هدية حسين
كاتبة عراقية
إلى البيت المهجور تعود (زمن)، البيت الذي يخيم عليه الصمت الضاج بالأصوات، الأصوات التي لا يسمعها أحد غير (زمن) وبأسلوبها السهل الممتنع تأخذنا ميسلون هادي إلى (الغرفة وضواحيها)، الحكايات عمومًا قد تبدو متشابهة عند كثير من الكتاب، لكن عليك أن تعرف كيف تجعلها مختلفة، وهذا ما تفعله ميسلون هادي، إنها تقول لنا أشياء نعرفها أو مررنا بها أو بما يشبهها، إلا أننا نصغي لها، للطريقة التي تقصها علينا، للفضاء الرحب الذي تؤثث به الحكايات حتى لو كان هذا الفضاء مجرد غرفة ضيقة.
ماذا يحدث في الظلام، من يخدش جدران الصمت في هذا الليل الموحش، لماذا هجر الناس بيوتهم ولم يبق إلا هذا البيت الذي عادت إليه (زمن) بعد أن كانت تعيش مع خالتها كاشان وابنة خالتها أوليا؟ عادت إليه لتكتشف أن كل شيء قد تغير في هذا البيت، الأثاث القديم المغبر، والثياب التي لم تعد تحتفظ بمقاساتها، لم يبق سوى الذكريات المدفونة في الجدران والتي بدأت تتحرك وتحرك معها الأشياء، تقول لها ابنة خالتها أوليا بأن الجن يعرف الاتجاهات جيدًا، فهل حقًا وصل الجن إلى بيت زمن؟ وبرغم أنها لم تر تلك الأشباح إلا أنها تسمع أصواتها، بل تسمع حتى تلك التي تخرج من البيت المجاور المهجور أيضًا، مما دعاها إلى أن تنظر من خلال العين السحرية إلى الباب المجاور فترى ثلاثة رجال يقفون عند الباب ويدفع اثنان الثالث إلى داخل البيت، إنه مخطوف، سنعرف في الصفحة 31 بأن اسمه (هام) الذي سيحرك مجرى أحداث الرواية، فمن هو هام هذا؟
صمت تام تكسره زمن التي تطارد أي صوت يخدش جدار غرفتها، تصل إلى (هام) الأصوات وحركات الخطى وروائح الطعام فينصت لها، هذا يعني بأنه ما يزال على قيد الحياة، تذكّره الروائح الطيبة ببيته فيعود بذاكرته إلى ذلك البيت وتفاصيله وذكريات العائلة، ثمة حياة جديدة بدأت عبر الجدار العازل، وتواصل الاثنان، هام وزمن، استمد الأمان من صوتها، أصبحت زمن شغله الشاغل، من خلالها يعرف ما يجري وراء هذه الجدران، لا شيء سواها، وحين تغيب تحل الذكريات فتأخذه إلى أحداث عاشها، وأحلام حلم بتحقيقها، وألعاب كان يلعبها مع الأصدقاء.
اثنان في بيتين مهجورين متجاورين، جمعتهما مصادفة، ومن أجل تزجية الوقت اقترحت عليه أن يلعبا لعبة تحتاج إلى تركيز وتعتمد على الحروف، في زمن مضطرب لا حروف تصف قسوته، زمن تتشابه فيه ساعات الخوف من المجهول، زمن لا وقت فيه حتى داخل ساعة يدوية، فساعة هام أخذها الخاطفون.
لم يتحدثا أول الأمر عن اختطافه، هي التي شاهدت، وهو الذي اكتشف ما وراء الجدار حين سمع الأصوات وحركات الخطى، ولكن ما هي تهمته ليتم اختطافه؟ سنعرف أنه أحد المتظاهرين في ساحة التحرير، يا لها من تهمة!!! قادته إلى هذا المكان وفتحت عليه باب الذكريات، ترى هل سيخرج من هذا الجب ويعود إلى حياته الطبيعية؟ هذا ما ستقرره المؤلفة التي فرشت أمامنا سجادة كبيرة تزينها التفاصيل الصغيرة المتداخلة فيما بينها، المنسجمة في سياقاتها بألوان مختلفة، وكل تفصيل في هذه السجادة يأخذنا إلى حكايات وأحداث مرت في حياة المخطوف الذي لا يعلم باختطافه حتى الأهل والأصدقاء، كل ما يعرفونه أنه في مصر مع صديقه تامر، لا أحد سوى الذاكرة تنزف بالذكريات، و(زمن) التي لا يراها بل يسمعها تقوده هي الأخرى إلى أحداث وحكايات في حياتها.. أن تكون مخطوفًا في بيت مهجور فأنت خارج العالم، جاءوا بك وتركوا رأسك يعوم بالحيرة، لا تدري ماذا يحدث من حولك وكيف سينتهي مصيرك في هذا الزمن الميت، وهذا يعني أنك الآن غيرك بالأمس، أنت لست أنت بل شخص آخر، فمن هو هذا الشخص الآخر؟
حتى (زمن) وجدت نفسها كما لو أنها مخطوفة، فهي مشدودة لغرفتها والزمن من حولها ساكن قبل أن يحل هام ويُحركه، ومن خلال ضيق المكان تتدفق الحكايات وتنفتح على مديات واسعة، تنمو من خلالها الشخصيات على الورق بوضوح كأننا نرى هام وزمن أمامنا، وكأنهما جزء من حياتنا المحفوفة بالمخاطر.
تتشعب الحكايات، بعضها واقعي وآخر خيالي، مثل شخصية (أحسن) التي لم تكن سوى قصة ابتكرها خيال (زمن) جاءت من طفولتها واستمرت معها، تحكي لهام خوفها غير المبرر في طفولتها وكيف كبر هذا الخوف معها، (هام) من جانبه يحكي لها عن صداقته بتامر المصري، وعائلته وتفاصيل صغيرة كثيرة، يحكيها هام، وتحكيها زمن، لتزجية الوقت الذي لا يتحرك في مكان ضيق تضيق معه الأنفاس، وفي مثل هذه الحالة تصبح التفاصيل الصغيرة، حتى غير المهمة، لها وقعها، تكبر وتتضخم، ومن خلال تلك الحكايات تسلط ميسلون هادي الضوء على فترة من أخطر فترات واقعنا العراقي، فترات الخطف والتفجيرات التي طالت كل شيء، ويخرج الفرد من واقعه الشخصي إلى الواقع العام، واقع ما يجري في البلد، ومصير مخيف يلاحق الناس حتى في هروبهم من الوطن، فتتحول فرص نجاتهم إلى مشهد مفزع لينتهوا ضحايا للمهربين في الهجرات غير الشرعية عبر المحيطات.
ثمة مفاجأة أعدتها لنا ميسلون هادي عن شخصية (هام) وشخصية (زمن) وعلاقتهما التي تبدو أول الأمر غامضة لا تعطي نفسها للوهلة الأولى وذلك هو الفن، على مهل، بصبر وأناة، وبمتابعة جادة، ستنفك الخيوط وتعود مستقيمة، ونحن هنا لا نريد أن نفكها للقارئ، سنترك له متعة القراءة، ومتابعة خيوط اللعبة الفنية ليكتشف ماذا في الغرفة وماذا في ضواحيها؟