سعد الدين كليب
تقديم:
بالرغم من اعتباطية العلاقة بين الدالّ والمدلول في العلامة اللغوية، فإنّ ذلك لا ينفي أنّ تلك العلامة ذات طبيعة اجتماعية بحتة. بل إنّ العلامات بمجملها تتّصف بذلك، حتى العلامات الطبيعية منها. فليست تلك العلامات ظواهر طبيعية، كما يقول أمبرتو إيكو، فالظواهر الطبيعية بذاتها لا تقول شيئاً. إنها لا تحدّثنا إلا إذا كانت لدينا تقاليد تعلّمنا كيف نقرأ هذه الظواهر، وهذه التقاليد هي تقاليد مجتمع محدّد بالضرورة(1). فإذا كانت ظواهر الطبيعة ذات علامات اجتماعيّة، فمن البدهيّ أن يتضاعف الحضور الاجتماعي في العلامة اللغوية على مختلف المستويات المعرفية والأخلاقية والدينية والثقافية العامة، ومنها الثقافة الجمالية التي نحن معنيّون بها في هذا البحث.
يمكن الزعم أنّ للثقافة الجمالية في اللغة العربية حضوراً أساسياً في الكثير الكثير من الموادّ المعجمية، إضافة إلى ما لا يُحصى من الدلالات الفرعية والجزئية والعرضية ذات المنحى الجمالي؛ وهو حضور متشعّب الأنساق والحقول والمستويات، لا يسمح لنا بالحديث عن تلك الثقافة وحسب؛ بل يسمح أيضاً بالحديث عن فلسفة العربية في الجمال، بوصفها فلسفة لغوية من جهة، وفلسفة مجتمعية عامة من جهة أخرى. وقد ارتأينا من أجل ذلك أن نستنطق واحداً من أهمّ المعاجم العربية القديمة، وهو معجم لسان العرب لابن منظور، رغبةً منا في تحديد السمات العامة الناظمة للوعي الجمالي- اللغوي والاجتماعي معاً- بدلالاته ومفاهيمه الجمالية والفنية.
صحيح أنّ مادة البحث هي اللغة الأُم في لسان العرب، ولكن صحيح أيضاً أنّ منطق اللغة الأُمّ يسري كالنسغ في ابنتها العربية المعاصرة؛ إذ النظام الصوتي والصرفي والنحوي والدلالي هو هو، ولا اختلاف إلا على مستوى الأساليب والتعبيرات والدلالات اللغوية التي هي الأكثر قابلية للتغيّر والتبدّل لاعتبارات السيرورة الاجتماعية- التاريخية. ولكن مع هذا فما يزال الكثير من الموادّ اللغوية ذات الدلالات الجمالية متداولاً ومهيمناً في العربية المعاصرة بذات المعنى تقريباً. بل لعلّنا نزعم أنّ العاميّات العربية الراهنة يأخذ كلّ منها بنصيبه الوافر من تلك الموادّ والدلالات، الأساسية منها أو الفرعية، وذلك بحسب كلّ لهجة عامية على حدة.
إحصاء ودلالات:
تزخر اللغة العربية بعدد فائق من المفردات الدالّة على الحقول الجماليّة والفنيّة شكلاً وشعوراً وقيمة وأداء؛ فقد أحصينا في معجم لسان العرب وحده ما ينوف على 450 مادة لغوية ذات دلالة جمالية أساسية أو مهيمنة. هذا عدا الموادّ التي تنطوي على دلالة جمالية فرعية أو عرضية أو جزئية، وهي لا تكاد تحصى، كالرعديد مثلاً، بدلالته القارّة وهي الجبان، لكنّ الرعديد أو الرعديدة في إحدى دلالاتها، في مادة رعد، هي المرأة الرخصة التي يترجرج لحمها من نعمتها، فرعدت المرأة وأرعدت: تحسّنت وتعرّضت؛ وكذا في المشيق أو الممشوق، في مادة مشق، ومنه الجارية الممشوقة أي حسنة القوام قليلة اللحم، مع أنّ المَشْقة في ذوات الحافر: تفحّجٌ- أي تباعدٌ- في القوائم، ومنها الرجل الأمشق والمرأة المشقاء، ومثل هذا كثير لا يكاد يحصى؛ أما المفردات التي يمكن أن تقدّم مادة للتقويم الجمالي، في أثناء الكلام أو الاستخدام اللغوي، كالطويل والقصير والسمين والنحيل والسريع والبطيء، فهي الأخرى لا يمكن إحصاؤها، ولا تدخل في الإحصاء أصلاً.
علماً أنّ ذلك الإحصاء لا يشمل أسماء الأدوات الداخلة في الفعل الجمالي أو الفنيّ، كالمِيل والمشط والمقصّ والمرآة؛ ولا يشمل أسماء الأشياء التزيينية كالحليّ والخلاخيل والأساور والخواتم؛ ولا يشمل أسماء الألبسة والأقمشة مما هو مقوّم جمالياً في لسان العرب؛ كما لا يشمل كذلك المفردات الدالّة على المقابح أو المعايب الخلْقية كالبرص والعور والعرج والفحج، ولا حتى المفردات الدالّة على العناصر الجزئية المستحسنة كالعين والعنق والأسنان. بل إنه لم يُعن إلا بأسماء المعاني الثلاثية تحديداً، ما عدا بعض المفردات الرباعية ذات الدلالات الجمالية القارّة، والتي فرضت نفسها علينا، وهي قليلة جداً.
مع العلم أنّ ذلك العدد الكبير أصلاً هو عدد الجذور اللغوية في لسان العرب لا عدد الدلالات فيه، فهذه حقاً لا تكاد تحصى، ولا سيما إذا وضعنا في الاعتبار تعدّد الدلالات الجمالية في المفردة الواحدة، إضافة إلى الاشتقاقات التي تتولّد منها دلالات إضافية، فتتعدّد حقولها وتقويماتها تعدداً هائلاً، من مثل الجمال والجُمّال والجميل والأجمل والمجاملة والتجمّل والتجميل، وكذلك الحُسْن والحسَن والتحسين والحَسّان والحُسّانة والحسناء والأحسن والمحسن والحُسنى؛ الأمر الذي يجعل ذلك العدد يتضاعف مرّات ومرّات. وهو غنى وثراء في العربية، لعلّها تمتاز به على سواها.
وقد يكون من المفيد أن نشير إلى أن كتاب “أخبار النساء”(2) المنسوب إلى ابن قيّم الجوزية قد ذكر من أوصاف النساء ما يزيد عن 100 صفة مستحسنة، منها السبحلة والربحلة والبهكنة والدهثمة والعطبول والعيطموس والممشوقة والخمصانة والمرمارة والرجراجة والسرعوفة والرعبوبة… إلخ، علماً أننا لم نعتمد مما ورد منها في لسان العرب سوى 30 اسماً أو صفة فقط، وذلك لخروج معظمها عن منحى الإحصاء لدينا، وهو التركيز على المعاني العامة دون سواها. ومن المفيد أن نشير أيضاً إلى أنّنا وقعنا، بمحض المصادفة ودونما استقصاء، على 16 مفردة دالة على الضفيرة أو الجديلة، وهي: الغديرة والرغيدة والعقيصة والذؤابة والحبيكة والقصيبة والقُصّة والقنزعة والخصلة والعُرْفة والكُشّة والغُسْنة والدَّمَج والقرْن، إضافة إلى الضفيرة والجديلة. ولكلّ منها دلالة فرعية إضافة إلى الدلالة الأساسية الأولى. ولسنا هنا في معرض شرح كلّ مفردة على حدة، وما يميّزها من سواها، ولكنّ فعل التضفير أو التجديل أو التعقيص… إلخ فعل تزييني يقع على الشَّعر بغرض الجمال من جهة وبغرض النظافة من جهة أخرى. ومع ذلك لا نجد في تلك المفردات دلالات جمالية قارّة ما خلا ثلاث مفردات لها اتصال وثيق بالمعاني العامة، هي: الغُسْنة والرغيدة والحبيكة. لدلالتها على النعمة والطراءة أو القوة والمتانة. ولعلّ هذا يلقي بعضاً من الضوء على ضخامة عدد الموادّ المعجمية ذات الدلالات الجمالية، الأساسية منها والفرعية، التي تزخر بها اللغة العربية.
تتوزّع الدلالات الجمالية والفنية، في لسان العرب، على خمسة حقول كبرى، يمكن تصنيفها على النحو الآتي:
( القيم الجمالية – الفنون – الزينة – الأداء / السلوك – المشاعر الجمالية ).
ولكن بما أنّها حقول كبرى، فهي تنطوي على أطياف واسعة من الدلالات المتباعدة والمتناقضة أيضاً. صحيح أنها تأتلف فيما بينها على مستوى التقويم العام، ولكنها تختلف على مستوى التقويم الخاص بين الإيجابي والسلبي؛ فبين الجمال والقبح مثلاً أو الجلال والهزل من التناقض ما لا يمكن إغفاله، وكذا هي الحال بين الأُنس والنفور أو المتعة والاشمئزاز، وبين المهارة والركاكة أو الحذاقة والحذلقة، ولكن مع ذلك ثمة ما يجمع بينهما، وهو الطبيعة الجمالية للتلقّي والتقويم. هذا على صعيد القيم والمشاعر والأداء- الذي نقصد به الأداء الحركي والعملي والسلوكي كالمهارة والبراعة والإتقان- أما على صعيد الفن والزينة فنجد التباعد لا التناقض في المادة والصناعة والسياق، كالتباعد بين الشعر والرسم والرقص أو التباعد بين الزخرفة والوشم والتطريز.
وتوضيحًا لذلك نتوقّف عند بعض الإحصاءات الدالّة. ونبدأ بمفهوم الجمال الذي بلغت موادّه المعجمية في لسان العرب ما ينوف على 125 مادّة، وهو عدد لا يستهان به البتّة، ولا يدانيه في هذا العدد أيّ مفهوم آخر. بل أيّ حقل آخر. فلا تتجاوز موادّ القبح مثلاً أكثر من 75 مادة، ولا تتجاوز موادّ الجلال 40 مادة، وموادّ الهزل 25 مادة، وحقل المشاعر لا يتجاوز 40 مادة، أما إذا جمعنا الفنون والزينة في حقل واحد- من منظور أن الزينة فنّ تطبيقي- فسوف نحصل على عدد مماثل لما أحصيناه من موادّ الجمال، وهو 125 مادة في حقل الفنون الجميلة والتطبيقية؛ مع الإشارة إلى أنّ حقل الأداء يشتمل على موادّ خاصة به، ويشتمل أيضاً على عدد من المواد التي تتقاطع مع الحقول الأخرى ولا سيما حقل الزينة، ولذلك فمن الصعب إحصاؤه على نحو دقيق.
سمات الوعي الجمالي في العربية:
إنّ تلك الكثرة الكاثرة من دلالات الجمال بل موادّه في العربية تحيل على أنّ تلقّي العالم والطبيعة والإنسان من منظور المثل الأعلى الجمالي يحتلّ حيّزاً واسعاً من الوعي الاجتماعي، ومن ثمّ فإنّ له أهمية كبرى في السلوك فردياً وجماعياً على السواء. فاشتمال اللغة على مختلف التقويمات الجمالية لمجمل جوانب الواقع ومظاهره وأشيائه وأشكاله وعناصره الدقيقة، يعني بالضرورة أنّ ثمة وعياً وسلوكاً جماليين ضاغطين في “حياة” اللغة. وقد لا تتوضح فلسفة اللغة في الجمال من دون استحضار دلالات القبح فيها؛ وهي من الكثرة أيضاً ما يجعلها تحتلّ المرتبة الثانية عددياً في حقل القيم الجمالية. أي إنّ هنالك 200 مادة معجمية تتصل بالجمال والقبح. ولأنّ ثمة تمييزاً دقيقاً بين سمات هذا وسمات ذاك، تقرّر اللغة وجود الجمال، مثلما تقرّر وجود القبح موضوعياً؛ فالمسألة لا تتعلّق برغبة الأفراد وأذواقهم الفردية الخاصة، بل ترتبط أولاً بالسمات الموضوعية التي تحدّد جمال هذا وقبح ذاك. ومع أنّ للأذواق الفردية طرائقها الخاصة في التلقي والتقويم، فإنها طرائق لا تلغي جمال الجميل ولا قباحة القبيح، فيما تقرّره اللغة بتفضيلاتها وتحديداتها الجمالية، وإنما هي طرائق تعزيزية انتقائية، كأنّ تفضّل هذا النوع من الجمال على ذاك، أو “توبّخ” هذا القبح أكثر من ذلك.
أي إنّ السمة الأبرز بفلسفة الجمال في العربية هي الموضوعية، فالجمال موضوعي، وهو موضوعي لما يتّصف به من خصائص مادية ومعنوية قارّة فيه، لا يمكن التنكّر لها أو التغاضي عنها. فالوجه البشوش أو الوسيم أو القسيم أو المليح جميل بذاته، سواء نُظر إليه على أنه كذلك أم لا. ومن المفيد أن نستأنس فيما نحن فيه بكلام لأبي منصور الثعالبي، على الحاجب والعين. يقول في الحاجب: “من محاسنه: الزَّجَج والبَلَج، ومن معايبه: القَرَن والزَّبَب والمَعَط. فأما الزجج فدقّة الحاجبين وامتدادهما حتى كأنهما خُطّا بقلم. وأما البلج فهو أن تكون بينهما فرجةٌ، والعرب تستحبّ ذلك، وتكره القرن، وهو اتصالهما. والزبب: كثرة شعرهما. والمعط: تساقط الشعر عن بعض أجزائهما.”(3) . ويقول في محاسن العين: “الدَّعَج: أن تكون العين شديدة السواد مع سعة المُقلة. البَرَج: شدّة سوادها وشدّة بياضها. النَّجَل: سعتها. الكَحَل: سواد جفونها من غير كُحل. الحوَر: اتساع سوادها…، الوَطَف: طول أشفارها وتمامها…، الشُّهلة: حُمرة في سوادها.”(4)
إنّ ثمة خصائص مادية موضوعية في الحاجب والعين، بكونهما مثالين لا أكثر، تجعلهما جميلين أو غير ذلك، وتجعل التعامل معهما محكوماً مسبّقاً بما جاء في التحديد الجمالي- اللغوي بناء على تلك الخصائص، وكأنّ اللغة حين توصّف تعبّر، في آنٍ من الآناء، عن أذواق ناطقيها ووعيهم الجمالي؛ ولكنها حين تحتفظ بالتوصيف والتقويم تنهض بمهمة نشر الذوق والوعي بين الأجيال اللاحقة، بما يجعل التوصيف في ذاته تقويماً يبدو موضوعياً، بالمعنى المادي للكلمة، أو أشبه بالموضوعي. فليس أمام الأفراد، والحال كذلك، إلا الإعجاب مثلاً بالكَحَل والوَطَف، أو الزجَج والبلَج. إذ لا يُنظر إلى العلاقة بين الدال والمدلول لدى أبناء اللغة على أنها اعتباطية، وإنما على أنها علاقة متينة. بل طبيعية وعضوية كذلك(5) ؛ وهو ما أكّده أيضاً أمبرتو إيكو بقوله: “عندما ننطق بعلامات فنحن نعتقد بقرارة أنفسنا أننا نتعامل مع أشياء.”(6) . إنّ ذلك التعامل مع الكلمات على أنها أشياء هو أصل الموضوعية الجمالية في اللغة.
غير أنه عند التدقيق سوف نلاحظ أنّ تلك الموضوعية المادية مؤكّدة من حيث التوصيف، ومحتملة من حيث التقويم. أي يمكن أن يكون الزجج أو الكَحَل جميلاً، ويمكن أن لا يكون كذلك، في لغة أخرى أو حتى لدى أبناء العربية نفسها في مراحل تاريخية اختلفت فيها الأذواق أو استجدّت أذواق مغايرة تماماً، الأمر الذي يستدعي مفردات أو دلالات جديدة تنهض بما استجدّ ذوقيّاً، وتغفو مفردات ودلالات في صفحات المعجم. ولكن لا الذي غفا ولا الذي استيقظ، بالنسبة إلى اللغة يمكن أن يكون ذاتياً. بل كلاهما موضوعي لطبيعة اللغة ذاتها. ولهذا نميل إلى تحديد تلك الموضوعية بالاجتماعية. أي ثمة موضوعية اجتماعية داخل اللغة وداخل المجتمع أيضاً هي التي توهم بالموضوعية الجمالية المادية. وبما أنّ الموضوعية الاجتماعية تعني التوافق الذوقي القيمي في حدود المجتمع الواحد، على الخصائص الإيجابية والسلبية، فمن البدهي أن تبدو تقويماتها موضوعية بالمعنى المادي، وما هي كذلك. إنها موضوعية اجتماعياً ذاتية إنسانياً؛ أي إنها ذاتية بالنسبة إلى المجتمعات واللغات الأخرى. وفي هذا تتبدى الأنساق الثقافية المختلفة بتأثيراتها الجمالية. فمن طبيعة النسق الثقافي إيهامه أنه حقيقي أو أنه يمتلك الحقيقة وحده.
وفي إطار الموضوعية والذاتية تقدّم العربية مادة واسعة من المفردات ذات الصلة بالجمال أو الجلال تميّز فيها بين الحقيقي والزائف أو بين الأصيل والدعيّ، أي بين الموضوعي والذاتي؛ فالجميل والبهيّ والفاخر والشامخ والماجد والعظيم مثلاً غير المتجمّل والمتباهي والمتفاخر والمتشامخ والمتماجد والمتعاظم…، فهذه صفات ذاتية يسبغها مدّعيها على نفسه، في حين أن تلك صفات موضوعية لا مراء فيها اجتماعياً. ومن الطريف هنا أنّ المدّعي، وهو يسعى إلى ادعاء ما ليس فيه، تُسقطه اللغة فيما هو سلبي جمالياً، فترى فيه بخلاف ما ادعاه مادةً للقبح أو للسخرية. فالتحديد اللغوي للقيمة يقوم إذاً على الخصائص القائمة فعلياً في الموضوع لا على مجرّد ادعائها ذاتياً.
أما السمة الثانية التي لا تقلّ خطورة عن الأولى فهي الخيرية، ونقصد بها تلازم القيمتين الجمالية والأخلاقية في الأذواق والأشكال والأفعال. فالجمال خير، والخير جمال، بصرف النظر عن مستوى الخير ووظيفته وسياقه. وبدهي أن تظهر الخيرية واضحة صريحة في الأفعال لطبيعتها الاجتماعية الصرف، وأن تظهر في الأشكال على نحو ملتبس، لطبيعتها الحسية الصرف أيضاً، أما في الأذواق فلا تظهر إلا على نحو خفيّ دقيق. فمفردة الجمال دالة على الخلْق أو الشكل أو الصورة، وهي دالة أيضاً على الخُلُق أو الفعل. وفي هذا تداخل شديد بين القيمة الجمالية والقيمة الأخلاقية؛ وكذا هي الحال في مفردة النُّبْل، حيث نقرأ في لسان العرب: “النُّبْل: الذكاء والنجابة. والنبيلة: الفضيلة، وأما النَّبالة فهي أعمّ تجري مجرى النُّبْل، وتكون مصدراً للشيء النبيل الجسيم. النبل والنبالة: الفضل، وامرأة نبيلة في الحسْن بيّنة النبالة، وكذلك الناقة في حسْن الخلْق، وفرس نبيل المحْزِم: حسنُه مع غِلظ.”. فالنبل يدخل في الجلال والجمال، كما يدخل في الفضيلة والخير عامة، وذلك على النحو الذي يصعب فيه التمييز بينهما، فلا يتوضّح أيّ القيمتين هو الأصل في النبالة. هل الشكل الجسيم أو السلوك الفضيل أو كلاهما في آن. وتعميقاً لذلك نتوقّف عند مادة دالة على الحسْن فقط، ولا تُستخدم إلا في معرض الجمال دون الأخلاق.
فقد جاء في لسان العرب تحت مادة بثن: “البَثْنة والبِثْنة: الأرض السهلة الليّنة، وبها سمّيت المرأة بَثْنة، وبتصغيرها سمّيت بُثينة. والبَثَنيّة: الزبدة. والبَثْنة: النَّعمة في النِّعمة. والبثنة: الرملة اللينة. والبثنة: المرأة الحسناء البضّة. ويقال: هي الأرض الطيبة، وقيل: البُثُن الرياض.”(7).
يتداخل الجمال في الخير في تلك المادة إلى حدّ التماهي. فالبثنة هي النَّعمة في النِّعمة أي هي الترفّه في النِّعمة أو النعيم. إنها الخير في أقصاه وقد ظهر في لين العيش ونعومته ورفاهيته. والبثنة هي الأرض الطيبة أو السهلة اللينة، وهي الروضة أيضاً. بل إنها الرملة الصلدة وقد تندّت أو ترطّبت فصارت بضّة. وهذا كلّه خير عميم في العيش والأرض والروض والرمل، وهو أيضاً جمال يتسم بالبضاضة والليونة والرقة، ولعلّ البثنية التي هي الزبدة توضّح تلك السمات الليّنة اللدنة في المرأة الحسناء التي حسْنها نَعمة في نِعمة. أو خير وجمال معاً.
ما تلك إلا أمثلة على تتلازم القيمتان الجمالية والأخلاقية في فلسفة الجمال العربية؛ فثمة الكثير الكثير من الأمثلة الدالّة على ذلك، منها البضاضة والترارة والملاوة والطلاوة والطراءة والغضاضة والنعومة والنظافة واللين والنضارة والرخوصة، وكلّ منها يتصل بالخير اتصالاً وثيقاً لا يمكن غَضّ النظر عنه في أثناء التلقّي والتقويم.
إنّ ذلك التلازم بين القيمتين لا نجده بين الجمال والخير وحسب، وإنما في القيم الجمالية الإيجابية كلّها، وفي السلبية منها أيضاً. بل لعلّنا نراه في السلبية أشدّ منه في الإيجابية، وكأن بين القبح والشرّ تلازماً تاماً. وهو ما ليس قائماً بالضرورة التامة بين الخير والجمال. فالقبح شرّ في الأشكال، والشرّ قبح في الأفعال. هذا هو منطق اللغة العربية في القبح والشرّ، بصرف النظر عن قوة حضور الواحد منهما في الآخر أو طبيعته. نلحظ ذلك في الكثير من المفردات الدالةّ على القبح، من مثل البشاعة والدناءة والسماجة والصفاقة والغثاثة والقماءة والوخامة والوقاحة.
ففي مادة بشع نقرأ: “البَشِعُ: الخَشِن من الطعام واللباس والكلام. والبشِع: طعم كريه. وكلام بشيع: خشن كريه. ورجل بشِع المنظر إذا كان دميماً. ورجل بشِع النفس أي خبيث النفس، وبشِع الوجه إذا كان عابساً باسراً. ورجل بشِع الفم: كريه ريح الفم. ورجل بشع الخُلُق: إذا كان سيّئ الخلُق والعشْرة.” .
إنّ الشرح المعجمي كاف وحده للدلالة على تلازم القبح والشرّ تلازماً تاماً. فالبشاعة خشونة ضارّة أو غير مستحبّة في الطعام واللباس والكلام، وهي كراهة في الطعم وفي رائحة الفم، وخباثة في النفس، وسوء في الخُلُق والمعاشرة، وهي فضلاً عن ذلك عبوس وتقطيب في الوجه، ودمامة في المنظر. وذلك كلّه قبح وشرّ معاً. فخشونة المأكل والملبس والمنطق أو الخطاب قبح من جهة، وشرّ من جهة أخرى، وكذلك خباثة النفس وسوء الخلُق والمعاشرة. أما العبوس فخشونة كريهة في الوجه والنفس والفعل، علماً أنّ من معاني الدمامة القبح والحقارة والقِصر.
أشرنا آنفاً إلى أنّ تلازم القيمتين في القبح والشرّ أشدّ من التلازم بين قيمتي الجمال والخير؛ ويعود ذلك إلى أنّ في القبح والشرّ إضراراً يقع على الحواسّ والنفوس والعلاقات البينية إضافة إلى إضرارهما بالسلامة الفردية والجماعية. الأمر الذي يجعل تلازمهما تاماً أو شبه تامّ في الحدّ الأدنى؛ في حين أنّ في التلازم بين الجمال والخير تدرّجاً على مستوى الأفعال والأشكال والأذواق. بل قد لا يظهر الخير في الشكل أو الذوق إلا بعد تدقيق وتمحيص، كما في محاسن الحاجب والعين، وقد سبق ذكرها، فأين الخير مثلاً في الزجج والبلج أو الدعج والبرج، ولكن الشرّ يتّضح جليّاً في المعايب أو معظمها كالمعَط الذي هو تساقط شعر الحاجب لمرض ما، والمرض شرّ. وكذلك في معايب العين، ومنها “الحوَص: ضيق العينين، والشَّتَر: انقلاب الجفن. والعمَش: أن لا تزال العين تسيل وترمص.”(8). إنّ تلك المعايب أو المقابح في مجملها أمراض تصيب العين، فتمنعها من الرؤية السليمة وتشوّه منظرها في الوقت نفسه. وهو ما يسلمنا إلى السمة الثالثة من سمات الوعي الجمالي في العربية أو فلسفة الجمال فيها. وهي سمة الحيوية.
نقصد بسمة الحيوية أنّ العربية لا تحكم بالجمال على شخص أو وجه أو شيء أو فعل… إلخ إلا إذا ظهرت فيه قوة الحياة وفاعليتها وعنفوانها، عبر الصحة والعافية والاكتناز والنشاط. وفي المقابل فإنها لا تحكم بالقبح إلا على ما فيه انحراف أو تشوّه أو خلل أو إضرار، مما يؤدي إلى انعدام الحيوية أو ضآلتها أو نقائضها. فكلّما كان الشيء معبّراً عن الحياة وقواها الحيّة كان أكثر جمالاً وجلالاً؛ وكلّما كان على خلاف ذلك أو على ضدّه كان أكثر قباحة وفظاعة. ولعلّ تلازم القيمتين الجمالية والأخلاقية يظهر، على نحو عميق جداً، في سمة الحيوية؛ فالإساءة إلى الحياة- المجتمعية هنا- هي في ذاتها موقف سلبي أخلاقياً وجمالياً، مثلما أن تمثيلها على الوجه الأفضل هو موقف إيجابي جمالياً وأخلاقياً. ولكن من جهة أخرى، تحيل سمة الحيوية على موقف وجودي إيجابي فحواه الجمال.
نستطيع التوكيد أنّ نسبة 40% من الموادّ الدالّة على الجمال في لسان العرب وهي 125 مادة كما أسلفنا، تتّصل معظمها اتصالاً وثيقاً بالماء، إما على نحو صريح وإما على نحو خفي، ويتّصل الباقي منه بالنبات، أو بالماء والنبات معاً؛ كما أنّ نسبة 10% منها تتّصل بالحركة أو بالحركة والنبات معاَ. وذلك من مثل البضاضة والبهاء والرخوصة والرونق والطراوة والطلاوة والظَّلْم والسباطة… إلخ فيما يتّصل بالماء؛ وفيما يتّصل بالنبات نجد: البساطة والبهار والبهجة والمأَد والمَلَد والهَيف…، أما الرشاقة والبخترة والميَد والتأوّد والغيَد والخوَد…، فتتّصل بالحركة. فأن تصل المفردات ذات الارتباط بالماء والنبات والحركة، وهي التعبير الأدقّ عن الحياة، إلى نسبة 50% من مجموع الموادّ الدالة على الجمال، معناه أننا أمام لغة تأسست فلسفتها الجمالية على اعتبار الحياة هي المثل الأعلى في الجمال، بما يترتّب على ذلك من حبّ الحياة وتقديرها واحترامها؛ ولا سيما أنّ نسبة الـ 50% الباقية من موادّ الجمال تتوزع على الكثير من الحقول كالضوء والصوت والطعم والرائحة والصحة أو العافية.
أما الموادّ الدالّة على القبح فتكاد تخلو تماماً من أيّ إحالة على الماء أو النبات، أما إحالتها على الحركة فغالباً ما تكون الحركة فيها غير مستحبّة كالظّلَع والخيلاء والاضطراب؛ يضاف إلى ذلك أنّ النسبة الكبرى من موادّ القبح ذات صلة وثيقة بالوساخة والخشونة شكلياً ونفسياً وسلوكياً؛ من مثل البلادة والركاكة والطفاسة والوخامة، والفظاظة والكزازة، والوضاعة والخساسة …إلخ. الأمر الذي يحيل على أنّ القبح ضدّ الحياة نفسها سواء أكان ذلك بالمعنى الوجودي أم بالمعنى الاجتماعي.
أما الموادّ الدالة على الجلال أو ذات الصلة به، والبالغة 40 مادة لغوية، فلسمة الحيوية فيها شأن آخر؛ حيث تأخذ الحيوية في الجلال بعداً اجتماعياً صرفاً، وذلك من خلال الفرادة الذاتية والفاعلية الاجتماعية في الجليل بصفاته وأدائه معاً، من مثل البسالة والبطولة والبجالة والشموخ والفخامة والرزانة والنبالة والوقار… إلخ. وهي كما نلحظ مفردات تتّصل بالحقل الاجتماعي بشريحته الاجتماعية العليا بالدرجة الأولى من جهة، وبشريحة الفرسان من جهة أخرى. أي إنها تتوزّع غالباً على حقلَي السلم والحرب. فيبرز الجلال صرفاً من خلال الهيئة والسلوك فخامةً ونبالةً في أثناء السلم الاجتماعي، ويبرز الجلال الموشّح بالفروسية في أثناء الحرب بسالة وبطولة. لكنّ هذا لا يعني أنّ الجلال خاصّ بالحقل الاجتماعي فحسب؛ وإنما يمتدّ أيضاً إلى مظاهر الطبيعة المتفرّدة بعظمتها ورسوخها كالجبال والصحاري والبحار والقفار، تلك المظاهر التي يستعير الجلال الاجتماعي منها بعضاً من خصائصها المتفردة بدلالاته الجلالية، فتظهر فيه سمة الحيوية، عبر الفرادة والقوّة والفاعلية جميعاً. وبذلك نكون أمام الحيوية طبيعة ومجتمعا،ً جمالاً وجلالاً.
تلك هي سمات الوعي الجمالي أو فلسفة الجمال في اللغة العربية، وهي سمات تتقاطع مع بعض الأطروحات الجمالية القديمة والحديثة على السواء؛ كتلك التي ترى في الجمال سمة موضوعية في الظواهر والأشياء بمعزل عن الذات الإنسانية، أو تلك التي ترى أنّ الجمال هو الحياة أو ما ينبئ به، أو تلك التي ترى أنّ الجمال والخير متلازمان، أو يؤدي الواحد منهما إلى الآخر. ومنها فلسفة الجمال في الحضارة اليونانية وفي الحضارة العربية وصولاً إلى عصر التنوير الأوربي.
ولكن تجدر الإشارة، قبل أن نغادر هذه الفقرة، إلى أنّ هنالك سمتين أخريين تتلامحان في بعض الدلالات الجمالية، وهما: النسبية والتدرّج القيمي. ونقصد بالنسبية تحوّلات الدلالة من الإيجاب إلى السلب أو العكس بحسب السياق الاجتماعي. فالبثنة أو الغنج أو الدلّ للفتاة أو المرأة لا يجوز أن يوصف بها الشاب أو الرجل وإلا كانت مثلبة أو قباحة، وكذلك الظرافة التي هي سمة جمالٍ يوصف بها الشاب ولا يوصف بها الرجل وإلا كانت مثلبة أيضاً؛ وهو ما نجده في دلالة البسالة التي هي سمة قبحٍ في الأصل، لكن حين يوصف بها الفارس تغدو سمة جلال وبطولة. فـ “بَسَل الرجل: عبس من الغضب أو الشجاعة. وتبسّل لي فلان إذا رأيته كريه المنظر. وبسّل فلان وجهَه إذا كرَّهه. والبسالة: الشجاعة. والباسل: الشديد.” .
أما بالنسبة إلى سمة التدرّج القيمي فنلحظها بقوّة فيما يُسمّى بالترادف اللغوي، حيث التشابه النسبي بين الدلالات من دون التطابق التام بينها، وعدم التطابق التامّ يعني الاختلاف البسيط بين هذه وتلك من الدلالات، مما ينعكس تدرّجاً في التوصيف والتقويم؛ فالبشاعة غير الشتامة، وهذه غير الشناءة، وهي غير الشناعة؛ إذ البشاعة خشونة المنظر ودمامته، والشتامة شدّة الخلْق مع قبح الوجه، والشناءة اجتماع القبح والبغض في المنظر، أما الشناعة فهي الفظاعة في المنظر. والشيء نفسه نجده بين البضاضة والطلاوة والطراءة والملاوة، وبين الرزانة والرصانة والوقار. وإذا كان معظمنا اليوم لا يستطيع التمييز بين تلك الدلالات إلا إذا عاد إلى المعجم، فلا يعني ذلك أنها بالمعنى نفسه. بل يعني أنّ الفوارق بينها دقيقة جداً، تنعكس تدرّجاً في التوصيف اللغوي والتقويم الجمالي بما يشمل أدقّ الدقائق في الظواهر والأشياء والأشكال.
دلالات ومفاهيم:
من المعلوم أنه ليس من وظيفة اللغة اجتراح المفاهيم الفكرية أو الفلسفية أو العلمية، فهذه مهمة الحقول المعرفية تحديداً؛ غير أنّ اللغة، بوصفها معرفة وثقافة عامتين، تقدّم مادة يمكن استنطاقها معرفياً في بلورة المفاهيم بمصطلحات محدّدة. فكثرة الدلالات اللغوية ذات الاتصال بالجمال أو القبح مثلاً قد يربك صياغة المصطلح بقدر ما يغنيه؛ ولكن في المقابل فإنّ المعاجم وهي تشرح مفرداتها تتوسّل ببعض المفردات الشارحة، والتي غالباً ما تكون اسماً جامعاً، ما يعني أنّ الاسم الجامع أشبه بالمفهوم أو المصطلح اللغوي الدالّ على مجموعة من المفردات التي تتقارب دلالاتها مع اختلاف مسمياتها. إنّ الاسم الجامع أو المفردات الشارحة المتكرّرة، في الحقل الجمالي- المعجمي هي التي يمكن اعتبارها مصطلحات دالّة على المفاهيم الجمالية، غير أنّ تلك المصطلحات لا يمكن فهمها بدقّة من دون الاستعانة بالمفردات التي تقوم بشرحها أو تقوم بجمعها في دلالتها العامة.
نزعم أنّ ثمة أربع مفردات يمكن اعتبارها مصطلحات معجمية دالّة على أربعة مفاهيم جمالية كبرى، وهي الحسْن والقبح والعظمة والهزْل. فمفردة الحسْن هي الأكثر دوراناً في لسان العرب من مفردة الجمال، فهي الاسم الجامع أو المفردة الشارحة لمجمل المفردات الداخلة في دلالتها العامة، ومنها مفردة الجمال نفسها؛ وكذلك في مفردة العظمة التي تستوعب دلالة الجلال ومفردات أخرى كثيرة مشابهة. ففي مادة “جمل” يتمّ شرح الجمال بأنه “الحُسْنُ يكون في الفعل والخَلْق.”، مثلما يتمّ شرح الجلال، في مادة “جلل” بالعظمة فـ: “جَلّ فلان في عيني أي عظُم، وأجللته أي عظّمتُه. والتجالُّ: التعاظم.”، في حين لا نجد العكس في شرح الحسْن والعظمة. ففي لسان العرب: “الحسْن ضدّ القبح ونقيضه” ولا يحتاج الشارح المعجمي إلى توضيحه بالجمال مثلاً؛ وكذا هي الحال في شرح العظمة التي لا يحتاج الشارح إلى توضيحها بالجلال، فـ: “عظُم: كبُر، وهو عظيم. واستعظمه: رآه عظيماً. ولفلان عظَمة عند الناس أي حُرمةٌ يُعظّم لها. وأعظم الأمرَ وعظّمه: فخّمه. والتعظيم: التبجيل. والعَظَمة: الكبرياء.”. أما في شرح القبح فنقرأ: “القُبْحُ: ضدّ الحسْن يكون في الصورة. قال الأزهري: هو نقيض الحسن، عام في كلّ شيء.”. وبالنسبة إلى الهزْل، وهو أقلّ تبلوراً على المستوى الجمالي من الحسن والقبح والعظمة، فنقرأ: “الهزْل: نقيض الجِدّ. ورجل هزيل: كثير الهزْل. وأهزله: وجده لعَّاباً. والهزْل واللعب من وادٍ واحد. وقول هزل: هُذاءٌ. والهزالة: الفكاهة. والهزل: استرخاءُ الكلام وتفنينُه.”.
تلك هي المفردات التي يصحّ اعتبارها مصطلحات معجمية للدلالة على المفاهيم الجمالية، في اللغة العربية أو لسان العرب، وهي أربعة مفاهيم، اثنان منها متبلوران على نحو لافت للنظر، وهما الحسن والقبح؛ واثنان أقلّ تبلوراً وهما العظمة والهزل على تفاوت بينهما في التبلور. أما مفهوم التفاهة المقابل للعظمة، ومفهوم الأسى المقابل للهزل، فوضوحهما الاصطلاحي الجمالي في حدّه الأدنى، بالرغم من مفرداتهما الكثيرة نسبياً والتي تدلّل على التقاط اللغة بعضاً من أبعادهما الاصطلاحية الجمالية.
ولعلّ اندراج مفردات التفاهة تحت دلالة القبح عامة، بما يتولّد منه القبح الوضيع، يفسّر عدم استقلال التفاهة بمعنى خاصّ بها اصطلاحياً حتى على المستوى المعجمي؛ في حين أنّ اندراج مفردات الأسى تحت غرض الرثاء، في الشعر العربي القديم، جعلها مادة دلالية غنية بين أيدي الشعراء الذين كان لهم وقفات كثيرة عند الفجائعي أو المأسوي، ولكن تحت مصطلح الرثاء لا المأساة، والرثاء شيء والمأساة شيء آخر مختلف؛ وما يعزّز ذلك أن المترجمين العرب الأوائل لم يجدوا أنسب من مفردة الرثاء للدلالة على المصطلح اليوناني القديم “التراجيديا”؛ أما مصطلح الكوميديا فقد ترجموه كما هو معلوم بالهجاء، وكان الأنسب لو تُرجم بالهزل، غير أنّ عدم التبلور الاصطلاحي الكافي لمفردة الهزل من جهة، وعدم وجود غرض شعري هزلي، في الشعر العربي القديم، كبقية الأغراض الشعرية من جهة أخرى، كان من أسباب تلك الترجمة.
ما يعنينا هنا ليس مسارات الترجمة، وإنما المفهوم الجمالي الذي يقبع في مفردة الهزل، والذي لم يظهر اصطلاحياً في العربية إلا في العصر الحديث. علماً أنّ عدداً من المفردات الدالّة على الهزل يشتبك بدلالة القبح اجتماعياً، بما يتولّد منه القبيح المضحك، كالوكاعة والتشدّق والحذلقة. وقد كنا قد ذكرنا أنّ عدد الموادّ المعجمية الدالة على الهزل لا يتجاوز 25 مادة، وهو عدد ضئيل قياساً بالجلال مثلاً؛ ولكن دلالات الهزل، في واقع الحال، أوسع من ذلك بكثير. حيث نجد تلك الدلالات متشابكة بمفهومي الجمال والجلال، عبر ادعائهما الذاتي، أو ما يُعرف بالتكلّف والتظاهر في البناء الصرفي للمفردة، كالكِبْر والتكبّر، والعظمة والتعاظم، والفصاحة والتفاصح، والظرافة والتظارف. ومع ذلك بقي الهزل في الحدّ الأدنى من التبلور الاصطلاحي جمالياً.
إنّ هنالك ثلاثة مفاهيم جمالية كبرى، اصطُلح عليها بالجلال والجمال والقبح، في الفكر العربي- الإسلامي، كان لها حضور فلسفي لافت للنظر، اعتباراً من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي تقريباً، سواء أكان ذلك في علم الكلام أم الفلسفة أم التصوّف. أي إنّ ذلك الفكر مال إلى استعمال مفردتي الجمال والجلال بدلاً من مفردتي الحسْن والعظمة اللتين هما الأكثر دوراناً في بابهما في اللغة العربية؛ وهو ما اعتمدناه في هذا البحث اتساقاً مع الفكر الفلسفي القديم وعلم الجمال الحديث معاً. من دون أن يشكّل ذلك أيّ خلل في اشتغالنا على لسان العرب الذي يعتمد الحسْن والعظمة بدلاً من الجمال والجلال.
لذا نرى من المناسب التذكير “بأنّ الجلال عامة في الفكر العربي- الإسلامي، يتحدّد بالكمال والعظمة والمجد والقهر، ويتحدّد أثره النفسي- الانفعالي بالهيبة الممزوجة بالأُنْس.”(9) ؛ ويتحدّد الجمال “بالكمال الموصوف بالاعتدال، ويتحدّد أثره النفسي- الانفعالي بالأُنْس.”(10) ؛ أما القبح فيتحدّد “بالنقص الموصوف بالتنافر.”(11)، وينعكس نفوراً على المستوى النفسي- الانفعالي. فالكمال حضوراً أو غياباً هو الأساس الأول في تحديد القيمة الجمالية، ثمّ يكون لبعض الصفات دور في التمييز بين الجلال والجمال؛ فالكمال الذي يتّصف بالعظمة يندرج تحت الجلال، والذي يتّصف بالاعتدال يندرج تحت الجمال، أما الكمال المفقود فيعني القبح.
تلك هي المفاهيم الجمالية الأساسية أو الكبرى التي طرحها الفكر العربي- الإسلامي، محدّداً إياها بمصطلحات فلسفية، ومستنداً فيها إلى اللغة العربية التي طوّر فيها بعض المفردات لاستلال دلالات جديدة تفي بأغراض التفكير الفلسفي، من مثل الكمال والاعتدال والقهر. غير أنّ فلسفة الجمال، في اللغة العربية قبل ذلك التطوير، لم تكن تولي تلك المفردات الأهمية التي أولاها إياها الفكر الفلسفي، فلا الكمال ولا القهر من المفردات الدالة على الحقل الجمالي في العربية. بل حتى مفردة الاعتدال ذات قيمة جمالية عرضية قياساً بكلّ المفردات التي مرّت بنا من قبل. الأمر الذي يغري بالمقارنة بين فلسفة الجمال في اللغة العربية وبين الفكر الجمالي لدى الفلاسفة والمتصوّفة المسلمين، وهو ما يخرج عن نطاق هذا البحث. ولكن لا بأس من القول هنا إنّ اللغة العربية تضع الجمال أو الحسْن في أعلى القائمة، من حيث القيمة العددية والأهمية الجمالية؛ في حين أنّ الفكر العربي- الإسلامي يضع الجلال في أعلى القائمة، لدلالته الأولى على الذات الإلهية. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ لمفهوم الهزل حضوراً ما في اللغة، لا نجده في ذلك الفكر الذي حضر فيه مفهوم العذاب على نحو أوليّ.
ورغبةً منا في التحديد الأدقّ للمفهوم الجمالي، في العربية، قمنا باستقراء الدلالات التي تحيل عليه، واستنباط أبعادها الجمالية المشتركة للوصول إلى الأسس الناظمة له، مستفيدين من الشرح المعجمي قدر الإمكان. وقد ساعدتنا الجدولة على التحليل والتأويل والاستنتاج، بالرغم من صعوبتها وإرباكها كذلك. فمن الدلالات ما هو عام كالبساطة والحلاوة والملاحة مثلاً، ومنها ما هو أقلّ تعميماً كالأناقة والرشاقة والدماثة، ومنها ما هو خاصّ كالبشاشة والصباحة، وما هو أخصّ كالغنّة والغنج. وما يقال في دلالات الجمال يقال في دلالات سواه. ولذلك لم يكن بدّ من الاحتراز عند التصنيف والجدولة، ولم يكن بدّ من الانتباه إلى أنّ المفردة الواحدة قد تتقاطع مع عدّة حقول، بل قد تتقاطع مع عدّة جداول في الوقت نفسه، بسبب التعدّد الدلالي في المفردة الواحدة، وبسبب التخصيص والتعميم فيها أيضاً، سواء ظهر ذلك في جداولنا المعتمدة أم لا. علماً أننا سعينا إلى عدم تكرار المفردة الواحدة في الجدول الواحد، كما سعينا إلى أن تكون المفردات المعتمدة في الجداول مفهومة ومعروفة للقارئ العام، قدر المستطاع، وقد ساعدتنا العربية بثرائها العجيب، في تحقيق هذا المسعى.
ونبدأ بمفهوم الجمال وجدولة دلالاته اللغوية التي لا تكاد تنتهي، من حيث التعدّد والتنوّع والتفاوت والتداخل، على مستوى الموادّ المعجمية الأساسية والمهيمنة تحديداً. أما الدلالات الفرعية والجزئية والعرضية التي تبتكرها الاستعارات والكنايات والمجازات المرسلة فلا يحصرها حاصر في المعجم والكلام على السواء.
جدول الحسْن/ الجمال- الدلالات:
تمّ توزيع الجدول على سبعة حقول، تشمل مختلف الأشكال الكليّة في الإنسان التي تقع عليها الدلالة، وهي الوجه كلّه دون التخصيص بعناصره، والبشرة والقامة والهيئة والخطاب والسلوك، إضافة إلى العلاقة القائمة بين العناصر الجزئية في الشكل الكلّي، أو بين الشكل وسواه؛ فدون تلك العلاقة لا وجود للحسْن أو الجمال في الشكل أو السلوك. فما لم يكن تناسب بين عناصر الوجه، أو تناسق بين الأعضاء، أو احتباك- أي قوة وانشداد- في القامة، لا يمكن الكلام على جمال الوجه أو الأعضاء أو القامة؛ وما لم يتّسم السلوك باللباقة أو الكياسة، مع توافقه ومقتضى الحال فلا يمكن اعتباره جميلاً. وغنيّ عن التوضيح أنّ اجتماع تلك الدلالات في شخص واحد، أمر في غاية الصعوبة، ولكن اجتماعها المفترض هو الذي يشكّل مفهوم الجمال، وهو نفسه الذي يشكّل المثل الأعلى في الجمال فردياً وجماعياً.
وتقتضي الإشارة هنا إلى أنّ دلالات الحسْن في كلّ من الوجه والبشرة هي الأكثر عدداً من بين دلالات الحسن، كما أنّ البشرة تتفوّق عددياً على الوجه. ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ الوجه متضمَّن في البشرة أصلاً. فهي الدالة على الجسد كله، وهي واجهة الوجه أيضاً. ونقصد بتلك الإشارة أنّ سمة الحيوية شرط أساسي في الجمال؛ إذ إنّ مفردات حقل البشرة ترتبط كلّها بالحيوية الدالة على الشباب الدائم. بل نكاد نقول إنّ نضارة الشباب هي الأصل في مفهوم الجمال في العربية. وهذا لا يعني أنّ المسألة عمرية أو تتعلّق بعمر الشباب حصراً، وإنما يعني أنه كلما ازدادت قوّة الحياة في الإنسان شكلاً وأداء، أو خلْقاً وخُلُقاً، ازدادت قوّة الجمال فيه، والعكس بالعكس.يمكننا بنظرة متفحّصة في الجدول السابق أن نستنتج بعض الروابط بين تلك الدلالات. بل يمكننا أن نحدّد الأسس العامة لمفهوم الجمال في العربية، بكلّ من الأناقة والرشاقة والنضارة والتناسق. إنّ تلك الخصائص مجتمعة تستطيع تحديد المفهوم، وتستطيع تلخيص الذوق الجمالي العام في العربية تجاه مختلف الظواهر والأشياء والأشكال، لا تجاه المرأة أو الرجل وحسب، كما قد يبدو من مفردات الجدول السابق، الدالّة في معظمها على الإنسان شكلاً وأداء. فهي إذ تعبّر عن جمال الإنسان تعبّر في الوقت نفسه عن جمال الطبيعة بمظاهرها الحيّة والصامتة، وتعبّر كذلك عن الفنون الجميلة والتطبيقية. فالجميل إذاً هو الأنيق الرشيق النَّضِر النسيق أو المتناسق. سواء أكان ذلك في الإنسان أم الطبيعة أم الفنون. فاجتماع تلك الخصائص وتآلفها في الموضوع يجعله أكثر جمالاً، بل يجعله نموذجاً يحتذى في الجمال، وأيّ افتقاد لأيّ واحدة منها يعني خسرانه لبعض الجمال فيه. فالأناقة دون الرشاقة قد تبدو مجرّد شكل جامد، والرشاقة دون النضارة قد تبدو حركة آلية، والخصائص الثلاث الأولى قد تكون مفكّكة بحيث تبدو كلّ واحدة منها مشتملة على بقية الخصائص، أي كأنّ كلّ واحدة منها هي الكلّ. وبذلك تختلف فلسفة الجمال في العربية عن تلك التي طرحها الفكر العربي- الإسلامي اختلافاً بيّناً. ولعلّ الاختلاف يجد أساسه الأول أو المكين في أنّ اللغة تعبير حيّ عن الحياة كما يعيشها المجتمع وكما يراها؛ في حين أنّ الفكر نتاج التأمل المجرّد والموقف الاجتماعي والغاية الثقافية- الأيديولوجية. فجاء جمال الفكر عاماً مجرّداً ممتلئاً بالمعاني، وجاء جمال اللغة محدّداً ومشخّصاً وممتلئاً بالأشياء، ومكتنزاً بالحياة أيضاً.
وأما تلك الأسس- الخصائص فتتوضّح في الجدول التالي:
جدول الحسْن/ الجمال- الأسس:
أما مفهوم القبح فقد تمّ توزيعه على ستّة حقول، استوعبت دلالاته في الوجه والقامة والهيئة والسلوك والخطاب، إضافة إلى طبيعة العلاقة الداخلية والخارجية، وهي في مجملها علاقة اختلال، فيما بين عناصره الذاتية من جهة، وفيما بينه وبين سواه من جهة أخرى. وكأنّ القبح ينهض أولاً من العلائق المفكّكة أو المتنافرة في الأشياء والأشكال والأفعال، على نحو يصعب معه إقامة علاقة ودّية مع العالم المحيط؛ إذ إنّ التأزّم الداخلي هو الأصل في وجوده وفي سيرورته. وإذا ما أضفنا إلى ذلك أنّ الفظاظة والخشونة والابتذال والتنافر تكاد تشمل مجمل دلالات القبح في حقوله كلّها؛ فإنّ ذلك يحيل على أنّ القبح ضدّ الوئام الذوقي سمعياً وبصرياً وشمّياً، وهو ضدّ الوئام الفردي والجماعي نفسياً وأخلاقياً وسلوكياً. بل إنه على تضادّ وجودي مع الحياة نفسها؛ فكثرة دلالات الوساخة البدنية والمعنوية في القبح تؤكّد ذلك فيه وتنفّر منه في الآن نفسه. فليس القبح ضدّ الحسن فقط، وإنما هو ضدّ الحياة أيضاً.
غير أنّ ذلك لا يؤدي إلى أنّ كلّ موضوع اتصف بالقبح في مستوى من مستوياته هو ضدّ الحياة بمجملها. بل هو ضدّ هذا أو ذاك من جوانبها المتعدّدة. فالتعميم اللغوي لا يشمل إلا ما يعمّمه في صفة من صفات الموضوع الذي قد يكون فيه من الصفات ما لا يدخل في تعميم القبح. ففي مادّة “شنأ” مثلاً، نقرأ: ” الشناءة مثل الشناعة: البُغض. وشُنِئ الرجلُ، فهو مشنوء، إذا كان مبغَضاً، وإن كان جميلاً. ومَشْنَأٌ: قبيح الوجه أو قبيح المنظر. المُشَنّأ مثل المُبشَّع: القبيح المنظر، وإن كان محبّباً”. فاللغة تميّز تمييزاً دقيقاً بين قبح المنظر أو جماله من جهة، وبين مشاعر الحبّ من جهة أخرى. ففي الشناءة نلحظ بُعدين اثنين. الأول أن يكون الشيء أو الشخص جميل المنظر لكنه بغيض، أي قبيح في أدائه الخاص أو العام؛ والثاني أن يكون قبيح المنظر لكنه محبّب، أي جميل في أدائه. وهو ما مرّ بنا سابقاً في مفردة البسالة التي هي قبح من جانب وبطولة من جانب آخر. فالبطولة في البسالة لا تلغي القباحة فيها، ولكنها قباحة موجّهة ضدّ العدوّ حصراً، أي دفاعاً عن الحياة. ولذلك لا يكون القبح ضدّ الحياة عامة إلا إذا تمثّلت القباحة بنموذج أعلى، وهذا افتراض لا نجده في اللغة التي هي معنية أساساً بالأشياء والأشكال والأفعال، في هذه الصفة منها أو تلك، بل حتى لو توافرت عدّة صفات من ذلك النموذج فيها، فهنالك ما يخرج عنه. فما من موضوع مكتمل الصفات جمالياً في اللغة.
جدول القبح- الدلالات:
يمكن تحديد ثلاثة أسس عامة تنظم مفهوم القبح في العربية، وهي الدمامة والوساخة والغلاظة. أما الدمامة فهي اضطراب الشكل أو الموضوع في الأعين والأنفس، لافتقاده إلى الوحدة العضوية، إنّ صحّ التعبير، وذلك بما يتّصف به من تفكّك أو انحراف أو تناقض داخلي بين عناصره المختلفة. وأما الوساخة فهي سوء الحضور أو فداحته، وذلك حين ينعكس إيلاماً في الحواس والنفوس، بما يجعله كريهاً مذموماً. وأما الغلاظة فتعني خشونة الحضور شكلاً أو أداء، ما يؤدي إلى النفور التام منه ومن العلاقة به. وبذلك فالقبيح هو الدميم الوسخ الغليظ. وغني عن التوضيح أنه قلّما تتحقّق تلك الخصائص في موضوع واحد، غير أنّ واحدة منها فقط تكفي لإدخال الموضوع في دائرة القبح. فلا حاجة لكلّ تلك الخصائص كي يكون الموضوع قبيحاً، ولكن النموذج الأعلى في القباحة لا يكتمل من دون تلك الخصائص. وبقدر اقتراب الموضوعات أو ابتعادها من ذلك النموذج يتبيّن مستوى القباحة فيها قوةً وضعفاً، تعميماً وتخصيصاً. إنّ تلك الأسس ذات بعد مادي وذات بعد معنوي، وهي تسري على الشكل مثلما تسري على الأداء. فالدمامة مثلاً قد تكون مادية شكلية في المظهر وقد تكون معنوية في النفس والخُلُق والسلوك جميعاً، وكذا هي الحال في الوساخة والغلاظة.
جدول القبح- الأسس:
إذا كان الحسن والقبح قد حظيا بالاهتمام اللغوي الشديد، فجاءت دلالاتهما متنوعة ومتعدّدة جداً، لاتصالهما الوطيد والمباشر بالحياة اليومية للناس في حالتي الإيجاب والسلب؛ فما من جانب من جوانب الفرد والمجتمع والطبيعة إلا وله صلة بهذا أو بذاك؛ نقول إذا كان الحسن والقبح كذلك فإنّ للعظمة أو الجلال حضوره الخاص أيضاً. صحيح أنه أقلّ من الحسن والقبح، من حيث عدد المفردات الدالة، ولكنه ليس أقلّ خطورة منهما على المستوى الجمالي والاجتماعي العام. إنّ الجلال بذاته استثناء، وهو استثناء لفرادته الخاصّة ولقيمته العليا؛ إذ يندر وجوده في الطبيعة والمجتمع على السواء. فمن البدهيّ إذاً أن تكون المفردات الدالّة عليه في حدّها الأدنى قياساً بكلّ من الحسْن والقبح، أو قياساً بحقل الفنون مثلاً. ومع ذلك فلم تبخل عليه العربية بما يستحقّه من الاهتمام اللغوي، إن لم نقل إنها قد أفاضت في توصيفه وتقويمه بعدد وافر من المفردات، يصل إلى 40 مادة لغوية أساسية، عدا التقويمات التي لا يمكن حصرها، والناجمة من الاستعارات والكنايات والمجازات المرسلة.
يتداخل الجلال في العربية مع كلّ من الجمال والبطولية. فالجليل غالباً ما يكون جميلاً على مستوى الشكل والأداء، لكنه جمال خاصّ له نكهة الجلال إن صحّ التعبير. أي إنّ الجلال ينطوي
على الجمال من دون أن يتطابق معه، إنه يتّصف ببعض من سماته، ولكن في حدّها الأعلى، إذ يرتفع بها الجلال إلى حدّ الروعة والإدهاش؛ في حين أنّ العكس غير ممكن وإلا فقد الجمال طبيعته الذاتية والمشاعر المرتبطة به، وفحواها الأنْس. فأيّ تداخل بين الجمال والجلال في الموضوع سوف يدفع به إلى الجلال وإن انطوى على الجمال. أما تداخل الجلال بالبطولية فغالباً ما يكون في اللحظات أو المواقف الاستثنائية ذات الطبيعة الصدامية التي تتطلّب فعالية قصوى كالحرب مثلاً؛ وبذلك يأخذ الجلال صفة البطولة التي هي في الأصل قيمة فرعية منه. فمن البدهيّ إذاً أن تندرج مفردات البطولة في العربية تحت الجلال، مثلما تشتمل كثير من مفردات الجلال على بعض من دلالات الجمال ذات المستوى الرفيع، كالنبالة والرصانة والرزانة والوقار.
يتوزّع جدول الجلال على ثلاثة حقول. وهي الفاعلية الاجتماعية القصوى والمكانة العالية والامتلاء الذاتي بمعنى الثقة بالنفس. وهي جميعاً تركّز على الخصوصية التي يتميّز بها الجليل، فهو فاعل اجتماعياً وذو مكانة عالية تؤكّد تلك الفاعلية وتتأكّد بها، إضافة إلى ثقته أو امتلائه النفسي بقدراته الخاصّة التي يتمتع بها، ويشهدها الآخرون فيه ويشهدون بها أيضاً. إنّ شهادة الآخرين بها ذات ضرورة قصوى؛ فكثيراً ما يتمّ ادعاء الجلال أو التظاهر به، لأهميته الاجتماعية، والسلطوية أيضاً؛ وهو ما جعل اللغة تميّز بدقّة بين العظيم والمتعاظم، والجليل والمتجالّ والكبير والمتكبّر، كما مرّ بنا سابقاً.
نصل من ذلك إلى أنّ الجليل هو النبيل الشامخ الوقور، كما نلحظ في الجدول الآتي:
جدول العظمة/ الجلال- الأسس:
يجدر بنا التذكير أخيراً أنّ حديثنا انصبّ في مجمله على المفاهيم الجمالية، في الحقل الاجتماعي، ولم نتوقّف عند الطبيعة الحيّة أو الصامتة لنتبيّن تعبير تلك المفاهيم عنها؛ والسبب الأساسي هو أنّ تحديد المفاهيم اجتماعياً يؤدي بطبيعة الحال إلى تحديد الخصائص الجمالية في الطبيعة من منظورها الاجتماعي- اللغوي، ولا سيما أنّ كثيراً من الدلالات مبنية أساساً على الطبيعة الحية أو الصامتة، كما أنّ كثيراً منها يشمل الإنسان والحيوان والنبات.