«أرجو أن يكون التفكير العربي الواعي قد وصل الى مرحلة تجاوز فيها اعتبار النقد مجرد عملية تجريح… أي أن يكون قد حقق مستوى يعتبر على أساسه النقد أنه التحليل الدقيق بغية تحديد مواطن الضعف وأسباب العجز والمؤثرات المؤدية الى وجود العيوب والنقائص، وكل نقد يلتزم بهذا المفهوم لابد أن يكون هادفاً في تدرجه، وإيجابياً في حصيلته مهما بدا، لأول وهلة، سلبياً وقاسيا.»
صادق جلال العظم، المقدمة، «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، 1969 (1)
«جموع المثقفين والفنانين والنقاد والأدباء يعبّرون عن الأزمات الناشئة أو المتشفية أو المستحكمة في مجتمعنا ولا يصنعونها، أنهم ينفعلون بها ولا يفعلونها… ومن يعتقد أنه بإسكات صوت هذه الجموع وبقمع تحليلاتها وتوصيفاتها وانتقاداتها وسخريتها يكون قد تخلص من الأزمات أو استبعدها أو استأصلها فهو واهم وأكثر من واهم لأنه يكون قد حكم على نفسه عملياً بالعمى والخرس والطرش وسيدفع الثمن التاريخي غالباً…»
صادق جلال العظم، مقابلة في «حوارات في الوطنية السورية»، 2003 (2)
تمرّ سوريا بمرحلة ثورية لا مثيل لها في تاريخ تلك البلاد الحديث. تثير الأخبار الواردة من سوريا – التي تزداد قسوة وحدّة يوماً بعد يوم – الحزن والكآبة من جهة والقلق واليأس من جهة أخرى، وفي حين تتصاعد وتيرة الأوضاع على الأراضي السورية، يتساءل الشعب السوري عن البدائل الممكنة للنظام البعثي. وفي هذا الإطار من الطبيعي أن يلتفت الشعب الى آراء المثقفين السوريين بما أنه من وظائف المثقف أن يفكّر في أحوال البلاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية تفكيراً تفصيلياً وإبداعياً لا سيما خلال المراحل التي تواجه فيها البلاد أزمات أو تحولات تاريخية. ونعلم من تاريخ القرنين المنصرمين أن كل ثورة – ناجحة كانت أم لا – رافقتها (إن لم تسبقها) حركة فكرية نشيطة يقودها المثقفون. وقد حضّت هذه الملاحظة إدوارد سعيد على القول التالي: «وبدون المثقفين لم تشتعل أي ثورة رئيسية في التاريخ الحديث، وفي المقابل لم تقم أي حركة مضادّة للثورة بدون المثقفين»(3). ومن هنا تأتي الأسئلة التالية: أين المثقفون السوريون الآن؟ ما هو دور المثقفين في فترة تقلّبية مثلما نشهده في سوريا حالياً؟ إلى أي حد يستطيع المثقفون أن يلعبوا هذا الدور في الظروف الصعبة التي تسود على كافة أنحاء سوريا الآن وأن يفيدوا الثوار على الأرض الواقعة؟ إننا لن نجيب على هذه الأسئلة برمتها فيما يلي وإنما سنركز على شخصية واحدة وهي من أبرز المثقفين السوريين، أي الفيلسوف صادق جلال العظم. سندرس أعمال العظم ومواقفه في مجال المناقشات العامة وسنحللها في ظل الأسئلة المطروحة وسنقارن مواقفه في السنوات العشر الأخيرة بما كتبه في بداية حياته المهنية في أواخر الستينيات. وفي نهاية المطاف سنتوصّل عبر هذه الدراسة إلى جواب على السؤال الآتي: هل صادق جلال العظم أنموذج للمثقف السوري؟
في هذه الدراسة هناك ثلاثة اقسام، في القسم الأول تتناول المناقشة خصائص المثقف من ناحية نظرية. فسنطرح بعض السمات المهمة التي هي من المفترض أن تكون موجودة لدى المثقف الحقيقي، مستضيئين في ذلك بمحاضرات إدوارد سعيد التي ألقاها على إذاعة بي بي سي عام 1993 وتم نشرها ونقلها الى اللغة العربية فيما بعد تحت عنوان «صور المثقف». يتطرق القسم الثاني الى سلسلة من المقالات كتبها العظم بعد حرب 1967 العربية – الإسرائيلية ونشرت عام 1969 تحت عنوان «النقد الذاتي بعد الهزيمة». أثار هذا الكتاب الجدل إثارة شديدة في العالم العربي ومُنع في بعض البلدان العربية. سيجري تقييم مواقف العظم في هذه الكتابات وفقاً للمعايير التي قدّمناها في القسم الأول. في القسم الثالث سننتقل الى أعمال العظم ومشاركته في المناقشات العامة في السنوات العشر الأخيرة معتمدين في ذلك على عدة مقابلات أجراها العظم مع الجرائد والمواقع الالكترونية والمقصود في القسم الأخير هو المقارنة ما بين مواقف العظم بوصفه مثقفاً في الفترة الأخيرة ومواقفه في «النقد الذاتي» في أواخر الستينيات. ومن هنا سنتوصل الى استنتاجات فيما يتعلق بما اذا كان العظم أنموذجاً حقيقياً للمثقف السوري.
القسم الأول: الإطار النظري
هناك صيغة مشهورة لوظيفة المثقف المفترضة وهي «قول الحقّ للسلطة». علينا أن نفسّر معنى هذه الصيغة وأن نبحث في كيفية تطبيقها عملياً. فعلى ما يبدو أهم خصائص المثقف الحقيقي هو أن يكون مستقلاً تماماً عن السلطة التي يعتزم انتقادها. وهذا أمر صعب بما أن الحكومات تسعى دائماً إلى استقطاب المثقفين إليها. وأدرك ذلك المثقف الفرنسي جوليان بندا وأشار الى هذا المظهر في كتاب مشهور اسمه «خيانة المثقفين». واعترف إدوارد سعيد في محاضراته «صور المثقف» بأهمية هذه الملاحظة فقال: «أدرك (بندا) كم هو هامّ للحكومات أن تحوّل إلى خدّام لها أولئك المثقفين الذين من الممكن أن يُطلب منهم أن يطلقوا الدعاية ضد الأعداء الرسميين، ويستعملوا العبارات الملطفة، وأن يبتكروا، على نطاق أوسع، أنظمة كاملة من اللغة الأورويلية المواربة…»(4). فعلى المثقف أن يعي وجود إغراءات الحكم السياسي وأن يقاومها من أجل بقائه منيعاً ومستقلاً.
تصبح مسألة استقلالية المثقف أكثر إلحاحاً في حالات تشبه الحالة السورية لأن أجهزة الدولة تتغلغل في كل جوانب الحياة اليومية ولا سيما في المؤسسات المتعلقة بأمور فكرية وإبداعية ونقدية مثل الجامعات والصحف. فكيف يمكن للمثقف أن يبقى مستقلاً في حين تراقبه الدولة بشكل مستمرّ؟ في ظل الأنظمة المستبدة يجد المثقف نفسه أمام خيارين: إما أن يتابع انتقاداته للنظام – أي يقول الحق للسلطة – معرّضاً نفسه للاعتقال وما هو أسوأ من ذلك، أو يخفف انتقاداته تجاه النظام مما يجعله يفقد استقلاليته ويتخلى عن مهام المثقف. يعترف سعيد أيضاً بهذه الصعوبات فيتطرق إليها بهذا القول: «الواجب الفكري الأساسي هو البحث عن تحرّر نسبي من مثل هذه الضغوط (أي المؤسسات والقوى الدنيوية). ومن هنا كان تصويري للمثقف كمنفيّ، وهامشي، وهاو، وخالق لغة تحاول قول الحق للسلطة»(5).
ومن هنا نواجه مأزقاً خاصاً بحالة المثقفين الذين يعانون الطغيان من حيث أن لهم خياراً ثالثاً إضافة الى الخيارين اللذين طرحتهما وهو المنفى، فهل من الأفضل أن يعيش المثقف في المنفى من حيث يستطيع الانتقاد والتعليق بحرية مطلقة، أم أن يبقى في دياره الأصلية حتى لو كان مضطراً الى تخفيف شدة انتقاداته ومتعرّضاً للاعتقال؟ في اعتقادي أن موقفنا ينطلق أمام هذا المأزق العسير من وجهة نظرنا فيما يتعلق بأهمية الشروط المختلفة التي تسمح للمثقف بتحقيق وظيفته الرئيسية، أعني قول الحق للسلطة. فالشروط الأساسية على ما يبدو لي هي ثلاثة، الأول هو القدرة على التعبير الحرّ، أي أن يكون المثقف موجوداً في جوّ يسمح بحرية الكلام. ثانياً ينبغي على المثقف أن يتفهم كل العوامل والأعراض للمشاكل التي ترمي إليها انتقاداته تفهماً عميقاً وبتحديد خصائص المجتمع والعلاقة بينه وبين الحكومة. والشرط الثالث هو ضرورة وجود التواصل الحقيقي ما بين المثقف وأتباعه لكي تصل رسالته الى الحكماء المقصودين، علماً بأن أعمال المثقف في نهاية المطاف لا قيمة لها إلا عن طريق تأثيرها في الوعي العام وإرغام الناس على إعادة النظر في هواجسهم.
فما هو التوازن المثالي بين هذه الشروط الثلاثة؟ ستلاحظ أن هناك نوعاً من التناقض بين الشرط الأول وبين الشرطين الثاني والثالث من حيث ان انجاز الشرط الأول من الممكن أن يضرّ قدرة المثقف على إنجاز الشرطين الآخرين، بعبارة أخرى، إذا عاش المثقف في المنفى فيستطيع الحصول على الحرية المطلقة بالتعبير عن آرائه ولكنه في الوقت نفسه قد يصبح بعيداً ومنفصلاً عن مجتمعه وبالتالي لا يستطيع فهمه بشكل كاف ولا التأثير فيه بطريقة ناجحة. أما المثقف المقيم في بلده فيتعمق بشكل يومي في مشاكل مجتمعه ويتأثر شخصياً بانتهاكات الحكومة تجاه مواطنيها، ولذلك هو يتفهم الأوضاع تفهماً تاماً ويستطيع التأثير فيها، بيد أنه مقيّد تفكيراً وتعبيراً بسبب مراقبة الدولة وتهديداتها. ليس هناك حل صحيح وحيد لهذا المأزق فلا تفيدنا المحاولة في حله، وإنما تكفي الإشارة الى وجود هذا التناقض، وسنستفيد من هذه المناقشة عند تقييمنا لمواقف صادق جلال العظم بما أنه أمضى بعض حياته المهنية خارج سوريا والبعض الآخر داخلها.
هناك ميزة أخيرة يجب علينا أن نضيفها إلى وصفنا للمثقف. قلنا إنه من الضروري أن يكون مستقلاً بشكل مطلق عن السلطة السياسية التي ينوي انتقادها ولكن ما هي طبيعة العلاقة الملائمة للمثقف مع المناهضين للنظام والعناصر الاجتماعية الأخرى؟ هل يجوز أن يكون عضواً في المعارضة وأن يتبنى برنامجها برمّته؟ في رأي إدوارد سعيد أن الروح النقدية للمثقف التي من المفترض أن يملكها لا تسمح له بانضمام كامل الى أية فئة معارضة كانت أو مؤيدة. يقول سعيد خلال مناقشته للحركات الموجهة ضد الإمبريالية الأوروبية: «هناك دائماً مسألة الهدف الذي يستلزم تحليل الخيارات، حتى في حومة المعركة»(6). ويسلّط ادّعاء سعيد الأضواء على الحركات الاحتجاجية الراهنة في العالم العربي بالطريقة التالية: في حين يشجّع المثقف الحركة المعارضة للنظام بصورة عامة ويأمل بنجاحها، عليه أن يظلّ مستقلاً إلى حدّ ما عن المعارضة لأنه «لا يجوز أن يجرّ المثقف الى درجة تخدير الحس النقدي، أو تقليص ضروراته الأساسية، التي تقتضي دوماً تجاوز مسألة البقاء الى قضايا التحرر السياسي، وإلى توجيه الانتقادات الى القيادة، والى تقديم بدائل تهمّش أو تُطرح جانباً في أحوال كثيرة جداً بدعوى أن لا علاقة لها بالمعركة الرئيسية القائمة»(7). وستكون هذه الميزة من ميزات المثقف مهمة جداً عند تحليلنا المرحلة التالية في سوريا وعلاقة العظم بها.
القسم الثاني: «النقد الذاتي بعد الهزيمة»
بعد حرب 1967 العربية – الإسرائيلية أعرب صادق جلال العظم عن موقفه تجاه الحرب وردود فعل الأنظمة العربية في سلسلة من المقالات نُشرت في عامي 1967 و1968 في مجلة «دراسات عربية» الصادرة عن دار الطليعة في بيروت وفي محاضرة ألقاها العظم في الندوة اللبنانية في شهر شباط/فبراير 1968(8). وجمع العظم كل أفكاره فيما يتعلق بالحرب وعواقبها ونشرها في كتاب سمّاه «النقد الذاتي بعد الهزيمة» وهو عنوان مهمّ جداً. في تلك الفترة كان العظم أستاذاً شاباً في الفلسفة في الجامعة الأمريكية في بيروت. على الرغم من أنه كان فيلسوفاً متخصصاً في الفلسفة الميتافيزيقية لإيمانويل كانط، رأى العظم أهمية المشاركة في النقاش العام الذي جاء بعد الحرب، وهذا من خصائص المثقف التي يطرحها سعيد، فيشير سعيد الى المحاضرة الرابعة («محترفون وهواة») من «صور المثقّف» إلى أهمية وجود الروح الهاوية لدى المثقف بما في ذلك ابتعاده عن تخصّصه الضيق، فأظهر العظم هذه الروح الهاوية بشكل وفير في هذا الكتاب.
عنوان الكتاب مهم من ناحيتين: أولاً التسمية الرسمية التي أطلقتها الأنظمة العربية على الحرب هي النكسة، لا «هزيمة» فصارت تسميتها هزيمة شبه ممنوعة. وثانياً أثار وصفه لدراسته بـ»النقد الذاتي» الجدل أيضاً لأن المعنى الضمني لهذه الصيغة هو أن مسؤولية الهزيمة تعود إلى جذور داخلية لا خارجية عكس ما كانت تقوله الأنظمة العربية رسمياً. وإضافة إلى انتقاداته للحكّام العرب وتشخيصهم لأسباب الهزيمة (بما في ذلك انعدام الإيمان بالله!)، ذهب أبعد من ذلك وتحدى المفكرين الآخرين الذين كانوا يدافعون عن الحكومات العربية. فلم يكن العظم يقول الحق للسلطة فحسب، بل كان يهاجم ويحاسب أولئك المثقفين الذين أصبحوا حلفاء للأنظمة وكانوا «يطلقون الدعاية ضد الأعداء الرسميين، ويستعملون العبارات الملطفة… ويبتكرون، على نطاق أوسع، أنظمة كاملة من اللغة الأورويلية المواربة…»(9)، أي أولئك الذين خانوا نظراءهم المثقفين وإخوتهم المواطنين ووطنهم، فيمكن القول بأن العظم حقّق وظائف المثقف في تلك اللحظة بشكل نموذجي من حيث أنه انتقد السلطات بشكل مباشر ولم يستعمل «العبارات الملطفة» لتخبئة الأسباب الحقيقية للهزيمة والتملص من مسؤوليتها»(10).
من الجدير بالذكر أيضاً أن العظم عند كتابة هذه الدراسة كان يعيش في بيروت، وهذه الملاحظة مهمة من ناحية مناقشتنا في القسم الأول. رغم أنه كان يسكن خارج سوريا لم يكن في المنفى الحقيقي بما أن لبنان كان مجاوراً لسوريا ولم يكن العظم مضطراً لترك سوريا، وساعده كونه في بيروت لأن لبنان لم يكن متورطاً في حرب 1967 بشكل مباشر وفضلاً عن ذلك كانت الصحافة في بيروت حرة تقريبا وكان هناك مجال لتبادل أوسع للآراء مما كان في البلدان العربية الأخرى في تلك الفترة، فسمحت هذه الحرية النسبية للعظم بقول الحق للسلطة – أي الأنظمة العربية غير اللبنانية – وفي الوقت نفسه لم يكن في المنفى منفصلاً عن مجتمعه ولذلك كان قادراً على تفهم الأوضاع وتداعياتها في المجتمعات العربية بشكل نافذ ودقيق.
القسم الثالث: السنوات العشر الأخيرة والثورات العربية
عاد العظم إلى سوريا وأصبح أستاذاً في جامعة دمشق في الثمانينات والتسعينيات فعرّض نفسه لمراقبة الدولة السورية وبالتالي فقد حريته في التعبير إلى حدّ ما. بعد تسلّم بشار الأسد مقاليد الحكم في عام 2000 أصبح العظم نشيطاً مرّة أخرى على صعيد المناقشة العامة والحراك السياسي فوقّع على «بيان الـ99» الذي صدر تبعاً للانفتاح النسبي المعلن من قبل نظام بشار الأسد ودعا فيه الناشطون إلى عدة إصلاحات بما في ذلك إلغاء حالة الطوارئ والأحكام العرفية والإفراج عن المعتقلين السياسيين، ولكن هذا الانفتاح لم يدم طويلاً.
في عام 2003 أجرى الناشط الحقوقي السوري لؤي حسين مقابلة مع العظم نُشرت في مجموعة من المقابلات مع المفكرين السوريين تحت عنوان «حوارات في الوطنية السورية» سئُل العظم عما إذا كانت في سوريا ازمة وإن كانت الإجابة بـ»نعم» فما هي طبيعة هذه الأزمة. إجابة العظم كانت «نعم، هناك أزمة في سوريا أو حتى العديد من الأزمات» في النظام الاقتصادي وفي الحالة المعيشية وفي العلاقة بين السلطة والناس قائلاً: «في نظري تعاني سوريا أزمات قد تتحوّل إلى أزمة من النوع الخطير إذا لم تعالج بحكمة ودقة وبجرأة وبسرعة…»(11). ولكنه – حسب أقواله في هذه المقابلة – لم يكن يرى أزمة في جوهر النظام تشمل كل مؤسساته وأجهزته على الرغم من ملاحظته بأن التداولات الإصلاحية التي كانت تجري في تلك اللحظة كانت «محصورة ضمن نطاق كادرات صغيرة وكأنه من المعيب أن نطرح مشكلاتنا على أنفسنا علناً»(12)، وإنما يشخّص مشكلات سوريا بأنها تشكل عددا من «الأزمات الفرعية» التي قد تؤدي إلى أزمة جذرية ستزعزع البلاد. هل من المعقول من طرف صاحب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» و»نقد الفكر الديني» اللذين ينتقد فيهما مؤسسات الدولة والحكام العرب بشدة وحدّة أن يخفف انتقاداته الى هذه النبرة الوديعة؟ من الممكن أن يُنسب هذا التخفيف إلى تأثير حملة الاعتقال الواسعة التي تمت بعد انتهاء ربيع دمشق القصير وإلى نشر الكتاب من قبل مطبعة دمشقية مرغمة على الخضوع للمراقبة الاستخبارية.
في نيسان/ابريل 2011 بعد اندلاع الثورات العربية الجارية بقليل أجرى الموقع الالكتروني الألماني «قنطرة» مقابلة مع العظم بشأن الثورات، في بداية المقابلة تذكر الصحفية منى نجار الحضور الضئيل للمثقفين في هذه الثورات فتسأل العظم: «ألا تظن أن الوقت قد حان الآن للقيام بنقد ذاتي من طرف الكثير من المثقفين؟»(13)، فردّ العظم عليها نافياً ضرورة النقد الذاتي من طرف المثقفين العرب من حيث أننا لا نعرف بصورة واضحة المواقف التي اتخذوها في السنوات الأخيرة، فعلى الأكثر يجوز أن نطالبهم بتفسير مواقفهم تجاه الأنظمة المستبدة. مع ذلك يعترف العظم بأن المثقف في بعض الأحيان كان مضطراً «أن يقدّم عدداً من التنازلات» لكي «يستطيع أن يستمر ويقوم بعمله كأستاذ جامعة مثلاً او ككاتب»(14). فنرجع بذلك الى المأزق الذي طرحناه في القسم الأول، أي أن المثقف يواجه خيارين – إما يبقى في بلاده مما يجعله عاجزاً عن قول الحقيقة للسلطة بطريقة نافذة، أو يترك بلاده لكي يستطيع أن يتحدى السلطة بطريقة تطابق ضميره وقيمه.
يضيف العظم سبباً ثانياً لعدم وجود حاجة للنقد الذاتي وهو أن المثقفين – رغم حضورهم البطيء في هذه الثورات – لعبوا دوراً بارزاً تمهيدياً في الساحة السياسية والاجتماعية لتمكين الشعوب العربية من القيام بانتفاضاتها. فيشير في هذا الصدد إلى أن الكثير من مطالب المتظاهرين في الشوارع هي نفسها التي كان يقدّمها المثقفون والناشطون المبدئيون في السنوات الأخيرة. يقول العظم على سبيل المثال: «إذا رجعنا إلى «بيان الـ99» سنة 2000 مثلاً، وهو بيان وقعه مثقفون، جميع الشعارات تقريباً التي رفعت خصوصاً في تونس ومصر موجودة فيه: رفع حالة الطوارئ أو المطالبة بالحريات. كل الشعارات والآمال والتوجهات المطلوبة موجودة»(15).
إن للمثقفين دوراً عاجلاً آخر في هذه الفترة الانتقالية غير المستقرة، وهو يعود إلى مناقشتنا في نهاية القسم الأول حول أهمية استقلالية المثقف عن أي جماعة بما في ذلك عناصر المعارضة التي يؤيّدها بصورة عامة كي لا يفقد الروح النقدية والقدرة على التفكير الحرّ. فمن وظائف المثقف في حالة ثورية ألا ينتقد النظام الفاسد فحسب بل يفحص وينتقد برامج المعارضة وتكتيكاتها ويفكر في الأشكال الممكنة للحكم بعد الثورة، وفي هذا الإطار يتناول العظم ثلاث نواح جديرة بالذكر، أولاً يتطرّق في الكثير من مقابلاته الحديثة – مثلاً مع جريدة «النهار» اللبنانية في أيار/مايو 2011 – إلى «النموذج التركي» الذي يعتبره العظم مهماً ونافعاً لا سيما للحركات الإسلامية السياسية من حيث أن النموذج التركي «لم يهمّش الإسلام السياسي» و»يقدم للحركات الإسلامية في البلدان العربية نموذجاً أو مثالاً يشبه خشبة خلاص يتجلى في إمكان وصول حزب إسلامي الى السلطة عن طريق الانتخابات الديموقراطية السلسة، وغير المشكوك في نزاهتها، ومن دون أن تتعرض البلاد للانهيار أو للحرب الأهلية، كما حدث في الجزائر والسودان والعراق»(16). ثانياً يشير العظم إلى الطابع الليبرالي الذي تبديه الثورات العربية وكيف انه يسود على كل الأطياف السياسية بما في ذلك الأحزاب الإسلامية التي تأثرت في رأي العظم بالخطاب الحقوقي الحديث المنتشر. وثالثاً يفسّر العظم هذه الانتفاضات ضمن نطاق مصير تاريخ المنطقة، ويرى جذوراً للثورات في فشل مشروع القومية العربية ويشعر بأن هناك نوعاً جديداً من الوحدة العربية التي هي أقوى من خطاب حكّام العرب الفارغ، فيقول: «سارع النظام السوري إلى القول إنه ليس تونس ولا مصر، أما المواطنون العرب على اختلاف بلدانهم – وأنا واحد منهم – فلم يشعروا منذ زمن بعيد بالتقارب فيما بينهم، مثلما شعروا في هذه الحقبة. (…) أنا منذ زمن بعيد لم يستفق لديّ إحساس عربي جامع، مثلما استفاق اليوم…»(17). فنرى من طرح العظم هذه المحاور الثلاثة وتناوله إياها بشكل علني أنه ما زال يقوم بمهامّ المثقف – أي تفسير الأسباب وتحليل الأوضاع على المدى البعيد – على الرغم من تخفيف نبرة انتقاداته المباشرة للنظام السوري.
الخاتمة
سعى صادق جلال العظم خلال حياته إلى قول الحق للسلطة، فبعد حرب 1967 انتقد الأنظمة العربية بشدة وأثار الجدل إثارة واسعة بنشر كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة». وما زال حتى اليوم يلتزم بوظائف المثقف محلّلاً ومفسّراً الثورات العربية في الساحة العامة. وبالإضافة الى كل ذلك – وهذه ملاحظة مهمة جداً – يعترف العظم بنقائص المثقفين وبأن قدرتهم على التأثير في تطور الأحداث على الأرض الواقعة هي محدودة، ويفهم أيضاً أن دور المثقف المعاصر تغيّر تغيّراً هائلاً منذ الستينيات، فيُظهر العظم وعياً ذاتياً رائعاً يلاحظ نادراً عند المثقفين في قوله إن الحضور الضئيل للمثقفين والشعراء والأدباء العرب الذين كانوا في الماضي يقودون الحركات الاجتماعية قد يكون مظهراً إيجابياً، فسأترك الكلمة الأخيرة للعظم في مقابلته التلفزية التي بثّت على قناة «العربية» الفضائية في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2011: «غياب الشاعر بالنسبة لي مسألة إيجابية لأن عادة الشاعر في السابق كان قضية حماسة وعواطف، ورفع المشاعر والعواطف إلى أعلى مستوى، وبعدين تفشّ بسرعة، فغياب هذا النوع من التعبئة الحماسية العاطفية فقط أنا أعتبره شيئا إيجابياً وجديداً»(18).
هوامش:
(1) صادق جلال العظم، «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1969، ص 7.
(2) لؤي حسين (محقّق)، «حوارات في الوطنية السورية»، بترا للنشر والتوزيع، دمشق، 2003، ص 22-32.
(3) إدوارد سعيد، «صور المثقف»، ترجمة غسان غصن، دار النهار، بيروت، 1996، ص 27.
(4) إدوارد سعيد، المصدر نفسه، ص 24.
(5) إدوارد سعيد، المصدر نفسه، ص 17.
(6) إدوارد سعيد، المصدر نفسه، ص 52.
(7) إدوارد سعيد، المصدر نفسه، ص 52.
(8) صادق جلال العظم، المصدر نفسه، ص 8-9.
(9) إدوارد سعيد، المصدر نفسه، ص ص 24.
(10) صادق جلال العظم، المصدر نفسه، ص 17.
(11) لؤي حسين، المصدر نفسه، ص 27.
(12) لؤي حسين، المصدر نفسه، ص 29.
(13) منى نجار، مقابلة مع صادق جلال العظم، الثورات العربية قطيعة كاملة مع إرث الأيديولوجيات»، موقع «قنطرة» الإلكتروني، 3 نيسان/إبريل 2011، السؤال الأول.
(14) منى نجار، المصدر نفسه، الإجابة الأولى.
(15) منى نجار، المصدر نفسه، الإجابة الثالثة.
(16) محمد أبي سمرا، مقابلة مع صادق جلال العظم، «الثورات الراهنة تقطع مع الأنظمة العربية المستبدة»، جريدة «النهار»، أيار/ماي 2011.
(17) محمد أبي سمرا، المصدر نفسه.
(18) مقابلة مع صادق جلال العظم، برنامج «روافد»، قناة «العربية»، تشرين الأول/ أكتوبر 2011.
——————————
سكوت ليدل