عباس يوسف الحداد (باحث واكاديمي من الكويت)
إن عين الإصلاح عند العاذل هي عين الإفساد عند الصوفي، وفي هذا التباين علة تحول الصديق إلى عاذل، وقد ارتبط التحول في العلاقة بين الأنا والصديق العاذل بتحول الأنا نفسها من الثنوية إلى التوحيد، مما يوجب وقوع المباينة بين صاحب الظاهر وصاحب الباطن.
الفقيه والصوفي كلاهما عاذل ومعذول، ولهذه العلاقة المتوترة مظهران:
أولهما: مظهر اعتقادي يتجلى في رؤية كل منهما للعلاقة بين الحقيقة والشريعة، وبين فقه الظاهر وفقه الباطن، أما ثانيهما: فيتمثل في تجليات هذه العلاقة في الخطاب الشعري كما تصوره القصيدة الصوفية.
ويهدف هذا المبحث إلى التوقف بالدراسة عند هذين المظهرين فيستجلي:
أولا: أسس الخلاف بين النظرتين ويُعَيِّن الأصول الفقهية والشرعية التي يستند إليها الفقيه في موقفه من التصوف، ثم يعمد ثانيا: إلى الوجه الفني الذي ينعكس به هذا الخلاف في القصيدة الصوفية؛ ليستكشف صورة الفقيه في القصيدة والكيفيات التي اصطنعها الشاعر الصوفي لصياغة منطق العاذل الديني، والردِّ عليها بما يخضع للمقتضيات الشعرية لغة وصياغة، وتصويراً، وتأثيراً.
ونبدأ الآن بمعالجة القضية في مظهرها الأول وهو المظهر الاعتقادي كشفاً لجذور الإشكال، وتأصيلاً لجوهر الخلاف.
اقترن التصوف في بدايته بالزهد، إذ كانت السمة الغالبة على أهل التصوف هي الزهد في الدنيا، والانعزالية والانقطاع عن مخالطة الناس، حتى بات التصوف مظهراً آخر للزهد، وقد حدا ذلك بأبي عبد الرحمن السلمي (ت412هـ) إلى أن يحصر شرائط التصوف ويحدده بأنه »ما كان عليه المشايخ المتقدمون من الزهد في الدنيا والاشتغال بالذكر والعبادة والغنى عن الناس… »(١). وقد تابع ابن خلدون (ت808هـ) السلمي في تعريفه وحَدّه للتصوف في مبدأ نشأته، فقال: »الصوفية.. أصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة وجاه،..«(٢).
فالعلاقة ما بين الزهد والتصوف تجعل الأولَ أصل الثاني، إذ يتقاربان إلى حَدِّ التطابق، ويتفقان في كونهما انقطاعاً عن الخلق، وانشغالاً بذكر الحق، أو كما قال إبراهيم بن أدهم مُوصيا: »اتخذ الله صاحباً، وذَرْ الناسَ جانبا«(٣).
وبذلك كان الزهد هو جوهر التصوف في نشأته وبدايته(٤)، حتى إنّ أوّل من لقب بالصوفي في بغداد كان يدعى أبا هاشم الزاهد(٥).
وعند النظر إلى الطبقة الأولى من الصوفية في أقوالهم وأحوالهم – كما وردت عند أبي عبد الرحمن السلمي – نراهم جميعاً يتشحون بالزهد مسلكاً وبالأخلاق سلوكاً، وجُلّ أقوالهم وأفعالهم منصبة على الأخلاق، تأسياً بالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى الأخلاق، إذ قال: »إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق«(٦). ومن هذا الباب اتحد التصوف بالزهد، واتصفت الطبقة الأولى من رجال التصوف بالصوفية الزهاد.
لم تلق هذه الدعوة الكريمة التي حَضّ عليها التصوف الإسلامي معارضة أو رفضاً من الفقهاء الذين عاصروا الطبقة الأولى من الصوفية، بل كان معظم الفقهاء يجلّون صوفية عصرهم ويقدرونهم تقديراً خاصاً، ويوافقونهم على معظم أقوالهم وعلى جُلّ أفعالهم بما هي سلوك قويم يعتمد الكتاب والسنة من جهة، ويسعى إلى التخلص من الشوائب، والارتقاء بالنفس البشرية والسمو بها من جهة أخرى.
وربما كان وجه الافتراق بين الزهد والتصوف يكمن في غاية كل منهما، فإذا كان الزاهد يتعبد طمعاً في الجنة وخوفاً من النار، فإن الصوفي يعبد الله محبة فيه ورغبة في الاتصال به(٧).
غير أن السلوك الصوفي في أواخر القرن الثالث الهجري قد نحا بالتصوف منحى جديداً، إذ لم يقف عند حَدِّ الزهد سلوكاً بل صار رجاله يتحدثون عن مواجيدهم بلغة التجريد، وراحوا يسكون مصطلحاتهم ويتعاملون مع التصوف بما هو »علم« فظهرت مصطلحات كالجمع والفرق، والإطلاق والتقييد، والاتصال والانفصال، هذا فضلاً عن تأويلهم للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية تأويلاً يخالف المعهود من تفسير وبيان، وربما كان صادماً للفهم السائد للنصوص آنذاك.
وقد أثار ذلك حفيظة الفقهاء من بعد، فراحوا يحاكمون التصوف بأثر رجعي معتمدين على حديث »البدعة« الذي جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، حين قال: »إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.. «(٨).
وقد تطور مفهوم »البدعة« من خلال هذا الحديث النبوي الشريف على يد الفقهاء ليصبح مصطلحاً فقهياً يطلق على كل مخالفة لاتباع سنة النبي، وكان الشافعي – رحمه الله- يرى »أن كل مستحدث يخالف القرآن أو السنة أو الأثر بدعة تؤدي إلى الضلال«(٩)، وكان الحنابلة من أكثر المذاهب الإسلامية تشدداً في مفهوم البدعة، إذ يرون على المؤمن وجوب الأخذ بالاتباع »اتباع السنة« ورفض الابتداع.
وليس من قبيل المصادفة أن يكون معظم من ناهض التصوف ووقف منه موقفاً متشدداً في تاريخه الطويل هم من الحنابلة، كابن الجوزي (805 – 597هـ) وابن تيمية (661 – 728هـ) وابن القيم الجوزية (961 – 751هـ).
وما لبث التصوف أن بدأ بترسيخ الجانب الاعتقادي (الأيديولوجي)، والانتقال من مرحلة السلوك البسيط القائم على الزهد، إلى مرحلة التأسيس لفكر صوفي يقوم على وجهة نظر اعتقادية ترى أن لكلِّ ظاهر باطناً، ولكلِّ شريعة حقيقة، وأن تأويل النصوص القرآنية يعين على فهم الوجود، ويعمق لدى المؤمن رؤية روحية ترتقي بصاحبها في مدارج المعرفة إلى غير ما نهاية في مقابل ثبات الرؤية المادية الظاهرية للوجود.
ولم تكن رؤية الصوفية في هذا القول مقطوعة الصلة بجذورها السلفية، فلقد رُوِيَ أن الإمام عليَّا قال لعبد الله بن عباس – رضي الله عنهما- حين أرسله لجدال الخوارج: »لا تخاصِمْهُم بالقرآن، فإن القرآن حَمّالُ ذو وجوه.. «(10). ومقتضى هذا النص العلويّ أن الدلالة في القرآن لا تحصرها دلالة العرف في الكلمات، ولا تحبسها اجتهادات النحاة في الإعراب بما هي كلمات الله، »ولو أنما في الأرض من شجرةٍ أقلامُ والبحرُ يَمُدُّهُ من بعده سبعةُ أبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كلماتُ اللهِ إنّ الله عزيزُ حكيم«(١١).
فليس الأمر إذاً في شأن التأويل مقصوراً على الصوفية دون غيرهم، بل هو ضرورة تقتضيها مواجهة النص القرآني اللامحدود بالاجتهاد البشري المحدود.
من هنا سعى الصوفي من منظوره إلى فهم الشريعة فهماً لا يقفها على الجوارح وحسب، ولا يحبسها على ظاهر قيام الإنسان، أو يربطها بحركات البدن، وإنما أخذ يرتقي بها إلى ما وراء البدن، ويربطها بالقلب وعالم الفكر، فطالب الحقيقة ذو قلب مشغول بالله على الدوام، ومن هنا لا تنحصر قضية الحلال والحرام – على سبيل المثال- عند حَدِّ رؤية الفقهاء والمشرعين لفقه البدن، وإنما تنتقل في الفكر الصوفي إلى ما يمكن أن نسميه »فقه القلب« أو »فقه الروح«(12).
لقد صَرَف الفقهاء – من المنظور الصوفي- جُلّ اهتمامهم إلى المظهر المادي من الإنسان، وأهملوا المظهر الروحي الذي لا تقوم المادة إلا به، أما الصوفية فقد أخذوا على عاتقهم الاعتناء بالروح وتزكية النفس وأسسوا من خلاله عقيدتهم ومنطلقهم الأيديولوجي في فهم الدين والعالم والوجود.
وانتهى الصوفية إلى ضرورة نشدان الكمال بالنظر إلى الإنسان بما هو مادة وروح، فإذا كانت الشريعة تُنَظم علاقة الإنسان بوجوده المادي، فإن الحقيقة تُنَظم علاقة الإنسان بوجوده الروحي، فلا حقيقة من دون شريعة، ولا شريعة من غير حقيقة، إذ الشريعة والحقيقة هما وجها الدين. وقد نبه الإمام أبو حامد الغزالي (ت٥٠٥هـ) في كتابه »الإحياء« على ذلك قائلاً: »من قال إن الحقيقة تخالف الشريعة أو الباطن يخالف الظاهر، فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان«(13). »فإقامة الشريعة بدون وجود الحقيقة محال، وإقامة الحقيقة بدون حفظ الشريعة محال، ومثلهما كمثل شخص حي بالروح، فعندما تنفصل عنه الروح يصير جيفة، وتصير الروح ريحا، فقيمتهما في اقترانهما ببعضهما البعض. وكذلك الشريعة تكون بدون الحقيقة رياء، وتكون الحقيقة بدون الشريعة نفاقا، يقول تعالى: »والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا«(14)، فالمجاهدة شريعة، والهداية حقيقة، والأولى هي حفظ العبد لأحكام الظاهر على نفسه، والثانية هي حفظ الحق لأحوال الباطن عن العبد. والشريعة من المكاسب، والحقيقة من المواهب« (15).
وقال أبو سعيد الخراز: »كل باطن يخالف ظاهراً فهو باطل« (16).
لقد تحول التصوف من السلوك إلى التأسيس للعقيدة الصوفية، ومحاولة الترسيخ لهذه العقيدة من خلال التأليف والتصنيف، وكان من أبرز ما ألف في علم التصوف رسالة الإمام القشيري (ت465هـ) و»اللمع« للسراج الطوسي (ت378هـ)، و»التعرف لمذهب أهل التصوف« للكلاباذي (ت412هـ)، وينضاف إلى ذلك »طبقات الصوفية« لأبي عبد الرحمن السلمي (ت412هـ) وتفسيره للقرآن الذي يُعَدّ أول تفسير صوفي للقرآن.
كانت جُلّ المؤلفات رَدّاً بطريق غير مباشر على من أفتى من الفقهاء بفساد الطريق الصوفي، وَكفَّر أصحابه، وظَاهَر على صلب الحلاج، وراح يخلط في عقيدة الصوفية بين الحقيقة والدعوى، ومن ثم نَبّه الطوسي في مقدمة كتابه على هذا الأمر قائلاً »وينبغي للعاقل في عصرنا هذا أن يعرف شيئاً من أصول هذه العصابة (الصوفية) وقصودهم، وطريقة أهل الصحة والفضل منهم حتى يميز بينهم وبين المتشبهين بهم، والمتلبسين بلبسهم، والمتسمين باسمهم حتى لا يغلط ولا يأثم، لأن هذه العصابة – أعني الصوفية – هم أمناء الله عز وجل في أرضه… واعلم أن في زماننا هذا كثر الخائضون في علوم هذه الطائفة، وقد كثر أيضاً المتشبهون بأهل التصوف، وكل واحد منهم يضيف إلى نفسه كتاباً قد زخرفه، وكلاماً ألفه، وليس بمستحسن منهم«(17).
وفي هذه الكلمات التي افتتح بها الطوسي كتابه بيان واضح يعبر عَمَّا حاق بدعوة أهل التصوف من عند عامة الناس من لبس وغموض، اختلط به الصوفي الذي أقام تصوفه على الكتاب والسنة، بمن راح يدعي التصوف حتى صار مظهراً باطلاً عليه، وتوقف الفقيه عند المنحرف المدعي، وراح ينتقد التصوف من خلاله من غير تعرف أصل المذهب وشيوخه، وربما كان هذا أصل الأسباب الحافزة إلى تأليف كتب البدايات الصوفية، تلك التي ما برحت تترجم لرجال الطريق، وتبين ارتباطهم بالكتاب والسنة، وتوضح صحيح عقيدتهم الدينية، وعدم خروجهم لفظاً أو معنى عن حقيقة الدين. وقد بين القشيري ذلك في مقدمة رسالته، قائلاً: »اعلموا أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا بها عقائدهم عن البدع، ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل… وأحكموا أصول العقائد بواضح الدلائل ولائح الشواهد«(18).
إن في إشارة القشيري إلى صيانة أهل التصوف لعقائدهم من البدع واتباعهم لما وجدوا عليه السلف وأهل السنة ردَّا ضمنياً على الفقيه الذي ما برح يخرِج الصوفي عن الملة ويحاول وصم سلوكه وأقواله بالبدعة.
وقد شهدت العلاقة بين الفقيه والصوفي تحولاً ظاهراً بعد عصر الطبقة الأولى من الصوفية، حتى إن ما لم يكن منكراً من معاصريهم من الفقهاء بات بدعة ذميمة عند المتأخرين منهم. وأفرد ابن الجوزي في أول كتابه »تلبيس إبليس« باباً في »ذم البدع والمبتدعين« عرف فيه البدعة، وأسس للمصطلح الفقهي بما يناسب رؤيته الفقهية، قائلا: »البدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتُدِع، والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة، وتوجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان، فإن ابتدع شيءٌ لا يخالف الشريعة ولا يوجب التعاطي عليها فقد كان جمهور السلف يكرهونه وكانوا ينفرون من كل مبتدع وإن كان جائزاً حفظاً للأصل وهو الاتباع«(19).
فالاتباع عند ابن الجوزي هو الأصل، والابتداع مرفوض لأنه طارئ مخالف، وبهذا يجعل الصوفي وغيره في زمرة المبتدعين المخالفين للاتباع، ويرفض جميع أفكارهم، لأنها مخالفة للاتباع الذي هو الأصل المعتمد.
وهكذا أخلص ابن الجوزي في كتابه »تلبيس إبليس« قسماً كبيراً لنقد مذهب الصوفية، وكيف أنهم سموا علم الشريعة بالعلم الظاهر، وهواجس النفوس بالعلم الباطن، وجعلوا الأول وقفاً على الفقهاء، أما هم فقد استأثروا بالعلم الثاني، محتجين بما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: »علم الباطن سر الله عز وجل، وحكم من أحكام الله تعالى يقذفه الله عز وجل في قلوب من يشاء من أوليائه«(20)، وقد رَدَّ ابن الجوزي هذا الحديث بأنه لا أصل له عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن في إسناده مجاهيل لا يعرفون.
ثم نقد ابن الجوزي الكتب الأساسية في التصوف وأصحابها، وأخصها كتاب »طبقات الصوفية« لأبي عبد الرحمن السلمي (ت412هـ)، و»اللمع« لأبي نصر السـراج الطوسي (ت378هـ) و»قوت القلوب« لأبي طالب المكي (ت386هـ) و»الحلية« لأبي نعيم الأصبهاني (ت430هـ) و»الرسالة القشيرية« لأبي القاسم القشيري (ت٥٠٥هـ)، وعلل السبب في تصنيف هؤلاء لهذه الكتب بـ»قلة علمهم بالسنن والإسلام والآثار وإقبالهم على ما استحسنوه من طريقة القوم«(21).
ويرى ابن الجوزي أن التصوف كان رياضة نفس ومجاهدة طبع عند الشيوخ الأوائل، إلا أن ذلك الوقت قد مضى، وجاء قوم من الأدعياء تلبس إبليس عليهم فصدهم عن العلم وأراهم أن المقصود به العبادة والعمل »وقد كان أوائل الصوفية يقرون بأن التعديل على الكتاب والسنة، إنما لبّس الشيطان عليهم لقلة علمهم«(٢٢).
وربما كان التعديل على الكتاب والسنة الذي قصده ابن الجوزي هنا هو أن الصوفية فَعّلوا عملية التأويل للنصوص فجاءوا بمعان لم تكن معهودة عند الفقهاء، وبمفاهيم لم تكن مطروقة عند الصوفية الأوائل.
لقد أرسى ابن الجوزي في كتابه »تلبيس إبليس« القواعد الأساسية في نقد الصوفية و»رصد التطور العكسي لتاريخ التصوف الإسلامي وانحرافه عن المفهوم الأخلاقي والزهدي الذي ساد عند الصوفية الأوائل، وسقوط القيم الأخلاقية التي قال بها الأوائل والقول بنظريات مخالفة كالحلول والاتحاد«(23)، كما وضع الإطار النظري المنهجي في الاتباع والابتداع الذي سيكون الدعامة الأساسية في نقد الفكر الصوفي والذي سينهض عليه – بعد ذلك – نقد شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ) للفكر الصوفي والممارسات الصوفية، حيث كان من أبرز من تصدى من الفقهاء للفكر الصوفي ونقده بين السابقين واللاحقين.
تمثل مصنفات ابن تيمية (ت728هـ) مجمعاً لتراث الجدل العقدي الذي عالج جميع قضايا الدين من مناظيرها المختلفة، فقهية وصوفية وكلامية وفلسفية. ولقد أتاحت هذه المعرفة المحيطة لابن تيمية قدراً من سماحة الفكر، وبصراً ونفاذاً كانا يعصمانه في كثير من الأحيان من الخوض في التسفيه، أو التورط بالخروج من نقد التفكير إلى الحكم بالتكفير إلا في عدد من القضايا التي رأى فيها – من وجهة نظره- مخالفة صريحة لأصول الدين لا يشوبها احتمال ولا يتطرق إليها شك.
من هنا لم تختلف طريقة ابن تيمية في نقد الصوفية عن طريقة سابقيه، إذ ميز بين الأوائل والمتأخرين من أهل التصوف، وكان له رأي حسن في أبي طالب المكي صاحب كتاب »قوت القلوب«، قال: »وأبو طالب أعلم بالحديث والأثر وكلام أهل علوم القلوب من الصوفية وغيرهم من أبي حامد الغزالي، وكلامه أسدُّ وأجودُ تحقيقاً وأبعد عن البدعة«(24). كما كان له رأي حسن في أبي عبد الرحمن السلمي مصنف الصوفية ومن رواة الحديث(25)، وقال عن طبقاته: »… والذي جمعه الشيخ أبو عبدالرحمن في تاريخ أهل الصفة وأخبار زهاد السلف وطبقات الصوفية يستفاد منه فوائد جليلة«(26)، كما كان يستشهد بأقطاب الصوفية من مثل: الجنيد والششتري وعمر بن عثمان المكي وعبد القادر الجيلاني والشيخ أبي مدين والشيخ أبي الوفا والشيخ رسلان وغيرهم(27).
بل إن حبّه للإنصاف وإيثاره للقسط في الأحكام أفضى به إلى امتداح قطب صوفي كبير مثل محيي الدين بن عربي (ت638هـ) في بعض ما ذهب إليه(28)، وإن بقيت هُوَّة الخلاف الفكري بينهما واسعة المدى، عميقة الغور.
ولقد وضع ابن تيمية أصلاً عاماً يحكم الخلاف القائم بينه وبين ما عدّهم من أهل البدع، فقال: »فالسالك طريق الفقر والتصوف والزهد والعبادة إن لم يسلك بعلم يوافق الشريعة، وإلا كان ضالاً عن الطريق، وكان ما يفسد أكثر مما يصلحه، والسالك من الفقه والعلم والنظر والكلام إن يتابع الشريعة ويعمل بعلمه وإلا كان فاجراً ضالاً عن الطريق، فهذا هو الأصل الذي يجب اعتماده عند كل مسلم«(29).
وفي هذا النص يجعل ابن تيمية العلم الموافق للشريعة عاصماً للسالك في طريق التصوف والزهد والعبادة، كما أنه العاصم للسالك في الفقه والعلم والنظر والكلام، فبهذه الموافقة للشريعة يعتصم الصوفي والفقيه والمتكلم وإلا كان قاطعاً لصلات نسبه بأصل الدين.
ونحسب أن مقالة ابن تيمية تعبيرا عمّا هو مناط الإجماع بين أهل الدين على اختلاف مناهجهم وأفكارهم، ويبقى الخلاف في موجب هذا الأصل والتفريع عليه عند كل طائفة منهم.
وابن تيمية يضع لنا في بعض نصوصه ميزاناً ينماز بإقامته فرقا ما بين المشروع وغير المشروع في أمر الزهد خاصة وفي أمور العقيدة على جهة العموم، فيقول: »والزهد المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، وأما كل ما يستعين به العبد على طاعة الله فليس تركه من الزهد المشروع، بل ترك الفضول التي تشغل عن طاعة الله ورسوله هو المشروع، وكذلك في أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ »صوفي«، لأن لبس الصوف يكثر في الزهاد»(30).
غير أن ابن تيمية حيث حدَّ الزهد بأنه تركُ ما لا ينفع في الدار الآخرة قد فتح الباب على مصراعيه لاختلاف الأنظار، وأبقى الأمر على قدرٍ غير قليل من النسبية، فمن الأمور ما قد يوجب الصوفي على نفسه تركها إذ هي عنده مما لا نفع منه في الدار الآخرة، ولكنها قد لا تقع عند الفقيه في هذا الباب وعكس ذلك أيضاً صحيح.
فقياس الأمور بقياس النفع والجدوى يختلف باختلاف المدارج، ومن هنا كانت تلك المقالة المشهورة بين أهل التصوف: »حسنات الأبرار سيئات المقربين«، وهكذا بقي للخلاف بين الفقيه والصوفي مجال. وإذا كان الأصل العام مما لا يقع فيه الخلاف، فإن مجال الخلاف واقع في تنزيل الأصل على مفردات المسائل، وفي تعيين المصادقات الداخلة تحت المفهوم.
وإذا كان ابن تيمية قد أحسن الظن بمتقدمي الصوفية فقد وقف من متأخريهم موقف المناهضة والمناقضة(31)، إذ رأى في مصنفاتهم العقدية وإبداعاتهم الشعرية جنوحاً إلى ما ينكره من القول بالحلولية والاتحادية ووحدة الوجود(32)، وقد حمله هذا على أن يُعالنهم بالخصومة والإنكار ويصرح في أقواله وفتاويه بإخراج القائلين بهذه العقائد من حوزة الملة وبنسبتهم من جرائها إلى صريح الكفر والفسوق عن أمر الدين(٣٣).
لقد ظهرت حدة الخلاف مستعلنة من خلال ما تردد في أقوال ابن تيمية، ومن بعده تلميذه ابن قيم الجوزية(34) (ت751هـ) بوصفهما أعلى الأصوات الفقهية وأجهرها في ساحة الخلاف، من نعت لمن ينتسبون إلى القول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود بتعطيل الصانع وجحود الخالق، والجمع في أقوالهم بين كل شرك في العالم، ومن ثم فالقائلون بذلك عندهما ملاحدة وزنادقة ومنافقون ومرتدون، إلا أنه مما يحسب لابن تيمية أنه كان على صرامته في الحكم يتجه في الغالب الأعم إلى تغليط القول دون القطع بتكفير القائل إلا ما كان من شأنه مع العفيف التلمساني(35)، وكثيراً ما كان يأتي ذكر أحدهم فيقول بعد استعراض أقواله: »والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه«(36).
وقد سلك برهان الدين البقاعي (ت885هـ) مسلك سابقيه في ذم الصوفية ونقد فكرهم وسلوكهم، فصنف رسالتيه »تنبيه الغبي في تكفير ابن عربي « سنة 864هـ، و»تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد«(37) سنة 878هـ، وعزا سبب تأليفه للرسالتين إلى اضطراب الناس في ابن عربي وابن الفارض، وأنه أراد أن يوضح من أمرهما ما استغلق، فكفر ابن عربي جَلِيُّ في كتابه الفصوص، أما ابن الفارض في تائيته فقد تابع ابن عربي وكان يرى البقاعي أن التائية ما هي إلا نظم شعري للفتوحات المكية، وترجع أهمية الرسالتين إلى أنهما يسجلان أسماء المنكرين لابن عربي وابن الفارض قولهما بالحلول والاتحاد والوحدة، فقد أورد البقاعي فيهما نحوا من أربعين اسما من أسماء الفقهاء والمشايخ المعترضين على ما ذهب إليه ابن عربي وابن الفارض ومن تابعهما من الصوفية.
ولم يقتصر الهجوم على الصوفية على الفقهاء من أتباع المذاهب الأربعة فحسب، وإنما تجاوزهم إلى فقهاء الزيدية، فهذا صالح بن مهدي المقبلي (ت1108هـ) من أعيان الفقهاء الزيدية في القرن الحادي عشر الهجري يرفض السلوك الصوفي والعقيدة الصوفية من جهة أنها رهبنة وابتداع لمصطلحات من مثل: شريعة وطريقة ورسوم وحقيقة، تفسير وتأويل، ظاهر وباطن، كما يرفض وحدة الوجود التي قال بها ابن عربي وتجلت في كتب تلميذه عبد الكريم الجيلي (ت805هـ) قائلا: »ويزداد الهول في كل قرن إلى أن انتهى الشأن إلى ابن الفارض وابن سبعين وابن عربي وأضرابهم لم يقنعوا بتلك الدعاوى الشنيعة، ولا ساغ لهم احتشام الشريعة، وهذه كتبهم الفتوحات والإنسان الكامل والفصوص وأشعار ابن الفارض التائية والخمريات وغير ذلك«(38).
ولم يزل الصراع قائماً إلى يومنا هذا بين الفقهاء وأتباعهم من جهة والصوفية من جهة أخرى، وقد تجلى هذا الصراع في الكثير من الكتب التي صدرت في العصر الحديث، واستأنفت ما كان بين أسلاف الفريقين من دعوى ورد ومن نقد ونقض فيما تواردوا على مناقشته من قضايا الخلاف(39).
يستبين لنا مما تقدم أن الجدل الاعتقادي هو المجال الأظهر لبيان قضايا الخلاف بين الصوفية والفقهاء حتى القرن السادس الهجري، ولم يكن للقصيدة الصوفية في ما قبل هذا القرن دور واضح أو إسهام في مجمل قضايا الخلاف، إذ انصرفت القصيدة الصوفية إلى التعبير عن الابتهالات والمواجيد لتحقيق الارتقاء بالنفس وتزكيتها والعروج بها إلى مدارج الكمال.
ومن المتوقع في شأن أيّ علاقة يكون طرفاها الحدِّيّان في الذروة من تناقض المواقف أن يكون لكلِّ طرف منهما دوره في تشكيل الملامح المميزة لموقف الطرف النقيض، فحين اتخذ أهل التصوف من القصيدة سلاحاً لمواجهة منتقديهم لم تسلم القصيدة الصوفية من آثار هذه المواجهة؛ وكان لمنتقد التصوف من معسكر الفقهاء دور ظاهر في تشكيل ملامحها وتحديد مجالها وما تعتمده من آليات فنية للذب عن حياض التصوف.
وباستقراء ما أنتجه موقف الفقيه من آثار في قصيدة التصوف استبانت لنا أمور ثلاثة:
أولها: أن الهجوم الكاسح الذي شنه الفقهاء على بعض أقطاب التصوف بانتقاد سلوكهم، والتشكيك في مقاصدهم، وسوء التأويل لشعرهم اضطر هؤلاء إلى أن يتخذوا موقع الدفاع عن معتقدهم لتبرئة أنفسهم من قالة السوء التي وصمهم بها المخالفون، وثمة مثل ظاهر لآثار هذا الموقف الضاغط وما أنتجه من ردِّ فعل مضاد، نلتمسه فيما كان من محيي الدين بن عربي حين أخرج ديوانه »ترجمان الأشواق« الذي ألفه في مكة عام 598هـ.
نزل ابن عربي مكة معتمراً في العام 598هـ، والتقى بأحد شيوخها الأجلاء الشيخ مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم، وكان لهذا الشيخ بنت تدعى (النظام) وصفها ابن عربي في مقدمة ديوانه بأنها »بنت عذراء طفلة هيفاء، تقيد النواظر، وتزين المحاضر، وتسر المحاضر، وتحير المناظر تسمى بالنظَّام، وتلقب بعين الشمس والبهاء، من العالمات العابدات، السايحات، الزاهدات، شيخة الحرمين، وتربية البلد الأمين الأعظم بلا مين، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت…. (40«)
وقد اتخذ ابن عربي من هذه الفتاة وأوصافها رمزاً يشير به إلى الحب الأعلى أو الحب الإلهي في صورة الواردات الإلهية والتنزلات الروحانية، وأنشأ ديواناً في الشعر أسماه »ترجمان الأشواق«؛ قال: »…. نظمنا فيها (يقصد النَظَّام بنت شيخه) بعض خواطر الاشتياق من تلك الذخائر والأعلاق، فأعربت عن نفس تواقة ونبهت على ما عندنا من العلاقة… فكل اسم أذكره في هذا الجزء فعنها أكني، وكلّ دار أندبها فدارها أعني….« (41).
وما كادت تنتشر هذه القصائد في حلب الشهباء حتى تلقتها ألسن فقهائها؛ إذ وجدوا في أساليبها الغزلية فرصة سانحة ليردّوا على هجوم ابن عربي وينالوا منه، فأنكروا عليه هذه القصائد وطعنوا في قائلها حتى اضطر ابن عربي إلى وضع شرح يبين فيه المقصود منها، قال: »وكان سبب شرحي لهذه الأبيات أن الولد بدر الحبشي(42) والولد إسماعيل بن سودكن(43) سألاني في ذلك، وهو أنهما سمعا بعض الفقهاء بمدينة حلب ينكران هذا من الأسرار الربانية، والتنزلات الإلهية، وأن الشيخ يتستر لكونه منسوباً إليه الدين والصلاح فشرعت في شرح ذلك، وقرأه القاضي ابن العديم بحضرة جماعة من الفقهاء، فلما سمعه ذلك الذي أنكره تاب إلى الله سبحانه وتعالى ورجع عن الإنكار، على الفقراء، وعلى ما يأتون به في أقاويلهم من الغزل والتشبيب ويقصدون بذلك أسراراً إلهية فاستخرت الله تعالى، وشرحت في هذه الأوراق ما نظمته من الأبيات الغزلية بمكة شرفها الله تعالى وعظمها….« (٤٤).
ويعلل ابن عربي لاتخاذ الغزل والنسيب موضوعاً للتعبير عن مواجيده بأن النفوس تعشق هذه العبارات، وتتوافر الدواعي على الإصغاء إليها(45).
وقد ذكر ابن عربي قضية الديوان وشرحه في أكثر من موضع من فتوحاته المكية دفعاً لاعتراض الفقهاء عليه، موضحاً دواعي شرحه للديوان، ومشيراً إلى اسم الديوان وشرحه، قال: »وقد شرحنا من ذلك نظماً لنا بمكة سميناه »ترجمان الأشواق« وشرحناه في كتاب سميناه »الذخائر والأعلاق« بسبب اعتراض بعض فقهاء حلب علينا في كوننا ذكرنا أن جميع ما نظمنا في هذا الترجمان إنما المراد به معارف إلهية وأمثالها«(46).
لقد حاول ابن عربي أن يفوّت الفرصة على الفقيه العاذل حتى لا ينال منه أكثر مما نال، ولكن ذلك كان على حساب الجانب الفني إذ »لم يكن الدافع وراء شرح ابن عربي لديوانه »ذخائر الأعلاق« دافعاً فنياً أو نقديا… إنما كان دافعاً شخصياً يراد به الردّ على بعض فقهاء حلب الذين أنكروا عليه ما جاء في ديوانه من أبيات غزلية، وقصائد شعرية، أن يكون المراد منها أسراراً إلهية، ومعارف ربانية، وأن الشيخ يتستر وراءها لكونه منسوباً إلى الصلاح والدين«(47).
وبالرجوع إلى الديوان نلحظ أن الديوان في مجمله غزلي لا يحتفي من قريب أو من بعيد بالعاذل؛ لأنه مستغرق بالحب والجمال الإلهيين غير منصرف عنهما، أما في مقدمة ابن عربي لشرح الديوان فسنجد نصاً شعرياً ينبه فيه العاذل الديني إلى مقاصد شعره، كما يفضح دلالة الرمز، يقول:
كُلّمــاَ أذكــــرُه مــــــن طَلَلٍ
أو رُبــــــوعٍ أو مَغــانٍ كلمّا
وكذا إن قلتُ ها أو قلتُ يا،
وألا، إن جــــاء فيـــهِ أوْ أمّا
وكذا إن قُلتُ هيْ أو قلُ هوْ،
أوهمُو أو هنّ جمعْاً أو هُما
وكذا إن قُلــتُ قد أنجدَ لي
قَدَرٌ فــــي شِعــــرِنَا أوْ أتْهَما
أو خليلٌ أو رحيِلٌ أو رُبي،
أو رياضٌ أو غياضُ أو حِمَى
أوْ نســــاءٌ كاعبــِاتٌ نُهَّدٌ
طالعــاتٌ كشمـــوسٍ أو دُمَى
كـــلّمـا أذكُره ممّا جـــرى
ذكـــرُه أو مِثـــلُهُ أن تَفْهَمـــا
منـهُ أســـرارٌ وأنوارٌ جَلَتْ
أو علَتْ جاءَ بهــا ربُّ السّمَا
لفــؤادي أو فـــؤادُ من له
مثلُ ما لي من شروطِ العُلمَا
صفــــةٌ قـُـــــدْسيّةٌ عُلْويّةٌ
أعلمــت أنَّ لصــدقــــي قِدَمَا
فاصـرِفِ الخاطـرَ عن ظاهرِها،
وأطبِ الباطـنَ حتـى تَعْلَمَا(48)
ولعل أخطر ما أفضى إليه هذا الموقف هو محاولة ابن عربي في شرحه لديوانه »ترجمان الأشواق« أن يقيد من مطلق الدلالة، أن يحبس رموزها في أغلال دارج الاستعمال، وما أطبق عليه الناس من متعارف الدلالة، وبذلك أوصد دون القارئ أبواب التأويل، وفوت على القصيدة قدراً غير قليل من شعريتها(49).
ومن الواضح أن هذا التوجه يسير في الاتجاه المعاكس لطبيعة الشعر الصوفي الذي ينزع عادة إلى فتح أبواب التأويل وتحرير الدلالة من قيد الاستعمال؛ والنزوع بالكلمات إلى عوالم من الإيحاء والرمز يتحرر معها القارئ من قيود العرف اللغوي ويستشف من الدلالات ما تسمح به قدراته على الاستكناه والتأويل.
ثانيها: كما كان للفقيه دوره في نزوع الشاعر الصوفي إلى إغلاق باب التأويل خضوعاً لضرورات الدفاع عن الذات، كان للفقيه – أيضاً – دور ضاغط في الاتجاه المضاد، ذلك أن نقداته وتضييقه أبواب العبارة على الشاعر الصوفي كانت دافعاً ألجأ القصيدة الصوفية إلى اعتماد الرمز الشعري وسيلة للتعبير عن التجربة الشعرية الصوفية في ذاتها، وفي مواجهتها للآخر الضد(50)، وهكذا أنتج الموقف الواحد النقيضين إغلاق باب التأويل بالنص القطعي على صريح المدلول – كما رأينا في شرح ابن عربي لديوانه – وبفتح المجال أمام اعتماد الرمز الصوفي وتفعيل دوره تمرداً من الشاعر على مضايق الاتهام والتماساً منه لما يعينه من الوسائل على العبارة عن ذات نفسه، وقد أفضى ذلك إلى فتح باب التأويل أمام المتلقي وارتياد القصيدة لمجالات من الدلالة لا تكاد تحدّها حدَود.
آخرها: عمد صاحب القصيدة الصوفية في غزلياته إلى تمويه القول والعدول عن معالجة ماهية المحبوبة وتجربة الحبِّ بالقول الصريح، ولعل من أبرز مظاهر الإيهام بالقول إيهام مرجعيات الضمائر وعوائد الموصول ومقاصد الإشارة في القصيدة الصوفية، ويشهد لذلك مطلع التائية الكبرى لابن الفارض التي يقول عنها بعض الباحثين بحق: إنها «ملحمة الجمال الكبرى في الشعر العربي برمته، ولعل سَرّ المزية فيها وفي الشعر الصوفي جملة أنها عرفت كيف توحد بين المرأة والحقيقة المطلقة وهذا مبلغ لم يبلغه العذريون أنفسهم»(51). يقول ابن الفارض:
سَقَتْنـي حُمَيَّا الحُـــبِّ راحَـــةُ مُقْلَتي
وكَأْسي مُحَيَّا مَنْ عَنِ الحُسْـــــنِ جَلَّتِ
فَأَوْهَمْتُ صَحْبِي أنَّ شُــــــرْبَ شَرابِهِمْ
بِهِ سُرَّ سِرِّيِ فـــي انْتِشائِـــي بِنَظْرَتيِ
وبالحَدَقِ اسْتَغْنَيْتُ عَنْ قَدَحِــــي، ومِنْ
شَمَــــائِلِهِا لا مِــــن شمُـــوِلَي نَشْوَتيِ
وَلَمّا اْنَقَضَى صَحْوِي، تَقَاضَيْتُ وصْلَهَا
ولَم يَغْشَنيِ، في بَسْطِهَا، قَبْضُ خَشيَةِ
وأبْثثتُهـا ما بـيِ، ولْـم يَــــكُ حاضِـرِي
رَقيـــبُ بَقَــــــا حَظ بِخَلـــْوةِ جَلـــوَةِ (52)
وقد أنتج هذا التوجه نَصّاً غزلياً مفتوحاً على آفاق التجربة العامة من جهة، وعلى أفاق التجربة الشعرية الصوفية بما لها من خصوصية من جهة أخرى، واستطاع النص بهذا التمويه الجميل للقول، أن يشكل لنفسه آلية جمالية للدفاع عن التجربة الصوفية ضد المستمسكين بحرفية الدلالة، والباحثين عن وجوه المطاعن، فاحتلت المرأة المحبوبة مكانها لتكون وجهاً تسفر به الحقيقة على عالم القصيدة، ويكون الإبهام في العبارة اللغوية وسيلة معتمدة للإيهام بحقيقة الحقيقة.
كان لما سبق من العوامل الحاكمة على الصراع بين الصوفي والفقيه آثاره المباشرة على القصيدة الصوفية من حيث درجات حضور العاذل الديني فيها،حيث أخذت صورة العاذل الديني تتخايل بين أبيات القصيدة الصوفية، وأصبح من الممكن رصد ملامحها وسماتها، فلم يكن للعاذل الديني حضور صريح، وإنما كانت الدلالة عليه بإشارات وتلميحات تتخذ مظهر الردِّ من الصوفي على نقد العاذل لمظاهر السلوك، وعلى غمز العاذل إياه بالبعد عن طريق الاستقامة والتزام سبيل أهل الفلاح والعصمة. ونجد في شعر ابن الفارض مواضع كثيرة يبدو فيها العاذل الديني متلفعاً بعبارات المجاز والإيهام دون أن يسفر بوجهه؛ ليكون عنصراً فاعلاً في شعرية القصيدة، يقول ابن الفارض:
يا عـــاذل المشْتـــاق جَهْلاً بالــذي
يلقَى مليا، لا بَلغْتَ نَجَاحَا
أتعبْت نفسك في نصيحَة مـــن يرى
أن لا يرى الإقبال، والإفْلاحا
أقصــر عَدمْتك واطــرح مــنْ أثْخَنَتْ
أحشاءَه النجْلُ العيون جراحَا
كنت الصديق، قبيل نُصحِكَ مغْرماً
أرأيت صَبّا يألَف النصَّاحا ؟
إن رمْتَ إصْلاحِــي، فإنَّـــي لــم أرِدْ
لِفَسادِ قلبي في الهَوى إصْلاحا
مــاذا يريــد العاذلــون بَعذلِ من
لَبِسَ الخلاعَـة، واستراح وراحـا(53)
وليس فيما سبق من أبيات تحديدٌ لماهية العاذل على مستوى ظاهر النص، إلا أن هناك من العلامات اللغوية الدالة ما يمكن أن تقودنا إلى ترجيح القول بأن المقصود فيها هو العاذل الديني دون غيره. تبدأ الأبيات بأداة النداء »يـا« التي تدل على قرب المنادي من المنادى، إذ إن العاذل يعذل المشتاق جَهْلاً، وقد نصبت »جهلا« على الحالية، وعلق الجهل بما يلقاه المشتاق مليا(54)، والمشتاق هنا هو الأنا الشعرية نفسها، وهي التي تشير إلى الآخر من غير تعيين، فالحديث عن المشتاق بوصفه مفارقاً للأنا وملازماً لها في آن لا يخلو من تمويه لتعيين الذات، وإذا اعتبرنا الألف واللام »المشتاق« للعهد وليست للتعريف فإن المشتاق هنا هو الأنا التي يحيل إليها العهد الذهني.
ولا نكاد نعثر في هذا البيت على ما يدل على نوع العاذل إلا أن »مليا« وهي تعني الزمان الطويل والدهر المديد ربما تحمل إشارة مضمرة إلى الخلاف الطويل القائم بين الفقيه والصوفي الذي بدأ منذ زمن طويل ولم يتوقف عند زمن الشاعر، وهو عذل بين تيارين متنافرين مختلفين في رؤية الوجود وفهم الدين.
ثم ما يلبث الشاعر أن يختم البيت بجملة دعائية »لا بلغت نجاحا« يدعو بها على العاذل بأن لا يوصله الله تعالى إلى النجاح ويبلغه الفلاح. وربما عثرنا في البيت الثاني على ما يدل على أن العاذل عاذل ديني، إذ يقول:
اتعبت نفسك في نصيحة من يرى
أن لا يرى الإقبال والإفلاحا.
فمن الصفات الملازمة للفقيه أنه ناصح ملح في نصيحته لأنه يرجو منها الإصلاح والفلاح لمنصوحه، ولإدراك الأنا آلية العاذل الديني في النصح نجدها ترد عليه بأنك عذلت وتعبت في نصيحة مَنْ رأيه أن لا يرى الإقبال ولا الإفلاح، فمن كان رأيه لا يريد الإقبال ولا الإفلاح فكيف تنفع فيه نصيحة النّصاح ؟ وللرؤية في البيت وجهان، أولهما: الرؤية بمعنى الاعتقاد والمذهب، والرؤية التي يراد بها رؤية البصر. وقد علل النابلسي شارح ديوان ابن الفارض عدم رؤيته الإقبال والإفلاح بـ »اشتغاله بما هو أعلى من ذلك من شهود وتجليات ربه في باطنه وفي ظاهره بحيث لم يبق عنده ما يغاير ربه من كلّ شيء«(٥٥).
ثم تعود الأنا إلى تغليظ القول في مخاطبة العاذل بقولها: »اقصر« وهو فعل أمر بمعنى انته أيها العاذل، ثم تلحقها بجملة دعائية تدعم فيها الجملة السابقة وتفتح بها النص لبيان سبب عدم قبول النصيحة والإقبال عليها، فتقول: »اقصر – عدمتك – واطرح من أثخنت..«، فالأنا تدعو على العاذل بأن ترى عدمه وزواله، تبرماً منها من ذلك الذي لازمها طويلاً وأغلظ لها القول، وكان من آثار فعله التنغيص على الأنا في علاقتها بالمحبوبة، وهذه النبرة العالية المستخدمة في هذه الأبيات من نداء ثم دعاء يعقبه تعزير، ثم أمر يتلوه دعاء ويردفه أمر:
يا عاذل + لا بلغت نجاحاً + أتعبت نفسك + أقصر + عدمتك + أطرح
هذه المتواليات من الأساليب والعلامات الدالة تكشف عن ضجر الأنا من العاذل الناصح الذي ما انفك يمارس نصحه على الأنا بدعم من سلطته الدينية والسياسية والاجتماعية.
ولعل من المرجحات التي تذهب بنا إلى حمل هذه الأبيات على العاذل الديني نعت ابن الفارض إياه بأنه قد كان الصديق الأقرب للأنا قبل ممارسته النصح والعذل:
كنت الصديق قبيل نصحك مغرماً
أرأيت صبّاً يألف النُصُّاحا ؟
فعبارة »كنت الصديق« تقتضي أنه لم يكن صديق سواه، أي كنت صديقاً ليس وراءه صديق.
فليست الشريعة – ولا ينبغي لها أن تكون – في مقام العداوة من الحقيقة، وليس كلاهما لصاحبه بالضدِّ المعاند ولكن نزوع الفقيه إلى ملامة المتصوف في حبه للحقيقة قد أفسد الأمر على ثلاثة أطراف من جهتين: أولاهما: جهة العلاقة بين الفقيه والمتصوف، والأخرى جهة العلاقة بين المحبوبة والأنا.
ومن هنا كان من الصوفي التبرم والضيق والنفور من ملامة ذلك الصديق. وإذا كان للاستدلال بالإشارة إلى الصديق وجه يرجح المقصود بالعاذل في هذه الأبيات فإن في سيرة ابن الفارض إشارة مرجحة ودليلاً معضداً، فقد نشأ ابن الفارض بمصر في بيت علم وورع، ولما شب اشتغل بفقه الشافعية وأخذ الحديث عن ابن عساكر والحافظ المنذري، وكان والده فارضاً يكتب الفروض على النساء والرجال بين يدي الحكام، وقد عُرض على ابن الفارض بعد وفاة والده أن يتقلد منصبه ليكون قاضي القضاة لكنه أبى(56).
ولعل في هذا الإباء ما يشير إلى أن ابن الفارض قد اختار لنفسه – منذ البداية – طريقاً غير طريق الصديق. وهنا تظهر المفارقة؛ فعين الإصلاح عند العاذل هي عين الإفساد عند الصوفي، وفي هذا التباين علة تحول الصديق إلى عاذل، وقد ارتبط التحول في العلاقة بين الأنا والصديق العاذل بتحول الأنا نفسها من الثنوية إلى التوحيد، مما يوجب وقوع المباينة بين صاحب الظاهر وصاحب الباطن، يقول ابن الفارض:
ومَا شَان هذا الشَّأنَ منكَ سوى السِّوى
وَدَعْوَاه حَقَّا، عنكَ إنْ تُمْحَ تَثْبُتِ
كذا كُنْتُ حِيناً قبل أن يُكْشَفَ الغَطا
من اللَّبْسِ، لا أنْفَكُّ عن ثَنَويَّةِ
أروْحُ بَفقْدٍ بالشُّهود مُؤَلّفِي
وأَغْدُو بِوَجْدٍ بالوْجودِ مُشَتِّتِي
يُفَرَّقُنِـي لُبِّـي، التزَامــاً بِمَحْضَـرِي
ويَجْمعُنيِ سَلبْي، اصْطلامَا بِغَيْبَتيِ (57)
فهذا التحول في زاوية الرؤية للوجود وفهم الدين، واستبدال التوحيد بالتعديد استغراقاً في حب المحبوبة الحقيقة هو الذي حدا بالأنا إلى أن تحول علاقتها مع الصديق من علاقة صداقة إلى علاقة عاذل ومعذول.
ولعلنا نرى في الصورة التى أبرزها ابن الفارض للعاذل ما يكشف عن بعد مهم في صورة هذا العاذل في التجربة الشعرية الصوفية، فهو شديد الإلحاح واللجاج وهو فضولي يعنى بغيره ويغفل ذات نفسه، ويقابل ذلك ما ترسمه التجربة الصوفية من صورة مغايرة لذلك السائر في طريق الحق قوامها ملازمة الصمت والابتعاد عن القيل والقال وكثرة الجدال، وبذلك تستحيل مقالة الحق عند أهل الحق صمتاً ويصبح الصمت لهم سمتاً، يقول ابن الفارض:
وأخْلِصْ لها واخْلُصْ بها مِنْ رُعُونِة افـ
تِقـــارِكَ مِنْ أَعْمَالِ بِـــرِّ تَـــــزَكَّتِ
وعَادِ دَوَاعِي القيلَ والقالِ، وانْجُ من
عَوَادِي دَعَاوٍ، صِدْقُها قَصْد سُمْعَةِ
فَأَلسُنُ مَــــنْ يُدْعَى بِأَلْسَــــنِ عَارِفٍ
وإنْ عُبِــــرَتْ كُلُّ العِبـــارات كَلَّتِ
وَما عَنْهُ لم تُفْصِحْ فإنَّكَ أهْلُهُ
وأنتَ غريبٌ عنه إنْ قُلْتَ فاصْمُتِ
وفي الصَّمْتِ سمٌتٌ، عِنْدَهُ جَاه مُسْكَةٍ
غَــدَا عَبْدَهُ مَــنْ ظَنَّهُ خَيْرَ مُسْكِت
فكُنْ بَصَرٍا وانْظُرْ، وسَمْعاً وَعِ، وكُن
لِسَاناً وقُلْ، فالجَمْعُ أَهْدَى طَريَقةِ
ولا تَتَّبِعْ مـن سَوَّلَــتْ نَفْسُــه لــه
فَصَـارَتْ لــه أمَّـارةً واسْتَمَـرَّتِ (58)
وتعبير ابن الفارض عن هذا التحول يتجاوز مطلق التعبير عن العلاقة إلى الإفصاح عن تحول على مستوى التجربة الصوفية في أعمق تفاصيلها.
يقول ابن الفارض:
فَأرِحْ مِنْ لّذْعِ عَذْلٍ مِسْمَعِي
وَعَنِ الْقَلْبِ لِتِلْكَ الرَّاء زَيْ
خَلِّ خِلِّي عَنْكَ ألْقَاباً بِهَا
جِيءَ مَيْناً وَانْجُ مِنْ بِدْعَةِ جَيْ
وَادعُنِي غَيْرَ دَعِيٍّ عَبْدَهاَ
نِعْمَ ماَ أسْمُو بِهِ هَذَا السُّمَيْ
إِنْ تَكُنْ عَبْداً لها حَقَّا تَعُدْ
خَيْرُ حُرٍّ لَمْ يَشُبْ دَعْوَاهُ لَيْ
قُــوتُ رُوِحـي ذِكْرُهــاَ أنَّـي تَحُــو
رُ عَـنِ التَّـوْقِ لِذكْـرِي هيِّ هَـيْ (59)
يقوم النص الشعري الصوفي – فيما يقوم من آليات – على إضمار ماهية المخاطب وإخفاء مرجعية الضمير، مما يجعل الأمر صعباً على التحديد والقطع، ومنفتحاً على التأويل إلى حَدِّ الإفراط فيه أحياناً(60).
ولكن الحضور الشبحي للعاذل بأنواعه المختلفة: الديني، والمعرفي والاجتماعي لا يمكن معه القطع بتعيين نوع العاذل، غير أن هناك من المؤشرات اللغوية الدالة ما يمكن معه الترجيح، وربما كانت التائية الكبرى لابن الفارض وما فيها من إضمار لمرجعية الضمير مجالاً للتأويل والتخريج لأنواع العاذل وما يدل عليه كلّ نوع، ولعل عدم التحديد لنوع العاذل هو من آليات القصيدة عند شعراء التصوف بعامة وعند ابن الفارض خاصة، تلك التجربة التي استلهمت خصائص البنية القرآنية فجاءت القصيدة الفارضية مستفيدة من آليات الخطاب القرآني وأساليبه وصوره.
وقراءة التائية الكبرى لابن الفارض تكشف بما لا يدع مجالاً للشك التعبير عن هذه الخصيصة:
وَجُلْ في فُنونِ الاتحادِ ولا تَحِدْ
إلى فِئَةٍ في غَيرِه العُمْرَ أفْنَتِ
فَواحِدُهُ الجمُّ الغفيرُ، ومَنْ عَدَا
هُ شِرْذِمَةٌ حُجَّتْ بأَبلَغِ حُجَّةِ
فَمُتَّ بِمَعْنَاهُ، وعِش فيه، أوْ فَمُتْ
مُعَنِّاهُ، واتْبَعْ أمَّةَّ فيه أَمَّتِ
فَأُنْتَ بهذا المَجْـدِ أَجْـدَرُ مِنْ أخي اجْـ
ـتِهادٍ مُجـدٍّ، عـن رَجاءٍ وخِيفَة (61)
تتوجه الأنا في خطابها إلى غير متعين الهوية في النص؛ فربما كان هو المريد، وربما كان الفقيه، وربما كان الصديق المتشكك في شأن الحقيقة. لكن المتحقق هو أنه توجيه من الأنا إلى الآخر يطلب إليه فيه التجوال والتبصر في فهم المقصود بالاتحاد، ثم تحذيره من الركون إلى رؤية الطائفة المتزمتة للاتحاد على أنه خروج على الدين وصحيح العقيدة. ويشير ابن الفارض إلى تلك الطائفة بلفظة »فئـة« وهو تنكير يمكن حمله على التهوين من شأنها بميزان الاعتقاد، والتكثير من عديدها بحساب الأعداد. وربما كان في ذلك تلميح هو أقرب شيء إلى التصريح بتسمية طائفة الفقهاء في اعتصامهم بظاهر الأمر واستمساكهم بالتحديد وانشغالهم عن حقيقة الاتحاد والتفريد.
أما قوله: »ومن عداه شرذمة حُجت بأبلغ حجة« فالراجح أن المراد به طائفة المتكلمين الذين انتصروا للعقل والدليل والبرهان، وأعرضوا عن الذوق والكشف والعرفان» فإن الكتاب والسنة إذا فُهِمَا بالفهم الإلهي المنور بالعمل الصالح… وصل العبد السالك إلى علوم الكشف والوجدان واستغنى بالعيان عن الدليل والبرهان،.. قال الشيخ رسلان الدمشقي: الناس تايهون عن الحق بالعقل فإن النظر بالعقل اجتهاد«(62).
لذا فإن الأنا ترى أنّ اتباع سبيل أهل الحق بالفناء في الحقيقة بغية الاتحاد هو اتباع للذي هو أقوم، وهو الأجدر بها من لهاث وراء من غَرّهم إعمال العقل، وصَدّهم عن التماس منابع العرفان.
إن هذه الأبيات تكشف عن تعريض الصوفي بوجهين من وجوه العاذل الشبحي، هما: الفقيه والمتكلم. ولابن الفارض في التلويح إلى هاتين الطائفتين مذهب لا يصعب علينا التماسه، فهو يخص المتكلم بنعت اللاحي، وينعت الفقيه بلفظ الواشي في إضمار كاشف، فيقول:
أرَانيِ ما أَوليتُهُ خَيْرَ قُنْيَةٍ
قَدِيُم ولائِي فيكِ مِنْ شَرِّ فِتْيَةِ
فَلاحٍ وَوَاشٍ: ذاك يُهْدِي لِعِزَّةٍ
ضَلالاً، وذَا بِي ظَلَّ يَهْذِي لِغَيْرَةٍ
أُخَالِــفُ ذا فـي لَوْمِـهِ عَـنْ تُقًى، كَمَا
أُحَالِـفُ ذا فـي لُؤْمـِهِ عَنْ تَقِيَّةِ (63)
وتكشف لنا هذه الأبيات عن علاقة الأنا باللاحي والواشي، فتشير إلى اللاحي بـ »ذاك« لبعده المكاني منها، على حين تشير إلى الواشي بـ »ذا« للدلالة على قربه منها، وهذا البعد والقرب هو على مستوى التجربة الصوفية في المقام الأول، لذلك فإن الأنا تصف اللاحي بأنه »يهدي لعزةٍ ضلالا« أما الواشي فإنه لم يزل مستمراً في هذيانه غَيْرة منه على الدين هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأنا تمايز في علاقتها بينهما، إذ تخالف الأول (اللاحي) من باب التقوى، وتحالف الثاني (الواشي) من باب التقية درءاً لما يحدق بها من جرائه من خطر، وفي ذلك دلالة واضحة على أن خطر الفقيه الواشي أشد على الأنا الشاعرة من خطر المتكلم اللاحي، إذ يتكئ الفقيه على سلطة دينية لا تخلو من دعم سياسي يحمل معه نذر الإضرار، أما المتكلم فلا يحظى بمثل هذا الدعم السياسي أو الاجتماعي، وشتان بين خصم سلاحه الجدل والبرهان، وخصم يعتمد في خصومته على بطش السلطة وهيبة السلطان.
ويرد في شعر ابن الفارض لفظ لا يخلو من الدلالة، وإن تَلَفَّع بالإلباس واستتر خلف قناع من اللغة، وهو لفظ يجمع في حذق واضح بين الشفافية والكثافة ونعني به نعته العاذل بـ »المتعنت«:
وثمَّ أمورُ تمَّ ليِ كَشْفُ سِرِّها
بصَحْوٍ مُفيقٍ، عن سِوَاي تَغَطّتِ
بها لْم يَبُحْ مَنْ لم يُبِحْ دَمَهُ، وفي الـ
إشَارَةِ مَعْنَى ما العِبَارَةُ غَطَّتِ
وَعَنِّــيَ بالتَّلويــحِ يَفْهَــمُ ذائِــقُ
غَنِـيُّ عـن التَّصْريـحِ للمُتَعنِّـتِ (64)
إنه يجنح باستخدام هذا اللفظ إلى التلميح دون التصريح وإلى الإشارة دون العبارة، وقد يكون هذا المتعنت فقيهاً، أو متكلماً، أو ذا سلطة سياسية أو اجتماعية فاعلة، أو جاهلاً بحقيقة الأمر، فيذهب في تكفير الأنا كل مذهب. ويضاف إلى ذلك أن ابن الفارض كان على حظ من الوعي النقدي، والمعرفة بخصوصية تجربته الشعرية الفذة من حيث تفوّقها سبكاً وحبكاً على تجارب سابقيه ومجايليه ولاحقيه من شعراء التصوف.
ومن ثم انتصر ابن الفارض دائماً لصوت الفن على التصريح بالمضمون، ولإيثار الصمت على إيضاح المقاصد، فجعل من تجربته متاعًا لمن يصفه هو بـ »الزائف« ويعني به ذلك المتلقي الذي يعتمد الذوق والكشف ولا يلوذ بجدل العقل وحرفية النقل.
وإذا جئنا إلى الششتري وجدناه يسلك في شعره الفصيح مسلك ابن الفارض، إذ كان يُلمح ويُعَرِّض بالعاذل الديني بصورة شبحية غير مباشرة في غير صدام مباشر، وذلك على النقيض من شعره الملحون الذي عالن فيه بالخلاف، وصدع ببيان الصراع بين الفقيه والمتصوف(65).
ويوجب هذه الملاحظة التماسُ العلة للمفارقة القائمة بين مظهرين مختلفين في معالجة الششتري لأمر العاذل، يتمثلان في الشعر الفصيح والشعر الملحون، وسنعرض لذلك الأمر بفضل بيان فيما يلي من حديث، يقول أبو الحسن الششتري في بعض شعره الفصيح:
ولَّما اجْتلاَكَ الفكرُ في خَلوةِ الرّضا
وغُيِّبتَ قال الناسُ ضَلت بي الأهُوا
لَعمرُك ما ضَلَّ المحبُّ وَما غَوى
ولكنَّهمْ لمَّا عمُوا أخطأوا الفتوى
ولـو شَهـدوا معنـى جمَالِكَ مثْلمـــا
شهدْتُ بعينِ القلبِ ما أنكروا الدَّعوى (٦٦)
إن علاقة الحبّ القائمة بين الأنا والمحبوبة تكاد تكون هي مدار الخلاف القائم بين الأنا والعاذل بأنواعه والديني بوجه خاص، فالأنا لا ترى في تلك العلاقة ما يراه العاذل خروجاً وضلالاً وغواية، وهي ترجع العلة في ذلك إلى خلو العاذل من التجربة وجهله بحقيقتها.
لذا فإن العاذل الديني مستفز في علاقته بالأنا، ولاسيما عند غيابها عن عالم الحس وفنائها بالمحبوبة، ويشرع العاذل حينئذ في تكفير الأنا ووصمها بالضلال، وعندما تبيت الأنا في »خلوة الرضا« – وهي خلوة لا تقبل العاذل ولا الغير بإطلاق – تفنى شيئاً فشيئاً في الحقيقة، وليس لذلك الفناء من تفسير عند العاذل إلا القول بأنه حلول الأهواء النفسية في الأنا واستيلاء الطبيعة البشرية عليها. واستخدام الششتري لفظ »الناس« يحيل إلى العاذل خاصة دون سائر الناس، وذلك من باب إطلاق العام وإرادة الخاص، فالمراد فئة بعينها. وذلك إعمال من الششتري لآلية الإضمار وعدم البوح على ما فصلنا القول فيه من قبل.
ولكن الأنا تستدرك على العاذل الديني فتواه، بتوظيف المعجم القرآني والمصطلح الفقهي لردِّ الاتهام وبيان بطلانه، فتقول: »لعمرك ما ضَلّ المحب وما غوى« ويحيلنا هذا الشطر على الآيات القرآنية، »ما ضَلّ صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى«(67)، مستدعياً السورة برمتها، ففي سورة النجم أقسم الحق بالنجم إذا هوى على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ضل عن الحق وما غوى، وأن كلامه لم يكن عن هوى نفس، ولكن مصدره الوحي. واستدعاء هذه الآيات يستدعي بالضرورة مناسبتها والخلاف التاريخي الذي قام بين النبي صلى الله عليه وسلم وكفار قريش في نيلهم منه واتهامه بالضلال والغواية والخروج على السائد من الأعراف والتعاليم الدينية والاجتماعية.
فالأنا تستعيد هذه الصورة الخلافية التاريخية بين معسكري الحق والباطل وتنزل تجربتها منزل الحق على حين تنزل الطرف الآخر المدعي منزل المبطل في دعواه، وتعزو علة ذلك إلى اختلاف زاوية الرؤية لدى كلٍّ من المحب والعاذل الديني، وخلو الأخير من التجربة وجهله بها، فلو شهد المُفْتُون بعين القلب ما تشهده الأنا لما أفتوا بما كان فيهم، ولكنهم نظروا بعين البصر وستروا عين البصيرة، »فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور«(68).
إن هذه الأبيات تستدعي النص القرآني بالضرورة، كما أنها تستدعي المصطلح الفقهي المتمثل في (الفتوى، الغواية، الهداية، الدعوى) متضافرة لتجسيد العلاقة المتوترة بين الفقيه والصوفي، وبيان اختلاف رؤية الفريقين في علاقتهما بالوجود والحقيقة.
يقول أبو الحسن الششتري:
مَنْ لا مَني لوْ أنّهُ قَدْ أبْصَرا
مَا ذُقْتُهُ أضِحَى به متَحيّرا
وَغدا يَقولُ لِصحبهِ إِن أنتُمو
أنكرتُمو مَا بي أتيتمْ مُنكَرا
شَـذّتْ أمُـورُ القـومِ عـنْ عَاداتِهــم
فَلأجْـلِ ذاكَ يُقـَالُ سِحْـرٌ مُفتَرَى (69)
وفي هذه الأبيات شاهد يؤكد ما أشرنا إليه من تعويل التجربة الشعرية الصوفية بعامة، وتجربة أبي الحسن الششتري بصفة خاصة على المعجم القرآني، إذ تقوم هذه الإحالة بفتح الدلالة على التأويل والتوجه بها إلى تخصيص نوع العاذل اللائم. ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى أن الششتري حين عبر عن نظرة الفقيه إلى تجربة الصوفي استحضر في وصفها تعبيراً قرآنياً ذا صلة بالمقام، وهو »سحر مفترى« وذلك من قوله تعالى: » فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلى سحر مفترى«(70).
على هذا النحو إنما يشير به الششتري إلى قصة موسى مع السحرة من آل فرعون، وكيف أنهم لجهلهم بحقيقة أمر موسى وعلاقته بالحق لم يروا في ما جاء به إلا أنه سحر مفترى، ولم يدركوا حقيقة المعجزة الإلهية في ذلك، وكذلك حال من لم يبصروا بعين القلب من العواذل، ولم يدركوا حقيقة الصلة بين الأنا والمحبوبة الحقيقة فحملوا عليها وصف السحر والافتراء، وقد نحا الشاعر هنا إلى إيراد فعل القول بصيغة ما لم يسمِّ فاعله »يُقال« من غير تعيين للقائل؛ ليكون ذلك تحقيراً للقول وتجاهلاً لقائله، وإنزالاً له منزلة سحرة فرعون من موسى قبل أن تخالط قلوبهم بشاشة الإيمان.
الهوامش
(١) أبو عبد الرحمن السلمي، المقدمة في التصوف وحقيقته، تحقيق يوسف زيدان، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، 1987، ص 74.
(٢) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق على عبد الواحد وافي، القاهرة، دار نهضة مصر، د.ت، ج ٣ / 1097.
(٣) أبو عبد الرحمن السلمي، طبقات الصوفية، تحقيق نور الدين شريبة، القاهرة، مكتبة الخانجي، ط (٣) 1986، ص 37.
(٤) ربطت الكثير من المصادر والمراجع التي تحدثت عن التصوف ونشأته بين الزهد والتصوف على اعتبار أن الأول أصل الثاني، ووضع أبو عبد الرحمن السلمي كتاباَ أسماه «الزهد« ترجم فيه للصحابة والتابعين وتابعي التابعين إلى أن بلغ أصحاب الأحوال المتكلمين على لسان التفريد، وحقائق التوحيد واستعمال طرق التجريد.
ثم ما لبث أن وضع كتابه »طبقات الصوفية« الذي ترجم فيه لمجموعة من الصوفية هي المجموعة التالية لطبقة الزهاد، رابطاً بين الزهد والتصوف سلوكاً عن طريق الوصل بين رجال الزهد ورجال التصوف، بذكر أخبارهم وأفعالهم التي لا تخلو من هجر للخلق ووصل للحق بالذكر والعبادة والانشغال الدائم به.
انظر: أبو عبد الرحمن السلمي، طبقات الصوفية، تحقيق نور الدين شريبة، القاهرة، مكتبة الخانجي، ط(٣)، 1986.
– محمد جلال شرف، دراسات في التصوف الإسلامي، الإسكندرية، دار الفكر الجامعي، 1983، ص ص 156 – 188.
– محمد كمال إبراهيم جعفر، التصوف طريقاً وتجربةً ومذهباً، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1980، ص ص ١٠١ – 102.
(٥) انظر محمد جلال شرف، دراسات في التصوف الإسلامي (مرجع سابق)، ص ص ٩٩ – 102.
(٦) مسند الإمام أحمد، باقي مسند المكثرين، حديث رقم 8595، وورد الحديث في الموطأ في كتاب الجامع برواية أخرى: »بعثت لأتمم حسن الأخلاق«. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: »أثقل ما يوضع في الميزان حسن الخلق«.
انظر: أبو عبد الرحمن السلمي، طبقات الصوفية، مرجع سابق، ص 57.
(٧) تقول رابعة العدوية: »إلهي إن كنت أعبدك رهبة من نارك فاحرقني في جهنم، وإن كنت أعبدك رغبة في جنتك فاحرمنيها، وإن كنت أعبدك لمحبتك فلا تحرمني يا إلهي من جمالك الأزلي«.
انظر: عبد الرحمن بدوي، شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية، الكويت، وكالة المطبوعات، ط (٤)، 1987،ص 92.
(٨) صحيح مسلم، حديث رقم 1453، وبهذا المعنى يروى عن عائشة رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَد«.
انظر: ابن الجوزي، تلبيس إبليس، تحقيق محمود عبد الخالق خـلاف، القاهرة، مطبعة المدني، ط (٥)، ص ص ٤٥٣-٥٥٣.
وقد عقب ابن تيمية على هذا الحديث في معرض حديثه عن التصوف، قائلا: »إذا كان خير الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد، فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب وهو به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه أضعف كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق«. انظر: ابن تيمية، مجموعة الرسائل والمسائل، بيروت، دار الكتب العلمية، ط (٢) 1992، ج ١ / 230.
(٩) انظر: دائرة المعارف الإسلامية، مادة (بدعة).
(10) المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، بيروت، دار الأضواء، 1986، ص ص 105 – 106.
(١١) سورة لقمان، الآية 27.
(٢١) انظر: عبد السلام الغرميني، الصوفي والآخر، الدار البيضاء – المغرب، شركة النشر والتوزيع – المدارس، 2000، ص 26 وما بعدها.
(13) ابن الجوزي، تلبيس إبليس، مرجع سابق، ص ص 354 – 553.
(14) سورة العنكبوت، الأية 69.
(15) الهجويري، كشف المحجوب، ترجمة إسعاد عبد الهادي قنديل، بيروت، دار النهضة العربية، 1980،ج٢/627.
(16) ابن الجوزي، تلبيس إبليس، ص 354.
(17) السراج الطوسي، اللمع، مرجع سابق، ص ص 18 – 19.
(18) القشيري، الرسالة القشيرية، مرجع سابق، ج ١ / ص ص 27 – 29.
(19) ابن الجوزي، تلبيس إبليس، مرجع سابق، ص 19.
(20) المرجع السابق، ص 351.
(21) المرجع السابق، ص 183.
(٢٢) المرجع السابق، ص 185.
(23) منصف عبد الحق، الكتابة والتجربة عند الصوفية، الرباط، منشورات عكاظ، 1988، ص ٣٢٣.
(24) ابن تيمية، مجموع فتاوى ابن تيمية، ج 10/551.
(25) يقول ابن تيمية: »كان البيهقي إذا روى عنه، يقول: حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه، وما يُظَنُّ به وبأمثاله إن شاء الله تعالى تعمد الكذب، لكن لعدم الحفظ والإتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية، فإن النساك والعباد منهم من هو متقن في الحديث… ومنهم من قد يقع في بعض حديثه غلط وضعف«. انظر: ابن تيمية، مجموع الرسائل والمسائل، مرجع سابق، ج١/26 – 37.
(26) المرجع السابق، ج١/37.
(27) انظر ابن تيمية، مجموعة الرسائل والمسائل، مرجع سابق، ج١/186.
(28) ويقول ابن تيمية في معرض حديثه عن الصوفية الاتحادية ذاكراً ابن عربي: »وإنما كنت قديماً ممن يحسن الظن بابن العربي ويعظمه؛ لما رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثير من الفتوحات… ولم نكن بعد اطلعنا على حقيقة مقصوده، ولم نطالع الفصوص ونحوه«. انظر: ابن تيمية، مجموعة الرسائل، ج١/178 – 179.
وقال أيضاً في الرجل في معرض نقده للفصوص: »وهذا هو الذي ابتدعه [ابن عربي] وانفرد به عن جميع من تقدمه من المشايخ والعلماء، وهو قول بقية الاتحادية، لكن ابن العربي أقربهم إلى الإسلام، وأحسن كلاماً في مواضع كثيرة، فإنه يفرق بين الظاهر والمظاهر، فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي عليه، ويأمر بالسلوك بكثير مما أمر به المشايخ من الأخلاق والعبادات«.
انظر ابن تيمية، مجموعة الرسائل والمسائل، ج١/183.
(29) المرجع السابق، ج١/225.
(30) المرجع السابق، ج١/226.
(31) كان أشد هجوم وجهه ابن تيمية للصوفية ما تضمنته رسالته إلى الشيخ أبي الفتح نصر المنبجي (ت709هـ)، إذ حذر فيها من الخائضين في مذهب الاتحادية والحلولية، وذهب إلى أن ظهور مثل هؤلاء من الصوفية كان سبباً في ظهور التتار واندراس شريعة الإسلام، وأن هؤلاء مقدمة الدجال الأعور الكذاب الذي يزعم أنه هو الله، وهؤلاء عندهم كل شيء هو الله ولكن بعض الأشياء أكبر من بعض وأعظم.
انظر: ابن تيمية، مجموعة الرسائل والمسائل، مرجع سابق، ص ص 169 – 190.
(32) على حين أيّد ابن تيمية سلوك أكابر الصوفية وعَدّهم من أئمة السلف لأنهم حافظوا على العقيدة وأقاموا الشريعة وتمسكوا بالحقيقة، نجده ينتقد الصوفية الاتحادية والحلولية وأصحاب وحدة الوجود انتقاداً حاداُ يخرجهم به من الملة، ويقول بأن القول بوحدة الوجود هو قول ابن عربي وابن سبعين وصاحبه الششتري والتلمساني والصدر القونوي وسعيد الفرغاني وعبد الله البلياني وابن الفارض صاحب نظم السلوك وغير هؤلاء من أهل الإلحاد القائلين بالوحدة والحلول والاتحاد.
انظر ابن تيمية، توحيد الربوبية، ص 115.
(٣٣) أنكر ابن تيمية الصوفية الاتحادية وبين حقيقة مذهب وحدة الوجود والاتحاد قائلا: «اعلم أن حقيقة قول هؤلاء أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة«
وقال في موضع آخر: إن صاحب كتاب فصوص الحكم وأمثاله مثل صاحبه القونوي والتلمساني وابن سبعين والششتري وابن الفارض وأتباعهم ومذهبهم الذي هم عليه هو: أن الوجود واحد ويسمون أهل وحدة الوجود،ويدعون التحقيق والعرفان، وهم يجعلون وجود الخالق عين وجود المخلوقات، فكل ما تتصف به المخلوقات من حسن وقبيح ومدح وذم إنما المتصف به عندهم عين الخالق، وليس للخالق عندهم وجود مباين لوجود المخلوقات منفصل عنها أصلا، بل عندهم ما ثم غيرُ أصلاً للخالق ولا سواه.
وكان ابن تيمية يرفضهم رفضاً قاطعاً لأنهم يوهمون الجهال أنهم مشايخ الإسلام وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة، كما أن قولهم – كما يرى ابن تيمية- يجمع كل شرك في العالم، وهم لا يوحدون الله سبحانه وتعالى، وإنما يوحدون القدر المشترك بينه وبين المخلوقات، فهم بربهم يعدلون، لذا وصفهم بالملاحدة المنافقين الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، كما وصفهم بالزنادقة المتشبهين بالعارفين، وأنهم جنس الكفار المنافقين المرتدين، أتباع فرعون والقرامطة الباطنيين، وأصحاب مسيلمة والعنسي ونحوهما من المفترين.
وخلص إلى أن كل من يقبل هؤلاء فهو أحد رجلين إما جاهل بحقيقة أمرهم، وإما ظالم يريد علواً في الأرض وفسادا، أو جامع بين الوصفين.
انظر: ابن تيمية، مجموعة الرسائل والمسائل، مرجع سابق، ص ص ٣ – ٧.
مجموع الفتاوى، كتاب مجمل اعتقاد السلف، مسألة قول العلماء في كتاب فصوص الحكم، ص 125.
(34) انتقد ابن تيمية صوفية وحدة الوجود وأخذ عليهم إسرافهم وإفراطهم في التأويل، وخير الصوفية عنده هم الأوائل، لأنهم حائمون على اقتباس الحكمة والمعرفة وطهارة القلوب وزكاة النفوس، وكلامهم وإن كان قليلاً إلا أن البركة فيه، على حين كان كلام متأخري الصوفية كثير وبركته قليلة. وقد نقد ابن القيم الجوزية في قصيدته الموسومة بـ »الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية« صوفية وحدة الوجود، فقال:
فأتى فريق ثم قــــال وجدته
هذا الوجود بعينه وعـــيان
ما ثم موجود ســــواه وإنما
غلط اللسان فقال موجـودان
فهو الســماء بعينها ونجومها
وكذلك الأفلاك والقــمران
وهو الغمام بعينه والثلث والـ
أمطار مع برد ومع حسـبان
وهو الهواء بعينه والماء والتـ
ترب الثقيل ونفس ذي النيران
هـــذي بسائطـه ومنـه تركبـــت
هذي المظاهـر مـا هنـــا شيـئان
وقد جاء ابن القيم على ذكر القائلين بالوحدة في قوله:
فيكون كلا هذه أجزاؤه
هذي مقالة مدعي العرفان
أو أنها كتكثر الأنواع في
جنس كما قال الفريق الثاني
فيكون كلياً وجزئياته
هذا الوجود فهذه قولان
إحداهما نص »الفصوص« وبعده
قول ابن سبعين وما القولان
عند العفيف التلمساني الذي
هو غاية في الكفر والبهتان
إلا من الأغلاط في حس وفي
وهم وتلك طبيعة الإنسان
والكل شيء واحد في نفسه
ما للتعدد فيه من سلطان
فالضيف والمأكول شيء واحد
والوهم يحسب هاهنا شيئان
وكذلك الموطـوء عيـن الــوطء والـ
وهــم البعيـد يقـول ذان اثنــان
وهكذا نهج ابن القيم الجوزية منهج شيخه ابن تيمية في تكفير من نسبهم إلى الحلولية والاتحادية وأصحاب الوحدة.
انظر: أحمد بن إبراهيم بن عيسى، توضيح المقاصد وتصحيح القواعد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم، المكتب الإسلامي، ط (٣) 1986، ج١/133- 150.
– عبد المنعم الحفني، الموسوعة الصوفية، القاهرة، دار الرشاد، 1992، ص ص ٣٣٣ – 335.
(35) أغلظ ابن تيمية القول في حديثه عن العفيف التلمساني ولم يتورع في تكفيره وزندقته ووصفه بالفاجر، قال: »كان الفاجر التلمساني الملقب العفيف، يقول: كان شيخي مُتَرَوْحنا، والأخر فيلسوفاً متروحنا«، والمقصود هنا هو صدر الدين القونوي الذي وصفه ابن تيمية بأنه كان متفلسفاً وأبعد ما يكون عن الشريعة والإسلام. وقال أيضا في التلمساني: وأما التلمساني ونحوه فلا يفرق بين ماهية ووجود ولا بين مطلق ومعين، بل عنده ما ثم سوى، ولا غير بوجه من الوجوه، وإنما الكائنات أجزاء منه وأبعاض له بمنزلة أمواج البحر في البحر، وآخر البيت من البيت، فمن شعرهم:
البحر لا شك عندي في توحده
وإن تعـدد بالأمــواج والزبــد
فلا يغرنك ما شاهدت من صور
فالواحد الرب ساري العين في العدد
ومــنـــــه:
فما البحر إلا الموج لا شيء غيره
وإن فرقتـه كثــرة المتعـــدد
ولا ريب أن هذا القول هو أحذق في الكفر والزندقة كما يقول ابن تيمية.
وقال ابن تيمية في موضع آخر: وحدثني الثقة عن الفاجر التلمساني أنه كان يقول: القرآن كله شرك ليس فيه توحيد وإنما التوحيد في كلامنا.
انظر: ابن تيمية، الرسائل والمسائل، مرجع سابق، ج١/183، ج٤/27 – 28، ج٤/١٥.
(36) قالها في معرض كلامه عن ابن عربي وفي نقده كتابه الفصوص.
انظر: ابن تيمية، الرسائل والمسائل، مرجع سابق، ج١/182.
(37) نشر عبد الرحمن الوكيل الرسالتين في كتاب واحد أسماه »مصرع التصوف«
انظر: برهان الدين البقاعي، مصرع التصوف، تحقيق عبد الرحمن الوكيل، د. ت.
(38) صالح بن مهدي المقبلي، العلم الشامخ في تفضيل الحق على الآباء والمشايخ، القاهرة، 1328هـ، ص 369.
(39) انظر على سبيل المثال:
– عبد الرحمن الوكيل، هذه هي الصوفية، بيروت، دار الكتب العلمية، ط (٣) 1979.
– أحمد صبحي منصور، العقائد الدينية في مصر المملوكية بين الإسلام والتصوف، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000م.
(40) ابن عربي، ديوان ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق، دراسة وتحقيق محمد علم الدين الشقيري، ط (١)، القاهرة، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، 1995، ص173.
(41) المرجع السابق، ص175.
(42) هو مريد ابن عربي، لزمه مدة ثلاث وعشرين سنة في المغرب والمشرق، وروى عنه كتباً كثيرة، وقد ألف ابن عربي من أجله بعضاً من رسائله. انظر: ابن عربي، الفتوحات المكية، تحقيق عثمان يحيي، الهيئة العامة للكتاب 1972، ١/72، ٥٠٥.
(43) كان من أصحاب ابن عربي، صوفي حنفي تونسي، شرح بعض مؤلفات ابن عربي، انظر: الزركلي، الأعلام، ج١/315.
(٤٤) ابن عربي، ديوان ذخائر الأعلاق شرح ترجمان الأشواق، مرجع سابق، ص176.
(45) المرجع السابق، ص176.
(46) ابن عربي، الفتوحات المكية، بيروت، دار صادر، ج٣/562.
(47) محمد علم الدين الشقيري، ديوان ابن عربي »ذخائر الأعلاق«، مرجع سابق، ص83.
(48) ابن عربي، ترجمان الأشواق، بيروت، دار صادر، 1981، ص ص 10-١١.
(49) لم يتوقف ابن عربي عند وضع شرح لديوانه »ترجمان الأشواق« فهناك رواية تذكر بأن ابن عربي طلب في رسالة موجهـة لابن الفارض أن يضع شرحاً للتائية الكبرى المسماه »نظم السلوك«، وأن ابن الفارض رَدّ عليه بأن فصوص الحكم والفتوحات المكية شرح لها. وهكذا لم يتورط ابن الفارض فيما تورط فيه ابن عربي من قبل، وهذه الرواية – إن صحت – تدل على مدى تأثير العاذل الديني على الشاعر الصوفي.
انظر: المقري، نفح الطيب، القاهرة، د.ت، ج١/100.
ومحمد مصطفي حلمي، ابن الفارض والحبّ الإلهي، مصر، دار المعارف، ط (٢)، 1985، ص41.
(50) يعلل ابن زروق استخدام الرمز في اللغة الصوفية قائلا:»داعية الرمز، قلة الصبر عن التعبير، لقوة نفسانية، لا يمكن معها السكوت، أو قصد هداية ذي فتح؛ معنى ما رمز، حتى يكون شاهداً له، أو مراعاة حق الحكمة في الوضع، لأهل الفن دون غيرهم، أو دمج كثير من المعنى، في قليل اللفظ، لتحصله وملاحظته، أو إلقائه في النفوس أو الغيرة عليه، أو اتقاء حاسد، أو جاحد لمعانيه أو مبانيه«.
انظر: ابن زروق، قواعد التصوف، مرجع سابق، ص147. يقول أبو الحسن الششتري:
وما الوصفُ إلا دونه غير أنني
أريد به التشبيب عن بعض ما أدري
وذلك مثلُ الصوتِ أيقظ نائماً
فابصر أمراً جَلّ عن ضابط الحصر
فقلــت لــه الأسمــاء تبغــي بيانـه
فكانـت لـه الألفــاظ ستـراً على ستر
انظر: ديوان أبي الحسن الششتري، ص51.
(51) يوسف اليوسف، الغزل العذري، ص ص ١٦١-162، نقلاً عن منصف عبد الحق، الكتابة والتجربة الصوفية نموذج محيي الدين بن عربي، الرباط، منشورات عكاظ، 1988، ص 439.
(52) ديوان ابن الفارض، مرجع سابق، ص ص 83-84.
(53) ديوان ابن الفارض، ص ص 177-178.
(54) وردت في القرآن في سورة مريم، في الحوار الذي كان بين إبراهيم – عليه السلام – وأبيه، إذ قال له أبوه: «قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا« سورة مريم، الآية 64، وفي (مليا) قولان: الأول مليا أيّ مدة بعيدة، والثاني مليا بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح.
أنظر: الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، مرجع سابق، ج١١/229.
(٥٥) النابلسي، شرح ديوان ابن الفارض، مرجع سابق، ج٢/37.
(56) يذكر سبط ابن الفارض في ديباجة ديوانه نقلاً عن خاله وَلَدِ ابن الفارض، قائلا: »وكان عليه نور وخفر، وجلالة وهيبة، وكان إذا حضر في مجلس يظهر على أهل ذلك المجلس سكون وسكينة. ورأيت جماعة من مشايخ الفقهاء والفقراء والقضاة وأكابر الدولة من الأمراء والوزراء ورؤساء الناس يحضرون مجلسه وهم في غاية ما يكون من الأدب معه والاتضاع له، فإذا خاطبوه كأنهم يخاطبون ملكاً عظيماً، وإذا مشى في المدينة يزدحم الناس عليه يلتمسون منه البركة والدعاء، ويقصدون تقبيل يده فلا يمكّن أحداً من ذلك بل يصافحه. وكانت ثيابه حسنة ورائحته طيبة«.
انظر: ديوان ابن الفارض، مرجع سابق، ص21.
(57) المرجع السابق، ص112.
(58) المرجع السابق، ص107.
(59) المرجع السابق، ص53.
(60) يتجلى هذا الإفراط في التأويل عند شراح ديوان ابن الفارض لاسيما عبد الغني النابلسي (ت1143هـ) الذي أخرج الكثير من الأبيات عن مقاصدها الشعرية وألحقها بالمفاهيم الصوفية. انظر: عبد الغني النابلسي، كشف السرّ الغامض، تحقيق أبو الفضل إبراهيم، القاهرة، مؤسسة الحلبي، 1972، ج١/214.
(61) ديوان ابن الفارض، مرجع سابق، ص118.
(62)عبد الغني النابلسي، كشف السرّ الغامض في شرح ديوان ابن الفارض، مخطوط، ص173.
(63) ديوان ابن الفارض، مرجع سابق، ص90.
(64) المرجع السابق، ص129.
(65) انظر: ديوان أبي الحسن الششتري، مرجع سابق، ص 104، ١١١، 276، 296.
(٦٦)المرجع السابق، ص34.
(67) سورة النجم، الآيات ٢
(68) سورة الحج، الآية 46.
(69) ديوان أبي الحسن الششتري، مرجع سابق، ص 41.
(70) سورة القصص، الآية 36.
عباس يوسف الحداد (باحث واكاديمي من الكويت)