كانت تمطر..
لم أشأ أن أنصاع لأوامره بالعودة إلى المنزل. البحر قريب والشاطئ يحدق إليّ.. اجتاحتني رغبة بتحطيم هذه الصخور البحرية كلّها.. بل كنت أريد أن ألم الشاطئ.. لا أعرف مما أعاني أنفث غضبي في هذا الشاطئ الصامت.. على الأقل لن تشي الأمواج بي, ولا هذا المطر الذي يردم حفر الصخور.. هكذا توقعت
هي تمطر.. ماذا لو تكلم الشاطئ يوما» ؟ هل سيتحدث عن جرائم التاريخ أم عن جرائم العشاق؟
صرخت بأعلى صوتي (الساكت على الحق شيطان أخرس) كيف سقطت فجأة لا أدري.. نهضت بصعوبة, خدوش في قدمي, شعري يتبلل وينكمش والمطر سلاسل تشدني.. لن أعود.. يعني لن أعود, فلتمطر .
الموج يعلو ويخبط على الصخور الناتئة.. الموج يشبه روحي.. وأنا أشبه فتاة خرجت من أوغاريت ولم تعد . بحث عنها بعل ثمّ اعتراه اليأس والصمت فانزوى .
لا أحد يعرف لغتها تلك الفتاة الخارجة من الزمن, ولا هي تعرف لغة هذه المدينة المغمورة بالهموم, لا مشاعل ترقص على الأفق ولا حوريات يخرجن من البحر.. لماذا كل هذا القحط ؟ هل مات بعل إله الخصب؟ لم أتعلم البكاء بعد.. البكاء لا يليق بالأوغاريتييات البكاء لأحفاد القنابل والقصور .
المطر يزداد شراسة.. وأنا أزداد غربة.. المطر يتسلل إلى جسدي على الرغم من أن أمي ألبستني صوف خروف بأكمله .
قالت أمي : إنه أحد خراف الملكة
قلت : كيف تجرأت على خراف الملكة ؟
قالت : إن دمي من دم الملكة لذلك أتجرأ حتى على حراس الملكة .
ابتسمت.. لا فرق بين قطيع الملكة وحراس الملكة.. أنا أتخيل هذه الملكة ولا أقدر والشعب لا يحق له تخيل ملوكهم.. هم أكبر من التخيل.. فكيف يكون شكلها وهي تتربع على الجبل الأقرع تجمع أشلاء ملكها ؟
قالت أمي وهي تغيب عن زمنها قليلا: لقد شاخت الملكة وشاخ حراّسها حزنت, لا أصدق كلام أمي فالملوك لا يشيخون ولا يدب الوهن إلى أجسادهم ولا إلى قلوبهم وإلا لماذا يبنون كل هذه القلاع ويجمعون حولهم الحراس والجنود والخدم, أليس من أجل أمدٍ طويل, طويل لا يذوب في المطر ؟
اشتد المطر, وعلا عواء الريح, انغمرت المدينة, أتحرك من مكاني حتى لا أذوب في المطر .فجأة انبثقوا.. فجاة أحاطوا بي, وفجأة صرخت : من أنتم ؟
قالوا بصوت واحد : نحن حراس الملكة . حراس الملكة فمن أنت ؟
قلت أنا من المملكة
-أية مملكة.
_ مملكة أوغاريت ياسيدي
_مستحيل.. سحنتك لا تدّل على سحنة أهل أوغاريت العظام, الشجعان
اقترب كبيرهم مني فتسرّب عطري إليه, نفر وتراجع قليلا وهو يسألني:
_من أين لك هذا العطر ؟
_ إنه عطر مصري ياسيدي, عطر حمله إليّ آمون الإله .
_كاذبة أنت.. عطر الملوك لا يكون لك, إنه للخالدين المخلّدين
قلت بصوت هادئ :إذن هو العطر التي اشترته أمي من بائع عطور قادم من صور .
قال غاضبا» وهمّ أن يضربني : إلى متى ستكذبين؟
_بل أنا صادقة.. لماذا تسكبون علي سياطكم؟ اذهبوا إلى هناك.. وأشرت بيدي بعيدا».. اذهبوا إلى حيث السياط تركب ظهور البشر والحمير والسفن وتسعى إلى مخادعكم.. ألا ترون غيري ؟!
_نراك لأنك ذات سحنة مختلفة . هو الاختلاف الذي يزعزع أركان المملكة.. فمن أنت؟!
_أنا يا سيدي ابنة امرأة فرعونية جاءت مع وصيفات ملكة سيانو العظيمة.. كانت باخرتها محملة بالقمح والغرانيت الوردي والعطور والعاج والذهب.. وكان اختصاص أمي تزيين الملكة.. قد تكون أمي سرقت من عطر الملكة طمعا بأن تصيبني شهوة الملك وأصبح ملكة» متفردة» ولكني ها هنا من أبد الدهر أحاول الوصول إلى أوغاريت والركوع أمام باب الملكة.. يقال يا سيدي أن الركوع أمام القادة يجلب الحظ السعيد .
صمت كبير الحراس لبرهة ثم راح يبكي وهو يأمرني بالاقتراب . غير أني بقيت على خوفي منه.. فأنا أخاف الحراس أكثر من سادتهم . المطر ينهمر.. الحراس يتبعون خط المطر.. والمطر يتكوم عند باب الملكة ولا يجرؤ على اقتحام القصر.. المطر يخاف أن يبلل حرير الملكة لكنه يبلل جسدي بكل وقاحة.. يخترق عظامي . أتحول إلى غيمة عند السور.. صرخوا بي : لا تهطلي هنا.. لا تبللي طريق الملكة لأنها ستمر من هنا.. يركضون خلفي .
أركض . أركض . أسمعهم ينادون «سارقة عطر الملكة» يراني عشيق الملكة.. يبتسم.. فأشعر بالسعادة.. لقد صدقت أمي.. ضجيج الحراب يملأ شوارع أوغاريت «سارقة» . يتردد الصدى وراء البحار .
المطر ينهمر.. أناديهم : أقسم ببعل أني لم أسرق عطر الملكة وعندما تعثرت بتلك الصخرة الواقفة هجم علي الحراس وصرخوا : ابتعدي عن صخرة «سافو» ألا تعرفين الأبجدية ؟ شعرت بالسعادة لأن الحراس دافعوا عن صخرة سافو المحملة بالقصائد.. فتمنيت أن أكون شاعرة لكني تذكرت أني غريبة فعلا» ولا أنتمي إلى زمن الأبجدية العظيم حيث أن الزمن الذي يطردونني إليه هو زمن الحرية والديمقراطية وهو زمن لا يحتفي بالأبجديات ولا بسافو ولا ببعل.. هو يحتفي فقط بالهراوات ثم الهراوات .
«لماذا تبتسمين؟» سألني الرجل الذي كان يقرأ قصيدة سافو.. فلم أقدر أن أرد من هول الدهشة . منذ لحظة كان «شابا جميلا والآن أراه عجوزا» أبيض شعره، وغارت ملامحه.. قلت: خرج الرجل من زمني.. ابتسم ثم قال : سيري يا بنتي مع الموجة .
لوحت له بيدي ورحت أركض باتجاه موجة تقترب من الشط ولكن ما إن اقتربت منها وأمسكت بأطرافها حتى انقطعت وتلاشت فحزنت وأنا أرتعش من البرد. فكرت بالانتظار لعل موجة تأتي وتقلني إلى زمن آخر.. إلا أن الموج (يأخذ ناس وناس لا يأخذهم) إلا بأمر الملكة.. انتظرت طويلا .. مرّ الموج أرتالا ولم يجرؤ على الوقوف لي .
بدأت الشمس تميل وبدأت الخيوط الذهبية تحوك قبعات وعباءات لأهل المملكة وأنا أرتجف من البرد.. سقطت الشمس في البحر.. وسقطت المدينة في العتمة.. ارتفعت المشاعل وبدأت جموع بشرية تخرج من الشاطئ وتتجه نحو اليابسة راغبة في التجوال وشرب النبيذ في مقاهي المملكة..
شعرت أن الفرج يقترب . وأني أستطيع بعد قليل الانضمام إلى هذا الطابور وربما أستطيع قيادة هذا الطابور من البشر القادمين من أزمنة مختلفة ومدن مختلفة.. لا أدري لماذا شعرت بالخيبة مع أن أمي كانت تشعل لي القنديل وكنت أصف هؤلاء البشر وتلك الأزمنة على طاولتي وأبدأ الحديث معهم وترتيب الخطط لمواجهة المطر، أو لمواجهة الطوابير المناوئة للملكة .
الآن سأطرح عليهم فكرة مواجهة الحراس.. فهم أخطر من الملكة لأنهم وحدهم الذين اتهموني بسرقة عطر الملكة مع أنها لم تصدر بيانا بذلك ولم ترسل ورائي.. اقتربت الأفواج.. كأنها أفواج يأجوج ومأجوج لها سحنة قاسية، قانطة . رحت أقترب منهم وأنا أبتسم.. مددت يدي إليهم فنظروا إلي شذرا. ناديتهم ورحت أتبعهم ثم أخرجت زجاجة العطر وبدأت أنثر منها على الجميع.. إنها بداية البداية . قلت لهم : اتبعوني سأشرح لكم تفاصيل المدينة وسآخذكم في شوارعها الواسعة. سأقطف لكم الزهور وسأدخلكم إلى مكتبتها العظيمة حيث الألواح المكدسة بالأسماء والزمان والعطور.. لم يعترضوا.. بدأت مشاعل الزيت تضيء أكثر كلما اشتدّ الظلام.. أشرت إليهم أن يتبعوني إلى ناحية القنديل الكبير.. وقلت: اصطفوا حذرين _ سألوني : ماذا يعني ذلك؟ قلت هذا الضوء يجذب الأرواح الشريرة.. لا تخافوا.. بدأنا نقترب وبدأ الصمت ينهال على الرؤوس.. تابعو سيرهم ورائي بتوجس.. ثم سبقوني .
وعندما ابتعدوا عني راحوا يهرولون باتجاه الضوء وكأني لست من دلهم على سر الضوء .شعرت بالتعب الشديد. لقد أنهكني المطر والركض والحراس مع ذلك بقيت وراءهم مؤمنة بهم وبأنهم سينتصرون لي ولزمني ولما زرعته في نفوسهم من عطر وشعر وأناشيد.. أنشدت لهم أغاني بعل.. واخترعت تراتيل الإله «هدد» إلى أن لحقت بهم فأسبق حراس الملكة لمواجهتهم وما إن تهيأوا لرفع الحراب حتى رفع الطابور مناديله الحمراء في الهواء.. لكنهم راحوا ينشدون لقطيع الملكةالموجود في المرعى كي يحميه الإله من الذئاب.. لم يصدقهم حراس المملكة فما كان من الطابور سوى الجثو على العتبة طالبين أن تخرج الملكة إليهم لتباركهم وتعطرهم بعطرها المقدس.. وقفت منزوية خاوية، ضائعة.. ترددت قليلا ثمّ جثوت مع الجميع ورحت أنتظر قدوم الملكة وأنا جائعة ومبللة وغريبة . سقطت على الأرض.. فراح الحراس يفتشونني.. لم أعترف بل أشرت لهم إلى مكان العطر.. ضحكوا طويلا وهم يقبضون على عطري.. ثمّ أمر كبيرهم بسجن هذا العطر في الزنازين إلى أبد الآبدين..
رحت أبكي.. يا مولاتي.. هذا عطر ورثته عن أمّي.. وأمي ورثته من زمن لا أقدر الوصول إليه إلا بهذا العطر..
ربتت الملكة على كتفي ثمّ أمرت المطر بأن ينهمر بغزارة فوق رأسي.. قالت: اغتسلي من عطرك . غزيرا كان المطر وقاسيا.. شعرت أني أذوب بينما يهمس في أذني ويقول: عودي إلى زمنك يا بنتي هيّا وإلا….!
أظن أنني عدت . لكني لم أجد أمي ولم أجد سوى أطلال مملكة وأطلال امرأة تقف وحيدة على أطلال زمان لست منه وليس منّي .
قاصة وشاعرة من سورية