صادق جلال العظم يعد من أكبر المفكرين العرب المعاصرين وتخصصه الأصلي هو الفلسفة الحديثة، وله فيها كتابات وحوارات بالغة الأهمية ولكنه – وقد يكون أهم من تخصصه الأكاديمي – هو ناقد ثقافي من الطراز الأول.
فقد استطاع في كتابه الشهير «النقد الذاتي بعد الهزيمة» الذي صدر بعد هزيمة حرب حزيران/ يونيو 1967 التي زلزلت الوجدان العربي، وتركت بصماتها على كل المثقفين العرب في المشرق والمغرب والخليج أن يوجه نقدا عنيفا لسلبيات الشخصية القومية العربية التي أدت إلى الهزيمة.
وهو من ناحية أخرى مارس النقد العميق لبنية المجتمع العربي في كتابه «ذهنية التحريم»، والذي قام فيه بتشريح العقل العربي المعاصر من خلال تركيزه على نسق المحرمات السائد، والذي يحدد سمات اتجاهات العرب المعاصرين ويؤثر على سلوكهم الاجتماعي.
ويمكن القول أن المثقفين العرب أدركوا بعمق – قبل هزيمة حرب حزيران/ يونيو 1967- بأن المهمة الأولى أمام العقل النقدي العربي ليس الاعتراف بالأخطاء بل هي – كما قرر «سارتر» في كتابه «نقد العقل الجدلي» إعطاؤها التكييف الصحيح لنعرف لماذا حدثت، ومعنى ذلك أنه ينبغي علينا أن نبدأ عملية نقد ذاتي واسعة المدى.
وغني عن البيان أن مناهج النقد الذاتي العربي التي تطبق الآن تختلف فيما بينها اختلافات شتى كما سنبين فيما بعد. وهي تتراوح بين النقد الجيد الوحيد البعد الذي يركز أساساً على الواقع العربي، وبين ما يسميه عبد الكبير الخطيبي الباحث المغربي المعروف، «النقد المزدوج» ويعني به أن «ينصب علينا كما ينصب على الغرب، ويأخذ طريقه بيننا وبينه، فيرمي إلى تفكيك مفهوم الوحدة التي تثقل كاهلنا والكلية التي تجثم علينا، وهو يهدف إلى تقويض اللاهوت والقضاء على الإيديولوجية التي تقول بالأصل والوحدة المطلقة، (الخطيبي، النقد المزدوج، بيروت: دار العودة، بدون تاريخ، ص9). والواقع أن «صادق جلال العظم» يعتبر رائدا للنقد الذاتي العربي وخصوصا بعد الهزيمة عام 1967، ولابد لنا لتقدير الدور الحاسم الذي قام به في هذا المجال من عرض بدايات النقد الذاتي العربي.
أولاً: بدايات النقد الذاتي العربي
لو أردنا أن نتعقب جذور النقد الذاتي لوجدناها في «الموجة الأولى» التي أعقبت الهزيمة العربية في الحرب الصهيونية العربية عام 1948، والتي انتهت بإنشاء دولة إسرائيل. ولعل الكتاب النقدي البارز الذي كان علامة على موجة النقد الذاتي التي أعقبت الهزيمة هو كتاب «معنى النكبة» للمؤرخ المعروف الأستاذ قسطنطين زريق والذي صدر في بيروت عام 1948. لقد كان كتاب «زريق» أول كتاب عربي التفت إلى ضرورة تشخيص أسباب الهزيمة، وتكمن أهميته في أنه لم يقف عند الأسباب العسكرية وحدها، كما أنه لم يقنع بالتأكيد التقليدي على دور الاستعمار، ولكنه تطرق إلى الأسباب الحضارية والاجتماعية والسياسية. لقد ركز «زريق» على أهمية التغيير الموضوعي لنوع التفكير السائد وأنماط التصرف والسلوك، ورأى أن دخول العرب العصر الحديث ومشاركتهم فيه تقتضي الاعتماد على التكنولوجيا وفصل الدولة عن الدين، وتدريب العقل العربي على التفكير العلمي. ولعل ما يلفت النظر هو شيوع استعمال كلمة «النكبة» في الكتابات العربية التي تصدت لموضوع الهزيمة العربية في الحرب الصهيونية العربية. هل كانت هذه إشارة مبكرة إلى أن الخطاب العربي الذي يعكس العقل العربي في هذه المرحلة، يميل إلى تجاهل الحقيقة، والابتعاد عن رد الأسباب إلى أصولها ويعجز عن تسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية؟ نعم. لقد أثبتت التصورات اللاحقة أننا في خطابنا المعاصر سرنا على الدرب نفسها، في محاولة بائسة لرد أسباب هزائمنا وخيباتنا إلى عالم ما وراء السيطرة الإنسانية، حيث يتحكم القدر، هذه القوة المجهلة الغشوم في تسيير الأمور، وحيث تنعدم الإرادة الإنسانية وتصبح مجرد أدوات يتلاعب بها في معارك المصير. ألم نطلق على هزيمة 1967 «النكبة»، وألم نتحدث بعد حرب أكتوبر 1973 في بعض ندواتنا عن «الأزمة» سواء كانت أزمة تطور حضاري، أو أزمة فعل سياسي، وألم يكن العنوان البارز لمجموعة مقالات «الحوار القومي» التي نشرتها الأهرام عبر عام كامل هو «المأزق»؟
لقد كانت موجة النقد الذاتي الأولى إذن شعارها «النكبة»، والتي أدت إلى ظهور كتابات عربية عديدة، من منطلقات إيديولوجية شتى وسياسات مختلفة، وأحياناً متعارضة لتجاوز هذه الهزيمة العربية التي أدت إلى إنشاء دولة إسرائيل الصهيونية على أرض فلسطين. انطلقت صيحات تدعو لأهمية الرجوع إلى الدين الصحيح، مختلطة بصيحات تدعو إلى الاعتماد على ثورية الطبقات العامة والتضامن الأممي، بالدعوة إلى تبنى التكنولوجيا، مختلطة بأهمية الليبرالية السياسية وضرورة احترام القيم السائدة في العالم المتقدم.
ظلت هذه الدعوات سابحة في الفضاء السياسي العربي إلى أن ظهرت الانقلابات العسكرية الأولى في العالم العربي، والتي تتابعت بصورة فوضوية إلى أن جاءت ثورة يوليو/تموز 1952 والتي كانت تاريخاً فاصلاً في الممارسة السياسية العربية بين «الانقلاب» و«الثورة». نعم لقد بدأت كانقلاب عسكري غير أنه سرعان ما تحولت إلى ثورة متبنية البرنامج الاجتماعي النقدي للحركة الوطنية المصرية قبل 1952، هذه الحركة التي ساهمت في صياغة منطلقاتها وأفكارها – رغم تعدد المنابع واختلاف الاتجاهات – كل القوى المصرية من أول الإخوان المسلمين بكتاب مفكرهم البارز «سيد قطب» عن «العدالة الاجتماعية في الإسلام» إلى الشيوعيين المصريين، مروراً بحزب مصر الفتاة الذي تحول ليصبح الحزب الاشتراكي، إلى يسار الوفد والمستقلين.
ثورة تموز/يوليو 1952 تاريخ ينبغي أن نقف عنده طويلاً في هذا السياق، لأنها الثورة التي حاولت أن تطبق ما دعا إليه الخطاب العربي في النقد الذاتي بعد هزيمة 1948.
لقد تبلور برنامج الثورة ليكشف عن مجموعة من القيم الأساسية التي دعا لها المثقفون العرب لتجاوز الهزيمة: الحرية للمواطن، في إطار من الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وإعادة صياغة المجتمع لتنقله من التخلف واللحاق بركب المعاصرة، وأهم من ذلك الدعوة إلى الوحدة العربية انطلاقا من إيديولوجية القومية العربية، التي عرفت أزهى عصورها بعد ثورة يوليو/تموز 1952.
بين الموجة الأولى للنقد الذاتي التي بدأت عام 1948 والموجة الثانية التي أعقبت هزيمة حزيران/يونيو 1967 مرت تسعة عشر عاماً كاملة حدثت فيها تطورات شتى على الصعيد العالمي وفى المحيط الإقليمي. سقطت نظم عربية، وقامت نظم أخرى، وأصبح النفط عاملاً أساسياً في السياسة العربية، ودار جدل وصراع عنيف بين النظم التقدمية والنظم الرجعية، واشتعلت معارك بالغة الضراوة والعنف بين القوميين والماركسيين، ثم بين القوميين والقوميين، والماركسيين، دار كل ذلك في إطار صياغة وتنفيذ المشروع الحضاري القومي الناصري، الذى شد أبصار العالم العربي كله من المحيط إلى الخليج، والذى أثر بفعله إيجاباً وسلباً على مجمل السياسة العربية، ثم في لحظة خاطفة، وبالذات في الساعات الأولى من 5 حزيران/يونيو 1967 سقط الصرح الشامخ نتيجة هزيمة عسكرية ساحقة لم تكن أبداً في الحسبان.
وهكذا ظهرت الموجة الثانية من موجات النقد الذاتي العربي عقب «النكسة» ولعل كتاب «صادق جلال العظم» «النقد الذاتي بعد الهزيمة» هو أبرز كتب النقد الذاتي في هذه المرحلة. كانت النكسة هي الاسم المستعار للهزيمة، والذي أطلقته عليها السلطة الناصرية. وبالتالي أخذ قاموسنا يزدحم بالمصطلحات الإشارية الاستعارية، بدأنا بالنكبة عام 1948، وانتهينا بالنكسة عام 1967. والموجة الثانية من موجات النقد الذاتي تحتاج منا إلى وقفة متعمقة.
ثانياً: الشخصية القومية العربية باعتبارها من بين عوامل الهزيمة العربية
مفهوم الشخصية الفهلوية، محاولة تأملية:
لعل كتاب «صادق جلال العظم» «النقد الذاتي بعد الهزيمة» يعد من أنضج الكتابات العربية في دراسات النقد الذاتي التي مارسها المفكرون العرب بعد الهزيمة. ويعود ذلك أساسا إلى المنظور المتكامل الذي تبناه المؤلف، والذي سمح له بالتركيز على الجوانب السياسية والاجتماعية والحضارية والربط بينها بطريقة دينامية خلاقة. ولا يعني ذلك بطبيعة الحال أن «العظم» كان موفقا في كل التحليلات التي قدمها بصدد الشخصية القومية العربية، أو فيما يتعلق بالسمات الأساسية لبناء المجتمع العربي في مرحلة تطوره الراهنة، أو في رسم خطوات التغيير الثوري التي ينبغي أن تأخذ مجراها إن أراد العرب لأنفسهم أن يتجاوزا الهزيمة، ولكن أهم ما يميز محاولته الجسورة، أسلوبه العلمي في تناول الموضوع ووضوح المسلمات التي يصدر عنها، وحرصه على تحليل الواقع الحي للمجتمع العربي، كما يفصح عن نفسه في المؤسسات السياسية والاجتماعية.
وقد يكون من أبرز التفسيرات التي حاول العظم أن يصوغها لتحديد عوامل الهزيمة العربية عام 1967، إرجاعه الهزيمة إلى النوعية الخاصة للشخصية القومية العربية.
ويرى العظم أن الشخصية العربية تميل إلى إزاحة المسؤولية عن النفس وإسقاطها على الغير وقد تجلت هذه النزعة بكل وضوح – في نظره – بعد هزيمة الخامس من يونيو- وتتمثل هذه النزعة في محاولة إرجاع الهزيمة العربية إلى عوامل خارجية سعيا وراء البعد عن النفاذ إلى حقيقة الأوضاع العربية الداخلية الخاصة بتنظيم المجتمع العربي، والتي أسهمت مباشرة في تحقيق الهزيمة.
غير أن «العظم» لا يقنع بصياغة هذا التعميم، وإنما يحاول تعميقه على أساس ربطه «بعوامل أساسية تدخل في بنيان المجتمع العربي التقليدي، ولا تنفصل عن خصائص الشخصية الاجتماعية التي تربيها البيئة العربية المتوارثة في كل واحد منا وتنميها فيه».
وقد اعتمد «العظم» في دراسة خصائص الشخصية الاجتماعية، وبوجه خاص فيما يتعلق بظاهرة المنطق التبريري العربي، على دراسة «حامد عمار» «الشخصية الفهلوية». وقد حرص «العظم» على أن يشير إلى أن «الشخصية الفهلوية» ليست إلا تجريداً، لا وجود له في الواقع الحي، إلا على صورة خصائص وأنماط سلوك وردود فعل ومشاعر واحساسات يتصف بها الأفراد في بيئات اجتماعية معينة وبنسب مختلفة قد تزيد وقد تنقص من فرد إلى آخر وفقا للظروف والأوضاع.
إذا كان الأمر كذلك، فقد يكون من الأنسب أن نعتمد على دراسة «حامد عمار» نفسها لنرى مفهومه عن الشخصية الفهلوية.
صاغ «حامد عمار» هذا المفهوم وحدد خصائصه في إطار دراسة متكاملة جعل لها عنوانا «التربية والنمط الاجتماعي للشخصية». وقد تحدث فيها عن «منهج الحضارة والشخصية» وقرر أن «المعروف لدى علماء الاجتماع أن للمجتمع محورين من الزمان والمكان تدور حولهما حياته وحضارته. وحضارة المجتمع بالمعنى العام تشمل إلى جانب العناصر المادية مقومات اجتماعية وسيكولوجية تحدد الطريقة التي تدار بها دفة الحضارة في مختلف المجالات، وأنواع الدوافع والمحركات والقيم والمثل العليا، وعوامل الطمأنينة والقلق، وصور التكيف والنشاز أو السواء والشذوذ. ويتكون من حصيلة البعدين الزماني والمكاني وعناصر الحضارة المادية والاجتماعية والسيكولوجية نمط اجتماعي لشخصية الفرد. والاهتمام بدراسة النمط الاجتماعي للشخصية من ألزم الجوانب لاستكمال وصف المجتمع وصفا حيويا يعين المصلحين على أحداث التغيير المنشود، وتقدير نتائجه. وبعد أن تحدث عن النمط الاجتماعي للشخصية، وعرض لنماذج من التشكيل الاجتماعي للشخصية، حرص على وضع حدود استخدام مصطلح النمط الاجتماعي للشخصية فتحدث عن «النمط والمخالف والاستمرار والتغيير»، ليبين أن النمط الاجتماعي للشخصية يمثل السمات الغالبة في شخصيات الأفراد، وليس معنى ذلك أنه لا يوجد بينهم من يشذ عن هذا التوقع أو يحيد عن المسالك «الوسط» بالمعنى الإحصائي المعروف. ومن ناحية أخرى تحدث عن إمكانية تغير النمط الاجتماعي للشخصية ثم تساءل: «ما هو النمط الاجتماعي القائم لشخصية المصري الذي تآلفت عوامل الزمان والمكان والأوضاع على تشكيله في هذا النمط؟ وما هي هذه العوامل التي أدت إلى تشكيله على هذا النحو؟
اختار «حامد عمار» لفظ «الفهلوة» للدلالة على هذا النمط، ومن هنا حديثه عن «الشخصية الفهلوية».
والآن ما هي السمات الأساسية للشخصية الفهلوية؟
1- أولى هذه السمات هي القدرة على «التكيف السريع لمختلف المواقف وإدراك ما تتطلبه من استجابات مرغوبة، والتصرف وفقا لمقتضياتها إلى الحد الذى يراه مناسبا».
غير أن «حامد عمار» حرص على أن يؤكد على أن هذه القدرة على التكيف السريع تتميز بجانبين متلازمين: أحدهما المرونة والفطنة والقابلية للهضم والتمثل للجديد، والآخر هو المسايرة السطحية والمجاملة العابرة التي يقصد منها تغطية الموقف وتورية المشاعر الحقيقية، مما لا يعني الارتباط الحقيقي بما يقوله المرء أو بما قد يقوم به من مظاهر سلوكية.
2- السمة الثانية هي النكتة المواتية، التي غدت من الخصائص التي يتميز بها النمط المصري.
3- السمة الثالثة هي المبالغة في تأكيد الذات، والميل الملح إلى إظهار القدرة الفائقة والتحكم في الأمور.
4-السمة الرابعة هي سيادة نظرة رومانتيكية للمساواة. حيث يشعر المصري في قرارة نفسه بالنقمة والسخط على الأوضاع التي توجد التمايز والتفرقة أيا كان نوعها. ومهما تكن دوافعها ومبرراتها. ويتصل بهذا عدم الاعتراف بالسلطة أو الرئاسة والتنكر لها في أعماق الشعور. ويقرر «حامد عمار» أنه من بين أهم المعدات النفسية التي تتزود بها شخصية «الفهلوي» هي عملية «الإزاحة والإسقاط»، ويفضل إزاحة المسؤولية على غيره من الناس، أو إسقاطها على أمور خارج نطاق الذات ليتيسر تبرير ما قد يقع فيه المرء من مواقف محرجة، أو تقصير في المسؤوليات الاجتماعية. وتزداد الفهلوة بازدياد القدرة على إحكام هذه العمليات الإزاحية والإسقاطية.
5- والسمة الخامسة هي الطمأنينة إلى العمل الفردي، وإيثاره على العمل الجماعي.
6- السمة السادسة هي سيادة الرغبة في الوصول إلى الهدف بأقصر الطرق وأسرعها وعدم الاعتراف بالمسالك الطبيعية.
إذا كانت هذه هي العناصر أو المقومات الأساسية للشخصية الفهلوية كما صاغها «حامد عمار»، إلا أنه بحسه المنهجي الدقيق، حرص على أن يورد تحفظات متعددة بصدد هذا «النموذج المثالي» الذي صاغه، واعتبره مجرد «فرض» يحتاج إلى مزيد من المناقشة واستكمال الأدلة التي تثبته أو تدحضه. ومن ناحية أخرى أكد أن هذه السمات جميعا هي وليدة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية وأنواع المؤسسات والنظم التي ترتب كيان المجتمع، وأنها ليست مقومات «طبيعية» في المصري نشأت ونمت وستظل هي مقوماته أبدا، وإنما هي قابلة للتغيير والتحوير…».
هذا هو نمط الشخصية الفهلوية كما حدد سماته «حامد عمار» فكيف استخدمه صادق جلال العظم لتفسير الهزيمة العربية عام 1967؟
يرى العظم أن الخصال الفهلوية التقليدية «تجعلنا عاجزين عن تقبل الحقيقة والواقع، وفقا لما تفرضه الظروف الحرجة من تصرف سريع، وتضطرنا لإخفاء العيوب والفشل والنقائص بغية انقاذ المظاهر والحفاظ على ماء الوجه. ويستشهد بفقرة من مقال كتبه محمد حسنين هيكل في صحيفة «الأهرام»، عن «بعض شوائب السلوك» التي بدت من المسؤولين العسكريين العرب ضربت مطارات جمهورية مصر العربية صباح يوم الحرب.
يقول هيكل إن الحساب الإسرائيلي اعتمد على بعض شوائب السلوك التي يسببها نقص الانضباط، وهي شائبة التأخر في إبلاغ الحقيقة إذا كانت سيئة إلى المستويات الأعلى. إن هذه الشائبة في السلوك أعطت العدو عشر دقائق كانت هي ما يحتاجه الضبط لكي يحقق المفاجأة لإحدى عشرة قاعدة جوية ركز عليها ضربته الأولى… ولقد كانت الغارة الأولى على بعض المطارات المتقدمة في سيناء لكن شوائب السلوك لعبت دورها في عدم سرعة الإبلاغ وضاعت دقائق غالية لا تقدر…».
«إن اعتماد العمل الإسرائيلي على هذه الشائبة من شوائب السلوك ليس استنتاجا أو اجتهادا من جانب أحد وإنما هو قول قائد الطيران الإسرائيلي نفسه الجنرال موردخاي هود في شرح توقيتات خطته…».
ويعقب العظم على هذه الفقرة بأن الجنرال هود لم يضع توقيتات خطته على أساس مجرد شائبة سلوك بسيطة، بل «وضعها على أساس فهم دقيق للخصال التي يتصف بها النمط التقليدي للحياة العربية، وتقدير مضبوط لطبيعة أنماط السلوك وردود الفعل التي يكتسبها الفرد في مثل هذا المجتمع الاتباعي، ولنوعية الأوليات التي انغرست في نفسيته بالنسبة لقيم الحياء، وإخفاء العيوب والتستر على الحقيقة إذا كانت سيئة.
ومن ناحية أخرى، يرى العظم أنه إذا كانت من سمات الشخصية الفهلوية نزوعها إلى الحماس المفاجئ والإقدام العنيف والاستهانة بالصعاب في أول الطريق، ثم انطفاء وفتور الهمة عندما يتبين لـ»الفهلوي» أن الأمر يستدعي المثابرة والجلد والعمل المنتظم الذي لا تظهر نتائجه إلا ببطء وعلى شكل تراكمي، فإن هذا السلوك مارسه – في رأيه – عديد من الشبان العرب الذين اندفعوا أثناء المعركة يطلبون السلاح، رغم أن مقدرتهم على استخدامه جد محدودة، وهؤلاء سرعان ما فتر حماسهم بعد ذلك وبلعتهم موجات الحياة اليومية في رتابتها وجمودها. وفي رأي العظم أن المشكلة الرئيسية التي يعاني منها الشباب العربي الثوري الملتزم، أن ثورتهم تبقى في أغلب الأحيان ثورة على المستوى السياسي لا أكثر: أي أنها لا تتعدى مستوى الأطر الفوقية، ولا تمس بصورة عملية وفعلية مستوى العلاقات الاجتماعية ونسيجها التقليدي الذي يطبع الصعيد السياسي الأول بطابعه المتخلف والبطيء.
ويربط العظم بين سمة أخرى من سمات الشخصية الفهلوية وبين سلوك العرب قبل الحرب، ونعني السمة الخاصة بالمغالاة في تأكيد الذات، والميل الملح لإظهار القدرة الفائقة في التحكم بالأمور «فقد لوحظ» كما – يقرر العظم – ميل العرب، إلى الاستهتار بقوة العدو وطاقاته والاستخفاف به وتأكيد النفس، هذه النفس غير المطمئنة إلى وضعها في أعماقها، عن طريق الادعاءات الرنانة والتقيد بالمظاهر الخارجية والشكليات التي جعلتنا ننظر إلى مظهر امتلاك طائرات «الميج» وكأنه امتلاك عدد من الخرزات الزرقاء التي سوف تحمينا من الشر المحدق بنا».
وينتقل العظم إلى ربط الشعور الحقيقي بالنقص تجاه الآخرين الذي تنطوي عليه الشخصية الفهلوية، هذا الشعور الذي لا تستطيع البوح به لأنها تتمسك بقيم الحياة والخوف من الفضيحة أكثر مما تتمسك بالواقعية والموضوعية، وبضرورة الاعتراف الصريح بالنقص لمعالجته والتغلب عليه، وبين نمط العلاقات بين الدول العربية. فهذه العلاقات – فيما يراه – تتصف بالمسايرة السطحية والمجاملة العابرة، التي يعتمد منها تغطية المواقف كما هي على حقيقتها. وينطبق ذلك بوجه خاص على علاقات الدول العربية بعضها ببعض قبل الحرب الأخيرة وحتى بعدها. (كل الإشارات هنا إلى حرب يونيو 1967).
ويثير العظم مسألة هامة مبناها كيف تتصرف الشخصية الفهلوية حين تجد نفسها في مأزق حرج؟
إن هذه الشخصية إذا وجدت نفسها في مأزق «سيفضح حتما عجزها وتقصيرها تبرع في إزاحة المسؤولية عن نفسها وإسقاطها على قوى خارجية يمكن عن طريقها تبرير النتائج السلبية التي جاءت على يدها. وتماما مثلما لا يلوم الطالب الفهلوي العربي نفسه عندما يرسب في الامتحان بل يلوم الحظ، والأستاذ والأسئلة الصعبة، «كذلك تلوم الأمة العدو، والاستعمار، والغدر، والحظ، وكل ما يخطر لها على بال فتهون بذلك على نفسها وتحفظ ماء الوجه، وتصون المظاهر، وتراعي المشاعر، وترفع المعنويات عوضا عن أن تنفذ إلى بيت الداء وتستأصله».
والشخصية الفهلوية – في نظر العظم – تزدهر في المجتمعات التي ترتكز في سلوكها ونظراتها على نمط الحياة التقليدي الاتباعي، حيث تتوجه أنظار الأفراد وأفكارهم وردود فعلهم نحو التقاليد العريقة والسنن السلفية والمتوارثة، مما يجعل الفرد في مثل هذه المجتمعات إنسانا محافظا عقلا وجسداً، يدور دوما في فلك محدود وهو فلك اتباعي يبقى القديم على قدمه، ويحافظ عليه لينقله إلى أبنائه.
وخطورة ذلك كله، أن «صفات البطء ونزعة التقليد والتقيد بالقوالب الجاهزة والالتصاق بها والابتعاد عن الابتكار السريع والمبادهة المباشرة في اتخاذ القرارات قد تركت آثارا سلبية خطيرة جدا على تنظيماتنا العسكرية وعلى مفهومنا لطبيعة الحرب الحديثة، وكانت مسؤولة إلى حد كبير عن الهزيمة السريعة التي حلت بنا».
هكذا حاول «صادق جلال العظم» الربط بذكاء بين سمات «الشخصية الفهلوية» – كما سبق أن حددها «حامد عمار» – وبين السلوك العربي قبيل المعركة وأثناءها وبعدها.
غير أن دهاء التاريخ أدى إلى تفنيد عديد من هذه السمات السلبية في حرب أكتوبر /تشرين الأول 1973، حين نجح الجيش المصري في عبور خط بارليف والذي كان يعتبر أخطر مانع مائي في التاريخ، ويحقق من خلال التخطيط الاستراتيجي البارع والمبادرة التاريخية الجسورة، والعمل الجماعي النموذجي النصر المؤزر على القوات المسلحة الإسرائيلية.
وهذا يؤكد قدرة الشخصية القومية العربية على أن تستيقظ من سباتها، وتنهض من جديد بفضل التخطيط العقلاني وا1لجسارة الإنسانية.
——————
السيد يسين