بعد ثلاثة اعوام يختم كتاب «نقد الفكر الديني» لصادق جلال العظم نصف قرن.
خير سبيل الى الاحتفاء بهذا العمل، كما بصاحبه ومؤلفاته، هو مواصلة النقد والتحليل الذي بدأه، على قاعدة العقلانية، اعتمادا على منجزات الفلسفة والعلوم الطبيعية، وعلم الاجتماع، وعلم التاريخ، واللسانيات، والانثروبولوجيا.
هذه مهمة حضارية جمعية، لن تكون، بأي حال، انجاز فرد أوحد. بل ان كل حقل من حقول الاختصاص (علم الاجتماع مثلا) ينبغي ان يستقبل جهد حشود من الباحثين (خصوصا سوسيولوجيا الدين – الفرع الأبرز المعني بهذه الاشكالية).
I
ابتداء، ينبغي قول كلمة عن الكاتب والكتاب.
أعمال صادق جلال العظم (باستثناء «الحب والحب العذري») تحمل طابعاً نقدياً، فهو في سجال دائم. وهو بهذا وفيّ للماركسية النقدية، نقدية من ألفها الى يائها. حسبنا ان نذكر البداية من نقد الايديولوجيا الالمانية، وفويرباخ، الى نقد الاقتصاد السياسي – رأس المال المجلدات الأربعة – الى نقد برنامج غوتا، الخ(1).
المقاربة النقدية تؤسس بتفكيك النقيض. وما يبدو أنه معول هدم، هو، في الحقيقة، مدماك تشييد وبناء.
اما الكتاب: «نقد الفكر الديني»، فله تاريخه الخاص. الكتاب يتألف من عدة مقالات دشن فيها المؤلف حضوره الفكري خارج الإطار الأكاديمي كمدرّس للفلسفة، بعد نكسة حزيران/يونيو 1967. يحوي الكتاب مقدمة ومقالات عدة هي: 1- نقد الفكر الديني، 2- مأساة ابليس، 3- ظهور العذراء وتصفية آثار العدوان، 4- التزييف في الفكر المسيحي الغربي المعاصر، 5- مدخل الى التصور العلمي المادي للكون وتطوره. اخيرا ثمة وثائق عن محاكمة المؤلف وتبرئته(2).
الكتاب يقوم على وحدة المنهج النقدي، لا وحدة الموضوع. هذا واضح بذاته. في القسم الأول ثمة صراع الدين والعلم، وفي الثاني مقاربة تاريخية – نصوصية لأسطورة ابليس؛ وفي الثالث تحليل تقني، سيكولوجي، سياسي لـ «معجزة» ظهور العذراء، وفي الرابع نقد التصورات الراهنة عن علاقة الكنيسة بالدولة والعلوم الطبيعية في أوروبا، وفي الخامس عرض تاريخي لتطور العلوم الطبيعية من الفهم الميكانيكي الى الديالكتيكي للطبيعة وتأثيره على الفكر الفلسفي- السياسي، وهو اقرب الى المحاضرة الاكاديمية.
أكرر أن الوحدة في الكتاب تقوم في المنهج العقلاني – النقدي، وتتنوع في المقاربات، وتختلف في المواضيع المبحوثة.
II
في شبابي الاول قرأت الكتاب، وفي كهولتي أعدت قراءته. وبين القراءتين ثمة اربعة عقود ونيف.
أول ما هالني هو لمسة التاريخ التي لا ترحم. بل لمسات التاريخ القاسية.
اللمسة الاولى هي لغة المقدمة، التي شاخت ولا ريب، لغة «حركة التحرر»، «الثورة العربية المعاصرة» أي ثورة!، و«حركات الطليعة الإشتراكية العربية» و»قوى التقدم». مرة قال سارتر انه «شاخ وشاخت اللغة معه». بنظرة الى الماضي من موقع الحاضر، كانت الحركة خروجا من النظام الكولونيالي، اقترنت، كما اكتشفنا بعد، بإرساء استبداد سياسي (نظام الحزب الواحد)، ونهب اقتصادي، وطني هذه المرة وليس كولونياليا انكشف بعد الانفتاح المصري وتحول الطبقة السياسية الى مراكمة الثراء الخاص(3)، وإحياء براجماتياً لكل اللاعقلانية في الموروث الديني والاجتماعي، من عبادة الزعيم(4) الى ظهور الرئيس المؤمن (السادات، النميري، ثم صدام حسين بحملته الإيمانية). هل كنا ازاء كذبة، قمنا فيها بفعل خداع ذاتي، ام ان نزع الكولونيالية، وهو مفترق هام ومطلوب، أذهلنا عن المخاطر، أي تقويض البنى البرلمانية الدستورية وحكم القانون، المرافقة لطبيعة القوى التي قامت بهذا النزع: العسكر (في اغلب البلدان العربية) والإكليروس (في ايران)(5).
كان كتاب «نقد الفكر الديني» ينطلق من مقدمات فلسفية أوروبية، وهذا منطقي بسبب موات الفلسفة في عالمنا العربي الاسلامي، ومعروف ان هذه الفلسفة الغربية نفسها عُنيت ليس فقط بالعقلانية كمفهوم عام، بل بتجلياتها التي صنعت الحداثة وهي: العلمانية، التصنيع، التمدين، الليبرالية.
Secularization, Industrialization, Urbanization, Liberalization.
مناقشة العظم بل مناقشة سائر جيله والجيل الذي تلاه، انحصر عمليا في العلمانية كمفهوم فلسفي ورؤية للعالم(6). وبهذا افترق وافترقنا عن جيل اليسار الاول الذي تمسك بالديمقراطية كتجلّ لليبرالية السياسية، وقبل باقتصاد السوق كأساس لها، وعارض الاقتصاد الكولونيالي (شركات النفط اساساً)، ورحنا نمجد البقرة المقدسة للدولة ما بعد الكولونيالية، وقادتها: العسكر، كنوع من آلهة، بتلك الكاريزما المصنّعة بهستيريا جماعية أسهمنا بها عن غير دراية. كما ان نقد العظم عام 1968، لم يلتحق بالنقد الجديد للدين من منظورات سوسيولوجية، سياسية، الذي بدأ بالتبلور في التسعينات الا لاحقاً(7).
اللمسة الثانية ليد التاريخ الماحقة هي ما يبدو أنه جمود التاريخ العربي الاسلامي. ذلك أن الفكر الديني الذي دشن العظم نقده بحق وشجاعة، لم يتخذ المسار الأوروبي بالتراجع امام تقدم العلم والتكنولوجيا، وتطور العقلانية، فما حصل هو العكس تماماً منذ السبعينيات في الاقل.
والكتاب مترع بالتفاؤل حول «قرب انهيار الموقف الديني القديم»، «بالنسبة لنا الموقف الديني القديم في طريقه الى الانهيار» مع اشلاء المجتمع الاقطاعي «نحن في طور نهضة مهمة» (ص 19 – 20). لكن ذلك، كما نرى الان، تفاؤل رغائبي بلا ريب، اصابنا جميعا في تلك الحقبة، لكنه أخذ يتبدد بالتدريج. ثمة مسار «تطوري» (بمعنى التغير حسب) من ظهور العذراء، الى تحول السادات والنميري، الى نوع من «رئيس مؤمن»، وبروز الخميني (1979) فجمهوريته الإسلامية، مرورا باحتلال الحرم المكي (جهيمان وحركته: السلفية المحتسبة)، و»حركة المجاهدين» في افغانستان، مرورا بنشوء حزب الله – لبنان، والقاعدة، وبوكو حرام و«داعش». بالوسع القول، من وجهة السيكولوجيا المحض، إننا بإزاء «هستيريا الهوس بالماضي»، قرب ظهور المهدي، وعودة الخلافة. الأول جارف في ايران والعراق (وجزئيا بلبنان)، والثاني في عموم الجزء السني من العالم العربي – الإسلامي.
نقد العظم جوهري، تفاؤله بانهيار الفكر التقليدي عارض. وبين العرض والجوهر برزخ.
ولعل هذين الميلين في نصوص العظم، الجوهري والعرضي، يكتملان بميلين آخرين: النقد الفلسفي، والنقد السياسي، وهما يتجليان في كتابيه (ذهنية التحريم، وما بعد ذهنية التحريم) بمواصلة نقد الفكر الغيبي والتحريمي، اما الميل العرضي فيتجلى في بحثه عن نظرة جديدة الى الاصولية الإسلامية(8)، وبحثه عن الإسلام والنزعة الإنسانية(9) (كلاهما صدر بالانكليزية).
في مقالتيه (بالانجليزية)، نجد العظم يقارن في الأولى الخميني بكاسترو، لجهة موقفه «الثوري» من الكولونيالية، ومسائل التحرر الوطني. الخمينية هنا محددة سلبياً بنقيضها: الشاه – اميركا – إسرائيل، لكنها ليست محددة ايجابيا بما هي عليه: استبداد اكليروسي، شبيه بالاستبداد العسكري – التكنوقراطي للناصرية و»البعث». وهو ما التفت اليه فواز طرابلسي في مقالة منشورة بعد الثورة في إيران. كذلك يقرن العظم، في مقاله الثاني، حزب العدالة الاسلامي في تركيا بالديمقراطية محددة تحديداً سالباً – على أساس القبول البراغماتي بالنظام القائم، وليس على اساس تحليل الخطاب الديني. هذه معالجة ظرفية لحركتين، تُسقط من حسابها أبعاد «الفكر الديني الغيبي» في كلتا الحالتين، لحساب إعلاء الموقف السياسي. لكن النتيجة ان ربط الدين بـ«القوى الرجعية»، و»الرأسمالية العالمية» و»تضليل الجماهير» بوصفه سلاحاً «نظرياً بيد الرجعية»، الخ (كما ورد نقد الفكر الديني) يخلي مكانه، في المقالتين المذكورتين لدين جديد، ذي نزعة «ثورية» و«ديمقراطية».
من جديد التطورات في إيران، وافغانستان، منذ الثمانينيات، ثم في العراق وسوريا (راهناً)، تفيد حقائق اخرى. أدرك تماما اننا نتحدث عن «اوضاع مباينة»، عن حالات جزئية، لكن المقصد هو كيف نجمع هذه اللحظات، الحالات، الاوضاع، في إطار تعميم شامل universal كالذي ورد في «نقد الفكر الديني»؛ عن بنية الدين، معناه، وظائفه؟ إذا تمسكنا باستدلالات «نقد الفكر الديني» من جهة، واستدلالات المبحثين اللاحقين عامي 1993 و2007 من جهة اخرى. واذا اعتبرناها صادقة، بالمعنى المنطقي لمفهوم الصدق، فاننا نتوصل الى ان الوظائف الاجتماعية – الاقتصادية – السياسية للدين كمؤسسة، وحركات وبنى فكرية، هي وظائف متضاربة، شديدة التنوع. وان دراسة الحالات الجزئية، تقدم لنا امثلة على هذا التنوع، بتنوع البلدان المجتمعات، الحقب التاريخية، الخ. هذا التنوع التاريخي دعا العظم للانتقال من جوهر إحادي للدين (الاسلام)، الى القول بثنوية، انشطار وانقسام.
III
الدين كما هو معلوم منظومة معتقدات متماسكة، هي مفهوم عن بنية الكون وأصله وطبيعة الخالق والخلق (مجال علم الكلام الاسلامي، الذي اختفى من حضارتنا، ويقابله اللاهوت المسيحي)؛ وهي مفهوم عن علاقة الخالق بالإنسان (فقه العبادات – منظومة العبادات والشعائر والطقوس والموت والبعث والدفن والطهارة)، وهي مفهوم عن علاقة البشر ببعضهم البعض، مفاهيم الإمامة او الخلافة (الفقه السياسي)، وعقود الاقتصاد – بيع، شراء، قروض، تجارة، الخ… الخراج، ملكية الأرض (فقه المعاملات)، وعقود الزواج، الاسرة، (التي ينجم عنها ومنها نظام اخلاقي محدد).
وباختصار الحقول تنحصر في علائق: الكون – الخالق، الخالق – الانسان، الانسان – الدولة، الانسان – الانسان. هل ينتهي تعريف الدين عند هذا؟ قطعاً لا.
فهناك مؤسسة (مؤسسات) تنتج وتعيد انتاج منظومات الفكر الديني هذه بمفاهيمها وأقانيمها عن طريق المدارس الدينية (كليات الفقه، الحوزات الدينية)، وشبكات الأتباع والمقلدين، وصناديق مالية (مدعمة من دول او افراد)، وهي جزء من البنى المركزية للدولة، او مستقلة عنها، وهي مؤسسات تحرص على حماية منظومتها الفكرية، وتطويرها، او تعديلها عند الحاجة (من الحكم بحرق الفيزيائي غاليليو، الى القبول بنظرية الانفجار الأعظم ل Big Bang للفيزيائي البريطاني، الملحد، ستيفن هوكنغز Stephen Hawkings).
وهناك ايضا بنى التدين الشعبي، الناشطة في مجال الطقوس والتمائم، القوى السحرية بامتياز، مثل حلقات الذكر الصوفية (عند السنّة)، او جمعيات العرفان الصوفية (إيران الشيعية)، او منظمي المواكب الحسينية على مستوى الحارات والأصناف الحرفية في الإطار الشيعي، وهي بأغلبها متحررة من سطوة الدولة او مستقلة عنها، وجزء من تنظيم سحر العالم والتضامنات الاجتماعية.
اخيرا، وليس اخراً، ثمة الحركات الاجتماعية – السياسية، التي تحولت، منذ ظهور حركة الاخوان المسلمين عام 1928 (حسن البنا)، وحتى اليوم، الى ما يعرف بـ: الاسلام السياسي. وهي حركات احتجاج تدمج الأيديولوجيا بالتراث، مقروناً احياناً باستعارة مبتذلة للأقانيم الماركسية و/او القومية، في مسعى لاعادة المقدس في إهاب شامان (ساحر) حديث بتوسط او زعامة الفقيه (إيران) او الزعماء الفقهاء الجدد (بن لادن، الظواهري، ابو بكر البغدادي) إنها «اعادة سحر العالم».
هذا الكيان المركب، المعقد للدين يربأ بأي اختزال، بل يطالب بمقاربة مركبة – معقدة هي الاخرى، وهذه مهمة، كما اشرنا، لم تكن ولن تكون وظيفة مفكر او باحث منفرد، اياً كانت سعة احاطته بالظاهرة. لكن الإحالة الى تقسيم الدين الى مكوناته الجزئية، يفيدنا في تحديد المضمار الذي يدور البحث فيه، اعتمادا على منظومة العلائق التي اشرنا الى ان الدين يتمحور حولها، وهي علائق تشهد، بمجموعها، تصادمات او توافقات كلية او جزئية مع العلوم الطبيعية، (الفيزياء، البيولوجيا مثلاً) والعلوم الانسانية، وبالذات الفلسفة (فكرة الحرية والارادة الانسانية)، والاقتصاد (مفهوم العقلانية الاقتصادية، الفائدة المصرفية، الخ)، والفلسفة السياسية (سيادة الشعب، الديمقراطية)، وفلسفة التاريخ (لتفريق الواقعة عن الاسطورة في الاقل).
نعم، المؤسسة الدينية تتلقى الضربات، وتتكيف، وتولّد، بتكيفها الفكري، او السياسي، او غيرهما، دعماً تشجيعياً، في جانب، وتمردات في جانب آخر. أغلب التمردات تستخدم الأدوات الدينية فكريا، وتشطر الدين الى تيارات متقاتلة.
لم يدرس العظم، ولا كان عليه ان يدرس، البعد السوسيولوجي للفكر الديني، طبيعة حامله، وشروط الحمل، لكنه يشير في «نقد الفكر الديني» الى تجربته الشخصية مع طلابه، الممزقين بين حقائق العلم وسرديات الدين، حسب قوله: «البعض منهم يلجأ الى موقف ديني مغلق، متشدد في تعصبه، ومغال في التمسك بدقائق الفرائض الدينية… [وهي] أقلية تعبر بكل مناسبة عن عدائها الشديد لأي افكار تقدمية او علمية» وهناك «اقلية اخرى» تسير باتجاه معاكس، اما «الاكثرية» فهي تتخبط بين الفئتين.
هذه ملاحظة سوسيولوجية ميدانية هامة. وان جرى توسيعها من حقل مجموعة طلابية، الى المجتمع الأوسع فلربما نجد، اذا اعتمدنا مسوحاً ميدانية دقيقة، كتلك التي اعتمدها ماركس في رأس المال، او ماكس فيبر في «الأخلاق البروتستانتية»، أن «الاقليات» هي «أغلبية»، خصوصا وان عالم القرى والارياف المتدفق الى المدن هو موئل الأساطير والخرافات، لكنه غير مدروس دراسة كافية في عالمنا العربي – الاسلامي، بل نجد شذرات عنه مبثوثة في روايات ادبية تتناول ذلك التمسك بالأولياء القديسين، وعبادة الأسلاف (على غرار الصين)، وابتداع طقوس غريبة باعتماد تمائم وتعاويذ، وقبور أولياء ومراقد قديسين، تختصر الذات الالهية في شخوص مائتة، وتنتظر المنقذ، المخلّص، مترقبة آخر الزمان.
IV
يحتل كتاب «نقد الفكر الديني» مكانه اللائق في سلسلة الفكر العقلاني – النقدي، التي انبذرت بذورها في تركيا العثمانية وايران القاجارية خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بذور رعاها مصلحون من جهاز الدولة (بيروقراطيون)، وهم أشبه بجنود مجهولين، الا انهم رأوا ما حققه الغرب بفضل العلوم العقلانية (الدستور، الصناعة، الحريات السياسية، الصحافة)، وسعوا بفعل خشيتهم من انهيار حضارتهم، الى الإصلاح(10).
نحن نحتفي عادة بالمصلح جمال الدين الافغاني، ومحمد عبده بوصفهما من دعاة الاصلاح الديني (نبذ عقيدة الجبر)، او قد نضيف لهما خير الدين التونسي، من دعاة الاصلاح السياسي (الدستورية). لكن هؤلاء، على اهمية ما قدموه، كانوا ابناء او احفاداً لجيل من الاصلاحيين سبقهم.
ولعل أكبر اهمية لمساهمة هؤلاء، انها نبعت من وسط ديني، يساجل بأدوات من المصادر التي يعتمدها المتمسكون بالماضي نفسها، وتفسيراته الخرافية الضيقة. ويندرج «نقد الفكر الديني» في سلسلة كتب محورية تواصلت مع كتابات علي عبد الرزاق (الإسلام واصول الحكم)، ومروراً، وليس انتهاء بكتاب عبد الكريم سروش، الذي يؤسس لفكرة قديمة بثوب جديد، هي فكرة ان الدين هو قراءة بشرية للدين. لكن الجوهري عنده ان هذه القراءة للدين تحتاج الى العلوم: الكوزمولوجيا، علم البيولوجيا (الأحياء)، علم التاريخ، اللسانيات، الانثروبولوجيا، علم الاجتماع، الخ. فقراءة النصوص الدينية تحتاج لكل هذه العلوم. ولهذا الاستنباط نتيجتان قد تبدوان على طرفي نقيض، الاول ان فهم الدين يتطور ولا بدّ ان يتطور، اي الحرص على بقائه واستمراره عبر التغيّر؛ والثاني ان رجال الدين غير مؤهلين بحكم افتقارهم الى العلوم الوضعية المذكورة اعلاه، الى انتاج فهم صحيح او حديث للدين. هذا تقويض لسلطة الاكليروس.
سروش يحارب على جبهة محددة، هي جبهة الجمهورية الاسلامية، التي قال عنها مفكر ايراني آخر مؤلف «ما الثورة الدينية؟» داريوش شايغان، انها تناقض في التعريف، لأن المبدأ الجمهوري يقوم على سيادة الشعب، والإسلامي يقوم على مبدأ سيادة اللاهوت، بتوسط الفقهاء او غيرهم من ممثلي الذات العليا(11). ويمضي شايغان الى نقد البنية الأنطولوجية، المعرفية للحضارة الاسلامية، محدداً انها في فشل مزدوج ازاء الحداثة: عجز الحداثة عن «اقناع الجماهير» وعجز التقاليد الدينية عن استيعاب الحداثة.
اما العظم فكان وما يزال يحارب على جبهة اخرى، جبهة المشرق العربي، ودشن مسعاه في حقبة سابقة لما يسمى «المدّ الاسلامي»، سروش ينطلق من فلسفة العلم ومنهجياته التي درسها في بريطانيا، والعظم ينطلق من الفلسفة الفلسفية بعامة، والموقف الماركسي، الطبقي. علمانية العظم عقلانية، عميقة، وعلمانية سروش عقلانية تصالحية.
V
هل يتحول الفكر الديني الذي تنتجه المؤسسات الفقهية؛ وهل تتحول السرديات الدينية للحركات الجهادية (في المدن)، وهل يزول شامان السحر في الارياف والقرى في اتجاه «نزع سحر العالم»، حسب عبارة شهيرة لماكس فيبر(12)، صوب العقلانية والعلمانية والنزعة الانسانية؟
العلمنة، حسب المؤرخين الأوروبيين، بدأت من صلب الكنيسة (لوثر، كالفن، الاصلاح الديني). ثمة أديان معلمنة. قد يبدو ذلك تناقضاً في التعريف، لكنه حقيقة واقعة. مساهمة الدين في علمنة الدين اساسية، شأن اسهام الفلسفة والعلوم الطبيعية. وانشطار الاسلام الذي يذكره العظم في «الإسلام والنزعة العلمانية» يقدم اساساً، كما ينبئ باتجاه للتطور نحو العلمانية والانسانية ماثل بالقوة أكثر مما هو ماثل بالفعل حتى الان. ورغم انه يبدو مثل نطفة وسط صخب الخمينية، والسلفية الجهادية، في حمأة التباغض والتقاتل الطائفيين، فان الإمكان مرشح للنمو. شروط هذا التحول مركّبة: ثمة النزعة البراغماتية العملية عند الاسلاميين، مؤسسات وحركات ومفكرين، أي ما يسميه العظم: الاسلام التاريخي كنقيض للاسلام العقائدي، وثمة القوى المجتمعية النابذة للدولة الدينية، وثمة الانقسامات بين الاسلاميين بمواجهة الحداثة، وانقسامات الدول الدينية، وثمة التطور العاصف، الفكري – التكنولوجي في العالم. هذا مسار تاريخي قائم ولكنه ليس غائياً. ليس للتاريخ ذات خالصة، فوق البشر. واذا كانت له «ذات» فهي ذوات البشر، المحتربة – المتصارعة في عالم هوبز الخالص: حرب الجميع ضد الجميع. الطبيعة محكومة بحتميات عمياء، اما التاريخ فمأهول بذوات حرة، حرة حتى في اختياراتها العمياء، او انحباسها الثقافي في موروث مغلق، او حداثة منفتحة. ان افق التحول مشروط بهذه الذوات الحرة، المتصارعة، في قدرتها على بناء نفسها في حركات اجتماعية ترسي الافكار الحداثية في مؤسسات محميّة بثقافة ومدونات قانونية، كما بالقوى المجتمعية نفسها.
VI
النقلة من «الاسلام العقائدي» الى «الاسلام التاريخي» ما تزال ناقصة. هذه محنة بدأت منذ اواخر القرن التاسع عشر، واحتدمت بداية القرن العشرين، لحظات الانتقال من الامبراطورية المقدسة الى الدولة الوطنية، او القومية، الحديثة. لعل أكبر ميادين تصادم الفكر الاسلامي مع الحداثة هو مسألة تخيّل معنى الجماعة في الزمان والمكان. هذه وظيفة الثقافة، كما هي وظيفة الدولة. الفكر الاسلامي السلفي لم يتصالح بعد مع هذا المنتج للحداثة بما فيه من مؤسسات ونظم ثقافة تعتمد التخيل القومي للجماعة.
التخيل القومي هو الأداة الرئيسية في التعيين الفكري للهوية في عالم اليوم(13).
يبحث هذا التخيل عن محور، تدور حوله فكرة الانتماء والتلاحم، الطوعي، أو القسري، محور يشكل العلامة الفارقة للجماعة التي تؤلف الأمة، موضوع هذا التخيل وغايته.
والتخيل، هنا، رديف، لا أكثر، لبنية من التصورات التي يبدو اختيارها حتمياً في حالات، واعتباطياً في حالات أخرى.
الدولة الحديثة تقوم او تتحقق بإلغاء الإنتماء المقدّس والزمن المهدوي، بمجرد تغيير اسمها
لكن الدولة تقوم بوظيفة اخرى، ثقافية ايضا في الجوهر: خلق الوسيط الثقافي الموحد، اوالخالق للتجانس، وابتداع ثقافة قومية (او وطنية) عليا، شاملة، تندرج فيها شتى العناصر غير المتجانسة(14).
بيد ان معمار الثقافة العليا المتجانسة يستمد نسغه من الإرث الثقافي السابق، ومن تحويله اعتباطيا وانتقائيا. وتقوم كل نزعة قومية على تخيل ثقافي للماضي، نراه جليا في الاتجاهات النظرية او في الحركات الفكرية.
عموما، هناك اتجاهان لتحديد الامة، الاتجاه الاول الرومانسي الالماني (هيردر، فيخته) الذي يرسي الامة على قاعدة الثقافة – العنصر. والاتجاه الثاني، الاتجاه الفرنسي (رينان) الذي يرسي الامة على اساس الارادة في العيش المشترك.
مثلما ان النزعة الدستورية لعصر النهضة استمدت الكثير من تصوراتها من الفكر الفرنسي (مونتيسكيو – روح الشرائع، روسو – العقد الاجتماعي) فإن النزعة القومية عشية القرن العشرين ومنتصفه اقتبست عدتها المفهومية من الرومانسية الالمانية (الحُصري، عفلق) بشكل اساسي، او بدرجة اقل من الطليان (اعتماد الكواكبي على ألفيري).
يمثل الكواكبي طفولة اللقاء بين الفكر الميثولوجي/ التاريخي والفكر الاوروبي الوضعي، فتراه يجمع بين اقطاب تمثل السلالة المقدسة (الخلافة) والبناء السياسي الحديث (الدولة الدستورية) والنزعة الاثنية المعاصرة، هذا القران المدهش، يبدو، من الوجهة المنطقية، تناقضا في التعريف، لكنه، من الوجهة الثقافية، يكمل ما بدأه الافغاني: اضفاء الطابع الدستوري على الخلافة، اي تحديثها والغاء مرتكزها المقدس، استمرار النزعة الدستورية، ثم إرساء التمايز الاثني (العربي) عن التركي، بشطر التماثل الديني شطرين اثنين (الخلافة في قريش)(15).
إن بذور التناقضات التي صادفت عملية تشكيل الهوية الذاتية في الرقعة العربية تكاد ان تتجسد، بصورة ظاهرة، او مضمرة، في التخيل الفكري الاسلامي الذي صاغه الافغاني (الجامعة الاسلامية) كما في التخيل القومي الذي وضعه الكواكبي، واختزانها لهذه التناقضات ناجم عن وضعهما الفريد اواخر القرن التاسع عشر وعشية القرن العشرين، في لحظة اشتباك النزعات الدستورية بالاستبدادية، ونزعة تحديد الهوية دينيا (الجامعة الاسلامية) بإزاء التعيين الاثني للهوية، ولحظة تفكك الامبرطورية العثمانية، وزحف الغرب، ولسوف تتفكك هذه العناصر وتندغم في النظم المعرفية الميثولوجية او الميتافيزيقية او الوضعية، عل امتداد القرن العشرين، مغتذية على اتساع الفضاء السياسي وانفتاحه امام القادمين من الدوائر الثقافية المتصادمة، في المدينة، او بين المدينة والارياف، على ايقاع الهجرات الهائلة المستديمة للحواضر (المتمركزة عموما في العواصم)، وقدرة شتى الحقول الثقافية على انتاج مثقفيها وايديولوجييها.
VII
أنتجت الحقول الثقافية ثلاثة انماط من التخيل الثقافي للهوية القومية: التخيل الميثولوجي –الاسلامي، التخيل الايديولوجي – الثقافي والتخيل الوضعي – التاريخي.
يقيم التخيل الاول هوية الانتماء الحضاري على الدين (الاسلام) اساسا للحدود الثقافية، والامة الاسلامية اطارا للحدود السياسية. اما التخيل الثاني فيبني هوية الانتماء على الاثنية (اللغة، الثقافة العربية) جاعلا اياها حاملا، والدين محمولا بالضرورة، محددا لحظة الافتراق بين الامة، القائمة من الازل والدول القومية غيرالمتحققة. بموازاة ذلك دفع الشكل الوضعي / التاريخي التخيل ذاته الى اقصى مدياته التاريخية، ناقلا الوشائج الى التاريخ ما قبل الاسلامي، الى عهد الفراعنة (مصر)، او الفينيقيين (لبنان) او امبراطورية سيروس (إيران).
التمثلات القومية بالذات الجمعية تشتغل، لا محالة، على التاريخ. فذلك حقل مسوغاتها واستمراريتها. وتجارب هذه التمثلات تقدم لنا نوعا فريدا متضاربا، متنافرا الى ابعد حد. مع هذا ثمة مرتكز عام: الاقرار بوجود اثنية، لها واقع التمييز الذاتي. لكن الاثنية نفسها تتميز اما على اساس اللغة او الدين او العرق(16).
وتضطر التمثلات القومية الى البحث عن عنصر تمييز بأي ثمن، حتى لو كان خارجيا على ثقافتها.
لا مراء في ان هناك ثلاثة أشكال للنزعة القومية، الشكل الإثني (العروبي)، الشكل الديني (الاسلامي) والشكل التاريخي – الإقليمي (الفينيقي، الفرعوني).
تنطوي هذه الأشكال الثلاثة على قراءات متباينة للتاريخ او، قل بناءات مختلفة للتاريخ: بناء ميثولوجي، يجرد التاريخ من تاريخيته، ويربطه بزمن دائري مغلق، يعيد انتاج الجاهلية والاسلام في تناوب أبدي. إنه الزمن الذي وصفه العروي بأنه «الماضي والحاضر» او الذي وصفه اندرسون «الماضي والمستقبل المتزامنان في الحاضر». هذا البناء الميثولوجي يختص بالشكل الاسلامي للأمة. إن امثولته (او نموذجه paradigm) هي مجتمع المدينة لا الواقعي، بل المتخيل، المصفى من سماته الفعلية.
اما الشكل الايديولوجي، العروبي، فيعيد تركيب التاريخ بمعايير ومحددات (وعي الذات الاثنية) معاصرة يلصقها بالماضي لصقا، فيعيد تركيب التاريخ ايديولوجيا مثلما يعيد ذاك تركيبه ميثولوجيا.
ويتفق التياران على عنصر الخصوصية، الدينية هناك، والاثنية هنا، الخصوصية بمعنى التفرد، والجوهر الثابت، الازلي للجماعة كثقافة.
مقابل هذين يحاول التيار التاريخي ايجاد استمرارية لا تاريخية في التاريخ، استمرارية توصل الحاضر بالماضي دون انقطاعات او تحولات.
في هذه المساعي لإلغاء الزمن، او تدويره، ثمة الفزع من خواء اللاتعريف، والتوق للخروج من اسره. انه الأنا المجروحة الباغضة لتلكئها، والباحثة عن تعيين للذات وان يكن سلبيا: نحن لسنا هم!
VIII
لكن الثقافة كنظام معرفي تتضمن ممكنات شديدة الانغلاق، وممكنات معينة للانفتاح.
فكل نظام معرفي، كما نعلم، ينمو ويتطور في إطار نظام لغوي خاص وثقافة محلية خاصة وتنتج هذه الثقافة مقولاتها لتنظيم العالم وتحديد موقعها في الزمان والمكان انطلاقا من اشكال التنظيم الاجتماعي نفسه(17). وهي بهذا المعنى فردية، متميزة، اصيلة. من ناحية ثانية تنفتح هذه المعرفة على نظام الاشياء سواء في الفكر او المجتمع او الطبيعة، في تفاعل كوني، شامل. هذان الجانبان يفسحان المجال لوحدة العقل البشري، في جهة، وتناقضه وانغلاقه، في جهة.
النزعة الجوهرية الثقافية في منطقتنا، سواء في شكلها الديني او شكلها القومي الاثني، تعيد انتاج النزعة الجوهرية وتبني لنفسها سجنها الخاص.
ويبدو ان العصر التكنولوجي الجديد ينزع بالتدريج الى اضعاف رقعة الشطر المحلي، وزيادة رقعة العناصر الشاملة في الثقافات. واقعيا تتسع التفاعلات الحضارية، غير ان هذه تثير، في الوقت عينه، هلعا يمعن في نزعة الاصالة والخصوصية.
باختصار ما نزال ندور، على مستوى أشد، في إشكالية الاصالة والحداثة، «نحن» و«هم»، على غرار ما كنا عليه مطلع القرن العشرين.
من عوامل هذا الاحتدام موقعنا المحدود بل شبه الهامشي عالميا في انتاج المعرفة وتقنياتها.
IX
يلتفت المثقف الحديث، الى توسع الثقافة العليا، في زهو كبير، باعتباره انتصاراً للعلم والعقلانية، وينظر في تفاؤل الى استمرار هذا الاتساع كبشارة على قرب تلاشي الثقافة الدنيا او التقليدية الواقعة في دائرة النظام المعرفي الميثولوجي وما يعطيه من استجابات ثقافية، او انحسار دائرة النظام المعرفي الميتافيزيقي بحدوده الثقافية المقيدة.
لكن هذه الثقافة لا تلغى، ولا تتلاشى. وان لهذه البنى انصاباً راسخة عصية على المسّ، تعلن عن حضورها متحدية صروف الازمنة الثقافية كلها: ظهور العذراء (مصر 67)، عودة كربلاء ومجيء المهدي (ايران 79)، استعادة الخلافة او العودة الى عصر الراشدين (السودان، الجزائر، باكستان 1980-1990)، او شيوع الرؤى والاحلام عن المواجهة الجديدة مع الغرب الصليبي (حرب الخليج 1991)(18).
ولهذه الثقافة مستودعها وحاملها وشروط تجديد انتاجها: البوادي، الارياف، البلدات الطرفية. ولئن ظلت هذه الثقافة لفترة، «مضمراً» اجتماعياً ينقل شفاهياً، فان دفق المهاجرين الى مدن الصفيح، وتوفرهم على قسط من التعليم، يعطي لهذه الثقافة ممثليها الجدد القادرين على اكسابها وجوداً جديداً: النص المدوّن، واكسائها طابعا جديداً: يوتوبيات وحركات احتجاجية تعلن خروجها على الثقافة الحديثة ودائرتها العقلانية المزعومة.
يشتد ميل الخروج هذا باشتداد التمايز الاجتماعي داخل الكتلة الواسعة للمثقفين وظهور ما يشبه «بروليتاريا» ثقافية؛ او باحتدام التمايز اللغوي (الناطقون بالفرنسية مقابل الناطقين بالعربية – حالة الجزائر)، والتأثير المتبادل بين هذين الجانبين.
ان ازدواج بنية الثقافة (وجود ثقافة عليا وثقافة دنيا)، كدالّة على هرمية البنية الاجتماعية (فئات وسطى وفئات دنيا في الحواضر، او فئات حضرية واخرى ريفية او شبه ريفية) يغذي باستمرار الانشطارات التالية: العلم مقابل العلم الشعبي، والفن بازاء الفن الشعبي، والدين بإزاء الدين الشعبي، ان تمثلات كل حقل تبدأ حيث تنتهي تمثلات الحقل الآخر، وان الفجوات في بنية المعرفة شأن الانقسامات المجتمعية تنمي الحاجة الى ذلك.
لا ريب ان لهذا التزامن القسري لنظم المعاني توترات شديدة تنجب، دون انقطاع، ميولاً الى الاقصاء والالغاء. غير ان لنظم المعاني رموزاً وأنصاباً وعلامات راسخة مبثوثة، ووجوداً مادياً صلباً. ولكن اذا كانت صلابة الاشياء تستعصي على الزوال، فان لمعانيها قابلية للتغير. وما من منظومة ثقافية الا ولها طبقات معان متعددة (Multivocality) تتيح تداخل النظم المختلفة اي تفاعلها، كما تتيح انفتاح جماعات مختلفة على نظام معرفي معين، سيان ان كان هذا نظاماً معرفياً ميثولوجياً ان تجريبياً.
وأود في هذا الشأن، ان اختم هذه التأملات بإيراد مثال من حضارة مجاورة، هي الحضارة الفارسية، على الحضور المدوي للثقافة الميثولوجية – الميتافيزيقية التقليدية، وقدرة بنيتها المعرفية على التداخل والانفتاح اللذين اثارا دهشة فوكو.
يعد «نموذج كربلاء» (Karbala Paradigm) من أبرز معالم الثقافة الاسلامية الفارسية التقليدية. ولهذا النموذج مستويات متعددة من المعاني أمكن لها ان تجتذب فئات شديدة التباين، بل تزدري بعضها بعضاً من: مهاجري الأرياف الاميين، ورجال الدين التقليديين، وسكنة مدن الصفيح من فقراء المدن، وموظفي الدولة ذوي التعليم الحديث، ومثقفي الطبقات الوسطى، وفئات الخواص من معتنقي العرفان الصوفي.
يلاحظ فيشر حدة الازدراء المتبادل بين هذه الفئات، قبل احتدام ازمة 1979-1978، وميلها بعد اندلاع الازمة، الى الالتفاف حول النموذج الميثولوجي لواقعة كربلاء. لقد اعادت كل هذه الفئات انتاجه على شكل دراما اجتماعية، سواء في الطقس (مواكب الاحياء الفقيرة) او في المنابر (مواعظ رجال الدين) او في الشوارع (التظاهرات) او في الفكر (تأملات المثقفين والمتصوفة). وبرزت الشخصية التاريخية الاساسية في هذه الدراما (الحسين) في صور شتى: الكائن، المقدس، المتعالي، المنقذ، لدى المهاجرين، المهمشين، او رمز شرعية الامامة النازع لشرعية اي حاكم دنيوي (رجال الدين)، او الفيلسوف العارف، المتأمل، المنزه عن ادران الحكام الفاسدين، ورمز الفيلسوف الافلاطوني/ الحاكم (لدى العرفانيين)، او المحارب – المناضل (لينين او غيفارا لدى مثقفي الطبقات الوسطى).
تمكن قراءة عوامل سيادة هذا الشكل الميثولوجي في التاريخ الخاص لتطور النزعة القومية الفارسية المندغمة (منذ القرن السادس عشر) بالمذهب الاثني عشري او (الجعفري)، وتحويل الطقوس الصوفية، بعد تحطيم الطرق والزوايا، الى طقوس حسينية (التشابيه – السبايات – المواكب) تغلغلت في اعماق اصناف الحرف والتجار، كما في اعماق الريف، مدعمة بهيكل مؤسسة دينية مستقلة عن الدولة (هيكيلياً ومادياُ)، وشبكات ملالي ورجال دين، ناهزوا 50 الفاً عشية الثورة.
يضاف الى هذه القراءة شرط اجتماعي/ ثقافي اخر: نشوء الدولة التسلطية، الواحدية، وقدرتها على تحطيم وابتلاع كل المؤسسات الثقافية، ونجاحها في اقصاء قطاعات هائلة من المثقفين الحديثين، الى درجة افرغت النسيج الاجتماعي منهم، مقابل هذا تدفق فقراء الارياف على المدن (بمعدل ربع مليون كل عام) ليغيروا من التركيب الاجتماعي للحواضر، ويملأوا ثنايا الفراغ الثقافي.
ونلاحظ ان شروط التفسير المتعدد للنموذج الميثولوجي، لا ترجع فقط الى تعدد مستويات معانية، بل ترجع ايضا الى اختلال واضح في دور وفاعلية مؤسسات الثقافة الحديثة من جراء هيمنة الدولة.
X
إن الوضع الفكري الراهن في العالم يلقي دثاراً سميكاً يشوّه التأمل في مسارب هذا التاريخ الجاري أمام الأبصار، فالماركسية بصيغتها السوفيتية على الأقل تهاوت وانزوت. ومذاهب ما بعد الحداثة، بإطلاقها مبدأ النسبية واللاأدرية، ترسخ حالة اللايقين. حتى الليبرالية المنتشية بظفر نهاية التاريخ (فوكوياما) تتهاوى تحت وقع تشاؤمية «صراع الحضارات» (صامويل هنتنغتون). وإلى أن يزول غبش اللايقين هذا، يمكن تبلور خيارات عقلانية، تتجاوز هتافات الاحتجاج أو صيحات الاعجاب، المنادية بسقوط أو حياة هذا الخيار او ذاك!
هوامش
1)) مؤرخو الفلسفة يطلقون اسم المدرسة النقدية على عمانوئيل كانط: (نقد العقل المجرد، نقد العقل العملي، نقد ملكة الحكم، الدين في حدود العقل وحده، الخ). لم تخطئ مدرسة فرانكفورت بالنظر الى نفسها بوصفها: ماركسية نقدية.
(2) اعتمد هنا الطبعة الثانية 1970 – دار الطليعة، بيروت.
المفارقة ان التهمة الموجهة للمؤلف حول «اثارة النعرات الطائفية» من أجهزة بلد (لبنان) مسربلة بالطائفية. لكن مما يحسب للقضاء اللبناني حيدته القانونية، وبالأخص التزامه بالمدونة الاساسية، ان القانون يعاقب على الافعال وليس على الآراء.
(3) انظر كتاب: من يملك مصر؟، سامية سعيد إمام القاهرة 1986، وكتاب فؤاد مرسي: هذا الانفتاح، دار الوحدة، القاهرة 1980. وللبيانات المفصلة تمكن العودة الى تقارير الشفافية العالمية 1980 عن الفساد الحكومي في رقعتنا.
(4) مسرحية اوديب، انت اللي قتلت الوحش، تأليف علي سالم واخراج جلال الشرقاوي. طبعت المسرحية في كتاب، مدبولي، القاهرة، 1986. اوديب المسرحية هو كناية عامة عن العسكر، وخاصة عن عبد الناصر، مثلما فعل احمد فؤاد نجم والشيخ امام في قفشة مصاغة على غرار حديث شريف مع سجع شفيف:
اربعة يدخلون النار بشدة.
شمس بن بدران لأنه دخل الحرب بغير عُدة
وعباس بن رضوان لأنه لطش الذهب والفضة
وعبدالحكيم بن عامر لأنه تبلَهَ فى حُبِ وردة
وعبداللاصق بن المثبِت لأنه مكث فى الحكم أطول مدة Top of Form
(5) أظن ان المعيار الأرأس الذي انحبسنا فيه (جيلي وجيل اساتذتي) هو معيار التقدم، الفضفاض، المختزل، وقتذاك إلى معاداة الإمبريالية (نزعة قومية وأممية – ماركسية مشتركة) وضرب الاقطاع – أي ملاك الارض الكبار- وغلق القواعد الاجنبية، وبناء القطاع العام، كحامل للتصنيع، والمسمى زورا: اشتراكية، اما الديمقراطية السياسية، وحكم القانون كقيمة مثلى، او انتقالية في الاقل، فقد طويت. ورفض جيلنا اقتصاد السوق باعتباره ليبرالية، لكنه طالب بالديمقراطية، ورغم انها ليبرالية هي الاخرى. وكما نعلم ان الاقتصاد الحكومي الممركز هو أكبر نفي لممكنات الديمقراطية. وما يزال الوهم ماثلاً حتى اليوم بإمكان التقائهما. هذه حال معظم البلدان العربية «الثورية» اما إيران فان الثورة البيضاء 1963 فككت طبقة ملاك الارض الكبار.
(6) رغم ان العظم يتكلم عن التحول الحضاري بأوروبا – حركة النهضة، الانقلاب العلمي، الثورة الصناعية، بشكل عام، إلا انه يقصر تحليلاته وعروضه على البعد العلمي – الفلسفي. ثمة كتابات غزيرة عن العلمانية، أبرزها: عزيز العظمة، العلمانية من منظور مختلف، مركز دراسات الوحدة العربية، 2008. وكذلك عادل ضاهر: الاسس الفلسفية للعلمانية، دار الساقي، طبعة ثالثة، 2015. جورج طرابيشي، هرطقات، دار الساقي، 2006.
(7) كتابا العظم، ذهنية التحريم، وما بعد ذهنية التحريم، بقيا في الحقل نفسه، لكنه كتب ورقتي بحث – هامتين، الاولى تناولت الاصولية الاسلامية، والثانية علاقة الاسلام بالنزعة العلمانية، تناول فيهما تجربة إيران، وتركيا، والإخوان المسلمين بمصر، بشكل مكثف، بسبب طبيعة النص كمقال في مجلة.
(8) Sadik Jalal Azm, Islamic Fundamentalism Reconsidered, South Asia Bulletin, VXIII, nos. 1&2, 1993, pp.1-55
(9) صادق جلال العظم، الاسلام والنزعة الانسانية العلمانية، دار المدى بيروت، 2007 (ترجمة فالح عبد الجبار).
(10) لعل خالد زيادة في «اكتشاف التفدم الغربي»، دار الطليعة، 1981/ من أبرز المؤرخين العرب الذين تناولوا كتابات جيل البيروقراطيين الاصلاحيين في تركيا، اما على جبهة إيران القاجارية، فهناك ارفند ابراهاميان، وشاهروف اخافي، وحامد ألغار، وفانيسا مارتن، ونيكي كدي، من بين عشرات آخرين.
Ervand Abrahamian, Iran Between Two Revolutions, Princeton, N.J. Univ. press, 1982.
Shahrough Akkavi, Religion & Politics in Contemporary Iran, Albany, State Univ, of.N. y. press, 1980.
Hamid Algar, Religion & State in iran, Los Angeles, Uni. Of California press, 1980.
Vanessa Martin, Islam & Modernism, The Iranian Revolution of 1906, I.B. Tawris, London, 1989.
(11) علي عبد الرزاق: الاسلام واصول الحكم، تحرير محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1972. عبد الكريم سروش: الفيض والبسط في الشريعة، ترجمة دلال عباس، دار الجديد، 2002. داريوش شايغان، ما الثورة الدينية، الساقي، بيروت، 2004، ترجمة محمد الرحموني (صدر الأصل الفرنسي في 1991).
(12) فكرة التصورات الدينية كنوع من «سحر العالم» نجدها عند فويرباخ (ماهية المسيحية)، حيث ينزع السحر بإرجاع اللاهوت الى أصله باعتباره «انثروبولوجيا»، إذا فهمنا ان اللاهوت هو علم الالهيات، والانثروبولوجيا هي علم الانسان. ماركس يكرر الفكرة عن «سحر» السلعة و»صنميتها»، في مواضع كثيرة من المجلد الثالث لراس المال بمفردات تكاد ان تطابق لغة فويرباخ. بهذا المعنى وغيره فإن لفكرة «نزع سحر العالم» الفيبرية تراث ألماني.
(13) هذه تأملات مستلّة بتصرف من كتابي: الأحوال والأهوال.
(14) Sylvia G. Haim, Arab Nationalism, An Anthology, Los
Angeles, 1962.
E. Tauber, Religion and State in the Thought of Abed Al-Rahman Al-Kawakibi, Najib Azuri and Rashid Rida, British Journal of Middle Eastern Studies, No.2, 1994.
(15) أنظر: عبد الرحمن الكواكبي، الاعمال الكاملة، تحرير د. محمد عمارة، بيروت، 1975.
في «أم القرى» يقيم الكواكبي مؤتمراً افتراضياً يؤسس لخلافة عربية دستورية، وفي «طبائع الاستبداد» يهاجم انماط الاستبداد الدينية، والاقتصادية والسياسية. حول تأثر الكواكبي بالمفكر الايطالي ألفيري، انظر E. Tauber، مرجع سبق ذكره.
(16) ويعطينا العالم المعاصر نموذجين متطرفين الى اقصى حد. هناك اليابان، التي يتميز شعبها بوحدة الدوائر الثلاث المحددة للاثنية، اي الدين (الشنتو) واللغة والعرق. وهناك الهند والولايات المتحدة اللتان لا يتناغم فيهما اي عنصر من هذه العناصر الثلاثة.
(17) نمت سبل عدة للنظر الى الثقافة. النظرة الارتقائية التاريخية evolutionist التي ترى ان الثقافة البشرية او التاريخ البشري واحد سوى انه يمر بمراحل متدرجة وان تباين ثقافات شعوب المعمورة ان هو الا درجات في سلم التطور الارتقائي. بهذا المعنى احتفى روسو بثقافة الانسان البدائي النبيل باعتباره « طفولة» البشرية.
هذه النظرة لا ترى وجود اي تمايز جوهري في الثقافة، فالتمايز زمني، وهو في سبيله الى الالتغاء.
(18) انتبه ميشيل فوكو ايام الثورة الايرانية، مثلما لاحظ صادق جلال العظم بعد نكسة حزيران/يونيو 1967، ومثلما يلاحظ الباحثون الحاليون للحركات الاسلامية، ان رموز الثقافة القديمة تجدد نفسها وتتحول الى «فعل معاش» حسب قول فوكو.
هناك النظرة الجوهرية (essentialist) التي ترصد في كل حضارة او ثقافة جوهرا ثابتا يقرر خصائصها، ويسمها بميسم ثابت من الازل والى الازل . لا لقاء بين الثقافات، ولا عناصر تقارب. انها عوالم مغلقة صماء. ماكس فيبر، هو أحد أبرز منظري هذا الاتجاه في القرن العشرين، مثلما ان شبنغلر هو المكمل لهذه النظرة، او موصلها الى اقصى درجات السخف المنطقي. الحضارة عنده رمز، يخترق كل مناحي النشاط الفكري والعملي. الحضارة عنده دائرة مغلقة تتمحور حول رمزها وتولد فتمر بمرحلة طفولة ورجولة وشيخوخة ففناء. طفولة الحضارة هي الثقافة، وشيخوخة الثقافة هي الحضارة، المرادفة للموت.
بإزاء النظرة الارتقائية – التاريخية والنزعة الجوهرية المغلقة، هناك مزيج ثالث، لعله الاقرب لواقع الحال، يرى في الثقافة بنية ذات خصوصية في جانب، وذات عمومية في جانب.
—————————
فالح عبد الجبار