دون مطلي ترتمي
مدينة العناكب
وترتمي المناصب
في مناخ الصخر
والأدغال والدوالي
وحيت تزهر الحية الرقطاء
باللآلئ
تغطّ في الشمس ولا تبالي
تموت عنكبوت،
تموت، والعناكب
رسولهم يموت.
قصيدة «مناخ» هذه التي ألقاها خليل حاوي [ 1919 – 1982] في مهرجان المربد الرابع ، الذي انعقد في بغداد ما بين 15 و20 فبراير 1978 ، على قصرها، تستأهل وقفة طويلة لتأمل نمطها ولدراسة مضمونها على ضوء قصائد حاوي. وقبل أن نشرع في دراسة ” مناخ “ يجدر القول بأن فهم شعر خليل حاوي يتطلب الاحاطة بالخلفية التاريخية لحركة الشعر العربي الحديث اولاً ، والتبحر في أحداث معاصرة تانياً ، وأخيراً الفهم الكامل لاستعمال الاسطورة قارباً ما بين ضفتين ، الأولى الأصالة والتراث ، والثانية حركة التجديد التي تستخدم الرموز والإيحاءات بتعبير مركز ومشحون بالمعاناة. والكلمة عنده عالم منفصل، رغم وعي حاوي لأهمية مجاراة كل كلمة لأخواتها، وحدسه المرهف في استعمال الكلمة قديماً وحديثاً جعله شاعراً لغوياً تقف خلف شاعريته قرون من الشعر القديم درسها حاوي بتؤدة وعلّق عليها أمثلة وشواهد في الجامعتين الاميريكية واللبنانية.
من ” نهر الرماد ” حتى ” بيادر الجوع ” يخاطبنا خليل حاوي من مكان متشابه ، ثم ينسج علاقة ذلك المكان ( وأحياناً المسافة ) مع حركة الوقت. وعليه فإن حاوي يعاني قسر المكان. والمكان في جوف الحوت او في كهف من كهوف الشرق او في القبر او في عصر جليدي. اما في ” مناخ “ فصاحب القصيدة خارج إطار المكان، هو في مطلّه ( او في صومعته ) والمدينة أمامه هي التي تعاني وطأة المكان. أحياناً يتوقف الوقت عند نقطة ذاتية هي تشابك علاقتين ، بحيث تصبح نقطة التقاطع تلك جزءاً من التاريخ . تتضح نسبية العلاقات وكيف تتأثر بعنصر الوقت :
غبت عني
والثواني مرضت
ماتت على قلبي
فما دار النهار
ليلنا في الأرز من دهر نراه البارحة.
( وجوه السندباد )
إن ما سبق من أبيات يتمتع بمسحة عاطفية ، إضافة إلى التشبّث بجمالية اللحظة الماضية، وقوة تلك اللحظة الجمالية تكمن في قهرها لحركة الزمن :
ويمر العمر مهزوماً
ويعدي عند رجليه
ورجلينا الزمان
( وجوه السندباد )
وإن كان الماضي تجمد فكذا الحاضر ، بل إن الماضي والحاضر يعيشان عند حاوي في معادلة واحدة ، وكل منهما يؤثر في الآخر جدلياً، فالحاضر اذن تراكمات تجمعت مع تنامي الوقت :
كل ما أعرفه أني أموت
مضغة تافهة في جوف حوت
( وجوه السندباد )
ومع فقدان فردوس الماضي وبرغم وطأة الحاضر، فان في خليل حاوي تختمر تجربة المرحلتين ويطلع علينا برؤى مستقبلية تبدأ بتشييد ” الجسر ” ثم تتنامى النظرة التموزية في ” رحلة السندباد الثامنة ” حيث التطهر من تجربة الماضي والإيمان بالبعث في محاولة لتخطي الزمان.
أما في ” مناخ “ فالزمن غير موجود سوى أنه يشار اليه بالشمس الطالعة ابداً وها هنا هي ديمومة ما دامت المدينة تغط فيها وإذا كان مرور الزمن وتسارع الوقت ( او جموده او حركته البطيئة ) مرتبطين في حلول المعجزة ، فإن الشمس في ” مناخ “ غير ذات حركة وحرارتها ليست قوة دفع لتخطي ” عمر الجليد “، ولا هي تغرب حتى تفسح امام تعاقب الفصول. مضمون ” مناخ “ اقرب إلى ” نهر الرماد ” ، وهي تسير في موازاة ” البحار والدرويش ” ، وكأني اسمع صوت المتحدث في ” مناخ “ يرد على صدى تكسر سفينة البحار على صخرة التقاليد فيقلع مجدداً في اتجاه يجهله ، ولسان حاله يقول :
مبحر ماتت بعينيه منارات الطريق
مات ذاك الضوء في عينيه مات
لا البطولات تنجّيه ولا ذلّ الصلاة
ومن هنا فان ” مناخ “ وجودية عميقة ، اشبه بتجربة ” نهر الرماد ” ، الديوان الذي تحررت قصائده ككل خلق مستمر ، من زخرف التشبيه وآليته ، ومن زينة الوصف العادي ومن تجريد الألفاظ من حدة العواطف ، لتعبّر لنا عن تموجات الأعماق وتأملاتها في عالم يضج بالجفاف . وما هو هذا الجفاف ؟ هل مرده حياة المدينة المعاصرة ؟ أم هل هو جفاف يضرب النفس نتيجة انهيار القيم ؟ أو هل هو نتيجة خيبة في البحت عن الهوية ؟ خليل حاوي يرمي إلى ما هو أكثر جذرية : اذا كانت حياة المدينة المعاصرة تحوّلت عند ت . س . اليوت إلى أرض يباب وعاقر ، فإنها في ” مناخ “ خليل حاوي تحوّلت إلى مأوى عناكب ترتكز على مناصب . أوغل حاوي في اخراج صورة جد قاتمة عن تشابك علاقات هي أشبه بالادغال ، وهناك الرعب والسم في الدسم ، ومناخ الصخر مغارة مجدبة ، واذا كانت تلك المدينة حبلى بعناكب تنسلّ عنها خيوط تنسجها بيتاً لنفسها أو مصائد تصيد بها الذباب ، فانها صارت مومساً ورد ذكرها في اناشيد ” نهر الرماد ” :
ليتني ما زلت في الشارع أصطاد الذباب
أنا والأعمى المغنّي والكلاب
وطوافي بزوايا الليل
بالحانات من باب لباب
اتصدّى لذئاب الدرب
صورة الشمس في «مناخ» ترجع بنا إلى قصيدة حاوي الأساسية : ” هذي العقارب لا تدور ” ، ولا سيما أنها ترتبط في الانتظار او حلول المرتقب ، فأشكال الحياة تنعدم في ” الكهف ” بقدر ما تندثر في «مناخ» ويتحوّل شاعرنا إلى مرآة صافية لغيبوبة تستمر طويلاً وتنتهي بالاغتراب :
وعرفت كيف تمطّ ارجلها الدقائق
كيف تجمد ، تستحيل إلى عصور
وغدوت كهفاً في كهوف الشط
يدمغ جبهتي
ليل تحجر في الصخور
(الكهف)
ولكن إذا كان حاوي يعيش الاغتراب حتى يحقّق المعجزة فإنه في ” مناخ “ يتكلم معنا ويريدنا ان نعيش الاغتراب ، وإذا كان في ” الكهف ” اورق عنده الغد :
النار تزهر ملء موقدتي
وتثمر ، والربيع
يحبو ويفرش غرفتي
فإن ذلك الغد لم يورق في «مناخ» ، فاني أرى أن حاوي اراد «مناخ» ان تكون باعثاً على ادراك الغربة ، وتالياً فان تحقيق المعجزة رهن بحجم الادراك ، وهناك مؤشرات في «مناخ» تقودنا إلى توقع البعث وليس حتمية حدوثه ، فالمدينة تغفو وما من حركة سوى حركة العناكب الخفيفة ، والعناكب دون مطلّه عناكب عمالقة تسرح في أدغال ذات حية مخيفة ، وكأن خليل حاوي يريدنا ان نعيش ” قلب الظلام ” قبل أن نرى الضوء ويريدنا ان ننزل إلى الدرك الأسفل قبل ان نكتشف صحة الاتجاه.
يخبرنا حاوي ان العناكب تموت ويتبع ذلك بنفحة التوكيد مما يقشع بعض الغمام ، ولكن حاوي لم يتخبط بنا أكثر ، فهو أوصلنا إلى الذروة ، ثم أوقفنا نستطلع الدرب. قصيدة حاوي هذه ” مناخ “ مرحلي وهذا أقرب إلى المعقول عند شاعر البعث ، وحاوي يقصد أن يفزعنا ويرهبنا ، وهذا حقه ، حين ننظر دون مطلّه ، وماذا نرى سوى الهلع وبريق الخداع ، والجاذبية نحو التهلكة! هل في كل هذا ولادة فينيق جديد؟
ما بين وقوف خليل مطران ( 1871 – 1949) ، عند ساحل الاسكندرية في مستهل القرن ، شاكياً إلى المتوسط حدّة غربته ، وانتحار خليل حاوي على شرفة منزله المطلة على البحر نفسه ، ثمانون عاماً شهدت خلالها دنيا العرب التفلّت من الضغط العثماني ثم خضوعها للتجزئة السياسية ، وما نتج عنها من سقوط فلسطين وتعثر الاستقلال الوطني إلى الدخول في شعب الاقليمية ومتاهاتها. ولارتباط الشعري بالسياسي ، من محمود سامي البارودي (1840 – 1904 ) في القاهرة ، إلى بشارة عبدالله الخوري ( 1885 – 1968 ) في بيروت ، كانت قصيدة العرب الحديثة رصداً ليقظة أو كبوة ، ومن هنا التغير الجذري في محتواها وهيئتها ، فكانت النقلة من رومنطيقية إلى رمزية فسوريالية في موازاة تفتق بنية الذهن عن شكل ومضمون جديدين .
وصل خليل مطران إلى مصر ، ملجأ الأحرار ، في 1892 . أتاها من بيروت عبر باريس ، هربا من قهر واضطهاد ، فوقف بعد عقد عند ساحل الاسكندرية نائياً عن بعلبك مسقطه ، متفرداً بصبابته :
اني أقمت على التعلة بالمنى
في غربة قالوا تكون دوائي
إن يشفِ هذا الجسم طيب هوائها
أيلطّف النيران طيب هواء
عبث طوافي في البلاد وعلّة
في علّة منفاي لاستشفاء
بين غربة روحية مقيمة ووحشة نفسية مهاجرة جاءت قصيدة الحداثة وصلاً منطقياً بتراث المهجريين – رابطة قلمية في نيويورك وعصبة اندلسية في سان باولو – ودلالة حتمية على ترابط حلقات الشعر المعاصر الذي يتجاذب بعض محتواه قطبا المسكن والمنفى .
نشأ عن هذا التجاذب بحث عن نعيم ضائع وتمزّق في وطن قائم . فاعترى شعراء الحداثة اغتراب عارم مردّه ما طرأ على صفحة الواقع من تحولات تاريخية لم يفلت الشعر من عاقبتها ، ولا سيما بنية القصيدة التي راحت تمظهر مضمونها الروحي المضطرب ، فما ان غاب أبو شبكة تاج الرومنطيقية العربية في 1947 حتى توجّه جماعة بغداد [ الملائكة / السياب / الحيدري ] إلى قصيدة الشعر الحر فالعراق كان الأسبق تاريخياً والأقرب جغرافياً إلى رصد التحولات اللاحقة في خارطة العرب الحديثة مع تفسّخ قشرة الكون عقب الحرب الكونية الثانية .
هذه العودة إلى حالة البراءة الأولى والرجوع المطلق إلى الذات وإلى الطبيعة ينبوع الشعر تعني للسياب وصايغ وحاوي الحنين إلى رحم البحث عن عذراء . بقي السياب في أيامه الأخيرة في المستشفى الأميري في الكويت يحن إلى شباك وفيقة حبيبته وأفياء جيكور مسقطه عند شط العرب ولما دهمته سكتة قلبية وهو في مصعد في بيركلي كان صايغ يهجس بعشيقته كاي التي خلّدها في ديوان يحمل الحرف الأول من اسمها . وفوق سريره كانت صورة العذراء ولوحة لبحر الجليل عند طبرية . أما حاوي الذي طفح يأسه عشية اجتياح بيروت وخانته القصيدة- المرأة فلم يجد بدا من اصطياد نفسه فحسم نزاعه الطويل وتأرجحه المضني بين قومية سورية نشأ عليها وقومية عربية جنح اليها . في قصيدته ” لعازر 62 ” أعلن موته الأول :
عمِّقّ الحفرة يا حفّار
عمّقها لقاع لا قرار
فوقف أبرز تعبير نموذجي عن التجربة التموزية بين إخفاقها العملي وحلمها بالثورة الكلية التي دعا اليها انطون سعادة ولم تتحقق . ولئن كان أبو شبكة ارسى رؤية جحيمية في قالب رومنطيقي ، فإن تفاصيلها لقيت وضوحاً وجلاء مع السياب وصايغ وحاوي في شكل رمزي . ووظف هؤلاء تقنيات حديثة فجاءت أشد غربة بانزياحها عن نمط التقليد وأدهى فاجعة بلجوئها إلى احتواء تجربة وجودية غير هانئة ، فالسياب غريب عن الخليج ، وهو منه ، وصايغ منفي بطبعه ، ولا وطن ، وحاوي ممزق في وطن يسعى إلى قومية أعم ينضوي تحت رايتها. برع هؤلاء في حرفتهم لوقوفهم على أساليب غربية مكنتهم من الافصاح عن روح شرقية حائرة . ارتد السياب إلى ” الغصن الذهبي ” لفريزر فأنزل الرمز المكثف والإيحاء الموضوعي في ثنايا نشيده ، وقرأ صايغ فرويد وفطن إلى موقع الجنس في قصيدته . والتفت حاوي إلى تلقيح اليوت بأجواء سندباد ألف ليلة وليلة فشعّ في بيته خاتم شهرزاد . الثلاثة في نهاية المطاف دانتيون ومنفيون ، يتشابهون ويختلفون ، ولكن يتفقون على استحالة الخلاص فيما يقف حاوي وحده في تشظّي رؤيته .
تنهض قصيدة حاوي على أربع ركائز متينة ، تبدو متباعدة ، لكنها ذات صلات قربى ، هي الأناجيل ورومنطقية جبران ثم رومنطقية أبو شبكة فيما بعد ، وفكر انطون سعادة . من الأناجيل غرف الصفاء الأول والبراءة النقية . وعن جبران وأبو شبكة ورث الثورة والعودة إلى أصالة الذات ووجد في سعادة ، مفكراً وانساناً ، نموذجا رائداً لتأسيس الدولة العلمانية والانقلاب على السلفية والتحجر المذهبي . من هنا لم يكن حنينه بالمعنى الرومنطيقي المألوف ، فالمرأة والطبيعة والعزلة في قصيدته . يبقى حنينه اذن إلى كون متماسك برؤية تنسلّ عن نظرة انطون سعادة إلى الادب والحياة ، كما في اثرية ” الصراع الفكري قي الادب السوري ” (1942 ) و ” جنون الخلود ” ( 1942 ). فكان حاوي رومنطيقياً من ناحية ووجودياً ملتزماً من ناحية اخرى ، ما لم يترك له مجالاً إلا لرمزية تحنّ إلى ماض رغد وتستشرف مستقبلاً واعدا ، وبين شد من هنا ودفع من هناك ، والحاضر احتلال كان انتحار قصيدته مخرجاً له.
جدلية الغربة والإقامة عند أبو شبكة والسياب وصايغ وحاوي تكمن خلفها كناية اشد مرارة واعقد تجربة وأكثف دغلا ، ولربما كانت تحت المجهر الفرويدي المحرّك الاساس لمنشأ النزاع بين قطبي المسكن والمنفى . انها كناية الكبت والتفلّت ، والانعتاق من التسلط والصبو إلى ما يحرر النفس من ضغط سياسي وقمع جنسي . وتتجلى هذه الكناية في موقع المرأة على خارطة القصيدة .
وجد أبو شبكة في المرأة التي أغوته صورة لعالم المدينة التي صدمته فدعا على الحضارة المعاصرة بالدمار كما دُمرت سدوم في التاريخ أو في التوراة . والمرأة عند السياب مصدر ألم ووحي في آن ، لكنها فردوس مفقود ، يحنّ اليه فيما يدرك ان استرجاعه محال . مع صايغ وحاوي تتحوّل صورة المرأة إلى نضال مستعر في سبيل رد هالتها الاولى من البراءة والعفة والطهارة وبرفع هذه الطوباوية نبراساً امامهما . يحلق صايغ وحاوي بغية اقتحام فردوس غير قائم اصلاً في منفى صايغ او مسكن حاوي ، ليرتطما بواقع صلد ويتحطما شر تحطيم . كل ما كتبه صايغ كان غزلاً يتأرجح بين شبق ولاهوت . كل ما كتبه حاوي كان عقيدة يتجاذبها شك ويقين . ولربما شكّلا معاً مدخلاً إلى فهم علاقة الجنس بالسياسي ، وتاليا القاء ضوء جديد على جدلية الغربة والإقامة التي تحكمت فيهما .
وما بين منفى وسكن تأرجح شعر كل منهما في نزاع غربة دائمة تتشوق إلى اقامة ابدية ، اذ تكرست الأولى فيما انتقت الثانية . وتجلت هذه الجدلية بنسب متفاوتة لدى جمهرة من شعراء الحداثة .
منذ مطلع القرن العشرين ومع تزايد معطيات التكنولوجيا الاوروبية في المجتمع العربي وتمركزها في مدنه ، ومع اندلاع حربين عالميتين تبعتهما حروب محلية ، حدثت ثورة أساسية في عقل الكاتب العربي ، فتمرّد على القيم والمعايير الاجتماعية (جبران خليل جبران ، الياس أبو شبكة ) أو هرب إلى عالم مثالي طوباوي ( صلاح لبكي ، سعيد عقل ) أو طرح الحداثة بكل ثقلها (جماعة ” شعر ” و ” حوار ” و ” مواقف ” ) مع التركيز على أهمية التراث وما يحمل في طياته . أطلق جبران صرخة مدوية محتجاً على تغيير معلم الطبيعة وطالب أبو شبكة بتطهير مجتمع المدينة بالكبريت . صلاح لبكي غنّى ذاتيته المندمجة مع الطبيعة وسعيد عقل طارد هنيهات الجبل ومزجها بعطر وسحر. هكذا تحدّدت صورة الصراع بين الريف والمدينة ، وعليه فان الشاعر الحديث يتمرّد على المدينة لأنها فقدت ارتباطها بالصفاء الروحي ووثقّت علاقتها بالمادة ، فحنّ إلى الريف ومثّلت له الطبيعة رحماً نقياً ( أبو شبكة ، فوزي المعلوف ، جبران ) ومن هنا كان اجماع الشعراء العرب المحدثين على العودة إلى المكان – الأم كما هي الحال مع بدر شاكر السياب ، او إلى الزمان – الأم كما هي الحال مع خليل حاوي ، حيث البكارة والطفولة والبراءة الأولى . هذا الحنين إلى الصفاء الطبيعي واكبه حنين إلى المرأة – المثال ، النقية الجسد والوفية في حبها ( توفيق صايغ ) .
وعى الشاعر العربي المعاصر أن الواقع غير الرؤية وأن المدينة ليست فردوساً وأن المجتمع الذي يحياه يعاني من مرارة سقوط المثالية والقيم ، فمنشأ الصراع منبعث من عدم الثبات والتحول المستمر في عالم المدينة وما يقابله من أصول ومعايير لها جذورها في عالم الريف ، وقد ركز الشعراء المعاصرون ، والتموزيون منهم بشكل خاص ( الخال ، ادونيس ، السياب ، جبرا ، حاوي ) على استعمال رموز صيغة الصراع ما بين المدينة والريف ، فهم اعتمدوا في شعرهم على مبادئ متشابهة اهمها استعمال الرموز من ميثولوجية وغيرها ، وبناء القصيدة على المعارضة بين ضدين : الموت والحياة ، الظلمة والنور ، الماضي والحاضر ، أو الحاضر والمستقبل . وهكذا فإن طبيعة علاقة الريف – المدينة منسجمة مع الطرح الشعري الحديث .
شهد خليل حاوي في ديوانه الأول ” نهر الرماد ” ( 1957 ) الموت الحضاري في الشرق والغرب ثم ما لبث ان عبّر عن حتمية الانبعاث مستعيناً برمزي تموز والعنقاء ، لكن هذه الرؤية تتعاظم في ديوانه الثاني ” الناي والريح ” ( 1961 ) حين يتمرّد السندباد في رحلته الثامنة على الحضارة السلفية . وفجأة تتهاوى رؤى حاوي وتسقط في ديوانه الثالث ، ” بيادر الجوع ” ( 1965 ) وتبلغ المأساة ذروتها في قصيدة ” الكهف ” :
وهل أصيح ُ بمن يرجّي المعجزات
الساحر الجبار كان هنا ومات
بعد ” بيادر الجوع ” كتب خليل حاوي “الأم الحزينة ” ( 1967 ) ” و”ضباب وبروق” (1971) و”الرعد الجريح” ( 1973 )” و”رسالة الغفران من صالح إلى ثمود ” ( 1974 ) . وهذه القصائد الأربع والتي صدرت في مجموعة واحدة تعتبر قصيدة مطولة تجمع أجزاءها تجربة واحدة . ففي ” الأم الحزينة ” قدم حاوي صورة قاتمة للوضع الحضاري العربي ، ثم جاءت ” ضباب وبروق “تستشف اشراقة منيرة تهيئ لولادة جديدة من خلال المأساة ، ثم عبّرت ” الرعد الجريح ” عن عودة البطل ، فتنزاح الغشاوة ويضمحلّ الضباب فتبدو الجنة درّة خالصة ملتمعة تتوّج قمة الجبل المقدس ويعود الإنسان إلى صفاء العيش الأول ، إلى حياة رعوية بريئة يتوثق فيها ارتباطه بالأرض ويعمل بالزراعة ولا يطمع في حياة غنى بل يبتغي خير الكفاف فيعيش اعياداً مستمرة، وفي هذا عودة إلى عهد البراءة الأولى حيث الريف فردوس ، وحيث لا مدينة تسيطر على روحانية الإنسان :
وقلوب ولدت
في صفوة العيش البَري
راوحت ما بين
كدّ ، عرق ، زرع
وشحّ في الحصيد
ودويّ الجرن والمهباج
من عيد لعيد
حيت يجري
النبعُ والموّال في ظلّ طري
ألفتْ طيبَ الليالي
حول نار الموقدة
ثم جاءت ” رسالة الغفران من صالح إلى ثمود ” لتعبّر عن ايمان حاوي ببعث الفارس العربي ، ولا يخفى أن حاوي قد استلهم من القرآن قصة النبي صالح الذي بعثه الله إلى ثمود ليدعوهم إلى الإيمان ليخلصوا فأعلنوا المعصية ولم يؤمنوا . فأنذرهم صالح ولم يتوبوا ثم أنزل الله عليهم لعنته ونجا صالحاً والذين آمنوا . كما ان حاوي استلهم بيت المتنبي ( أنا في أمةٍ – تداركها الله – غريبٌ كصالح في ثمود ). الذي قيل فيه ان أبا الطيب لُقب بعده بالمتنبي . فوحّد حاوي بذلك بين الشاعر والنبي وساوى بين غربة النبي في قومه وغربة الشاعر في عصره . وليس البطل في القصيدة هو النبي صالح وحده بل نموذج البطل الذي تمثل في تاريخ الحضارة الإنسانية في صيغ متنوعة مختلفة . أما آخر قصائد حاوي فقد ظهرت في ديوان ” من جحيم الكوميديا ” ويظهر أنها كتبت ما بين 1975 و 1979 .
مجموعة ” نهر الرماد ” وجودية السمات ، فهي رحلة باتجاه اكتشاف الذات وحيث تتعرّف فيها على القحط والجدب تم تجهد للتخلّص من يأس مبرم لحق بها ولكن المطلوب أولاً خلع الوجوه المستعارة والاقتضاء بالنقاوة والصفاء وحيث العري طهارة ، هنا فقط يشع بريق أمل ، والرحلة هذه أشبه برحلة ” الكوميديا الالهية ” عند دانتي . تمثل قصيدة ” نعش السكارى ” في هذا الديوان ضياع البراءة في عالم المدينة ، فها هي المرأة التي انزلقت في دهاليز الاثم والفجور تحنّ إلى العذرية الضائعة وتتشوّق إلى حب مخلص وتتحسّر على سالف عهدها ، لكن الشاعر يعبر عن تشوقها لعلمه الأكيد ان الفرد قد هزم في وجه علاقات عالم المدينة :
أتغنينَ لنا الحبّ ونجواه ولينَه
وصفاء الأمس في أرض السكينة
أتغنين ؟ وهل أبقى لنا ليلُ المدينة
أضلعاً تشتاق ما كان وتشتفُ حنينه
ورغم ان ” نهر الرماد ” ينتهي بالانبعاث إلا ان الشاعر يحسّ ثانية بالوحدة بعد تحقيق البعث . قصائد “نهر الرماد” تعبّر اذن عن تجارب فكرية وروحية يتجاذبها قطبان ، الأول هو الضجر بالحياة والاقتناع بعدم جدوى اكتشاف الحقيقة والثاني هو نشدان الآفاق الجديدة والإيمان بالبعث .
تحوّل قصائد ” الناي والريح ” الأربع مضامين ” نهر الرماد ” الإنبعاثية إلى لحظات دائمة الابداع والخلق ، فالجنين الذي تكوّن مع انتهاء الديوان الأول جاء بشارة لولادة حضارية متكاملة . بعد انهيار التراث السلفي ( قصيدة ” البصارة ” ) أمام طوفان الذات وبعثها ، تتصاعد ترانيم ” الناي والريح ” ونرى الشاعر باحثاً عن قيم وكنه الانسان الجديد في صياغة أصيلة حيث يحوّل ويخلق فيبدع ، لكن هذه المهمة تتطلب طراداً مجهداً خلف تلك الصياغة التي يضفي حاوي عليها سمات ” ريفية ” نقية فكأن اللفظة الخلاقة عذراء :
دربي إلى البدوية السمراء
واحات العجين البكر
والفجوات ، أودية الهجير ،
وزوابع الرمل المرير
تعصى وليس يروّضها
غير الذي يتقمّص الجمل الصبور
وهكذا وحتى تصبح الكلمة تابعة لإشارة الشاعر ، يحلق بها ويكون ، كان عليه ان يرد مضارب البراءة حيث مادة الخلق صافية وخام ولم تزرها حضارة أو تتطرق اليها مدنية ومن اتحاده بالأرض والرمل تولد الريح ويلمع البرق ، ويخصب انسان الدم ، هذا الذي له شروش السنديان ، مثل كلمته الكائنة المكوّنة .
عبّر ديوان حاوي الثالث ” بيادر الجوع ” عن عقم الواقع وفراغه وعن لوعة الشاعر ازاء تحطيم رؤاه وعجزه عن التغيير ، وتتجسّد تجربة الشاعر في قصيدة ” لعازر عام 1962 ” ، ولئن كان لعازر قد بعثه المسيح حياً بعد ثلاثة أيام من موته ، فان لعازر المعاصر لا يقوى على تغيير الواقع الفاسد ، لا بل انه يدفع بزوجته إلى أروقة الجحيم ، وهذه صورة قاتمة لتقهقر الحضارة العربية ، فشهوة الموت متحكمة في نفس لعازر حتى ان المسيح رمز القوة الغيبية يعجز عن بعث الحياة فيه ، طالما ان المعجزة الغيبية تأتي من الخارج بينما يكون الانبعاث أصيلاً في تفجّره عن أعماق الذات . يرفض الواقع الانبعاث ويرتعد لعازر لسقوط رؤاه فيهرب ويدفن نفسه متخذا المدينة بوابة عبور إلى الجحيم . أما أهل المدينة فهم غارقون في سُبات عميق وعاجزون عن بث حرارة الايمان والحب :
عبثاً تلقي ستاراً أرجوانياً
على الرؤيا اللعينة
وبكت نفسي الحزينة
كنتُ ميتاً بارداً يعبرُ
أسواقَ المدينة
الجماهير التي يعلكها دولابُ نار
مَن أنا حتى اردُ النار عنها والدوار
عمّق الحفرة يا حفار
عمّقها لقاع لا قرار
لئن كانت قصيدة “الكهف” الأولى من مجموعة “بيادر الجوع” تجسّد تطاول الزمن وبالتالي انعدام اشكال الحياة تحت وطأة الاغتراب ومعاناته ، فان القصيدة الثانية “جنية الشاطئ” تصوّر أعمق ما أتى به حاوي عن صراع قطبي البراءة والمعرفة وهو صراع ناتج أصلاً عن احتكاك الذات الفطرية بحضارة المدينة . والقصيدة هذه ترمز إلى حال البراءة الأولى متمثلة في غجرية تحيا كما تدفعها براكين الحيوية المتفجرة في داخلها إلى الحياة . ويصوّر الشاعر ألم البراءة امام المعرفة المدعية ، اذ تحولت الغجرية ، رمز البراءة والحيوية الى شمطاء بعد الاحتكاك بالمدنية الزائفة التي تقتل الحيوية . إبان زمن البراءة الأولى تعيش الغجرية ردحاً مشبعاً بالأعياد المرحة المنسكبة من الذات الفياضة في انطلاقها وتفجرها ، وكذا حال الإنسان قبل أن تغريه حلاوة المعرفة وهو في الفردوس ولم يمد يده بعد إلى الشجرة . ها هي الغجرية تبدأ بقصّ سيرتها الذاتية :
هل كنتُ غيرَ صبيةٍ سمراء
في خيم الغجر ،
خيم بلا أرض وأوتاد وأمتعة تعيق ،
الريح تحملها فتبحر
خلف أعياد الفصول
تحط من عيد لعيد في الطريق
والريح تمسح ما تخلفه
العشية من أثر
هذه الحيوية عند الغجرية ، تفاحة الوعر الخصيب ، لا يعيق اندفاعها إطار زمني – مكاني يلجمها ، ولا يحدّ من عنفوانها فكرٌ متأملٌ يلزمها ، فجسد الغجرية استمرارية للطبيعة وهو متلاحم مع البداوة والفطرة ، جسدها عطش كرمال الصحراء ، وبهذا تمثّل الغجرية الأرض في بعثها الدائم وبكارتها المتجددة .
النعنعُ البري يموّج في مطاوي
السفح
والريحانُ أدغالاً بأوديتي يهيج
تلهو وتمرحُ فيه قطعان الوعول
وعلى الرغم من كل ما يجري من تحولات وتغيرات سواء في جسد الغجرية أم في متن الطبيعة ، الا أن كلاً منهما يحيا تجدداً دائماً ويعيش دورة الفصول محافظاً على صلابته الفطرية :
ويظلُ للجسد الطريّ صفاءُ مرآةِ
وعنقودِ يجوهر في دَعة
عبرت وما عبرت عليه الزوبعة
ثم تنزل الغجرية إلى عالم المعرفة فتقصد المدينة لكنها تعجز عن فهم الشريعة ، فالمعرفة ليست من خصال تفاحة الوعر الخصيب ، وتجاه عدم مقدرة الغجرية على استيعاب عالم المدينة وانجازات الحضارة يتدخل الكاهن الموسوي حارس شجرة الخير والشر فيمتحن الغجرية بالنار وبشريعة لا تسري عليها ، فالشريعة ليست في عرفها . ها هي الغجرية تكمل رواية سيرتها وتحدثنا عن خضوعها لتلك التجربة وتصوّر لنا آلامها الناشبة عن كيّها بغرض طبعها بسمات خارجة عن كُنه ذاتها :
يُرغي عليّ الأسود المداجي
المقنَع بالرماد
وأرى خلال الرغوة الصفراء
كبريتاً تجمّر في مغاره
ويفوح محَمرّ الحديد
ودخنه اللحم الطري من العباره
جسد اللعينة لن يطهرَه العماد
ومن يومها والغجرية تتلّوى وتتعذّب نتيجة ما جرّت عليها المعرفة :
لليوم أرجف ، أغمض العينين ….
أصرخ … لا أطيقُ
وتصيح في نهديّ آثار الحروق
وعلى الطريق
جسدٌ يموت ويستفيق
هذا ما فعلته الحضارة بالبراءة ، وهذا ما خطّته المدينة على عقل الفطرة ، فالحضارة التي تسكن المدينة ، والممثلة هنا في الكاهن ، عملت على تحويل ذات البراءة الأولى إلى كبريت ونار وكأن حضارة المدينة لعنة دمغت جبين الغجرية وحكمت عليها بالنفي عن طبيعتها الأولى ، لكن الغجرية بقيت على براءتها طالما ان الشريعة لم تسر عليها ، ولا زالت تفاحة الوعر الخصيب تخشى الحكمة والمعرفة (الشريعة) :
ما زلتُ أجهل ما الذنوب وكيف
تغتسل الذنوب
وأخاف من ” باسم الصليب ”
وهكذا وفي حنايا المدينة وخباياها تاهت البراءة فأحسَّت بغربة داخلية معتمة دفعتها إلى الانزواء والتقوقع خشية التصادم مع عالم المدينة :
أنسلّ للكهف المعلّق
فوق أمواج المضيق
رملٌ ، نفايات ، كلابٌ
مرفأ خربٌ عتيق
هذه الغربة المتفاعلة في ذات البراءة دفعت بالغجرية إلى الظن بان حكم الحضارة عليها (جسد اللعينة لن يطهره العماد) صادق وقاطع ، وانها ليست سوى جنية شريرة لها جسد غريب عجيب ترتد عنه النار ، وإذا بها تعتقد بأنها آثمة فاجرة فتصاب بالجنون لهول السقوط من عهد البراءة إلى عهد الغواية ، ويضحى عيد التجلي عندها مزهراً حين تركض وتهزج في الطريق روايات سالف عهدها الطري والبريء ، لكنها تتذكر ذلك بألم وتنطقه بغصة موجعة ، ثم تلبس قناعاً ،تلهو وتسخر من البشر ، الا ان داء المدنيّة المزّيفة يستفحل بها فتعيش بقية حياتها بلهاء مجنونة :
هيهات يُعرف من أنا ، عبثاً ، مُحال ،
شمطاء تنبش في المزابل
عن قشور البرتقال
يزخر استعمال الرمز في ” جنية الشاطئ ” ، والرمز في قصائد حاوي تقنية أساسية فهو عنده مشحون بالأثر الديني والتراث المسيحي خاصةٌ ، كما ان الرمز عنده مثقل بالمنحى الفلسفي الوجودي ، واستعمال حاوي للرمز ذكي وفني حتى لنراه لا يفصح عن الأسماء أحياناً مستغلاً دلالة الرمز وما يوحيه في جسد القصيدة ذاتها ، وهو في هذا لا يهمل القافية فخلف غنائية قصيدته يكمن همّ فكري عميق وضعه اطاراً لتجربته وراح يخفّف من ثقل الفكرة بأن يغلفها بهذه الموسيقية التي تميّز قصائد حاوي عن زملائه الروّاد .
في ” وجوه السندباد ” نحن أمام رحلة حضارية يقوم بها الشاعر في بلاد الغربة حيث تتعاقب لياليه برتابة ويتطاول سأمه فينسى الشاعر أمسه ، وتحلّ عليه حمّى الاكتشاف والتقييم وهو في لندن فيرتاد عرائس الجن ويرتاح في لهب اللذة :
فيرسو في المواني
ومحطات القطار
لبنات ” البار ” ما في جيبه
ضحكةٌ ،
حشرجةٌ خلف الستار
وجهُ من يتعب من نارٍ
فيرتاح لنار
لكن الشاعر يعود مُكبّاً على دراسة الأسفار القديمة ثم يضجر لوجوده بين غرباء ويهرب إلى الطريق ، يحاول رمي اقنعته فيلتقي بنفسه حيث وجهه عريق في القدم ولا اثر فيه للحمىّ ، وتردّه نفسه إلى حقيقة ذاته قرب الجسر ومدخنات الفحم تعوي من محطات القطار والبحار وحيث الضباب كالح ، لكن رموز الحضارة الغربية هذه تغزل حوله اخطبوطاً وسخاً يريد ان يبتلعه ويعود الشاعر إلى غرفته فيسمع صوت ذاته في صفاوة وتجلٍ :
متعبٌ أنت وحضن الماء
مرج دائم الخضرة ، نيسانٌ ،
أراجيح تغنّي ، وسريرْ
مخملي اللين شفافٌ حريرْ ،
وبنات الماء ما زلنَ
على الدهر صبايا
ربما كان لديهنّ
قوارير من البلسم
وسط ضباب رمادي في مدينة وهمية يكتشف الشاعر نفسه وهنا ، وفي هوّة اجواء الضباب الموحل ، والقاع الوجودي المعتم الذي لا قرار له ، كان لا بُد من اشراقة اخرى ، وكان لا بُد من هذا الحوار النفسي المجسد . ووسط كل مظاهر الحضارة الغربية وألوانها القاتمة تتجلّى له صورة مزركشة تكون بلسم جراحه وتردّه من ضياعه . انها صورة سمرته الأولى المهيبة ، رمز لبنان طيبه ، ولبنان عند شاعرنا نقاوة الريف وصباياه اللاتي بقين أطفالاً رغم ان الدهر قد هرم . لكن ولادة ذاتية كهذه تحتاج إلى اختمار في عتمة الرحم ، وكأنها تجربة تراثية تحتاج إلى بعث يتمخض عن رحم الأرض ، ومن هنا تبرز أهمية الدعوة إلى القبور كظاهرة ضرورية وسابقة للبعث . وما ان يمسح الشاعر تراب القبر عن وجهه حتى يصل إلى وطنه وكأن غربته كانت دورة كاملة للفصول ، أو طقساً شعائرياً كان لا بُد من ممارسته لاكتشاف الذات . غربة كهذه ليست فقط سفراً إلى مدينة حضارية غريبة بقدر ما هي غربة عن حقيقة النفس المطلقة ، وحين يكتشف الشاعر تلك الحقيقة فانه يزيل الأقنعة عنه ويخلع وجوه السندباد فإذا وجهه سرمدي يعيش في حنوة بيت تعمّر على الصخر . ثم يلحّ عليه الشوق لمعانقة الوجوه ثانية. وهذا شوق ينبغي ان يبدأ من عنف فحولة فوق أنوثة امرأة ، لا محدودة الشبق .
من ضمن المنطلق السابق يمكن فهم وظيفة المدينة عند حاوي، فهي وظيفة وسائطية اذ لا تعدو ان تكون ( وعاء ) حضارياً يستغلّه الشاعر لتصوير التمزق او الضياع ويجعله إطاراً ، محض إطار ، لفلسفته ، فبيروت حاوي هي الوعاء الذي يستطيع أن يبرز تمزقه في فترة مروره في مطهر التجربة لاستكشاف الذات والفن والغايات . بيروت حاوي اشبه بجحيم ومطهر دانتي في الكوميديا الالهية :
ويثور الجن فينا
وتغاوينا الذنوب
والجريمة :
” ان في بيروت دنيا غير دنيا
الكدح والموت الرتيب
ان فيها حانة مسحورة
خمراً ، سريراً من طيوب
للحيارى
في متاهات الصحارى
في الدهاليز اللعينة
ومواخير المدينة
وإذا كان خليل حاوي قد أعلن منذ قصائد ” نهر الرماد ” ضرورة تخطي الواقع الفاسد باتجاه عالم مشرق ، فانه يعبّر في ” السندباد في رحلته الثامنة ” عن مأساة ذلك التخطي وضرورته نحو اشراقة الانبعاث اليقين . والرحلة هنا تأخذ مسارها وترتحل في طيّات النفس وتلافيف الذات . ينطلق السندباد من مدينة اشبه بسدوم بعد ان ضاق بشرائعها وتقاليدها التي تكبّل أناه فيعصف به الحنين إلى اكتشاف جديد :
عاينت في مدينة
تحترف التمويه والطهارة
كيف استحالت سمرةُ الشمسِ
وزهو العمر والنضارة
لغصّة ، تشنّج ، وضيق
عبر وجوه سلخت من
سورها العتيق
يعي السندباد واقعه القاتم فينتفض معرّياً نفسه ويهرب من مدينة تحوّلت إلى أرض يباب يعشش في ثناياها الكلس والملح . ومع هذا التعري والتخلي عن المفاهيم الرثة يجد السندباد نفسه مرتبطاً من جديد بنواميس الطبيعة الفطرية والبحر الصافي البريء ، ويستعد لبناء دار جديدة ، ومن خلل رؤياه يترقب الحبّ ويحتفل بالحلوة البريئة التي شُقت من ضلوعه وكأن المرأة الطاهرة ها هنا رمز المدينة – الرؤيا ، لا سيما وأنها تمثل نقيض المرأة التي محضها الحب في الأقبية الوطيئة ، فهي بأول النور أشبه ، وطهرها أقرب إلى مجاجة الزنبق من الزنبق ، وأصفى من قبلية التجربة المريبة ، لأنها تجربة دائمة على تنزّه وتصوّن .
تثبت ” السندباد في رحلته الثامنة ” ان العالم الذي منه يتحرّك الشاعر عالم مديني بامتياز ، ففي هذه القصيدة اتحدت الذات بالمدينة وما يرفضه الشاعر في ذاته انما هو رفض للبيئة التي منحته اياه ورحلته في ذاته رحلة داخل القيم والأشكال التي تحكم مدينته ، ومن هنا مقدرة حاوي على التحكم بأبعاد شخصية السندباد ، فتتحد الاسطورة بالتجربة المدينية اتحاداً عضوياً وتستحيل إلى رمز يعبّر عن ابعاد لا متناهية في تجربته ، فالشاعر يعبّر عن المطلق المجرد بالحسي فتتحد ذاته بالموضوع ويكون النفاذ من الفردية إلى الكونية ، وهكذا فالمعادلة التي تقوم عليها القصيدة واضحة وبسيطة : فالدار هي الذات والذات تساوي المدينة ، والكلام على الدار أو الذات أو المدينة كلام واحد .
يتحتم علينا النظر إلى تجربة المدينة في شعر حاوي ضمن مفهوم حاوي نفسه بالنسبة إلى وظيفة الشعر وارتباطها بالوضع الحضاري القائم وبرمز المدينة وتقنياتها ، فحاوي يرى أن الرؤيا هي المصدر الذي تستمد منه نشاطات الإنسان معرفة تكشف عن جديد وتضيف جديداً إلى قديم ولما كان الشعر رؤيا تنير تجربة وفناً قادراً على تجسيدهما ، كانت السمة التي يتفرد بها الشعر تنحصر في طبيعة الرؤيا والتعبير عنها ، فالرؤيا الشعرية عند حاوي نفاذ عبر الواقع اليومي والحالات النفسية المرتبطة به إلى الاغوار حيث تهجع المنازع الاصيلة في ذات الشاعر وذات الحضارة التي ينتمي إليها ، وفي هذا ضرورة بالعودة إلى جذور النفس البشرية ، أي العودة إلى الفطرة ، لكن عودة كهذه لا تتّم إلا عبر ولادة ثانية هي عودة إلى الولادة الأولى وكشف حقيقتها ونوازعها ، والشاعر العربي يصر على العودة إلى الجذور الأولى أو الخلق الأول المجسّد طبيعة في الريف ، وزمناً في الماضي ، ووجداناً في الفطرة .
محمود شريح *