١ ــ محمود الرحبي من الأصوات القصصية العمانية اللافتة في المشهد السردي العربي المعاصر. بعد مجموعته الأولى: اللون البنّي، التي صدرت سنة 1998 عن دار المدى بدمشق ، صدر له سنة 2006 مجموعته الثانية تحت عنوان: بركة النسيان، عن وزارة التراث والثقافة في إطار الاحتفاء بمسقط عاصمة الثقافة العربية.
جاءت نصوصه في مجموعته الثانية: بركة النسيان تميل إلى الاقتصاد في الكلام، ولا تحبّ الثرثرة، ساكنة هادئة غير ضاجّة، منطلقة غير مقيّدة، قوية عميقة تعرف كيف تمرّ من زوايا متعددة ومتداخلة، واقعية وانفعالية وروحية، وكيف تصور شبكة من المفارقات في وجودنا وكينونتنا، وكيف تنشد ذلك النشيد، نشيد الأعماق التي وحدها الكتابة يمكن أن تنشده.
تنطلق الكتابة عند محمود الرحبي من الناس والأسواق والتفاصيل، ثم تحلّق عاليا نحو فضاءات الخيال والغرابة واللامعقول. فالتفاصيل اليومية مادتها الأساس، لكنها لا تكتفي بالنسخ والتسجيل، وإنما تقوم بالنبش في أماكن ومسالك أخرى لاقتناص ذلك الغريب في واقعنا اليومي، وتنزل إلى البرك القصية في الذاكرة لتعود بذلك المنسيّ الذي يرتفع إلى مستوى القصّ، وتحدد دورها في أن تقول هذا المصير الغريب للإنسان: الغربة والنسيان، أي في أن تقول ما لم يستطع الواقع نفسه أن يعبّر عنه.
الكتابة في قصص محمود الرحبي نشاط غريب مقلق، فهي تنطلق من الواقع المعيش المألوف، ومن خلاله تسير بك إلى لقاء الغرابة واللامعقول: في ذواتنا ودواخلنا، في فضاءاتنا العائلية والاجتماعية، في تفاصيل الحياة اليومية، في أزمنة الماضي وأزمنة الحاضر، في ثنايا الذاكرة وقصايا النسيان.
وبذلك تتقدم الكتابة كأنها دعوة إلى إعادة اكتشاف الغريب في ما نعتبره مألوفا في حيواتنا الخاصة والعامة، في عوالمنا الداخلية والخارجية، في ذلك الجزء الآخر منّا، ذلك المقصيّ المنسيّ.
ومن خلال لغة مألوفة هادئة بسيطة وجيزة لا تميل إلى الثرثرة وكثرة الكلام، تسمعنا الكتابة صوتا فريدا يملك نغمة خاصة تحملها الكلمات، وتبدو النغمة غريبة، قادمة من مكان آخر، قلقة من كل هذه الغرابة التي تملأ حياة الإنسان وقدره ومصيره، عازمة على أن تكون هي ما يقوم ضد كل هذا النسيان في واقع الإنسان وذاكرته.
٢ ــ من الواقع إلى الغرابة واللامعقول: ينطلق الكاتب من وصف الواقع المعيش، وينتهي إلى قول ما يبدو غير منسجم، وغير منطقي، وغير معقول، في هذا الواقع نفسه، وينقل إلينا إحساسا بالقلق من هذا العالم المحيط بالشخوص، والذي يبدو كأنه من دون معنى، ويتحول إلى لغز أو كابوس.
لقد نجح محمود الرحبي في أن يقول غرابة عالمنا اليومي المعيش وقساوته ولامعقوله. ففي القصة الأولى من المجموعة: صورة بعيدة، يتعلق الأمر بفتاة دخلت غرفة ليلة الزفاف عروسا لرجل قبلت الزواج منه، لكن المفاجأة أن الأمر سيبدو كما لو أنها وقعت في فخّ: قبلت الزواج من رجل انطلاقا من صورته التي قدّمت إليها، فالتقاليد الاجتماعية لا تسمح بأن ترى الرجل قبل ليلة الزفاف. وليلة الدخلة، اكتشفت أن الذي تراه أمامها، ويقدم نفسه عريسها وزوجها غير الرجل الذي رأته في الصورة، أي أن رجل الواقع غير رجل الصورة، والرجل الذي وافقت عليه كما هو في الصورة غير الرجل الذي تراه في ليلة زفافها. تذهل الفتاة، وتجاهد في «إخراج صرخة قوية من حلقها المضغوط بصمت طويل»:
«أنت لست الذي رأيته في الصورة» تقول العروس.
«أنا زوجك … الصورة التي أعطيت إياها كانت قديمة» يقول العريس.
ترفض فاطمة أن تقبل به زوجا، تصرخ صرخات قوية «تهرع مبتعدة ناحية الباب المغلق، تهزه بقوة، وحين تتراجع يائسة تصطدم بصدره… ثم تترنح ساقطة فوق السرير وهي تشهق بأنفاس خشنة، وتحرك يديها كالغارقة، باحثة عن صرخة في حنجرتها … ».
وما يقع داخل الغرفة المغلقة لا يعلمه المنتظرون خارجها من أهل العريس والعروس، وحتى عندما يصلهم شيء منه فهم لا يعرفون ملابساته، وقد يدخلونه في الأحداث العادية التي تقع في ليلة الدخلة، ولهذا نجد الناس في الخارج «تتهامس … بضحكات تشجيع وتفاخر»، مما يخلق نوعا من المفارقة الساخرة: صراخ في الداخل/ ضحك في الخارج، عنف في الداخل/ تشجيع في الخارج..
داخل الغرفة، لم يكن ممكنا أن تقاوم فاطمة كثيرا، ينتهي الرجل منها، ويخرج كالمدرك لثأر، رافعا خرقة يعوم فيها الدم»، فترتسم الفرحة على وجوه المنتظرين. لكن فاطمة كانت قد تحولت إلى جسد متكوم من دون حراك.
من خلال هذه القصة، يقول الكاتب الشيء الغريب اللامعقول في واقعنا الاجتماعي اليومي المألوف، تجد الشخصية نفسها أمام مفاجأة مقلقة مخيفة، وهي لا تدرك لماذا يحدث لها ما يحدث، وتبدو كأنها مجردة من كل مبادرة أو قدرة على الفعل، وكأن العالم يقع تحت رحمة هؤلاء الآخرين الذين يملكون سلطة تسمح لهم بأن يفعلوا بمن يقعون تحت سلطتهم ما يشاؤون دون حسيب أو رقيب.
والأمر لا يعني المرأة فقط، فالرجل من ضحايا هذا العالم الغريب أيضا. ففي قصة: عن رجل من طيوي، نجد رجلا بسيطا فقيرا هو معيل أسرته وأبنائه الأحد عشر. وهو يشتغل بعيدا عن قريته، ولا يعود إلا نهاية كل أسبوع . وفي رأسه لا يحمل إلا عينا واحدة «يضيء بها عمله مقطعا لرقاب الدجاج في سوق السمك». والعين الأخرى «مطفأة مدفونة في محجرها الضيق».
وحدث ذات يوم أن بدأت تسيل دموع كثيرة من عينه المضيئة، وصارت الدموع تقطر وتزحف من أنفه، «فيمسحها منحنيا وغيمة حزن تلف وجهه الضعيف». وهؤلاء الذين يذهبون إليه ليذبح دجاجاتهم، ينسحبون ساخطين عندما يرون الخيوط تقطر من وجهه.
ولم يكن أمامه إلا أن يقصد المستشفى الذي انتظر ساعات فيه قبل أن يأمره الطبيب بمراجعته بعد أربعة أيام. وكان أن أدخله الممرضون غرفة باردة، وأغلقوها عليه، ثم دخل الطبيب «وأعمل جراحة سريعة لعينيه، ثم غطاها بخرقة بيضاء وانسحب». سحب الممرضون سريره وركنوه بين أسرة كثيرة. لم يحتمل نسيانه أياما فوق السرير، فأزاح الخرقة البيضاء، ثم اكتشف أنه لا يرى شيئا، جرّ قدميه وارتطم رأسه بالأسرة، ثم ارتطم رأسه بحافة الباب وسقط، وفي سقطته صرخ: «قلعوا عيني يا ألله، قلعوا عيني».
وجه الغرابة واللامعقول ليس محصورا في النظام الاجتماعي الذكوري التقليدي كما في القصة الأولى، بل انه يمتد ليشمل مؤسسات المجتمع المعاصر التي من المفروض فيها أن تكون لصالح الإنسان لا ضده، كما في القصة الثانية، حيث يؤدي المستشفى نقيض وظيفته الأصلية.
وفي قصة: حياة أبطأ من الأمل، يتعلق الأمر بموظف بسيط يشتغل في إحدى الإدارات. كان مواظبا ونشيطا، يدخل مكتبه مع أول الموظفين، لكن مديره لم يكن يروق له أن يضاحك موظفه باقي الموظفين والعمّال، ونبهه إلى ذلك في الاجتماعات. وذات صباح، جاءه قرار تقاعده الذي لم يعرف له سببا، أو أن السبب الذي من أجله تمّت إحالته على التقاعد لا يمكن أن يكون منطقيا ومعقولا: «هذه نهاية من يضحك باكرا» قال له جاره، وخاصة إذا كان الضاحك فقيرا، «هنا الفقير لا يجب أن يضحك، عليك أن تظلّ حزينا ومنقبضا طوال الوقت حتى يرضون عنك».
والحياة اليومية العصرية الجديدة قد لا تخلو هي الأخرى من غرابة ولامعقول. ففي قصة: أحلام تعيب، نجد الشخصية المحورية تعيب يشتري سيارة من النوع الغالي، وهو ما بدا أمرا غريبا، وبدأ السؤال من أين جاء بالمال. والأغرب من ذلك أن تعيب رفض الزواج، وصارت علاقته بالسيارة أشبه بعلاقة رجل بامرأته، فهو يشتري لها عطرا خاصا، ومنظفا رشاشا، وسجادة مزركشة، وله صورة يعانق فيها سيارته، ولا يسمح لأحد بالصعود إليها والجلوس بجانبه..وفوق ذلك، فهو لا يكلّ من تنظيفها، و ««يشعر بمتعة غامضة عندما يحرك القماشة البيضاء فوق جسد السيارة الأملس الصقيل..».
٣ ــ الكتابة ضد النسيان: نجد في: بركة النسيان الشخوص والعوالم تدور في فلك النسيان، كأن دور الكتابة هو الالتفات إلى هذا المنسي الغريب في واقعنا ومجتمعنا، لكنها الكتابة التي لا تحصر دورها في النسخ والتسجيل، بل هي تنفذ إلى أعماق بركة النسيان لتلتقط صورا تفضح وجه المسخ والغرابة واللامعقول في حياتنا الاجتماعية المشتركة المألوفة.
في القصة الأولى: صورة بعيدة، نكتشف في هذه القصة أن المرأة هي أكبر منسيّ في واقع اجتماعي ذكوري قاهر، فتقاليد المجتمع الذكوري تحكم عليها بصمت طويل ، وحتى عندما تحاول أن تصرخ، تجد نفسها في غرفة مغلقة، مخدوعة ضعيفة أمام رجل غير الرجل، ووحده الموت يمكن أن ينقدها من عالم قاهر عنيف. وفي قصة: عن رجل من طيوي، نكون أمام هؤلاء الضعفاء المساكين المنسيين في مستشفيات حكومية يحكمها ممرضون وأطباء مجرمون. وفي قصة: حياة أبطأ من الأمل، نكون أمام هؤلاء الموظفين الفقراء الممنوعين من الحياة والضحك داخل إدارة تحكمها بيروقراطية قاتلة ورؤساء لا يحبون الضحك. وفي قصة: طريق موصدة، نكتشف أن العدو الأكبر للإنسان هو النسيان إذا أصاب ذاكرته. وفي قصة: ليل اليائس، نكون أمام شاب انتهى إلى الانتحار بعد أن فشل في إيجاد عمل، واكتشف أن أمه تمارس الزنا والفساد في البيت وخارج البيت، كما اكتشف أن الشرطة لا تقضي على الفساد بل إنها تحميه، وتلقي القبض على من يفضحه.وفي قصة: بوابة الطفل، نكون أمام ما لا يقال عن الحياة الجنسية للأطفال وما يتعرضون له من تحرش واغتصاب..
٤ ــ تنطلق الكتابة من الواقع، من هموم الناس البسطاء المنسيين، ومن الفضاءات الشعبية والتفاصيل اليومية، لكنها لا تكتفي بالنسخ والتسجيل كما في الأدب الواقعي التقليدي، بل هي تعيد كتابة الواقع والذاكرة، وتفتح لنفسها آفاقا رمزية جديدة، وتسير نحو فضاءات الخيال والغرابة واللامعقول، جاعلة من شخوصها وعوالمها علامات مرئية لحقائق فلسفية: الغربة والنسيان مصير الكائن الإنساني، والكتابة وحدها تملك القدرة على قول الغرابة ومواجهة النسيان.
مهمة الكتابة القصصية هي اقتناص صور من الواقع اليومي، ولحظات من الزمن المعيش، من دون السقوط في دائرة الواقعية التسجيلية التوثيقية التقليدية، بل التحليق بالكتابة عاليا لتقول ما لا يستطيع الواقع نفسه أن يعبّر عنه: قساوة الوضع البشري ومأساة مصيره.
حـسـن الــمــودن
كاتب من المغرب