شتاء 2013
كنت أتوهم أن القطط تكتب بدلاً مني.
بعدما مللت السيجارة، اطفأتها في الصحن المعدني الصغير، بدا عقبها كجثة هامدة. السيجارة أيقونة الدم الفاسد؟ في لحظة ترتقي الموسيقى الهادئة لتكون أجنحة لقعلي المسافر نحو العزلة الهائلة، نحو الاختلاء الذاتي.
الليلُ يجدُ ملاذه في الشتاء. أحسبه ديواناً مكتوباً بلغة الغيوم. العتمُ الزائد يغمر ليل البلدة الساحلية، الكهرباء مقطوعة، مولّد الاشتراك معطّل، وحده المعمل الحراريّ مضاء، الصقيعُ على أشدّه، يتحول الليل إلى كابوس.
الإله غاضب، لكن العاصفة ليست مضجرة. اختلي مع ذاتي وأحاور عيني المنصتة للأشياء. يرفع القط الفارسي ذيله ويمشي من عتبة البيت إلى غرفة النوم، يعود رافعاً ذيله ويجلس عند عتبة الباب، وعينه تنصت للأشياء.
لا ضوء يأتي من الشارع. المطرُ، بل صوت المطر جعلني أجلسُ على كرسي الخيزران في صالون بيتي، في ذلك اليوم من أيام كانون الثاني (يناير) عام 2013. صوت المطر يجعلني أحلم دائماً، وأنسى هدير اليو بي اس في المطبخ. صوبيا الغاز الرديئة لا تبعث الدفء أمامي، لكن استمتع بتقليب حبات الكستناء التركي على سطحها حتى تنضج، هي لحظة تحتاج بيتاً هادئاً مع نار الشامينيه وطقوسها. أفكرُ بماذا تحلم القطط وهي تنظر إلى أصحابها. يقدر المرء أن يقرأ في عيون القطط مسار الزمن، يقدر المرء أن يرى في عيونها أسرار الغرباء في المدن. بودلير كتب أكثر من مرّة عن القطط وعيونها الفوسفورية المشعة، مطابقاً بين سحرها والمرأة، إذ هي الإيحاء الدامغ لفتنتها وعطرها. وغير ذلك، فالقطط لها علاقة غريبة بالزمن والوجود والأبدية… عن الساعة التي كان يراها الصينيون في عيون القطط كتب بودلير في قصيدة نثرية: “ما الذي تنظر إليه بكل هذه العناية؟ عن أي شيء تبحث في عيني هذا الكائن؟ هل ترى فيهما الساعة، أيها الزائل، المسرف، الخامل؟ سوف أجيبه بلا تردد: نعم، أرى الساعة.. إنها الخلود!”. كان بورخيس لا يفك عن اقتناء القطط، حتى أنه كتب قصائد عديدة فيها وكان يراقب تحركاتها ويمعن التفكير فيها. اعتقد بورخيس بأن القطط أكثر استقلالية من بين الحيوانات، وما كان يلهمهُ أكثر هو إحساسه أنها أزلية ولها أكثر من حياة واحدة! القط الأسود، يقول إدغار بو، هو الهيئة التي تتلبسها روح المنتقم. “كان هيام القط بي يزداد بازدياد بغضي له، فكان يتبع خطواتي بثبات يصعب إيضاحه، فحيثما جلست، كان يجثم تحت مقعدي، أو يقفز إلى ركبتي ويغمرني بمداعباته المقززة، فإذا نهضت لأمشي اندفع بين قدمي وأوشك أو يوقعني، أو غرز مخالبه الطويلة الحادة في ثيابي ليتسلق إلى صدري، ومع أنني كنت أتحرق في مناسبات كهذه لقتله بضربة واحدة” يواجه بطل القصة، الأهوال بعد أن يقلع عين القط ثم يعمد إلى قتله. تعود روح القط لتنتقم منه، أولاً بأن تدفعه إلى قتل زوجته ثم باكتشاف الشرطة أمره بعد أن دفن زوجته وراء الحائط.
كنت أراقب عيون القطط أشعر أن حياتنا في المباني، حتى خارج بيروت، أشبه بحياة الصراصير والحشرات، أقسى ما لديه المرء هو البقاء في دائرة الاختباء في جيازة الزمن. أتحسس الزمن بلا ساعة، أسمع صهيل العاصفة من خلال الكتابة، إنه شتاء 2013، بضعة شهور وأصبحُ في الأربعين وأدخلُ أزمة منتصف العمر، قرأت التجربة قبل أن أعيشها، أتفادى الكتابة عن العمر لأن في احتساب الزمن مصدر الخوف، حسب الفيلسوف محمد إقبال فإن الزمن ليس دورة الفلك بل حالة النفس. وتروي حكايات لبعض الشعوب البدائية، وبخاصة في أفريقيا، أن هبة الخلود السعيدة التي تتحقق من خلال عملية بسيطة تتمثل في تغيير الجلد بانتظام في فترات ثابتة كان يملكها الإنسان ولكنها تحولت منه الى الكائنات الدنيئة نتيجة حدث غير سعيد، ضيعها بسبب حماقة ما، فاكتسبتها الحيات وسرطان النهر والسحالي والخنافس… يحاول الكاتب ان يبدل جلده من خلال الكتابة، يحاول في كل مرة ايجاد جلد جديد، ولكن…
مضى عشرون عاماً على بدئي في الكتابة، ولم اغيّر جلد التعاسة، والآن احسب أني لم أكتب شيئاً. انتبهت إلى أن ساعة الجدار في الصالون، تتك وعقربها لا يتحرك، كانت تلك الساعة الوحيدة في البيت التي اعتدت أن أنظم وقتي من خلالها. في زمن غابر كنت أقيس الوقت بالظلال، وفي لحظة أصبحت الظلال تائهة، بتنا نقيس الحياة بالأوبئة والاسمنت الخرساني والأبراج الزجاجية التي تحجب البحر والسماء وتغيير الجلد…
في المكتبة العامرة بالكتب والخيبات، ثمة أرفف كثيرة لكتب الشعر، لم أقترب منها منذ سنوات، أشعر أن مزاجي يتحلل، لا قدرة لي على تحمل قراءة قصيدة. وفي ذاكرتي الكثير من حكايات الجدّات لكني لم أكتبها، ولا جدوى من كتابتها.
لقد مضت سنتان ولم يتوقف القتل في سوريا، مللت القراءة عن الحرب أيضاً. عيون القطط لا تقول شيئاً عن الحرب، أشعر بالعجز عن الكتابة عنها. مضت سنتان على الثورة في مصر، اشعر بالتشاؤم، أنا رجعي ربّما، مضت سنتان على رحيل أبي، أشعر بالذنب لأني كتبت عنه ذات يوم على طريقة الأدباء، تطفلت عليه… كل شيء يتحول، ولا شيء يبقى على حاله، سواء في المدينة أو في الكتابة. أرصد الكعبة التي يحج اليها المسلمون فألاحظ ان الكثير من معالمها ازيلت،
أمامي مجموعة من الروايات أشعر أنها تسرق الزمن ومجموعة من الصور القديمة عن بيروت، أمرر إصبعي على بريق بعض الصور، أمسح الغبار القليل، يتظهر لي أن المدينة بلا ملامح الآن، والحياة مرصوصة داخل العلب، معظم ما أراه في الصور القديمة اختفى، نهر بيروت، مقاهي ساحة البرج، ترمواي شارع بلس، سينما الريفولي، سفوح الروشة، الساحات، زهر الصبار، العصافير. شيئان ازدهرا في زمني، النارجيلة والأبراج الزجاجية، هذيان التراث وهذيان الحداثة. تخيلت بيروت نارجيلة مشتعلة، قرقعة مياهها تثير القشعريرة. لا أعرف لماذا راودني هذا التخيّل، ربما لأني حين أمشي في بعض شوارع بيروت، أشعر أني في غابة من النراجيل والسماء دخان وأنا أبحث عن الهواء لأتنفس. مع ذلك سكنت هنا في المنزل الجديد، بتّ أشعر أني هنا، بين جدران منزلي بينما في الحقيقة أنا عالق في مكان لا أنتمي إليه، حين أفكر بالكتابة، تحضر علامات وروائح وابتسامات وتعابير من ذلك المكان الذي غادرته. كأن الكتابة تقول لي لحظة المنفى والتشرد والغربة.
ما لم أكن أتوقّعه في نشرة الأخبار المسائية، تقرير خاص مع موسيقى حزينة واندفاع كلامي، يقول إن أولغا قتلت عليّ بلس، المتشرّد في رأس بيروت. كان المراسل مندفعاً في الحديث عن علي ومأساته ويلقي اللوم على الناس والدولة….
جاء في التقرير:
قلة فقط من رواد شارع الحمرا كانت تعرف اسمه، إلا أن غالبيتهم حفظوا شكله وصورته.
شعره أشعث ولحيته طويلة وكثيفة وفي يده سيجارة.. ثيابه رثة يحادث نفسه ويجادلها.. ومع أن كثيرين كانوا ينفرون من هيئته إلا أنه يوما لم يقم بالتحرش بأحد أو مضايقته.
عُثر أمس على جثة علي عبدالله الرجل المشرد في شارع الحمرا أمام مطعم ماكدونالدز.
وبحسب الشرطة فان عبدالله نقل في الساعة الثانية والنصف من بعد ظهر أمس الى مستشفى المقاصد وقد توفي لأسباب طبيعية.
كثير من الناس لم يعرفوا اسم هذا الرجل الذي اتخذ من شارع بلس مأوى له على مدى 10 أعوام تقريبا، وكان أصحاب المحلات يؤمنون له الملابس والطعام والاستحمام وحلاقة الشعر أحياناً.
يقال إن علي كان يعاني من اضطرابات عقلية بعدما كان دكتورا في الجامعة الأمريكية في بيروت. ويتساءل البعض لماذا لم ينقل الرجل حين وفاته الى مستشفى الجامعة الأمريكية وهو الذي عاش وتوفي قربها؟ بل نُقل الى مستشفى المقاصد في طريق الجديدة…
من بعد الخبر التلفزيوني، قرأت في جريدة الرأي العام الكويتية في 10 يناير 2013:
إلى أنه مات “من البرد، لم يكن احد يعرف عن علي عبدالله الذي كان “يموت على البارد” منذ اربعين عاماً إلا أنه مشرّدٌ “استوطن” زاويةً في شارع بلس قرب الجامعة الأمريكية في بيروت.
فجأة، صار “علي بلس”، العجوز الذي عجزت “أجيال” الشارع الجامعي عن فكّ “لغزه” نجماً لمواقع التواصل الاجتماعي “فايسبوك” و”تويتر” التي سرعان ما وجد على صفحاتها “سقوفاً الكترونية” احتضنت صوره، هو الذي كان العراء “بيتَه” على مدى اربعة عقود.
كانوا كل يوم يمرون بجانبه ويرصدونه… بلحيته التي “التحفها” وجهُه النحيف و”المحفورةُ” في تجاعيده أعوامه التي تناهز السبعين… بعينيه اللتين حوّلهما “بئراً عميقة” لسرٍّ لا يَسرّ وانحرف معه مسار هذا الرجل “الى الطريق”… وبسيجارته التي لم تفارقه وكأنّها “رفيقة الدرب” الوحيدة و”دخان” الذكريات الذي يربطه بـ “نارٍ” اكتوى منها لعقود.
لم يعتقدوا يوماً ان علي الذي صار من “معالم” بلِس بعد الحرب الاهلية اللبنانية سيغيب عن “الموعد”، لكنه رحل مع العاصفة التي تضرب لبنان هذه الايام والتي حملته على “اجنحتها” الى موتٍ كان يعيش “من قلّته”، والى برْدٍ ساكَنه على مدى 40 شتاءً، الى ان قتله في الـ 2013.
الزاوية التي كان يفترشها تحوّلت “مزاراً” لعيونٍ تفتّش عن ذاك العجوز الذي صارع القدَر الى ان صرَعه الصقيع فتوقّف قلبه في ليلةٍ نام فيها و… رحل.
وراءه ترك روايات كثيرة حوله. فالبعض قال انه كان بروفيسورا في الرياضيات في الجامعة فقدَ عائلته خلال الحرب الاهلية بعدما تعرَّض افراد منها للاغتصاب، والبعض الآخر لم يتوانَ عن الاشادة بثقافته العالية التي قربت اليه مثقفي الشارع الذين كانوا يجالسونه لساعات في “مناظرات” فكرية.
لكن علي مات على الرصيف الذي “حفر” اسمه عليه… لم ينعِه احد، حتى ان احد القضاة “أهداه” ليكون منزله “تحت التراب”، الا ان مواقع التواصل الاجتماعي “كرّمته” بصور وكتابات و… دمعة.
***
11 كانون الثاني(يناير)
طاقتي لم تحتمل الحزن.
أنا وحيد في الصالون، القطة الفارسية لا زالت في مكانها، طوال النهار كان الناس يتحدثون في وسائل الاعلام وعلى صفحات الفايسبوك، وكأنهم لم يشاهدوا الثلج من قبل، كأن الثلج بات من سلالة الديناصورات. بعضهم خزّن المؤن خوفاً. وسائل الإعلام المحلية بالغت في تضخيم العاصفة الى درجة جعلتها أكبر عاصفة في التاريخ. الصيادون في مدينة صور اللبنانية لاحظوا ظاهرة غريبة وتحصل للمرة الاولى، العاصفة حملت أسراباً من الاسماك من مناطق مجاورة، ويعتقد أنها من الشواطئ الفلسطينية، حيث هناك مزارع للأسماك خربت وتشتتت الأسماك جراء العاصفة وحملتها الامواج والرياح الى شواطئ لبنان”، وقال البعض إن هذه الاسماك من نوع “اجاج”.
كاميرا التلفزيون في نشرات الأخبار كأنها في حالة عشق مع صور الخراب، السيول تحمل الأوحال والأتربة والأوساخ وعجلات السيارات المستعملة والحصى في بعض المناطق القريبة من نهر الغدير، السيول تجرف النفايات وتغزو المنازل المبنية على عجل في عشوائيات ضواحي المدينة. ما تجرفه المياه في لحظة المطر هذا هو لبنان. نقرأ الواقع من خلال النفايات وليس من خلال الأفكار والخطابات. زبالتنا تروي واقعنا. منذ أن وصلت إلى منطقة الساحل كنت أنتبه إلى أن جبال النفايات هي بوابة المدن اللبنانية، لم يذهب جبل النورماندي من رأسي؟ النفايات تروي معنى الأشياء. وكذلك الجرذان. في ذلك المساء، كنت أرى تدفق المجرور الذي يسمى نهراً في المنطقة المكتظة في محيط نهر الغدير. تلك المنازل المتهالكة التي يمكن سقوطها على رؤوس أصحابها. صراخ النساء لا يردّ تدفق مياه الأمطار، ومهاجمة غياب الدولة لا يفيد في لجم جنون الرعد. الشتاء ربما يجلب لنا الرشح لكنه يخفف عنا عبء غبار معمل الاسمنت القريب ودخان معمل الكهرباء الحراري الأسود، قدرنا أننا نعيش في الهواء السيئ والتعيس الذي يودي بنا الى الهلاك.
ستارة الشرفة البرتقالية تتمزق. أقرأ في “محاكمة كافكا الأخرى” لإلياس كانيتي، “بينما كنت أتنزه صادف كلبي خُلداً يقطع الطريق، استمر في القفز عليه ولم يتركه وشأنه فهو كلب صغير وخجول. في البداية تسليت وأحببت بشكل خاص اهتياج الخُلد وهو يبحث عن حفرة في السطح القاسي للطريق بشكل يائس وعديم الجدوى. ثم فجأة عندما سمع ضربة الكلب مرة أخرى بكفه الممتد صرخ ك س، كس بهذا الشكل تماماً. عندئذ فكرت، لا لم أفكر في شيء. فقط كنت في حالة هذيان لأن ذلك اليوم تدلّى رأسي بثقل لدرجة أني لاحظت بدهشة في المساء أن ذقني قد نبتت في صدري”. في لحظة وأنا أقرأ تلك العلاقة الدرامية السوداوية بين كافكا وفيلس، ظننت نفسي الخُلد والكلب، الخلد لأن لا أحد يستجيب لدعائي والكلب لأن الكتابة جعلتني أنصاع لها في كل شيء.
أشرب القهوة أكثر مما أقرأ، عدا القلق الذي تحدثه جرعات القهوة، هناك قلق الكتب التي أقرأ بعض نصوصها. أنظر الى القط، لا أعرف إلى أين ينظر؟ لا أعرف بماذا يحلم؟
علي بلس مات. توقعت أن ينهال رواد الفايسبوك بالتعليقات على حادثة الوفاة بالشعر والتنظير والرثاء.
(*) فصل من كتاب يصدر قريبا
محمد الحجيري *