ها قد انتهت الدروس إذاً. مرت الأيام سريعة ونسيت الآن آلامها الأولى وتذوقت طعم «الاستنارة» الرائع هذا. لكن ماذا بعد؟ ما الذي يتوجب علي فعله؟ وكيف ينبغي أن أواجه الحياة الحقيقية التي تجري الآن تفاصيلها وأحداثها خارج أسوار هذا البيت. متى سأغادر وأين أتجه بعد هذه الانعطافة الكبيرة في الوعي بالأشياء داخلي؟ في السابق كانت أسئلة مثل هذه كافية لإثارة الرعب والقلق في النفس، لكنها الآن مجرد أسئلة خاوية لا يمتد أثرها للداخل، وبدلاً من الغرق فيها صرت أراقب كيفية حدوثها وظهورها وتصاعدها في العقل وزوالها، وكنت قادراً في لحظة على نسيانها والتركيز في خطوتي التالية.. وهي النوم. نعم النوم، وفي الغد ستنكشف الإجابات من تلقاء نفسها فلا داعي للقلق أصلاً.
استيقظت في السابعة صباحاً وتحممت سعيداً بالماء البارد وأنا أراقب حباته تسقط مثل زخات مطر صناعي من رشاش الماء المعلق في السقف. لم يحدث طوال فترة الاستحمام أن سرحت بخيالي أبعد من تلك الدقائق التي عشت تفاصيلها لحظة بلحظة. تجففت بمنشفة كتب عليها (صنع في الهند) ولبست كندورة إماراتية بيضاء وخرجت إلى الحوش وكان الزوجان بانتظاري على الطاولة وأمامهما صحن مغطى وكيس خبز. وبدلاً من إلقاء تحية الصباح بخجل كما اعتدنا في الأيام السابقة، قام الاثنان وعانقاني من جديد بحرارة وحب شعرت به صادقاً ينبع من قلبين مخلصين.
قالت نور وهي تمد لي مفتاحاً: هذا مفتاح البيت وسيظل معك. وسوف يكون هذا بيتك وهذه غرفتك. بإمكانك الخروج إن أحببت. لقد أعددت لك الأفطار اليوم بيدي، ولكن اعذرنا فقد سبقناك في الأكل.
قلت: شكراً ورفعت غطاء الصحن لأجد كمية من الخضراوات المقلية المخلوطة بالبازلاء والذرة وبدأت بالأكل فوراً.
سألتني: ما هو شعورك. كيف رأيت تجربة التأمل؟
قلت: انها تجربة رائعة بالتأكيد. أشعر أنني ولدت من جديد.
ولأول مرة سمح برهان لنفسه بالتدخل وقال: إن التجربة التي خضتها كانت صعبة بالتأكيد.. كثيرون لم يصمدوا حتى اليوم الثاني أو الثالث. لكنك تبدو مختلفاً عن الجميع. الفكرة الأساسية من وراء ذلك كله هو أن تظل متوقد الذهن لما يحدث حولك، عليك أن تواصل التمارين وجلسات التأمل من الآن فصاعداً لمدة ساعة أول الصبح، وساعة قبل النوم لكي تحافظ على المكانة التي وصلت إليها وإلا سوف تتراجع تدريجياً، وسوف يسيطر عليك الذهن مرة أخرى ويقودك إلى الانغماس في الأفكار والهواجس ويبعدك عن الاستمتاع باللحظة التي تعيشها الآن.
لا يحتاج الموضوع كله إلى فلسفة، فقط عليك أن تواصل الجلسات صباحاً ومساء، وسوف تجد أن ما يحدث لك طيلة اليوم لا يؤثر بك مهما كان نوع الحدث الذي تتعرض له أو الكلام الذي يقال لك أو ما تشاهده.
أنت الآن تملك القدرة على فهم طبيعة عمل الذهن الذي يتلاعب بالبشر ويجعلهم يميلون إلى هذه الجهة أو تلك. إلى تجنب الألم أو إلى الميلان ناحية تحقيق اللذة الآنية الزائلة. خذ مثلاً موضوع الأكل. فقد تدفعك الرغبة إلى التهام الأكل عندما تشم رائحة شواء لذيذة، لا بأس إن حدث ذلك، لكن عليك أن تدرك أثر هذه الرائحة عليك أولاً، وما الذي تولده فيك من مشاعر وتوق إلى ترك ما بيدك والذهاب إلى مصدر تلك الرائحة.
عندما تأكل اجعل فعل الأكل محايدا من دون أن تتلبس حالة النهم، وإلا سوف تعاودك هذه الرغبة من جديد وتدفعك الى المزيد من الأكل إلى أن تصل حد الشبع، وعندها ستضطر إلى التوقف مجبراً، وسوف تتحول رغبة أكل الطعام إلى حسرة لأنك غير قادر على اكمال الوجبة كلها. وهذا المثل البسيط ينطبق على جميع أمور الحياة. بمعنى آخر تستطيع أن تفعل كل شيء ولكن بتجرد وحياد وليس من دافع السقوط في رغباتك.
وكمن يريد أن يقدم نفسه كمعلم، واصل برهان شروحه لهذه الأفكار نظرياً، لكني كنت أود تجربتها على أرض الواقع واختبارها بنفسي، ولذا انتظرت إلى أن انتهى من كلامه وبادرته بسؤال:
ما هي النتيجة النهائية التي نخرج بها من كل ذلك؟
قال: النتيجة أنك لا تعود تتألم من شيء، وسوف ترى أن الأمور المادية في الحياة ليست بذات قيمة تذكر لأنها زائلة في أصلها. لا يوجد شيء خالد، حتى جسدك عبارة عن شيء يتحلل ويذوب يومياً وسوف يزول يوماً ما. ولن يبقى بعد ذلك سوى الوعي الذي يكونك ويكون روحك. هذه الروح لن تعود تتعذب لأنها ليست متعلقة بأشياء الحياة المادية، وعندما يموت الجسد فإنها ستكون واعية لذاتها فقط من غير ارتباط أو رغبة في هذا الشيء أو ذاك، ولذلك فإن الهدف النهائي من وراء هذه التجربة هو الوصول إلى حالة التوحد مع الذات بالكامل وتطهيرها من التعلق بأي شيء دنيوي، ولن يتم ذلك إلا عبر «المراقبة» والانتباه التام وعدم الانجراف وراء أي نوع من الرغبات إلا تلك التي تعتبر ضرورية للبقاء على قيد الحياة. نحن لا نقول لك لا تجمع المال مثلاً، بل نقول لا تكن عبداً له. ولا نقول لك لا تخف ان ظهرت شاحنة أمامك وأنت تعبر الشارع، بل نقول راقب خوفك واطرده في الحال قبل أن يتسرب إلى أعماقك ويصبح عائقاً لك. لقد رأيت بنفسك أن الألم يزول في النهاية إذا لم تقاومه. وعليك أن تتعامل مع بقية الأمور بنفس الطريقة.
قالت امرأة الظل: سوف تختبر هذه التجارب بنفسك في الأيام المقبلة. لايزال لدينا الكثير من العمل. في الثانية ظهراً سنغادر إلى مدينة الفجيرة.. هناك تجمع لعدد من «المعلمين والمتنورين» سيأتون من كل المدن في الإمارات ومن بعض الدول المجاورة وتحديداً من البحرين وسلطنة عمان ولبنان، وهناك سنتعرف على واحد من كبار المعلمين الروحانيين الذي يقوم بزيارة قصيرة تلبية لدعوة انتظرناها لشهور.
قلت كيف يمكن أن أعيش بلا تعلق أو رغبة في الحياة. هذا إعلان موت مبكر. موت قبل الموت. فلماذا نحيا إذاً؟
قال برهان: نحن نحيا لنتعلم، وغاية الحياة بالنسبة لنا هو فهم الذات في طبيعتها الأصلية الأولى، عندما نجردها من كل العوالق والآثار التي تراكمت عليها بمرور السنين، وبالأخص آثار الخوف وهو العدو الأول للإنسان. الكل يخاف، حتى كبار المعلمين يخافون من الموت لو يقترب، ونحن نقول أن الموت هو مجرد خطوة في مسيرة الحياة وليس النهاية، الروح أو كما نسميها نحن «الوعي» تظل حية، والذات عندما تتجرد من الخوف تصبح غير محدودة بزمن أو مكان، أنها ذات حرة لا يكسرها الموت أو الخوف ولا يدفعها بعيداً عن طريق الحقيقة اللانهائي. نحن مجرد ذوات تمضي في الدرب الصحيح، وهو درب الخير والصفاء والمحبة المجردة تماماً من كل منفعة، المحبة التي بلا شروط، فقط نظل كائنات محبة للخير وفعل الخير بداية من النية المبطنة ووصولاً إلى الفعل العلني..
سرح برهان بنظره قليلا ثم واصل الحديث..
انظر ماذا تفعل الرغبات بالبشر، انها تقودهم إلى الجنون والقتل والحروب العبثية، ولا يوجد خلاص من هذا البؤس إلا عن طريق المشي في درب الالتزام والمسؤولية ونشر مبادئ المحبة في العالم. هكذا نادى المصلحون والأنبياء على مر العصور ولكن للأسف فسرت تعاليمهم بشكل خاطئ دائماً. حتى أن البعض يبرر لنفسه قتل الآخرين والاستحواذ على ما يملكونه وكأنه حق له وحده. وهذه نظرة قاصرة وآنية ونحن نواجه كل هذا ليس بالانتقام وإنما بالتطهر وزرع بذرة الخير في جميع تصرفاتنا وأفعالنا وأقوالنا. وهذا الخير يعم وينتشر بين الناس. لا نقول أننا سنخلص العالم من الشر، بل نحاول أن نخلص أنفسنا منه. وأول خطوة في هذا الطريق هو التعرف على الخوف في دواخلنا واقتلاعه من جذوره وعدم السماح له بأن يظهر وينتشر من خلالنا. وعملية مقاومة الخوف ومراقبته يجب أن تكون مستمرة في أدق تفاصيل حياتنا. فالكذب على سبيل المثال هو نتاج الخوف، حتى لو كانت تلك كذبة بريئة. وأحياناً نكذب على أنفسنا وهذا شر دفين يجب الالتفات لمكمنه. وقس على هذا بقية الأمور.
قلت: الهدف الأسمى إذن هو فهم الذات والتخلص من حالة التناقض التي تفصلها إلى نصفين، نصف يرغب في هذا، ونصف لا يرغب في الشيء نفسه. أنا شخصياً عشت حياتي كلها أتردد بين هذا أو ذاك لأني لا أعرف ما هو الصواب. قد أقوم بفعل بسبب الظروف أو أكون أحياناً مجبراً ولا أملك القدرة أو الخيار في رفضه لأن تبعاته ستكون مدمرة، خذ مثلاً الوظيفة. لقد كرهت كوني موظفاً لسنوات أقوم بأفعال وأنجز واجبات لا أطيق القيام بها. كيف يمكن التخلص من هكذا أمور؟
– أنت تقع في الخطأ عندما تنحاز إلى كراهية ما تقوم به، وقد تقع في الخطأ نفسه عندما تحب ما تقوم به وتتعلق به. ولا سبيل إلى التحرر من هذا التردد – كما تقول – سوى بالمراقبة والانتباه إلى حالة الكراهية أو حالة التعلق. عند ذلك سيزول السبب الأصلي لمعاناتك.
– هكذا بساطة .
– نعم، هكذا ببساطة ولكن ليس على المستوى النظري، فهذه الفكرة لا يتقبلها العقل. عليك أن تخوض التجربة بنفسك لكي تدركها. لن يعلمك أحد شيء عن طريق الوعظ والنصيحة والكلام، عليك أن تتعلم وتفهم وترى بنفسك كيف تجري الأمور.
– سأحاول، ويبدو أن الطريق لايزال في بداياته .
– نعم الطريق لايزال في بداياته، وسيظل هكذا دائماً.. فلا تتصور أن تكون له يوماً نهاية.
كانت الشمس قد ارتفعت فوق رؤوس الأشجار وبدأت أشعتها تخترق العيون والنظرات والأفواه التي لمعت من تحتها أسنان بيضاء صافية مثل صفاء قلوب هذين الحالمين وتلميذهم الجديد. ومن فتحة باب المطبخ المواربة لمحت القطة البيضاء تتجول بسلام ثم تقلبت على الأرض وهي تداعب ذبابة مزعجة إلى أن اذعنت باستسلام كامل ونامت، فيما الذبابة لاتزال تحلّق وتحلّ حرّة فوق جسدها كله مزهوة بانتصارها الخفيف على كتلة الفرو الساذجة هذه.
في الطريق إلى الفجيرة حملت كتاباً بعنوان «شذرات من التراث العربي » لعله يسليني في الطريق الطويل الذي يمتد لنحو ساعتين إذا ما حسبنا مناطق الازدحام، لكن برهان استطاع اختصار الوقت بنحو نصف ساعة عندما استدار متخذا مسلكاً فرعياً واستدار على شارع الشيخ زايد ثم صعد على الجسر الثالث منعطفاً على التحويلة رقم 26 وهبط بعدها في شارع منسي في المنطقة الصناعية يؤدي إلى شارع الخيل، ومن هناك سلك في اتجاه مدينة العين التي تبعد 130 كيلومتراً من دبي، وخلال أقل من 10 دقائق وجدنا أنفسنا في شارع الإمارات الواسع الكبير الذي يعبر مثل أفعى عملاقة بين كل مدن الإمارات. ما فتح المجال لبرهان أن يسرع قليلاً في خط مستقيم محاذياً الشاحنات العملاقة التي تشبه طابورا من كائنات حديدية تشكل عند التصاقها ببعض ما يشبه قطاراً ضخماً ليس له نهاية. هذا المنظر القاسي – كما أراه – يدفعك أن تشيح النظر عنه بسرعة لأنه يمنعك من التمتع برؤية المناظر الصحراوية البكر حيث الكثبان والتلال الرملية تمتد على مرمى البصر وكأنها جلد الأرض المتراخي في تموجات ساحرة من ابداع الطبيعة والريح.
دفعت امرأة الظل بقرص مدمج أخرجته من حقيبة يدها المصنوعة من الكتان المزركش وأغمدته في مسجل السيارة فأنتشر عبق موسيقى هادئة سرعان ما ارتحلتُ مع ايقاعاتها المتحولة مركزاً على الانتقالات السلسة التي اعتمدها المؤلف من مقطع إلى آخر من دون أن يُشعر المستمع بنهاية الوصلة وبداية أخرى.
فتحت الكتاب الذي بين يدي من المنتصف محاولاً قراءة ما تقع عليه عيناي، لكن ذهني كان عائماً في جنة الموسيقى، أغمضت عيني وأغمضت الكتاب وسمحت للنغمات الهادئة أن ترحل بي عميقاً عميقاً إلى أن غفوت متمدداً على المقعد الخلفي ونمت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل من رواية, تصدر قريبا…
عادل خزام
كاتب وشاعر من الامارات