يتحرك قليلا على الكرسي دون أن يوجه الكلام لجار يأخذ راحته. كلما زاد عددهم، كلما قل عددنا وقلت رغبتنا في رؤيتهم. كما لو أننا برفضنا النظر إليهم، كنا نحرمهم من الوجود الحقيقي، الوحيد الذي له أهمية في نظرنا، ذلك الذي يسري داخل عالمنا.
لم يخبرني إيريك شيئا، لكني خمنت إلى أين يأخذنا. كفرنسي مولد من كل مكان، ينحدر بمقادير مختلفة من الموريسكيين والكاطالونيين والباسكيين والحوذي البروتاني لم تكن له أية فكرة جاهزة عن الجاليات الأخرى. حتى إنه كان يهتم بهم. عين في شركاته هنودا وصينيين وأفارقة من جميع الأصناف وحتى مسلمين جاءوا من ساحل زنجبار. لم يكن يتعامل معهم باللياقة الباردة التي تعبر عن الخوف والاحتقار اللذين تثيرهما الطبقات المستعبدة لدى أرستقراطيي الجزيرة. كان قادرا على الاستماع إليهم، والضحك من نكاتهم، ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم. كان مهتما بمعتقداتهم وتاريخهم ولغاتهم. كان يقوم بكل هذا بدوني، لأنه كان يعرف أن ذلك يفوق طاقتي. وكنت أتسامح مع ذلك الشغف كما نغفر لطفل صغير سخافة ألعابه. لكن شيئا فشيئا، توقف إيريك عن ذلك. كلما توترت العلاقات في الجزيرة، خصوصا بعد أن استولى الهنود على السلطة السياسية، ألقي البيض في نفس الطائفة: طائفة محبي الاسترقاق. عاش إيريك بعض التجارب المرة. شيئا فشيئا تقيد بموقفي وأخذ هو أيضا يبحث عن العزلة والوحدة. هو الذي لم يرتبط من قبل كثيرا ببيتنا، حيث كان يعتبره بعيدا جدا عن الحياة، وغارقا جدا في الطبيعة النباتية والبحرية، بدأ يحس بقيمته. قَلَّ خُروجُه من أجل العمل ولم يعد يحس بالراحة سوى في البيت.
لكنه احتفظ، من الوقت الذي كان يعاشر فيه الهنود، بمعرفة جيدة بعاداتهم وبأماكنهم الثقافية. كنت أشك أنه يقودنا إلى أحد تلك الأماكن.
كنا قد غادرنا الطريق الدائرية واتجهنا نحو الداخل. كنا نسير في منطقة خالية من القرى. كل شيء في الخارج كان مظلما في غياب القمر.
فهمت، حسب سرعة المحرك، أننا نصعد عقبة طويلة. كان إيريك يأخذنا نحو مناطق غابوية وجبلية في الداخل لم أكن أعرفها جيدا. لم تكن الأرستقراطية تعتبر جديرة بها سوى المناطق المنتقاة، ضفاف البحر أو الأنهار ومرتفعات العاصمة عند الاقتضاء. جبال الداخل، غير الصالحة للزراعة، تركت مهجورة بغاباتها البدائية. كان العبيد الآبقون في الماضي يختبئون بها. عندما وصل المهاجرون الآسيويون، أخفوا فيها جميع أنواع العبادات.
منذ أن تم السماح رسميا بممارسة جميع الشعائر، حتى في أصغر القرى، لم تفقد تلك المعابد المختبئة من قوتها، بل العكس. أصبح الهنود، خاصة، يقصدونها بانتظام. أفترض أنهم يخصصونها لرغباتهم الحميمية. هم يبحثون فيها عن دعم من آلهة أكثر وحشية وأكثر قدرة من تلك المزروعة في معابد الإسمنت على جنبات الطرق وعلى مرأى من الناس.
تذكرت أن إيريك كان قد اصطحبني منذ خمس عشرة سنة، منذ الفترة التي كان يهتم فيها بالحضارة الهندية، إلى أحد تلك المعالم المقدسة. كانت الأشجار التي تشكل جذوعها أعمدة المعبد تكون، فوق الأرض بعشرين مترا، قبة بالكاد تعبر عبرها الشمس. كانت تماثيل الآلهة الهندية موضوعة هنا وهناك في المكان كأنها في معرض. ربما لخلق هذه الأجواء الطبيعية، لكن في إطار أكثر هدوءا، أخذ الهنود ينشئون في السنوات الأخيرة معابد على السواحل وحتى في البحر. ربما أيضا ليظهروا أن كل فدان في الجزيرة كان متاحا لهم. كان يبدأون عامة، كما حصل عندنا بوضع تمثال على الرمل. ثم يأتي آخر، وشيئا فشيئا يتحول الشاطئ إلى مزار. أصبحت الجموع المتكاثرة التي يتزايد عددها في كل مرة تجتمع هناك. كي يعيشوا وكي يموتوا بالقرب من الآلهة، أصبح العجزة والمرضى والسادهو (الرجل المقدّس في الديانة الهندوسيّة) يختارون السكن في الجوار. وبالتالي أصبح بائعو الشاباتي يقيمون أكشاكهم في المكان للاستفادة من الوضع. في وقت قصير أصبح المكان المقفر شبيها بضفتي الغانج. هكذا أصبح منزل إحدى قريباتي الموجود بمحاذاة البحر على الساحل الجنوبي وسط محج من هذا النوع.
انتهى الأمر بقريبتي إلى الهجرة إلى أوروبا. لكنها تصغرني كثيرا. لديها موارد ذهنية ومعنوية استنفدتها أنا شخصيا….
أية أفكار كان إيريك يجترها في صمت بينما كانت السيارة تطن في العقبة؟ ليست هذه الأسئلة التجريدية بالتأكيد. هو إنسان عملي. يحب التفاصيل التي فيها يكمن، حسب رأيه، نجاح أي عمل. أحد تلك التفاصيل خطر في ذهنه في تلك اللحظة.
– اذهبي إلى الخلف وقومي بتغطيته. يوجد غطاء صوفي في الصندوق، تحت المقعد الشمالي.
تسحبت بين الكراسي وذهبت للبحث عن الغطاء. على ضوء المصباح اليدوي رأيت التمثال المستلقي على الظهر يبتسم بطريقة مبهمة. في تلك اللحظة وعيت بالخطر. في الجزيرة، في تلك الأثناء، ومع احتدام العداء الذي تنامى بين الجاليات، يمكن لأقل حادث أن يشعل حريقا. أن تضبط إحدى ممثلات أعرق عائلات المزارعين وهي تسرق ( نعم، سيقال تسرق، إلا إذا فضل الصحفيون « تدنس») إلهة هندية، هذا الذي سيتسبب في فضيحة مدوية إذا استغل بمهارة، يمكن للحادث أن يسبب ردود فعل عنيفة، نهب وحتى جرائم.
كنت قد غطيت التمثال وعدت إلى مقعدي عندما أوقفتنا إحدى الدوريات.
كانا اثنين، كهل وشاب. حدثنا الكهل في الأول. كان وجهه مليئا بالتجاعيد، وثناياه متباعدتين. حدثنا بأدب. كان ظاهرا أنه أحد الذين أثقل عليهم العهد القديم، عهد الخدم الذين كانوا يخشون أسيادهم.
– سيدتي، سيدي نهاركما سعيد. هل يمكن أن تقدما لنا أوراق السيارة لو سمحتما؟ وأوراقكما أيضا، من فضلكما.
بينما كان إيريك يأخذ أوراق السيارة المخبأة في الواقي من الشمس، كان الرجل يختلس النظر إلى السيارة. بالتأكيد كنت قد نسيت أن آخذ جواز سفري. هو شيء لا يصدق بالنسبة لي أن أحمل معي بطاقة هوية على الجزيرة. استقرت عائلتنا بها منذ فترة طويلة، وهي جد معروفة بها، لذا تعودت منذ الطفولة أن يتعرف علي الجميع. كانت إحدى العلامات التي تحسسني أني في دياري. في مكان آخر سيكون علي تحقيق وجودي من الإذن الذي يمنحني إياه الآخرون والذي يسمونه الهوية. هنا، أنا موجودة بشكل طبيعي، كما البحر، وحقول القصب أو التلال. لكن تلك الحقبة كانت قد ولت، وها أنا أخطئ التصرف.
مرة أخرى، كان إيريك قد فكر في كل شيء. أخرج جوازي سفرنا من جيب قميصه. حرك الرجل رأسه محييا وهو يتفحصهما. لا بد أن اسمي قبل الزواج ذكره بشيء فانحنى أمام ما يعبر عنه. من سوء الحظ، في نفس اللحظة جاءنا صوت الشرطي الشاب العدواني. كان يدور حول السيارة وهو يُصوِّب مصباح الجيب خاصة نحو النوافذ. قال لزميله شيئا بالهندية.
انقبض قلبي. أدركت أني لم أفكر في شيء. لا في الدوريات على الطريق، رغم وفرتها منذ أن أخذت عصابات المجرمين تملأ القرى. ولا في ضرورة تقديم تفسير لتواجدنا خارج مسكننا في عمق الليل. كنا قد ألقينا نفسينا في الهاوية.
– إلى أين أنتما ذاهبان؟ سألنا الشرطي الكهل الذي اضطرته عدوانية زميله لأن يتحدث بطريقة سلطوية.
– ماذا كان باستطاعتنا أن نجيب؟ نظرتُ إلى إيريك، وأنا أجده هادئا وطبيعيا، أحسست نحوه بحنان جارف. كان قد فكر في كل شيء.
– توجد كنيسة بعيدة شيئا ما، تعرفونها؟
– لا.
– الأمر طبيعي، يجب أن يبحث عنها المرء كي يجدها. هي في الحقيقة كنيسة صغيرة بنيت على درجة صخرية وسط الغابة. نصل إليها بعد نصف ساعة من السير.
كان الشرطي يتنفس مفتوح الفم. كانت سناه الأماميتان ترفعان شفته وتضفيان عليه هيئة أرنب وديع.
– يوجد في الكنيسة قوة، واصل إيريك، الذي كان ممتازا في دوره. يقال إنها تشفي أمراض النساء. لكن يجب الذهاب ليلا، والصلاة قبل مجيء القمر.
رمقني الرجل بنظرة. لكنه لم يسأل شيئا آخر.
– أفهم، قال ببطء وهو يومض بجفنيه.
كان إريك عبقريا ! أحسست برغبة في تقبيله، لكن الرجل الشاب لم يدع ارتياحي يطول. عاد نحونا، وبطريقة فظة، متوافقة تماما مع أعراف الأعراف الجديدة في الجزيرة، سألنا.
– ماذا تحملان هنا في الخلف؟
ها قد وصلنا. أحسست بظهري يتصبب عرقا. أن تكون نهايتي في الخزي، هذا ما لن تغفره لي عائلتي أو ما تبقى لي منها. تصّورتُ المحاكمة، الحملة الإعلامية، الكره.
إيريك أيضا بدا مشوشا. لكنها كانت حيلة رائعة.
– لا شيء، قال بارتباك.
– كيف، لا شيء؟ يوجد شيء كبير تحت الغطاء.
استدار إيريك وتأمل الكابينة بشكل طبيعي.
– ماذا ترك، مرة أخرى، هؤلاء الشباب؟ قال متذمرا.
ثم، متوجها نحو الشرطيين، شرح لهما:
– تعرفان، إنها سيارة شركتي. فضلت استعمالها بدل السيارة الشخصية، لأنها رباعية الدفع. مع وجود الطرقات المحفورة، في الأعلى، من أجل الوصول إلى الكنيسة…
– لا تعرفان ماذا تحملان في سيارتكما؟ ألمح الشرطي الشاب، بنبرة احتقار تهكمية.
– صحيح، لا بد أني رئيس سلس. في الواقع، أترك نظاري يستعملون السيارات عند الحاجة. أشك أنهم يستعملونها في أشغالهم. لكن الأمر سيان عندي. ماداموا يقومون بواجبهم كاملا.
– ماذا تصنعون في شركتكم؟ سأله الشرطي المتقدم في السن.
– لا نصنع شيئا. نحن نستورد ثم نبيع. أجهزة إلكترونية من أجل السفن: سونار، أجهزة تحديد المواقع، راديو، هذا النوع من الأشياء.
– لي ابن أخت يشتغل في هذه الأشياء أيضا، ابن أختي الصغرى. اسمه قمر…
– هل يمكن أن تفتحا الصندوق؟ صاح الشرطي الشاب بنفاد صبر.
– قمر… إن كنت أتذكر! يوجد رجل يحمل اسم قمر في مجموعتي. أشغل الكثير من الهنود، تعلمون، وأقوم بخلط أسمائهم. هو رجل في حوالي الأربعين تقريبا؟
– لا… لا أظنه هو. إن قمر الذي أقصده لا يزال يافعا.
كان الشرطي وهو يتحدث قد انتهى من فحص أوراقنا. قدمها لإيريك وهو يبتسم.
– شكرا لأنكما لم تأخذا من وقتنا الكثير. لا يجب أن نتأخر إذا أردنا أن نشهد ظهور القمر.
– الصندوق…
– انطلقا، حسم الشرطي، وهو يخرس زميله مادّا ذراعه، كما لو كان يقطع الطريق أمامه.
كان الآخر غاضبا، لكن النظام الهرمي سلب منه كل وسيلة لمعارضة زميله. انطلقنا قبل أن يتحول الأمر إلى مشادة كلامية. لفترة طويلة، لم نتحدث. بعد كيلومتر تقريبا، أوقف إيريك السيارة على الجانب الأسفل من الطريق، وضع جبينه على المقود وزفر بعمق.
– لقد كنتَ رائعا. قلتُ له.
– ابتسم لي. بمجرد أن أصبح قادرا على استئناف القيادة، انطلق من جديد. لم نكن بعيدين جدا. كانت الطريق ملتوية في الجبل. فجأة أصبحت مستقيمة وظهرت حافة طويلة. أدخل إيريك السيارة بالقيادة إلى الخلف في قوس نصر من الخشب، يعلن عن مدخل المعبد.
أتممنا الأمر بسرعة. ضاعف الخوف من قوتنا. كانت اللحظة الأكثر إثارة. كان بالإمكان تبرير وجود التمثال في الصندوق، عند الضرورة. لكن لو ضبطنا ونحن نحمله بأنفسنا فلن يصبح بإمكاننا إرجاع المسألة إلى عمال الشركة… بدت لي شيفا أخف مما كانت على الشاطئ. كان هواء المرتفعات البارد منعشا. وضعنا الإلهة وسط رفقة طيبة من مجموعة من خمس أو ست تماثيل كان الظلام يخفي ملامحها. حفر إيريك في الأرض وثبت التمثال جيدا. لم يكن باديا أنه وضع في عجالة. سيبدو وجوده كأنه وفاء جديد بنذر.
وصلنا إلى البيت في الرابعة صباحا. لم نتوقف عن الضحك والمزاح في السيارة. ذهبنا إلى السرير لكن دون رغبة في النوم. جاء الفجر وذهبت لأسبح في البحر. كان الشرم خاليا من جديد. لم يبق أي أثر من الزيارة غير المتوقعة للإلهة الهندية. انتصر بول وفيرجيني.
فلتفهموني جيدا : أنا لا أدافع عن النظام القديم عندما كنا أسيادا في الجزيرة. كل ما أطلبه هو أن أحتفظ حولي بجزء أخير من هذا الماضي. كي أستمر في تنفس هوائه الذي بدونه يستحيل علي أن أعيش. هذه الفقاعة هي البيت والشرم.
كانت حملتنا مجددة. أصبحت أعيش كل دقيقة بشكل مكثف. مرت عشرة أيام. عشرة أيام من سعادة متجددة. مثل السكون الذي يسبق العاصفة. لم ينتج عن فعلتنا شيء ظاهر. لم نتلق أية زيارة من الشرطة. هذا يعني أن أحدا لم يبلغ عن شيء. لم يحدث على الشاطئ أي تجمهر ولم يبد أي توتر بين الزوار المعتادين للموقع. أحسست بالاطمئنان التام. زال حذري ولم ألاحظ في الأسابيع الموالية الاهتياج بين القادمين للسباحة الذين ازداد عددهم خلال النهار وكانوا يتأخرون في المساء. لم أر الشاحنات التي كانت تقف ليلا على حافة الرمل. تناولنا العشاء عدة مرات على الشرفة ولم يبد لنا أي صوت مثير للريبة. في الليلة المشؤومة، نمت تهدهدني الريح الغربية، تلك التي ترفع الأمواج المزبدة وتجعل النخيل يصفر.
تم الأمر بشكل جيد، وفي آخر لحظة، وأنا أطأ رمل الشرم، فهمت كل شيء. في المكان الذي طردنا منه شيفا بالضبط ، في بضع ساعات، لكن بعد تهيئة مكثفة، رفع معبد كامل. نقلت صخور من الساحل وحلت محل الأساس. كانت تدعم حيطانا من الطوب الإسمنتي مغطى بطلاء ناشف رشه الرذاذ. في أقصى الهيكل كوة مفتوحة جهة البحر تسمح بدخول ضوء الفجر، شيفا أخرى كانت قد عادت ومعها غانيش وبراهما وفيشنو وأربعة أو خمسة تماثيل أخرى.
من داخل الأراضي، كانت تصلني دقات الطبول وبريق المئات من المشاعل، من أجل مباركة الهيكل الجديد. كانت الجموع الهندية تأتي من جميع الاتجاهات، هادئة ومصرة، ومنتصرة…
كتبتُ هذه الصفحات في غرفتنا الفارغة. قمنا بإرسال الأثاث. ثبَّتْنا صفائح على جميع النوافذ. ذهب إيريك لتسجيل أمتعتنا في المطار. من حسن الحظ أنه لم يدرك، ونحن نحضر للرحيل، أني احتفظت بأحد مسدساته. عندما سيأتي في الثامنة ليصحبني سيكون الوقت قد فات.