عبد الصمد الكباص*
تدعونا فكرة الترجمة إلى إعادة تعريف العالم باعتباره حركة بين اللغات. إذ لا تتحقق فكرة العالم من حيث هو تجربة لانتماء مشترك ليس لأشكال كونية من الدلالة عابرة للغات، إلا من خلال المواجهة المستحيلة التي تقيمها كل لغة على حدودها مع لغات أخرى. فليس هناك من فرصة لفتح مجال يُعين تجربة العالم هكذا إلا عبر تحدٍ تأسيسي، يمثل وظيفة بدائية لكل لغة، بأن تتوجه إلى النقطة القصوى لاستحالتها عبر استهداف الشكل الجذري من البرانية التي تمثلها اللغات الأخرى.
يعني ذلك أن العالم مهمة ينبغي للترجمة إنجازها. حيث تتحقق الحركة بين اللغات بوصفها استدعاء للغيرية المتعذرة على الاختزال، والتي تتبدى في المجال الذي تعمل فيه قوى الاختلاف المقوضة لكل تطابق، والمستبعدة لكل نقل أو استعادة، أي المكان الذي تتواجه فيه بعنف الدلالات مجردة من أي امتياز مثالي قد يجعلها حائزة على نفسها بشكل مطلق خارج الزمن واللغة، محافظة على نفسها في قلب أي تحويل من لغة إلى أخرى. يعني ذلك أن الترجمة لن تكون أبدا نقلا، مثلما أنها ليست عملا اختياريا أو قرار بشري. إنها ضرورة منبثقة من القدرة الداخلية للوجود نفسه ولكل لغة، والتي تدفعها إلى أن تتجاوز حدودها، وتعمل ضد استحالاتها.
يرتكز الأساس النظري للفرضية التي نقترحها على الفكرة الأساسية التي عرضناها في كتابنا ” المجرى الأنطولوجي”(1)، و أساسا مفهوم ” الفقدان الجذري للمدلول” الذي يكشف مكامن العمل الداخلي للترجمة في قلب كل لغة باعتبارها حيوية دائمة موجهة لنشاطها الموصوف كحركة لمواجهة قدر إفلات الدال للمدلول، بشكل يفسح المجال للكلام من حيث هو تكرار لتجربة حضور الدال لتعويض غياب المدلول. بنفس الدرجة التي يُستعاد فيها الأصل المترسخ كدلالة أو فكرة باعتباره شكلا من الفقد والإتلاف المُنتج، الذي يدفع دوال اللغة لاستدعاء بعضها وهي تتقفى أثر المدلول الغائب، لإعادة تشكيل هذا الغياب.
يكمن المسعى الأساسي هنا، في كشف مضمرات “فكرة الترجمة” وإبراز جانبها الضروري، عبر تحديد الأساس الأنطولوجي الذي يجعل إمكانيتها ضرورة لا يمكن تفاديها. وهي ضرورة تظهر إلى أي حد لا يمكن أن تقف اللغة عند مستوى كونها مجازا من مجازات الوجود، أو قدرة على تسميته، بشكل يجعلنا نتساءل عن إمكانية وجود خط واصل بين الأساس الأنطولوجي للترجمة وإمكانية تحويلها إلى أنثروبولوجيا، أي مجال كاشف لتجربة صميمية لدى الإنسان باعتباره كائنا يعاني في اللغة رغبته الأصيلة في العالم. تصبح هذه المعاناة التي تحفز قدرات البشر على تخطي حدود لغته، إشباعا لرغبته في العالم، مجالا لكشف المكان الذي يسكنه الكوني، الذي يعبر الإنسان ويتجاوزه، ويحوله إلى أحد آثاره.
يسكن الكوني اللغات، ويتوزع بين دلالاتها المتصادمة، ويخترق الإنسان من خلال سوء الفهم الثاوي في عمقها كطبيعة مؤسسة، وليس كمجرد نشاز قابل للتجاوز. فكلما كانت هناك حدود صارمة بين اللغات، أدركنا نشاطا للكوني، يحفز كل لغة على تخطي هذه الحدود، والتحرك في اتجاه النقطة الحاسمة لاستحالة ما هو مطلوب، اي أن تكون هي نفسها اللغات الأخرى المنبثقة إمكانيتها بالضبط من تعذر ذلك. فكل لغة تكون نفسها، لأنه يتعذر عليها أن تكون لغة أخرى. فيتحدد نشاط الكوني بوصفه القوة المباعدة بين اللغات وفي نفس الوقت، الدافع لان تتحرك كل واحدة منها في اتجاه الإمكانية القصوى التي تجعل منها لغة أخرى بالنظر إلى باقي اللغات. إذ لا تظهر قدرة للكوني إلا عندما ينكشف في شكل اختبار للذات في الآخر. أي في شكل نزوع جوهري لتجاوز الحدود التي عندها يتوقف كل شيء بالنسبة للذات، وتصبح متعذرة الحدوث. وهو ما يبعدنا بشكل حاسم عن الاعتقاد بأن اللغة في علاقتها بالكوني الذي يسكنها، تتكون باعتبارها تعيينا لكلية تتسع شاملة المتغيرات التي تشكل تعبيرا جزئيا عنها. بل إنه يكشف أن كل تراجع للغة نحو ما يمكن أن تتعرف عليه باعتباره أساسها الصافي المغلق في وجه أي نفاذ خارجي، يظهر أن كل دلالة مؤسسة على أفق يتجاوزها، يعين استحالتها وفي نفس الوقت يشملها بدافع لتجاوز هذه الاستحالة.
ويمنح أثر الكوني في اللغة، حركة تعمل كطاقة داخلية نشيطة تجعل كل دلالة تُبنى، تتحقق بوصفها حالة عدم اكتفاء. أي تجلي لحالة فقدان أولية، هي التي تشرط حدوث أي دلالة وتشكل أساسها. حينها يسعفنا أثر الكوني في اللغة، على اكتشاف أن الوحدة البدئية لكل لغة، ليست هي وحدة الدال والمدلول، هذا البناء الأليف لدى اللسانيين، وإنما وحدة الدال والفقدان الجدري للمدلول، أي هذا التشطيب الأولي الذي يؤسس كل تجربة للكلام على عمل أصيل للإتلاف، الذي يحول المدلول إلى وعد لمستقبل لا ينتهي. إنه شيء من المستقبل الذي لم يحصل بعد. لذلك فإن كل لغة تطلق مسلسلا للأبدية، هو دائما ومنذ البداية خارج سيطرتها. أي شكل من اللانهاية الذي يتجدد مع كل تجربة للكلام. فالنقص الذي تعمقه هذه التجربة في عرضها الزائل، يعزز تلك الأبدية التي تتضخم انطلاقا منه، كحد براني منه يطل الآخر في وضعه المطلق، أي آخر اللغة والدلالة التي تتشكل منها.
لا توجد اللغة لأن هناك معنى يفوقها، يسبقها ويسبق الوجود، ويعرض نفسه مكتملا في الأبد الذي لم يبدأ بعد. وإنما لأن هناك تجربة أصيلة للانفصال تعاود نفسها مع كل محاولة لجعل العالم أفقا لأي شكل من الدلالة، الشيء الذي يجعل كل تحقق لها رهينا بانقسام بدئي، يتحقق فيه جزء بسيط، والباقي يظل منزلقا تحت الظهور الوشيك لما لا يمكن أن تدل عليه. وهو ما يعني أن اكتمالها لا يصير ناجزا إلا في فضاء الآخر الذي يمثل حدها البراني، الغريب عنها، والذي يمثل في نفس الوقت مصدر تخصيبها، لأنه يجعلها مخترقة دائما بواقع يتجاوزها، لا تستطيع استيعابه إلا في مستقبل مؤجل. وهذا هو النزوع الأصيل الذي يؤسس إبداعية اللغة.
عندما تندفع اللغة نحو حدها الأقصى، أي نحو ما لا يمكنها قوله، أي المعنى الذي ينزلق دائما بعيدا عنها، تمنح لنفسها القوة اللازمة لكي تستمر وأن تعاند لكي تظل مجالا لقول العالم. وليس ذلك لأنها تنطوي على معنى سري لا يمكنها الإفصاح به إلا للأجيال اللاحقة، وإنما لأن الجرح الذي يخلفه فيها الكوني الذي يعبرها، يؤججها على إعادة تفعيل الانقسام الذي منه تولد دلالاتها، والتي تجعلها تتحقق على حافة إمكانات اللغة خارج أي تماسك قد يفرضه الدال، مهيأة للانخراط في تلك الحركة التي تندفع خارج حدود اللغات، وعلى ضفافها.
العالم حركة بين اللغات. هذه الحركة التي لا تخص لغة بعينها، وإنما تحدث في تماس معها في اتجاه لغات أخرى. فالمتكلم الذي يدرك أن العالم هو ما تسميه لغته، تتحقق في عمق تجربته كمتكلم حقيقة أعمق تتمثل في أن العالم هو ما ينقص هذه التسمية بالذات، لأن هناك دائما ما يفلت منها في نسق الخارج، فيما لا يستطيع القول أن يدل عليه لكنه يؤكده بعجزه، حيث تجد اللغة نفسها ملزمة بالصمت الذي لا يكون بالنسبة لها في هذه الحالة اختيارا و إنما ضرورة. حينها يظهر العالم ليس هو ما يسكن داخل لغتنا فقط، وإنما ما يتحرك بين باقي اللغات، أي ذلك الإمكان الذي منه يظهر أن ما نحوزه عليه من خلال لغتنا هو البقية الصغرى من ذلك الكل الكبير الذي يوجد هناك، خارج حدودها، حيث ينتعش عمل أعمق للمدلول خارج سيطرة تماسك الدال التي تسنده هذه اللغة.
إن متكلم اللغة المقدر عليه أن يفلت في كلامه هذا الكل الكبير، يتماهى مع رغبته التي تنبعث لديه مع كل تجربة كلام، والتي تتحقق كرغبة في العالم، وهي رغبة في سر الآخر الذي يقيم خارج لغته، والذي يتكون من الافتراض أنه يحوز على ما يفلت منه، المدلول الذي ينزلق بعيدا خارج أي سيطرة للدال، حيث يمكن للدلالة أن تحظى بالاكتمال، لكن في فضاء الآخر. لكن هذا الآخر هو دائما على الحدود البرانية لأية لغة، ومع ذلك يتحقق كقلق داخلي بالنسبة لها، معينا المعنى ليس كيقين ذاتي للغة وإنما كشرخ، وجرح لا سبيل للفكاك منه، فيه ينكشف الطابع اللا واقعي لسؤال المعنى وضرورته في نفس الآن. إنه مبدأ تشظي ماهية اللغة عينها، المطلوبة كقابلية للتكرار إلى ما لانهاية، لكن في الزمن الصغير لكل متكلم محتمل، الذي ينبغي أن يبعث مرة أخرى هذا الشرخ، لكي يستطيع تكليم اللغة، ويبسط هذا الأفق غير المسيطر عليه لمعنى منتظر، لكن في نفس الآن غير قابل للقول في نسق ذات اللغة، بل في المكان الذي يصبح فيه المعنى يقينا، أي في نسق الخارج، نسق الآخر، حيث لا يكون هناك من مكان تحتفظ به اللغة بنفسها سوى الصمت. في هذه الحالة فالإمكانية القصوى للقول، ستتساوى مع ما لا يمكن قوله. أي ذلك الذي لا يمكن قوله من داخل النسق، لكنه كان دائما قد قيل في الخارج الذي يعمل باعتباره فضاء تحقق المتعذر قوله.
وإذا كان العالم حركة بين اللغات، فإن ذلك يعني أنه مجال تقاطع ما يمكن أن تعينه اللغة بما يستحيل عليها تعيينه، وفي هذه الوحدة بين الإمكانية والاستحالة ينبع يقين العالم باعتباره ما يضم كل لا يقينيات النسق الداخلي لكل لغة، التي تأخذ موقعها في الحدود البرانية باعتبارها إمكانية دائمة ليقين ما قابل للتحقق في لغة مختلفة ممكنة. ومن هنا نستنتج أن العالم ليس هو اللفظ الذي يدل على الموجود في كليته، وإنما على الحركة التي ترتد في اتجاه كل اللغات عبر الاستحالات التي تشكل أساسها. حينها يظهر أن ما تستولي عليه اللغة هو عجزها الخاص، الذي يظل مسؤولا عن قوتها التي لا تُظاهى. وهو العجز الذي يجعلها تحت ضغط الحاجة الدائمة إلى اللغات الأخرى.
يظل تصور العالم باعتباره حركة بين اللغات، مشدودا إلى مفهوم عماء اللغة، والذي يعني أننا لا نرى إلا ما تتيحه كلمات لغتنا. الشيء الذي يدل على أن المعجم هو فهرسة مسبقة لما يمكننا رؤيته. ويستتبع ذلك أن ما تتيحه لغتنا يمنعنا من رؤية ما لا تتيحه. لكن الوجه الثاني من هذا العماء يتأسس هناك في لغة أخرى كفضاء جديد لرؤية ما هو محجوب عنا من داخل لغتنا. فما ينزلق بعيدا من لغتنا، يصير مضاء في لغات أخرى، أي مجالا للانكشاف كتجربة قابلة لأن تقال. حينها يغدو المشترك بين اللغات هو الكل الكبير الذي تفلته كل لغة على حدة، دون أن تتوقف عن ندائه. لذلك فإنها تبقي على إمكان المعنى من خلال حرب تخوضها ضد نفسها ، كما قال ديريدا.(2)
يتشابك مفهوم العالم بوصفه حركة بين اللغات، مرة أخرى، مع واقع أن اللغة لا تحوز سلفا على ما تريد قوله، إنها تطارد خارجا يولد منزلقا في منأى عن مجال سيطرتها، ومع ذلك فهي تواصل مطاردته، محطمة تعاقداتها البدئية بتوليد المزيد من المجازات التي تتولد من مجازات أخرى. وفي هذا العمل الدؤوب للغة يغدو كل شيء داخلها مترجما، أي محولا بموجب منطق المجاز الذي يتيحه. يكشف ذلك أن العملية الدائمة التي تتمخض عن اللغة وفي داخلها، لا يمكن أن يكون إلا ترجمة، أي عملية تكرار مستحيلة في الخارج لذات الشيء في طبيعة أخرى مخالفة له. وفي هذه العملية بالضبط تصبح اللغة هي المجال الذي يعاني فيه الإنسان رغبته في العالم، أي في الإمساك بالشكل المتعذر من الآخر الذي ينتصب باعتباره مكمن اللغز، الذي يحوم حوله دون أن يطاله. إن ذلك يتعلق بانشطار أنثروبولجي غير قابل للاختزال، حيث لا تتقاسم الذات نفس الحيز مع مكان استيفائها لنفسها. فتتحول كل محاولة للاستكمال إلى تجربة يتعزز فيها الانقسام، طالما أن الذات لن تستوفي ذاتها إلا في الآخر، الذي لا يمثل فقط معنى المغاير بالنسبة لها، لكن مجرى الحياة الذي يستنفذها ويستمر بعدها. وهكذا فالرغبة في العالم، تجعل الآخر المتعذر على الإمساك، والذي يجدد وجوده على الضفاف البرانية للغة، لحظة فعالة في الوجود الخاص للإنسان.
يمكن أن نفهم من الرغبة في العالم التي يعانيها الإنسان كلما حين (actualiser) نفسه في تجربة الكلام، أنها رغبة في السيطرة على الغياب المنسوب إلى الآخر كرصيد حتمي. لكن ذلك يبدو مجرد استنتاج مريح لنرجسية الذات، لأن الآخر هو الحياة التي كانت وستبقى حاضرة بوجودنا أو من دونه، والتي تحجبها حدود لغتنا لكنها لا تستطيع أن تلغي حضورها. بل إن الغياب يستوطن بشكل فعال عمق الذات، إنها شكل من الغياب الذي يحيا في قلب وعي الزمن الذي يتحقق بالنسبة إليها كتجربة للحرمان كما قال فرديناند ألكيي.3 إنه يقين غياب الذات مقابل حضور الآخر هو الذي يتقوى في الرغبة في العالم. لا يعود ذلك إلى وعيها الدفين بأن أمر حياتها مقرر سلفا انطلاقا من القابلية للموت، حيث يكون كل ما يُعطاها مهدد بالزوال، وإنما لأنها تجد في الآخر مستقبلها الأبدي الذي لن يكون معادلا لفكرة زمن قادم، وإنما للحدث الذي سيضاعف الوجود، ويمكنه من الاستمرار، أي اليوتوبيا الكبيرة للأمل.
ظل ما لا يمكن إصلاحه في التجربة الإنسانية، مرادفا للموت الذي يعين الواقعة التي يستحيل ترميمها. لكن ما لا يمكن إصلاحه في اللغة لا يتعلق بموتها، وإنما بكون النصيب الأصلي من المعنى، يوجد خارج حدودها. لذلك فهي لا تتملك الأشياء إلا بالاستغناء عنها عبر بدائل لا تكافئها، معمقة عملها الذي تتحقق فيه طبيعتها كلغة، وهو جعل الأشياء التي تدخل تحت تصرفها قابلة للتعقل، عبر عملية اقتصادية صرفة تشكل جوهرها يتحد فيها التبديد بالادخار. فهي تبدد طبيعة الشيء، لتدخر ما ينوب عنه، بنفس القدر الذي تتلف فيه الحدث تحت قدر التسمية التي تغدو المكان الوحيد لتخزين أثره، يصير قابلا للتعيين من قبلها لكن بعد أن يكون قد فقد طبيعته كحدث. وهو ما يجعلنا نعتقد أن اللغة تبتكر أشياء بطبيعة جديدة، حيث يكون فعل التسمية هو المساحة المثالية لتخزين الفقدان الحتمي للأشياء داخل اللغة. فما يدوم في التسمية هو إتلاف المسمى.
لا تملك اللغة أي نفوذ إزاء هذه العملية، بحكم المنطق الاقتصادي الذي يحكمها، والذي يتركز في التبادل، أي في جعل كل شيء قابل لأن يبادل انطلاقا من التخلي عن نفسه في العلامة، التي يصبح معها فكرة تملأها الميولات والرغبات والأهواء أكثر من طبيعة الشيء. وكما قال هانس جورج غادامير ” إن الشيء الذي يقف قبالتي إنما يؤكد حقوقه الخاصة ويقتضي اعترافا مني.” 4 فإن هذه الحقوق لا تتأكد في أن يصبح الشيء مفهوما، كما قال، ولكن في أن يُنكر في اسمه. إذ أن ما يُعبر عنه في اللغة ليست الأشياء وإنما رغبتنا فيها، إنها بمعنى ما المسافة التي تفصل الأشياء عما نقوله عنها. وهي المسافة التي يتأسس فيها كل ما هو إنساني، حيث يكون على هذا الكائن الذي فقد أثر الأصل أن يتحمل مهمة الترجمة كمهمة أبدية، أي أن يعمل، كما يفعل مع نفسه، على تمييز وجود الأشياء في كينونة أخرى.
يتبين من خلال ما سبق أن الترجمة منظورا إليها باعتبارها تأويل معنى ولد في لغة محددة داخل لغة أخرى، لا يمثل سوى جانب قاصر ومغرق في تقنيته من الترجمة، والأكثر منه أن ينظر إليها باعتبارها ضمان انتقال آمن لذات المعنى من لغة إلى أخرى، أو بحثا عن مساواة للذات في الآخرية. إنها بالأحرى عمل أشمل ملازم للإنسان الذي يدرك انطلاقا من رغبته، أن طبيعته لا تحقق ما ينبغي أن يكون انطلاقا من هذه الرغبة. إذ أن الترجمة تظل مهمة أبدية ملازمة للإنسان، ليس لأن هناك معنى يولد وإنما لأن هناك معنى قد انتفى. والكلمة الأولى في اللغة لم تكن سوى ترجمة انتفى أصلها، فنصبت نفسها أصلا. لذلك لا يتحقق أي شيء في التجربة الإنسانية إلا وهو مترجما. وقد كان مارشال ماك لوهان حصيفا عندما اعتبر التكنولوجيا والميديا استعارات من حيث قدرتها على ترجمة التجربة في أشكال جديدة، و ” الكلام كان أول تكنولوجيا سمحت للإنسان أن يتخلص من وسطه ليعيد تحصيله بطريقة أخرى.”(5) لذلك ستظل الحياة بالنسبة لهذا الكائن مرادفة للترجمة، عندما يتكلم فهو يترجم، عندما يعمل فهو يترجم، عندما يحيا فهو يترجم، لتكون آخر ترجمة بالنسبة له هي فعل الموت، حيث يترجم الجسد نفسه في نهايته.
إن الوجود الحيوي للأشياء يدخل مجال التجربة الإنسانية، انطلاقا من انزلاقها خارج الوجود الإنساني الذي يشرع في تملكها عبر الإبقاء على المسافة التي تفصله عنها في الوعي، وهو ما يسمى من وجهة نظر فينومينولوجية بالقصد، حيث يمكنه أن يلمس الأشياء مفصولة عن نفسها في طراز آخر من الوجود يحدده الوعي، يتحقق في الاسم، الذي يقوم بوظيفة من يمسك بالماهية الشاملة للشيء. في هذه الحالة، يبدو مرة أخرى أن لا مفر من الترجمة، إذ ليس هناك من مناص من ترجمة الشيء إلى ما ليس إياه، ومع ذلك ينسب إليه برابطة الاسم، الذي يغدو الرحم الذي تتجمع فيه الماهية المحضة للشيء، اي الماهية التي لا يمكن أن تؤخذ إلا على أساس ما هو ممكن تصوره من هذا الشيء. وهو ما يقودنا إلى الاستنتاج، أن اللغة كعرض symptôme من أعراض التسمية، ليست في فعلها التأسيسي سوى ترجمة، تتوغل كلما زاد الإصرار على الوضوح، حيث الكلمات توضح بعضها، على قاعدة ما ليس واضحا الذي يتشكل كخلفية مسبقة لكل ممارسة لغوية، منبثق من الفجوة التي لا تردم بين الكلمات والأشياء. حيث أن الاسم لا يكافئ الشيء، لكنه يلغيه لكي يجعله مدركا، يلغيه في المحتوى المثالي المترتب عنه، الذي يأخذ موقع الدلالة، التي نحصل من خلالها على الشيء وقد أفرغ من نفسه، مع الإصرار على تعيينه كشيء.
و مثلما قال هانس جورج غادامير” اللغة شيء أكبر من وعي المتكلم”(6) فإن كل متكلم بمجرد ما يحرك اللغة يجد نفسه متورطا سلفا في الترجمة، إنه مُلزم بحدود هذه العملية المكونة لجوهر اللغة في اتجاه الأشياء المتلفة في قلب التسمية، والمعوضة بمثالية الدلالة كأثر لفقدانها الحتمي. لكن هذه الدلالة مفقودة هي الأخرى في أثر الكلمات التي تشكلها، والتي تدخل في استحضار بعضها، في محاولة لردم هوة ما هو غير قابل للقول، والذي يواصل حضوره في قلبها، معرضا إياها لعدم اكتفاء أصلي لا يمكنها تجاوزه. و لأن اللغة بدأت كترجمة، فكل ما يحدث داخلها يظل استرسالا لذات العملية، إنها تمثل الصورة الضرورية التي تعين الطريقة التي يمكن بها المرئي أن يعقد صلة بما ليس مرئيا، بنفس القدر الذي يكون فيه ماهو مدرك متاحا انطلاقا مما لا يمكن إدراكه(7)، أي ذاك الذي اتحد في المنظومة الكانطية (نسبة إلى إمنويل كانط) تحت اسم “النومين”.
إن اللغة التي تمثل الآخر الكبير، أي بنيته الرمزية التي تسبق الذات(8)، تنكر البرانية في داخلها، لكنها لا تتمكن أبدا من إلغاء وجودها الفاعل فيها. فالأشياء وقد تُرجمت أسماء، تتحول إلى قوة منهكة للغة، جاعلة كل دلالة، مجرد وعد بالدلالة لن تفي به اللغة أبدا، إنها تصادر على جود مثالي ينزلق باستمرار في وجود مثالي يفوقه، إلى ما لا نهاية، حيث تكون هذه اللانهاية هي الفراغ الحتمي الذي يتحرك في قلب كل وعد بالدلالة، تاركا أثره الحي في شكل كلمات تسترسل في الحديث عن بعضها.
إذ ليس الكلي هو الذي يخترق الشيء عبر اللغة، لكن الأشياء المتحصنة في نطاق ما لا يدرك، هي التي تحدد المكان الصامت في اللغة باعتباره عتبة رئيسية لصنع ما هو أصلي، ومشتقاته في المعنى والدلالة والمدلول، والذي تسند إليه مهمة مرجعية في التمييز بين الأصل والمترجم. حيث أن التشغيل المكثف لهذه الثنائية يصبح شرطا لنسيان أن الأصل لم يكن سوى ترجمة، وأن كل ما يقال ليس سوى محاولة لترجمة المكان الصامت في اللغة، حيث لا تستطيع مجاوزة الكلمات نحو الأشياء، إلا عبر خلق بدائل لترجمة وجودها المتعذر على السيطرة. وهذا المكان الصامت في اللغة، هو الذي يكشف أن ما تنطوي عليه بشكل بدئي هو اللامعنى، الذي يجعل الوعد بالمعنى نشاطا حيويا لها، أي نشاط لفتح مستقبل لا يصبح أبدا حاضرا. إذ مع كل استعمال للغة، تخلق طبقة جديدة للأصلي، استنادا إليه تحدد قيمة المشتق/المترجم، ذاك الذي يحدث من خلال الكلمات على أساس كونه تكرارا لذات الشيء بطريقة أخرى. لكن طبقة الأصلي التي تنكشف من خلال اللغة، لا تعدو تكون في جوهرها سوى المشتق، وقد غُير اسمه، ومنح قداسة ما هو أصلي التي تتحد بما للمعنى النهائي من حدة وقسرية. إذ ما من طبقة للأصلي إلا وتشكلت من خلال الكلمات، وتفرض كحد أقصى، منه يمكن أن تصنع الاشتقاقات. ومن هنا يظهر أن الصراع حول الترجمة الجيدة والترجمة السيئة، هو صراع حول صناعة الأصل من مشتقاته، وفرضه باعتباره كذلك، ومنع التطاول عليه. إنه صراع حول ما لم يوجد قط.
ليس للكلمات من أصل في الأشياء، بل هي استئناف للفجوة الفاصلة بينهما، لكنها مع ذلك تُكون كثافتها المحققة في مجال التجربة الإنسانية. إذ أن الأشياء تشرع في الوجود بالنسبة للإنسان عندما تتحول إلى كلمات. لذلك فالتجربة لدى هذا الكائن تتحقق على قاعدة هذا الالتباس بينهما، بل إن وجوده نفسه يتحول إلى تجربة حية من خلال هذا الالتباس بين وجوده الخام الذي ينزلق تحت الوجود الذي يولد في الاسم، والذي يجعل الوجود الخام متلفا تحت ضغطه. حينها ندرك بطريقة مغايرة، دلالة ما قاله بول ريكور عندما أكد أن ” كل ذات فاعلة متكلمة، تشكل الحد الأقصى للعالم، لا أحد محتوياته.”9 إن الترجمة على هذا النحو تعين الحدود القصوى لكينونة الإنسان من حيث هو الكائن الذي عليه أن يلم كينونته فيما يفلت منه باستمرار على الضفة البرانية لوجوده، محولا أثر هذا الضياع إلى ما يتقوم به وجوده، بالمصادرة على أن الموضوع معطى سلفا في تسميته، ليظهر أن أول أثر للفعل القصدي، أي الأثر الذي لا يمكن أن يكون دون تحول في طبيعة الوجود نفسه، هو التسمية. عندما نسمي نُحول.
يبدو أن الترجمة هي ما يستحق تسمية الفعل المحايث ليس للغة فقط وإنما لوجود الإنسان. يمس ذلك أيضا فكرة الزمن. إذ أن الترجمة في بعدها التقني الذي لن نتردد في وصفه بالقاصر، تعتبر نفسها حوارا مع الماضي متحققا في معنى تشكل ناجزا ومكتملا في زمن سابق عن زمن الترجمة. إنها تنشئ طبقة الأصلي في الماضي، الذي تحدده باعتباره زمن الاكتمال. وعلى هذا الأساس فهي تحبس المعنى في زمن مغلق، وتجعله متعلقا بما تم وكان، وليس بما ينبغي الحفاظ عليه كاحتمال حدوث. وتحدد ما ينبغي الوصول إليه في المستقبل على أساس أنه كان متضمنا أصلا فيما كان. بل الأسوأ من كل ذلك، فهي تجعلنا تحت وصاية ضمنية تقول إن الواجب الذي نتحمله إزاء الماضي مثوى المعنى والأصل، هو أن نفهمه، لنحظى بمعادله الجيد. وتصادر انطلاقا من ذلك على أن هناك من هو مؤهل لهذا الفهم الجيد للماضي، محولة عمله إلى نوع من السيطرة على الزمن في تشتته، وتملك للماضي من حيث هو ما يختزن المعنى ويدخره، ويسمح باستعادته. إنها بإغلاقها للزمن، تدفع في اتجاه جعله منظم انطلاقا من نقطة لازمنية، تؤهل الزمن لأن يكون عرضا لاكتمال يستفيض في نفسه إلى الأبد، هو المعنى. الذي يتباعد من حيث هو لحظة اكتمال، عن النقص الذي لن يكون إلا من نصيب سوء الفهم، العثرة التي يمكن أن تصيب التاريخ لكن دون أن تؤثر في اتجاهه لإعادة ما بدأ كاملا في الماضي. وهذا التصور يجعل الترجمة حركة في ذات الواحد، وإنجازا للكل الذي لا يختلف أبدا مع نفسه، طالما أنه متعلق بالحركة التامة لإغلاق الزمن، أي الحركة التي تكشف أن الزمن برمته معطى بشكل مسبق في الماهية، التي لا تسمح سوى بتكرار نفسها، وحفظ هذه الإمكانية كفعل كامن في كل حركة التي ينبغي أن تفصح عنه في كل لحظة من لحظاتها. إنها، تجعل الزمن مجرد مشتق من الماهية، وجهد لتكرارها.
ما يلغيه هذا التصور القاصر للترجمة، الذي يصادر على المعنى الأصلي والفهم الجيد له، هو كون الزمن ليس متعلقا لا بالماضي ولا الحاضر ولا المستقبل، وإنما هو القدرة على الحدث. بينا ذلك في مناسبة سابقة. 10 حيث لا تكون السيادة في الوجود إلا لما يستبقي نفسه كاحتمال حدوث، لما لا تفرضه أية ضرورة غير صدفته، طاقته الخلاقة التي تمزق به كل وحدة، وتجعل من الماهية شكلا فارغا، يمكن تصوره، لكنه ليس له أي مفعول في عمق الوجود. حينها تغدو الحركة التي يرسيها الحدث، هي ما يفلت من التصور، أي الحركة التي لا تتوقف عن إنتاج التمزقات، وإرساء الانقطاعات التي من دونها لا وجود لأي استئناف. والتي تجعل المعنى، ليس جهدا لحفظ ما هو مكتمل في الماضي، في زمن الماهية، وإنما الجهد الذي يضاعف طاقة الحدث في اللغة، موفرا من خلال الانقطاع الذي يرسيه، بزوغا جديدا للقوة التي تسمح لتسمية أخرى بأن تعمل وتشحن الوجود باحتمالات حدوث جديدة. وذلك أقرب إلى ما يعبر عنه عبد العزيز بومسهولي بـ” جلب الوجود إلى العالم”11 طالما أن الحدث هو قوة الانقطاع التي تجعل الاستمراريات تتوقف، فاسحة المجال لانبثاقات جديدة. فالحدث هو ما يمزق ذات الواحد، محولا إياه إلى أثر لما كاد أن يكون دون أن يُتم وجوده، مفعلا شكلا من الوجود لا يمكن أن نقول عنه أنه ناقص و لا مكتمل، طالما أن الناقص لا يطرح إلا في علاقة مع نقطة قصوى تحدد باعتبارها لحظة انغلاق دائرة الكمال.لأنه في عمقه انفصال، انفصال عن ذاته، و من ثمة فكل علاقة يرسيها معها تتم على أساس ما فقده منها، فتصبح جراء ذلك ما عليه إنجازه، بما يتضمنه ذلك من اشتغال للسلب، أو كما قال فيليب لاكو لابارث فالهوية، أو إنجاز الذات، هي دائما ممكنة كاشتغال للسلب.12 إن لحظة التزامن التي تُصنع من انسياب الزمن، و التي تحظى باسم الذات، لا تتمركز في ما يدركه الوعي من نفسه، إنها غياب في ما تدركه، تماما كما العين التي تُنسى فيما تراه. لذلك فكل ما تتحصل عليه من معرفة يظل محملا بثقل تراجيدي ، لأن المعرفة لا تتأتى إلا من خلال هذا الإنكار لما لا نعرفه المتملص في الاسم، هذا الأخير الذي يصير مكان تخفي اللامعرفة، و حضورها، متلبسة مظهر ما هو معروف بمجرد أن تصير مسماة.
في المونادولوجيا اللايبنتزية نعثر على تسمية جديدة للترجمة كفعل كوني لا يتعلق باللغة فقط، و إنما بالنسق الكوسمولوجي، حيث ينغلق الجوهر المفرد المتناهي على ما في اللامنتناهي، أو إذا شئنا أن نستعمل صيغة لايبنتز نفسه، فكل جوهر فرد يعبر عن جملة الكون على طريقته”13. إن الوحدة الكوسمولوجية ناتجة أصلا عن عمل متواصل للترجمة، يترجم فيها اللامتناهي نفسه بدرجات متفاوتة في الجواهر المفردة، بقدر تدرج الكمالات المترتبة عنها. ومن ثمة فالعقول حسب النظام اللايبنيتزي، هي أكمل الموجودات و أحسنها تعبيرا عن الألوهية14، وبصيغة أخرى فالعقول هي المكان الذي نعثر فيه على الترجمة الأكثر كمالا للألوهية. إنه نفس المبدأ الذي يشتغل، وهو تمييز كينونة في كينونة أخرى، والذي يكشف أن النظام الذي أرسي مسبقا، والذي لا يمكن تصور شيء خارجه، هو نظام ترجمة لا يقاس فيه معنى متولد داخل سياق خاص، بمعنى مثالي، وإنما يخطو في فيه كائن ما خارج نفسه، متحققا بطريقة ما في كائن آخر، هو نظام ترجمة في الأساس. وبتعبير آخر فالترجمة نظام كوسمولوجي، غير مشروط باللغة، وإنما هو الذي يشرطها.
كل ما يحدث هو أثر لانفصال ما. الإنسان نفسه لا يُفلت من هذا القانون. و الحياة التي هي في جوهرها حالة حرب دائمة، أو كما يقول هيجل ” الحياة معركة دائمة ضد القوى الأولية للموضوعية”15 ، تتدخل لتحدث الانفصالات اللازمة فيه، و تدفع القوى المتراكبة من خلاله لكي تقطع الواحدة منها استمرارية الأخرى. و بهذا المنطق يفصح هيجل أن الكائن الحي يموت لأنه تناقض.16 لذلك فالإنسان يتحدد من خلال اللغة التي يتكلم كمكان للانقسام، حيث لا تكون أية إمكانية للاسترسال في الكلام من دون الانقسام الذي يمليه الصمت، و حيث لا يكون أمامه مجال للاتحاد بأي موضوع يفترضه خارجيا إلا من خلال الانقسام في التمثل، و حيث لا يمكن أن يحتفظ بحضور الأشياء إلا وهي منقسمة في مملكة التسمية. إنه جملة من القوى التي تنزلق خارج ذاتها، وهي تعمل على تحصيل ذاتها. فكل ما يظهر من هذه القوى التي تكونه، لا يتحصل لديه إلا وهو مترجم في قوى أخرى. وكل كينونة لا تستطيع تمييز نفسها إلا في كينونة أخرى، والكل الذي يُفترض مستجمعا لتشتت الأجزاء ودالا على وحدتها، لا يمكنه أن يفصح عن نفسه إلا في تشتت أجزائه. وكل شيء مُطالب بخارج كضرورة للإعلان عن نفسه، إذ عليه أن يتملص منها في شيء آخر لكي يصير بطريقة ما معينا، أي أن ظهوره مقدر من قوة احتجابه في شيء آخر. احتجابه في التمثل، واحتجاب التمثل في التسمية، واحتجاب الجزء في الكل.. دون أن يغيب عنا أن هذا الاحتجاب تحويل، أي خروج من طبيعة إلى طبيعة أخرى. إنه ترجمة.
لكل ما سبق نتيجتان. الأولى أن الخارج هو قوة تحويلية جاذبة، تتحقق كضرورة داخلية لكل ما يمكن أن يكون مدلولا عليه، اي ما يدخل في التجربة الأنثروبولوجية ضمن نسق التسمية الذي يجعل الأشياء موجودات قابلة للمعرفة، اي محولة انطلاقا من الرغبة في المعرفة. لكنه ضرورة أنطولوجية للإنسان نفسه، وللقوى التي تتشابك من خلاله، محدثة هذا النتوء في صلب الوجود الذي يستحق تسميته. لكن الخارج هنا أبعد ما يكون عما وصفه لايبنتز بالقوة التي ستحافظ ” ليس على جوهرنا و حسب، إنما على شخصنا كذلك، أي على ذكرى ما نكون ومعرفتنا بها ..”17، إنه بالأحرى القوة التي تلزمنا بالتحول في اتجاه شيء آخر، والتي منها تظهر جلية رغبتنا في العالم. ويفضي ذلك إلى النتيجة الثانية، وهي أن العالم، من حيث هو حركة بين اللغات تتحقق على الضفاف الخارجية لكل لغة، لا يمكن تصوره إلا من خلال ضرورة التحول التي يمليها الخارج، والتي تستولي على قدرة الإنسان في الوجود. وهي المهمة التي يتحملها الإنسان بإملاء من هذه الضرورة، مستغرقا إمكاناته في تحويل نفسه، وتحويل الموجودات من حوله، بعيدا عن منطق إيجاد معادلات للتسمية والدلالة والموجودات. فالترجمة بهذا مهمة أنثروبولوجية ملازمة للحالة الإنسانية. فمع الإنسان كل شيء يبدأ مترجما.
هوامش:
1 ـ عبد الصمد الكباص: المجرى الأنطولوجي، دار إفريقيا الشرق الدار البيضاء 2006 1
2 – جاك ديريدا: الصوت و الظاهرة، مدخل إلى مسألة العلامة في فينومينولوجيا هوسرل،ترجمة فتحي إنقزو، المركز الثقافي العربي 2005 ص39
3 – فرديناند ألكيي: التوق إلى الخلود، ترجمة سناء خوري، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر، بيروت 2009، ص 41
4 – ه.ج غادامير: الحقيقة و المنهج، ترجمة حسن ناظم و علي حاكم صالح، دار أويا للطباعة و النشر، طرابلس 2007، ص 43
5 M.Mc.Luhan : pour comprendre les médias, seuil 2008, p 80
6 – هانس جورج غادامير: الحقيقة و المنهج، ص 44
7 – يقول فرديناند ألكيي” إن فكرة ما يدركه الوعي مرتبطة بالنسبة له بفكرة ما يفوت إدراكه..” التوق إلى الخلود، ص 9
8 – مصطفى صفوان : الكلام أو الموت، ترجمة مصطفى حجازي، المنظمة العربية للترجمة بيروت 2008، ص 94 ـ 95
9 ـ بول ريكور : الذات عينها كآخر، ترجمة جورج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2005، ص 150
10 ـ انظر عبد الصمد الكباص و عبد العزيز بومسهولي: الزمن و الفكر، دار الثقافة الدار البيضاء 2002
11 ـ عبد العزيز بومسهولي: الفلسفة و الحاضر، المركز الثقافي العربي بيروت 201611
12 – P.Lacoue-labarthe : l’imitation des modernes, typographie2, p 213 , 1986
13 ـ لايبنتز: مقالة في الميتافيزيقا، ترجمة الطاهر بن قيزة ، المنظمة العربية لترجمة بيروت 2006، ص 120
14 ـ لايبنتز: مقالة في الميتافيزيقا، ص 201
15 ـ هيغل: موسوعة العلوم الفلسفية، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي القاهرة بدون تاريخ، ص 456
16 ـ هيغل: الموسوعة ، ص 457
17 ـ لايبنتز: مقالة في الميتافيزيا، ترجمة الطاهر بن قيزة، المنظمة العربية للترجمة بيروت 2006، ص 200