كمن يؤذن في مالطة. هكذا صارت حال كل من كان ينتقد الفساد في السنوات الأخيرة لحكم مبارك.
نحن بوادٍ والنظام الحاكم بواد آخر, يتباهى بثقة بأن مصر تعيش أزهى عصور الديموقراطية وحرية التعبير. الكثير منّا أدرك جيدا أن مبارك ترك للشعب حرية الكلام على طريقة «خليهم يتسلوا», وفي المقابل حرمه من حقه في أن يعيش حياة كريمة.
الكل يهرب من الواقع المؤلم, يحتضن هزيمته مرغما ويمضي بها. من اعتقد أن الدين هو الحل الوحيد اكتفى بجلباب قصير ولحية طويلة وانتهى إلى أن ما يحدث هو غضب من الله. انتاب المجتمع فجأة حالة من الدروشة متعددة الأشكال, البعض من المصريين أصيب بالفصام أيضا ؛يصلي ويقبل الرشوة في نفس الوقت ولا يجد في هذا تناقضا أبدا.
الهوس الديني للإسلاميين انتقلت عدواه إلى بعض المسيحيين في مصر. ربما هذا ما جعلني أفهم مشهدا تكرر أمامي في شهر رمضان الماضي؛ حيث كنت أجلس في مترو الانفاق بين رجلين, على يميني كان رجل يدفن عينيه في المصحف ويقرأ بصوت مرتفع, وعلى يساري يجلس الرجل الآخر دافنا رأسه في الإنجيل ويحرص على أن يكون صوته مرتفعا بنفس الدرجة. وبدا الأمر لي وقتها كأنه مباراة عبثية بين طرفين.
لم أعد أعرف ماذا كان يجب عليّ أن أفعل, أخذت نصيبي أنا أيضا من الدروشة دون أن أدرك, دفنت حياتي بين كتب الأدب, واعتبرت الكتابة جدارا أخيرا أحتمي به من الجنون. لعلي آمنت بأنه لا فائدة من أي شيء.
أصبحت أستيقظ كل يوم برعب كبير, الرعب يأتي من توقعي أن ثمة انفجارا كبيرا سيحدث, لكن لا أدري من أين يبدأ اشتعال فتيل الثورة, هل يأتي من الجياع مثلا الذين يملأون شوارع القاهرة أم من النخبة المثقفة المنقسمة على نفسها التي اكتفى أغلبها بالتنظير داخل غرف مكيفة؟!
أقول لعل الثورة تأتي من الشباب فهم طليعة الأمة دائما, وبخاصة طلاب الجامعة, ولكن أين هي الجامعة؟! لقد انهارت شأنها في ذلك شأن كل مؤسسات الدولة.
يحدوني الأمل قليلا وأنا أتابع حركة كفاية المصرية الشهيرة التي بدأت نشاطها في صيف عام 2004, وحركت المياه الراكدة في الحياة السياسية آنذاك.
تفاءلت رغم نخبوية الحركة؛ إذ أنها أخذت شكل تجمع لمجموعة من المثقفين وأساتذة الجامعات والمحامين الذين عارضوا مبدأ التمديد للرئيس مبارك. ووقفوا أيضا بشدة ضد محاولات كانت تجري على قدم وساق داخل القصر لتوريث الحكم لنجل الرئيس. وقتها خرج علينا مبارك بتصريح كوميدي حينما سُئل في حوار معه عن رأيه في هذه الحركة: «يا جماعة. . ما أنا ممكن أطلع برضه ناس يقولوا مش كفاية», وكان رد أنصاره أكثرهزلية إذ انهم سعوا إلى عمل تجمع آخر مناهض أطلقوا عليه «الاستمرار من أجل الازدهار». الشيء المثير للدهشة هو أن كثيرين من المستفيدين من النظام لم يسعوا للانضمام لهذه الحركة, أما المعارضون لمبارك, فلم ينشغلوا نهائيا بالرد عليها.
أصبحت الحركات الاحتجاجية المتوالية التي عمت البلد رسائل أمل لكل من يحب مصر ويخشى انهيارها التام. ها هم عمال غزل المحلة يضربون عام 2008, ويتضامن معهم في الإضراب حركة شباب 6 أبريل,. قلت لنفسي وقتها لعلها بداية التمرد الكبير, لعلها بداية الطريق.
حكايات قبل يوم 25 يناير
تابعت أحداث الثورة التونسية عبر الفضائيات والجرائد منذ أن أحرق الشاب التونسي محمد البوعزيزي نفسه اعتراضا على المهانة التي لحقت به. وبعدها توالت الخطابات الثلاثة للرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي. وتحولت عبارة «أنا فهمتكم» في خطابه الأخير إلى مادة للسخرية والتنكيت على صفحات الفيس بوك.
نحن المصريين نمتلك قدرة التحايل على الألم, كنا وقتها لم نبرأ بعد من حزننا على شهداء حادثة كنيسة القديسين بمدينة الإسكندرية, غير قادرين على نسيان تلك الجريمة التي هزت العالم كله ليلة رأس السنة,, شعرنا وقتها بالعار, فالمصريون لا يعرفون هذه الدموية أبدا. لم يكن بإمكاني أن أتصور أن الشيطان نفسه قادر على قتل أبرياء يصلون داخل كنيسة ويحتفلون بفرحة ميلاد سنة جديدة.
كلمات العزاء لإخواننا المسيحيين لم تعد كافية في رأيي, فقررتُ الخروج مع مجموعة من الكتَّاب والمثقفين إلى ميدان طلعت حرب, بناءً على دعوة حركة «كتّاب وفنانون من أجل التغيير», الدعوة كانت عبارة عن وقفة صامتة بالشموع حدادا على أرواح الشهداء, لكي نعلن رفضنا لهذه الجريمة البشعة, لكنني فوجئت بالأمن يمنعها, بل واعتدى على الكاتب بهاء طاهر كما أخبرني الصديق الصحفي محمد شعير الذي وصل قبلي إلى المكان. بدا لي موقف الأمن ملغزا وقتها, الوقفة كانت سلمية ولم تكن موجهة بالأساس إلى النظام, ما الذي يخشاه الأمن إذن إذا شاركنا إخواننا المسيحيين في أحزانهم, لعلي أدركت سر هذا اللغز الآن بعد نجاح ثورة 25 يناير وبعد أن علمت أن وزير الداخلية حبيب العادلي كان وراءها.
مصر ليست تونس !!!
لا أعرف لماذا لا يمكنني نسيان ملامح مذيعة قناة الجزيرة وهي تطل علينا بثقة غامضة وبفرحة تسربت بوضوح لنبرة صوتها:» هذا وقد أكدت مصادر لقناة الجزيرة بأن الرئيس زين العابدين قد غادر البلاد».
كان هذا بمثابة الإعلان عن نجاح ثورة تونس. بالطبع اتجهت كل العيون لمصر «الشقيقة الكبرى» باعتبارها المرشح الأكبر للاشتعال وانتقال فتيل الثورة إليها, فهناك حالة من الغليان الداخلي تنذر بالانفجار, خاصة بعد تزوير الانتخابات البرلمانية الأخيرة2010 واستبعاد كل أشكال المعارضة منها.
أطاح الجوع أيضا بعقول الناس فنفد صبرهم, بات العمال الذين سرّحتهم بعض الشركات يفترشون رصيف مبنى مجلس الشعب والشورى لأيام كثيرة في يناير في عز البرد,, بينما النواب المحترمون في مجلس الشعب, يمرون بسياراتهم الفاخرة بجوارهم دون أن يكلفوا أنفسهم عبء النظر إليهم.
v
أقرأ خبرا يوم 17 يناير على قناة الجزيرة يقول: «أقدم مواطن مصري على إحراق نفسه أمام مجلس الشعب في التاسعة صباحا, أقلّب في الصحف فأجد من يكتب: «في تطور ينذر بانتقال عدوى ثورة الشارع التونسي إلى مصر، أشعل صاحب مطعم بالإسماعيلية النار في نفسه أمام مجلس الشعب وذلك على طريقة الشاب «محمد البوعزيزي» الذي أضرم النار في نفسه في ديسمبر الماضي, مفجرًا احتجاجات شعبية عارمة في أنحاء تونس أدت إلى الإطاحة بحكم زين العابدين بن علي».
تخبطت أقدام الحكومة المصرية رعبا من أصداء هذا الفعل في هذا التوقيت, وبدأت هناك حالة من الاستنفار داخل مجلس الشعب لمتابعة حالة الرجل.
أفتح الانترنت وأتجول بين مواقعه, لدي إحساس غامض بأن ثمة أمرا عظيما سيحدث, لكنني لا أدري ما هو بالضبط. أجد دعوة للخروج و التظاهر يوم 25 يناير على صفحة «كلنا خالد سعيد وصفحة»شباب 6 أبريل». يتناقل أصدقائي المصريون أخبار الدعوة على صفحاتهم, البعض يعلق على اختيار هذا اليوم موعدا للثورة خاصة أنه يوافق عيد الشرطة المصرية, والبعض الآخر يحشد لليوم بحماس ويقول لسنا أقل من تونس, لكننا نجد أيضا من يسخر من الدعوة برمتها فلا توجد في نظره ثورة بموعد سابق, وأن الأمر كله سيكون مجرد يوم تتعطل فيه حركة المرورفي شوارع القاهرة.
أعثر يوم 21 يناير بالمصادفة في أحد المواقع الالكترونية على تسجيل فيديو للواء عمر عفيفي, أتفرج عليه بعدم جدية, ربما بدافع الفضول لا أكثر. إخوتي يشاركونني السخرية من الرجل ومن أدائه الكوميدي في الحديث. بالطبع كنت أعرف جيدا اسم اللواء «عمر عفيفي» ضابط الأمن المركزي السابق وأعرف أيضا قصة هروبه من مصر إلى الولايات المتحدة الامريكية بعد صدور كتابه «علشان ما تنضربش على قفاك» وبعد تعرضه أيضا لمطاردات أمنية عنيفة.
الرجل يتحدث – كما لو كان معلما يلقي دروسا على مجموعة من الصبية في مقهى شعبي, حديثه كان عبارة عن إرشادات عامة للمتظاهرين بشكل سلمي قانوني محترف ليوم 25 يناير. وعلى الرغم من أهمية النصائح والإرشادات التي يقولها, إلا أنني لم أمنع نفسي من الضحك على طريقته:
«المهم الالتزام بالمواعيد وقواعد التظاهر وعدم حمل أي أسلحة وطاعة قادة المظاهرة. مطلوب مشاركة الكل والنصر بيدكم أنتم وكلما زاد عددنا زادت فرص النجاح. لاتتظاهروا في الميادين, تظاهروا في المناطق الشعبية, خدوا معاكم زجاجات مياه معدنية وعلم مصر وحذاء مريح وسندوتشات تكفيكم طوال اليوم».
تصلني ليلة 25 يناير رسالة ساخرة «نكتة» من صديق على تليفوني المحمول, تتهكم على الطريقة البائسة الوحيدة التي قد يلجأ إليها النظام لإجهاض ثورة 25 يناير: «هذا وقد أعلنت دار الافتاء المصرية أن الرابع والعشرين هو المتمم لشهر يناير وأن غدا الثلاثاء هو أول شهر فبراير المجيد».
أضحك من النكتة وأنطلق إلى بريدي الإلكتروني ثم إلى الفيس بوك, فأجد عددا من التعليقات الساخرة على صفحات الأصدقاء الفيسبوكيين على مظاهرات الغد: «لازم ننام النهارده بدري, بكرة عندنا ثورة وماتنسوش السندوتشات».
أصبحت غير قادرة على النوم, ولا على فعل أي شيء سوى التجول بين غرف الشقة, إذ مللت الانترنت, فتحت التلفزيون وتحركت بالريموت كنترول باتجاه قناة الجزيرة أوالعربية أو البي بي سي. لم أندهش كثيرا من تصريح عصام العريان «القيادي بجماعة الإخوان المسلمين» لقناة الجزيرة, بأن الجماعة قد اتخذت قرارا بعدم المشاركة في مظاهرات الغد أي مظاهرة 25 يناير. أغلقت التلفزيون وحاولت النوم.
يوم 25 يناير
استيقظت من النوم ظهرا تحت وطأة صداع وارتفاع درجة حرارتي, يبدو أنها بوادر نزلة برد. وقبل ان أتناول شيئا من الطعام اتصلت بإحدى الكاتبات تشتغل بالصحافة لأسألها: هل توجد مظاهرات في ميدان التحرير؟ فأخبرتني أن هناك مظاهرات خرجت في أحياء متعددة من القاهرة, لكنها ستلتقي جميعا في ميدان التحرير. أقول لها بإعياء شديد وبخجل:
«يعني الناس كلها نزلت وأنا لسه في البيت. . أنا لازم أنزل حالا». أنهي مكالمتي معها وأتصل بصديقة أخرى, ناشطة سياسية تسكن بحي شبرا قرب بيتنا القديم لأعرف منها إلى أي مكان وصلت المظاهرة الخارجة من شبرا إلى ميدان التحرير, لألحق بها. فتخبرني أنهم الآن على مشارف الميدان, أودعها بجملة سريعة «أنا جاية. . . مسافة السكة».
أرتدي ملابسي وأستقل مترو الأنفاق من محطة حدائق المعادي باتجاه محطة السادات لألحق بالمظاهرات هناك.
حينما وصلت إلى ميدان التحرير أصابني الذهول, لأن أعداد المتظاهرين كانت كبيرة جدًّا وأكثر مما توقعت, تكاد تملأ الميدان عن آخره, تزداد بمرور الوقت. أسير مع الجموع التي تردد بقوة في صوت واحد: «الشعب يريد إسقاط النظام» حاولت وأنا أردد معهم بحماس تلقائي بأن أجد شيئا يدلني على أيديولوجية المتظاهرين, لكن الناس كانوا متلاحمين بشكل كبير, أغلبهم كانوا شبابا, ينتمون لشرائح اجتماعية مختلفة, هكذا خمنت من أزيائهم, لكن وجوه أغلبهم لم تكن مألوفة بالنسبة إليَّ, فلا هم من الناشطين السياسيين الذين اعتدت رؤيتهم في المظاهرات ولا هم تابعون لبعض الأحزاب الكارتونية التي تسمي نفسها معارضة. في وجوه بعضهم مسحة براءة, ونقاء أبهرني. تحدثت مع بعضهم فأكتشفت أن عددا ليس قليلا منهم من طلاب الجامعة الامريكية بالقاهرة.
فجأة خرجت مجموعات منهم وعادت بعد قليل, ومعها زجاجات مياه معدنية وسندوتشات وعلب كشري وبدأوا يوزعونها على الواقفين بإصرار «لازم تاكلوا لسه اليوم طويل».
بين الحين والحين تحدث مناوشات بين قوات الأمن المركزي وبين المتظاهرين, كلما استشعر الأمن بأن المتظاهرين قد أوشكوا على كسر الطوق الأمني الذي أحكموه حولهم, ألقوا علينا جميعا كميات هائلة من القنابل المسيلة للدموع جعلتني أختنق.
يمر الوقت وألمح بعض أصدقائي من الكتّاب الشباب من بعيد, أبتسم حين أرى الكاتبة مني البرنس جالسة على الأرض لا تبالي بأي خطر محتمل من الأمن, في ركن آخر أرى عز الدين بدوي ومحمد صلاح العزب, يوسف رخا ومعه صديقه فادي عوض, سمر نور, وكثيرين غيرهم هنا وهناك في مواقع متفرقة من الميدان.
أواصل السير والهتاف مع المتظاهرين «ثورة ثورة حتى النصر, ثورة في تونس, ثورة في مصر». ثم ألمح في الزحام -عن بعد- بعض الشخصيات المعروفة مثل أيمن نور رئيس حزب الغد والكاتب الصحفي إبراهيم عيسى. يظهر فجأة الكاتب الصحفي محمد شعير, يسلم عليَّ وهو يتأمل الميدان, ثم يبدي سعادته بالأعداد الكبيرة للمتظاهرين ويقول بثقة: «لو استمرت المظاهرات بنفس الأعداد لمدة ثلاثة أيام ممكن يسقط النظام», أبتسم تأييدا لكلامه رغم اقتناعي بأن النظام لن يُسلم بهذه البساطة وسيستخدم عند الضرورة كل وسائله القذرة.
ألمح عن بعد صديقتي «الناشطة السياسية» ومعها بعض الصحفيين, تنادي عليَّ وتلح في أن أذهب معها إلى مكتبها بالقرب من محطة الإسعاف لتحضر شيئا منه. أمضي معها مستسلمة لرغبتها, وفي طريقنا باتجاه شارع طلعت حرب نشاهد مجموعة من عساكر الأمن المركزي يحملون شوما ويسيرون باتجاه ميدان التحرير, فخمنت أن هناك نية مبيتة للبطش بالمتظاهرين. ولكن متى سينفذون. . لا أدري!!!
بعد ساعة أعود إلى الميدان مع صديقتي وأخبرها أنني لن أتمكن من المبيت مثلها مع المتظاهرين الذين قرروا الاعتصام في آخر اليوم فجأة, ربما لشعورهم بأن هناك حالة من الاستخفاف بهم وبمطالبهم.
أضطر لمغادرة ميدان التحرير قبل الثانية عشرة والعودة إلى البيت, لأنني خرجت منه دون أن أخبر أحدا بأمر ذهابي إلى المظاهرة. وقد يخرج أخي الصغير ويترك أمي المريضة بمفردها.
أصل إلى البيت قرب الواحدة صباحا, وأتصل بأحد الأصدقاء الذين قرروا الاعتصام, للاطمئنان على أوضاعهم بالميدان, لكنه لا يرد. ينتابني القلق فأقرر أن أتصل بصديق آخر فيخبرني بما فعله الأمن معهم من إطلاق رصاص مطاطي وقنابل مسيلة للدموع وضرب بالشوم و أنه الآن مختبئ في أحد الشوارع الجانبية بوسط البلد.
في اليوم الثاني غبتُ عن العمل نتيجة الإرهاق الشديد وبسبب أدوية البرد التي يبدو أن بها مخدرا جعلني غير قادرة على الحركة من السرير.
أستيقظ على رنين الموبايل, ومكالمة من صديقة «صحفية بالأخبار» كانت معي بالأمس في المظاهرة- أرادت أن تطمئن على صحتي فسألتها عن أخبار الناس في ميدان التحرير, هل حدث شيء لهم؟ فأخبرتني أنه تم إلقاء القبض على عدد من النشطاء السياسيين والمتظاهرين. , وأنه تم إغلاق محطة مترو الأنفاق «السادات» وهي محطة النزول لميدان التحرير, وأن الأمن المركزي قد أغلق كل الشوارع في وسط البلد, المؤدية إلى الميدان, تنهي حديثها بنصيحة لي «لا تذهبي بمفردك إلى هناك, الوضع الآن خطير جدا». لا أعلق على النصيحة وأنهى المكالمة.
بعد أن أعد شاي الإفطار, أستسمح أمي كي تتركني أتابع الأخبارعلى قناة الجزيرة, لأنني أعرف كراهيتها لسماع أية أخبار سيئة تصيبها بالقلق. الأخبار غيرمطمئنة بالمرة, الحكومة المصرية تعالت ولم ترد بكلمة واحدة على مطالب المتظاهرين, لم نسمع سوى بيان لوزارة الداخلية صرحت فيه بأنها ستتعامل بحسم مع المتظاهرين, في الوقت نفسه خرجت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون عبر شاشة التلفزيون لتصرح بثقة مُستفزة «بأن الحكومة المصرية مستقرة»تحدثت عن مصر وكأنها بلد تحت الوصاية الأمريكية, أو هكذا تخيلت وأنا أتابع تصريحاتها المتوالية عن بلدي.
بعد الثالثة عصرا يوم الأربعاء 26 يناير, أقرر الذهاب إلى نقابة الصحفيين بعدما علمت أن عددا من أصدقائي معتصمون هناك. أمضيت أكثر من ساعتين وأنا ألّّف في شوارع وسط البلد بعد نزولي من المترو بمحطة «سعد زغلول», حتى أجد شارعا- دون قوات أمن- أصل منه إلى النقابة, استوقفني ضابط شرطة فجأة, يبدو أنني أثرت شكوكه بلفتاتي العصبية. وربما أكون – دون أن أنتبه- قد دخلت نفس الشارع الذي يقف فيه أكثر من مرة. سألني عن توجهي فأجبت دون تفكير «إلى نقابة الصحفيين», اندهش الضابط من جرأتي وطلب بطاقتي الشخصية وقام بتفتيش حقيبة يدي ثم سألني بتحد: «تعملي ايه ياأستاذة في نقابة الصحفيين؟» أجبته بعد أن أدركت الورطة التي أوقعت فيها نفسي: «أنا رايحة مكتبة قريبة من النقابة أشتري منها كتاب». تأملني بنظرات فاحصة مليئة بالشك والارتياب ثم قال «اتفضلي بس هنا الشارع مغلق» ووصف لي شارعا آخر يمكنني المرور به ونصحني بلهجة تحذيرية بألا أذهب إلى هناك الآن. . تركته بعدما أعطيته إيحاء بأنني ممتنة لنصيحته ثم انحرفت إلى اتجاه آخر.
عبرت بالمصادفة بجوار مقهى شعبي صغير في أحد الشوارع الجانبية, يجلس عليه عدد قليل من العواجيز يتفرجون على قناة الجزيرة وهي تنقل الاعتداءات الوحشية لقوات الأمن على الشباب في ميدان التحرير وشارع الجلاء. والبعض من الشباب يدافع عن نفسه بإلقاء الحجارة عليهم. استوقفني فجأة صراخ هستيري لأحد الرجال العواجيز الجالسين في المقهى» أنا مش مصدق يا جدعان. . معقولة الكلام ده بيحصل في مصر؟؟ معقولة. . يعملوا في شبابنا كده, ولا دول شباب فلسطينيين والاسرائيليين هما اللي بيضربوهم؟!!».
لم أرغب في سماع المزيد من التعليقات المستاءة من أفعال الأمن مع المتظاهرين فمشيت. أخيرا وجدت شخصا أرشدني إلى طريقة الوصول للنقابة بشكل مختصر. اتصلتُ بصديقة لي صحفية من المعتصمين داخل النقابة, لأعرف الوضع هناك, فنصحتني بعدم الذهاب: «النقابة محاصرة يا نجاة, واحنا محبوسين داخلها». رفضت نصيحتها, وواصلت المشي. المفاجأة كانت في انتظاري قرب نقابة الصحفيين, الشرطة تضرب بالشوم وتسحل كل من يمشي في الشارع وتشتبه في أن يكون من المتظاهرين.
ضرب برصاص حي وبرصاص مطاطي هنا وهناك, وعربات صغيرة يُوضع فيها بمهانة كل من يُقبض عليه.
لا أمل لي في دخول النقابة للاعتصام مع أصدقائي ولا حتى في عودة آمنة إلى البيت. أذهب إلى شارع جانبي هربا من الرصاص فيرن هاتفي, كانت صديقتي الموجودة بالنقابة تحاول مرة أخرى أن تترجاني أن أعود من حيث أتيت, لأنها تحاول هي وبعض المعتصمين الهروب من النقابة من أحد الأبواب الجانبية, بعدما علموا أنه سيتم القبض عليهم خلال ساعات.
أعود إلى البيت بكم هائل من الغيظ والإحباط. ولا أخبر أمي بأي شيء, هي تعتقد أني كنت في العمل, أو هكذا ادّعيت أمامها حينما سألتني أين كنتِ؟ بعدما لاحظت هيئتي المضطربة.
أقلّّب في محطات التلفزيون فأجد الإعلامي عماد أديب منتشرا في كل الفضائيات المصرية. يتحدث وينظِّر – كعادته – باعتباره واحدا من المقربين لنظام مبارك. دمي يفور وهو يكرر بثقة «مصر ليست تونس, احنا عندنا نظام ديمقراطي, ومبارك ليس زين العابدين, المصريون ينظرون إلى رئيسهم باعتباره الأب, ولو رجعنا للتاريخ سنجد أنه لا يوجد لدينا سوى الأب الفرعون الذي لا يثور عليه أبناؤه». أغلق التلفزيون بدلا من أن أخرج عن شعوري وأحطم شاشته.
يمر الخميس, ولا أجد حلا, أتصل بصديقة روائية أسألها ماذا سنفعل؟ لا يجب أن نسكت لابد من مواصلة المظاهرات. ولكن كيف؟ ظلت تكرر بأن الذهاب إلى ميدان التحريرمخاطرة غير مضمونة, فلابد أن يكون الخروج جماعيا وضمن مظاهرة كبيرة وأنه يمكنني الذهاب إلى أي حي شعبي والخروج مع المتظاهرين فيه إلى الميدان. اعتبرت كلامها غير منطقي. كيف يمكنني الذهاب بشكل عشوائي إلى أي حي شعبي؟! وما الذي أدراني أن هذا الحي الشعبي- تحديدا- دون غيره ستخرج منه مظاهرة إلى ميدان التحرير, هذا إن لم أتعرض طبعا لأي سوء محتمل بسبب الفوضى الأمنية. أنهيت مكالمتي معها بعصبية.
بعد منتصف الليل, عاودت نفس الصديقة الروائية الاتصال بي, وأخبرتني «خلاص يا ستي ممكن تخرجي في مظاهرة بكرة من أقرب جامع لبيتك» أخبرتها أن أقرب جامع, لبيتي هو جامع الفتح بشارع 9 بالمعادي, فأكملت حديثها: «الناس هتخرج بكرة بعد صلاة الجمعة من كل الجوامع في مصر إلى ميدان التحرير». اكتفيت بسؤال ساخر وهيمشوا من المعادي لحد التحرير؟! ثم أنهيت المكالمة سريعا كي لا أدخل معها في نقاش لا معنى له. ففكرتي عن أهل حي المعادي أنهم أناس لا علاقة لهم بفكرة المظاهرات أو النضال لا من قريب أو بعيد, وأن أغلب أثريائه لديهم أوهام طبقية ويعاملون الناس من فوق, هكذا كنت أتخليهم».
أقلقتني أيضا فكرة أن المظاهرات ستخرج من الجوامع, هل للجماعات السلفيةأو الإخوان المسلمين علاقة بإشعال الثورة المصرية؟هل أجد نفسي فجأة أشارك في ثورة تتزعمها التيارات الإسلامية, التي عشت عمري كلها أخشى هيمنتها على مصر, رغم علمي أن هذه التيارات صنيعة نظام مبارك والسادات من قبله, فهي «البعبع» الذي يخيف به الغرب من وقت لآخر ليحرصوا على دعمه خوفا منها.
لكنني تذكرت فجأة أن عددا من الدعاة السلفيين والشيوخ قالوا أيضا قبل ان تبدأ ثورة 25 يناير وفي الأيام الأولى منها بحرمانية الخروج على الحاكم والثورة فتنة وأن على المسلمين أن يحذروها. فازددت حيرة!! لم أعد أفهم كيف تدمن الضحية سوط الجلاد إلى هذا الحد !!
قررت أن أطرح حيرتي جانبا وأذهب لأتناول عشاءً خفيفا قبل النوم.
فتحت قناة الجزيرة مرة أخرى فعلمت أن المتظاهرين سيخرجون غدا بعد صلاة الجمعة, وأنهم أطلقوا عليها «جمعة الغضب», فيما أعلنت الحكومة المصرية بأنها لن تسمح لهم بالخروج وستتعامل بحسم أيضا.
كذلك ألقى الأمن المصري القبض على عدد كبير من جماعة الاخوان المسلمين في كل محافظات مصر وحذرهم من الخروج في جمعة الغضب. أما مفتي الجمهورية «علي جمعة» فكان على إحدى القنوات المصرية يتحدث إلى المصريين- المسلمين منهم تحديدا- ويخبرهم باستحياء بجواز عدم الذهاب إلى صلاة الجمعة في حالة الخوف من الفتنة على النفس أو المال. قلت لنفسي وقتها بشيء من الامتعاض: «لا بأس, الرجل يدافع عن مصالحه وعن وظيفته».
جمعة الغضب والزحف إلى ميدان التحرير
نهضت من النوم صباح 28 يناير قبل صلاة الظهربقليل ووجدت أخي الصغير يستعد للخروج ويكلم صديقا له من جيراننا في العمارة: «أنا هستناك بعد الصلاة ماتتأخرشي», دب القلق في نفسي وسألته عن أي مكان سيخرج إليه؟ فأخبرني بأنه سيصلي الجمعة ويعود للبيت بعدها, نصحته باستعطاف ألا يذهب بعيدا عن المنطقة التي نسكنها.
كنت خائفة جدا عليه فالأمور تبدو غير مطمئنة, وربما خفت أيضا من طيشه بسبب حداثة سنه, ولمعرفتي بأنه لا يمتلك خبرة تحميه, حيث إنه لم يشارك من قبل بأية مظاهرات أو وقفات احتجاجية حدثت في مصر.
ذهبت إلى جامع الفتح بعد صلاة الجمعة مباشرة, ولدي تصور أن الأمر قد لا يعدو أن مجرد وقفة احتجاجية لا أكثر, لكنني فوجئت بأعداد كبيرة تقف منتظرة مثلي جموع المصلين.
بعد خروج المصلين من الجامع انضم الناس إليهم وقبل الانتهاء من عبور شارع حسنين دسوقي انضم إلى المظاهرة مصلون آخرون من جامع الفردوس الموجود بنفس الشارع, وكلما مررنا بشارع آخر زادت الأعداد, انتبهت فجأة إلى أن الجمهور المحرك للمظاهرة هو الالتراس من فريقي الزمالك والأهلي.
لا أنكر أنني كنت أخشى الالتراس جدا فيما سبق – وبخاصة الالتراس الأبيض, ربما لعنفه وجنونه وأتجنب المشي في الشوارع بعد أية مباراة يشارك بها خوفا منه, ولكنني هأنذا أجد نفسي أسير معه وأردد هتافاته. لاحظت أن الالتراس يكتسح الطرقات ولا يخشى الأمن أبدا في أي مكان, بالعكس كان من الواضح أن لديه خبرات سابقة في التعامل معه. كانوا منظمين جدا في تحركاتهم وهتافاتهم حتى أنني شعرت أن المظاهرة تحولت إلى لحن موسيقي متميز وهم عازفوه المهرة. وتجلت قدرات الالتراس أيضا في تمكنه من انزال الناس من بيوتهم: يهتف «واحد. . . اتنين. . . الشعب المصري فين. ؟. «, »أنت بتتفرج ليه أنت مش مصري ولا ايه؟», «علي وعلي وعلي الصوت, اللي هيهتف مش هيموت», «يا أهالينا ضموا علينا» يامبارك. . يا مبارك, جدة. . جدة في انتظارك».
حينما توقفت المظاهرة بجوار قسم المعادي بدأت أرى أطرافا أخرى تنضم إلينا: رجالا بسطاء ونساء شعبيات بجلاليب وشباب صغار السن من حي البساتين, وشبابا آخرين يبدون من هيئتهم أنهم من أثرياء المعادي. فتأكدت وقتها أنها ثورة شعبية بامتياز.
كلما شعر الشباب المتظاهرون بأن الأمن يقترب منهم يرددون بصوت عالٍ ويصفقون بأيديهم «سلمية. . سلمية».
قبل أن نعبر الشارع المؤدي إلى كورنيش المعادي بدأ الناس يطلون علينا من البلكونات بفرح و يحيوننا بمحبة وبامتنان كبير, كأنهم كانوا يتمنون مرورنا تحت نوافذهم. كنا كمن يسير في موكب عرس لا مظاهرة غضب. البعض منهم أنزل لنا كميات كبيرة من زجاجات المياه المعدنية والفاكهة وزجاجات البيبسي كولا. كأنني في حلم, كأنني دخلت لتوي مشهدا سينمائيا تاريخيا. الشباب من حولي يرفعون العلم المصري بثقة لم أرها من قبل, يلفت انتباهي الكم الهائل من كاميرات التصوير المصوبة من النوافذ ومن المارة لهذا المشهد المهيب, وحرص المتظاهرون أنفسهم على التقاط صور للمظاهرة, كأن الكل يدرك أنها لحظة تاريخية فارقة لا ينبغي أن يفوت عليه أمر توثيقها بالصور. شعرت لأول مرة بالحميمية مع غرباء ألقاهم لأول مرة. نقطع معا كورنيش المعادي بفرحة. كان يجمعنا حلم واحد طوال الطريق هو أن يسقط النظام والظلم معه.
أهتف بحماس مع سيدات محجبات يرتدين جلابيب شعبية, كن يهتفن «يا سوزان. . . . صحي البيه كيلو العدس بعشرة جنيه». فجأة يعكننني هتاف شخص «إسلامية. . . إسلامية» أوقفه بصوت عال وبغضب شديد,: «وبعدين احنا اتفقنا على عدم تردديد شعارات دينية, مصر لأولادها على اختلاف دياناتهم».
يبدو أنني فهمت الرجل خطأ, فلم يكن من الإخوان المسلمين أو الجماعات السلفية – كما حسبته للوهلة الأولى – ربما بسبب لحيته الطويلة. هتافه كان عفويا, ولعله سمعه من أحد وردده دون أن يفهم مغزاه. خمنت هذا من كلامه معي واعتذاره المهذب. وابتسمت بشدة لعبارته:» أنا آسف والله ما أقصد حاجة, أنتو إخوتنا وفوق راسنا من فوق». أغلب الظن أن هذا الرجل البسيط, اعتقد أنني مسيحية ربما لعدم ارتدائي الحجاب.
الشمس حامية فوق رؤوسنا رغم أننا مازلنا في شهر يناير, يصمت الناس فجأة حينما يسمعون صوت أذان العصر, البعض يدخل مسجدا قريبا ليصلي والبعض يقرر الصلاة في الشارع حتى لا نتأخر عن المظاهرة الموجودة بالميدان, فجأة يجهز الشباب المسيحيون أنفسهم بطريقة سريعة وتلقائية لعمل كردون حول المصلين تحسبا لأي هجوم محتمل من الأمن على إخوانهم المسلمين أثناء الصلاة». شعرت بالفخر وبالفرحة معا لكوني مصرية وبكيت تأثرا, هذا أروع مشهد شاهدته في حياتي, هذه هي مصر التي أتمناها, تذكرت وقتها كل ما قرأته عن ثورة 1919 العظيمة التي التحم فيها كل المصريين «مسلمون ومسيحيون» كم تمنيت مرارا أن أعيش زمنها. لكن لا يوجد الآن إنجليز بالبلد ولا يوجد زعيم يشبه سعد زغلول تهتف الجماهير باسمه. لا يوجد أي زعيم أو قائد للثورة, الشعب كان قائد نفسه.
جعلتني الفرحة أنسي أنني أسير منذ أكثرمن ثلاث ساعات دون حتى وجبة الإفطار ولم أنتبه إلى أنني ألبس حذاء عاليا غير مريح في قدمي جرح أصابع قدمي, ولم أشعر إلا وخيط الدماء يسيل منها, فتاة محجبة تسير بجواري قالت لي بتلقائية: «أنت على فكرة تعبانة, وشك أصفر ورجلك فيها جرح وشكلك كمان ما أكلتيش خالص» ابتسمت لها: «لا أبدا ده جرح بسيط لما نوصل التحرير هأتصرف», لكن الفتاة أسرعت وجاءت بزجاجة مياه وأصرت على وضع الماء البارد على قدمي, ليتوقف الدم, فجأة اقتربت مني سيدة شابة تبدو في الثلاثين من عمرها تعرض مساعدتها هي الأخرى, لاحظت أن السيدة ترتدي ملابس سوداء وتبدو على ملابسها ملامح الفقر الشديد, كانت تمسك طفلين صغيرين بيديها, أحدهما يبكي و يمشي بصعوبة لأن حذاءه القديم لم يحتمل السير لمسافة طويلة فتمزق. سألتها -وكلي دهشة – عن سبب إحضارها الطفلين معها, وهل سيحتملان مواصلة السير حتى ميدان التحرير. أجابتني بيأس «أنا أرملة ومعنديش حد أسيبهم معاه, احنا مالناش حد غير ربنا أبو الغلابة». وجدتني- رغما عني- أنظر في الأرض خجلا, أصبحت غير قادرة بالمرةعلى أن أرفع عيني في وجه هذه المرأة طوال الطريق, وددت أن أقول لها كلمة اعتذار عن فكرتي الساذجة التي تقول إن الناس البسطاء لا يعرفون معنى الثورة أو النضال.
واصلنا جميعا السير والهتاف, الكل سعيد, الكل يحلم بالوصول إلى ميدان التحرير كأنه أرض الميعاد.
حينما عبرنا شارع النيل كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة عصرا, بعد حوالي ربع ساعة قال لي شاب من الالتراس مداعبا: «شدي حيلك بقى. . خلاص هانت يا أستاذة». لكن قبل أن أرد على عبارته سمعت طلقات رصاص والناس في مقدمة المظاهرة يصرخون وتفرقت في ثوان جموع المتظاهرين, كثير منهم جرى إلى شوارع جانبية هربا من القنابل المسيلة للدموع. لم يعد هناك سوى صوت لإطلاق رصاص وقنابل مسيلة للدموع. وناس مصابة يحملونها بعيدا, فجأة وجدت نفسي أجري رعبا مع البعض منهم واختفت السيدة التي كانت تسير بجواري هي وطفلاها, لا أدري إلى الآن ما هو مصيرهم؟
شعرت أنني على مشارف الإغماء وبدأت أفقد توازني تدريجيا فاستندت إلى حائط بالشارع, لمحني رجل ومعه ابنه الشاب, كانا ضمن من ساروا معنا في المظاهرة التي خرجت من حي المعادي, ظلا واقفين معي حتى شعرت بتحسن قليل بعد أن شربت ماء وغسلتُ وجهي بالبيبسي كولا لأقاوم أثر القنابل المسيلة للدموع التي ألقوها علينا. شكرت الرجل وابنه الشاب اللذين نصحاني بضرورة العودة إلى البيت لأنه لا يمكنني اللحاق بالمتظاهرين الذين تجمعوا وقرروا البحث عن طريق آمن للوصول إلى التحرير. وأخبراني «الرجل وابنه» أنهما سيضطران للرجوع إلى البيت لأن الأمور باتت غير مطمئتة, وحذراني من استئناف الطريق بمفردي. شكرتهما ثانية على مساعدتهما لي وقررت عمل محاولة أخيرة للوصول إلى الميدان, لعلها تنجح.
غادرني الرجل وابنه, لكنني لم أفلح في اللحاق بالمظاهرة, خاصة أن لدي مشكلة كبيرة في معرفة الشوارع المؤدية بدقة إلى ميدان التحرير, وفي نفس الوقت لا توجد أية وسائل مواصلات في الطريق. قررت أن أتحامل على قدمي وأمشي حتى أصل إلى أي شارع رئيسي لأستقل تاكسي للعودة. خرجت إلى الكورنيش, لكن لا أحد من سائقى التاكسي يريد أن يقف لي ولا حتى سائقي الميكروباص رغم أنه لا يوجد ركاب معهم, كانت هناك رغبة هستيرية واضحة عند الجميع في الهروب سريعا من المكان, فتذكرت ضرب الرصاص منذ دقائق, وقررت الابتعاد مسافة أكبرعن هذا المكان لعلي أجد أية وسيلة مواصلات أخرى.
على بعد أمتار مني, عبر أمامي مشهد سريالي لولا الألم لانفجرت من الضحك, لمحت عربة نقل كبيرة تحمل جهاز عروسة وبعض الناس البسطاء يركبون فوقها يرقصون ويغنون ابتهاجا بالعرس دون أن تعطل مسيرتهم أو سعادتهم أصوات الرصاص أوصراخ الساقطين منه. قلت في سري: هؤلاء أناس يعيشون في كوكب آخر.
بعد ربع ساعة تقريبا من المشي وجدت نفسي غير قادرة على مواصلته, فتوقفت على أمل أن أجد تاكسي بشارع قريب من محطة مترو الملك الصالح. لكن فجأة تمر عربة نقل كبيرة, على مسافة قريبة مني وعليها مجموعة من الرجال – أغلبهم يرتدي زي المساجين – يحملون معهم أسلحة وآلات حادة. نزلوا من العربة وبدأوا يطلقون النار بشكل عشوائي في الهواء ويضربون أي سيارة تمر في المكان أحدهم كان يصرخ ويشتم الناس كأنه ثور هائج كان مربوطا منذ زمن بعيد وأطلقوه فجأة. كان يكرر عبارة واحدة كالببغاء «مابقاش فيه حكومة. . . احنا الحكومة».
ارتعشت أجزاء جسدي خاصة أنه هشم زجاج سيارة لسيدة كانت تعبر الطريق بالمصادفة, لم أشعر بنفسي إلا وأنا أجري من الخوف, خاصة أن أحدهم بدأ يقترب مني وهو يمسك آلة حادة كان يروّع بها الناس وإن كانت عيناه مصوبتين باتجاه سائقي السيارات الملاكي, شعرت أنني قاب قوسين أو أدنى قليلا من الموت الذي فررت منه منذ دقائق.
تفاديت سيارة جيب صغيرة على بعد أمتار مني, تعبرالطريق مسرعة- كانت تحاول الفرار بعيدا عن المساجين- فسقطتُ أنا على قدمي مصطدمة بالرصيف, صوت سقوطي أثار انتباه بعض المساجين, لكنهم اكتفوا بالفرجة وباتمام مهمتهم في ترويع الناس, مرت دقائق لاأعرف عددها, قبل أن يظهر فجأة الرجل وابنه اللذان كانا معي بالمظاهرة وتركاني منذ قليل. اقتربا مني وساعداني على الوقوف, خاصة أن المساجين الهاربين انطلقوا بعيدا إلى استكمال مهمتهم في اتجاه آخر لاستهداف ضحايا جدد.
ركبنا نحن الثلاثة تاكسي باتجاه المعادي حيث نسكن جميعا وصمم الرجل وابنه على توصيلي أولا للبيت للاطمئنان عليّ. نزلت من التاكسي قرب صيدلية بالشارع الذي أسكن فيه لشراء أدوية لقدمي ورباط ضاغط. أثناء دخولي إليها سمعت الناس تتحدث عن حرق أقسام الشرطة وهروب المساجين من السجون. وصوت مذيع نشرة الأخبار من أحد التلفزيونات يعلن أن الحاكم العسكري قد أمر بفرض حظر التجوال على محافظات القاهرة الكبرى والإسكندرية والسويس. وأن الحظر سيبدأ اليوم في السادسة مساء, فأنظر إلى الساعة فأجدها قد أوشكت على السادسة إلا ثلث.
أشتري الأدوية اللازمة لي وأصعد إلى البيت. أتحاشى الكلام مع أمي الغاضبة التي لم تعرف أين كنتُ منذ الصباح. أدخل إلى حجرتي وأغلق الباب جيدا ثم آخذ مهدئا بعد أن أضع كريمات طبية على قدمي ثم ألفها برباط ضاغط. لم أعد أشعر بجسدي, ولا بأي شيء من حولي, صرت أشبه مومياء تتجول بعينيها بين جدران الغرفة, قبل أن أغيب عن الوعي لعدة ساعات. فيختلط كابوس المجرمين الذين طاردوني بصوت خارج غرفتي. أستيقظ على طرق بباب الغرفة فأصحو مفزوعة, هل وصل المساجين الهاربون إلى البيت عندنا؟ إلى أين سأهرب منهم؟ هدأت قليلا حين تبينت أنه صوت أخي الصغير يناديني. تحاملت وفتحت الباب وأخبرته بأنني تعبانة شوية وأحتاج لراحة. سكتَ قليلا قبل أن يسألني «أنت كنتي في المظاهرة؟ أنا لمحت واحدة شبهك من بعيد ماشية جنب شاب طويل أسمر شايل علم مصر». بدا عليّ التوتر وأنا أرد «مظاهرة ايه؟ أنا مش فاكرة حاجة, أنت كنت فين طول اليوم؟» وبعد أن أنهيت سؤالي وقعت عيناي على بقعة دم في ملابسه, لاحظت أن يده بها آثار جرح وملفوفة برباط شاش كبير. أيقنت وقتها أنه كان يسير معي في نفس المظاهرة دون أن أنتبه له, ربما بسبب الزحام الشديد. أخبرني بخجل طفل «أنا رحت المظاهرة, ما كانشي ينفع ما أنزلشي, كل أصحابي قرروا ينزلوا, احنا لازم نغير البلد». حكي لي أنه أصيب بطلقة رصاص مطاطية قبل أن يصلوا إلى ميدان التحرير وأن أحد أصدقائه بحي السيدة زينب أخذه لطبيب يسكن في شارعه ليخرج الرصاصة ويطهر له الجرح قبل أن يستأنفا الذهاب معا إلى ميدان التحرير. ربت على كتفه وقلت له «أنت بطل. . . بس أرجوك بلاش تقول لأمك حاجة هي مريضة ومش ناقصة».
أترك أخي لأطمئن على أمي فأجدها قد أخذت الدواء ونامت. أحاول الاتصال بإخوتي المتزوجين فأتذكر أن شبكات الهواتف المحمولة مقطوعة عن مصر كلها منذ الصباح.
مسلسل البلطجية في كل مكان
أستيقظ في صباح السبت 29 ينايرعلى صوت طلقات رصاص وصراخ بعض السيدات في الشوارع, وناس تجري هنا وهناك. سألت أحد الجيران عن الأمر فأخبرني بأن بعض البلطجية قد اقتحموا بعض المحلات التجارية الكبيرة والسوبر ماركت وقاموا بسرقتها وبترويع المارة ببعض الأسلحة النارية. تمر الأيام والحكايات والشائعات تنتشرعن بنات في سن المراهقة من الأحياء المجاورة يتم اغتصابهن ثم قتلهن بعد ذلك وإلقاء جثتهن في الطريق العام, وعن أطفال صغار يتم اختطافهم من الشوارع. بدأت أفهم الغرض من هذه الشائعات بعد أن سمعت شائعة تقول أنه وجدت فتيات مذبوحات ومرسوم بالدم على أجسادهن «جزاء عاهرات مصر». ساعتها فهمت أن نظام مبارك يود أن ينشر الرعب بين المصريين ويقول رسالة للعالم مفادها أن التيارات الإسلامية المتشددة هي من تشعل الثورة وتقوم بعمليات القتل والفوضى, بالتالي سوف يكون دفاعه بأية وسائل عن نفسه شرعيا ضد هذه العصابات الإجرامية التي تهدد أمن مصر.
في الليل يأتي إخوتي المتزوجون إلى البيت ليطمئنوا علينا بعدما فشلوا في معرفة أخبارنا بسبب قطع الاتصالات ويحذرونني أنا- تحديدا- من خطر النزول إلى الشارع, فاكتشفوا أنني لا أقوى على النزول أصلا بسبب إصابتي بتمزق حاد في الأربطة دون أن أخبرهم بما وقع لي يوم جمعة الغضب.
ينزل أخي الصغير إلى ميدان التحرير ويعود إليّ مساءً بفيض من الحكايات, يخبرني عن انتصار المتظاهرين في معركتهم مع الأمن. بالطبع كنت أتابع عبر شاشات التلفزيون النصر الساحق الذي حققه الثوار في كل من مدينتي السويس والإسكندرية. لكنني كنت أود أن أعرف تفاصيل أكثر عن المعركة في ميدان التحرير وبقية أحياء القاهرة. يتحدث أخي بحماس, ويصور لي أن ما حدث هو معجزة حقيقية جرت على الأرض؛ فقد استطاعوا كسر الأمن و الدخول إلى ميدان التحرير, أخي يحكي لي أيضا عن غباء الشرطة والأمن المركزي معا وتورطهما فيما يشبه حرب الشوارع مع المتظاهرين في المناطق الشعبية والعشوائية, في حي «مصر القديمة» مثلا أطلقوا النار خطأ على «طفل صغير» كان يطل من نافذة بيته, وأطلقوا قنابل مسيلة للدموع على المتظاهرين بالحي, فاختنق الناس بالمنازل. أخي يبتسم بسخرية ويقول و«النتيجة كارثة طبعا» خرج عليهم جيش كبير من سكان الحي, أغلبهم من الشباب الذين يعملون بورش الخردة, حاملين كميات مروعة من السلاح, بعض هؤلاء الشباب أحرق بعناد وبانتقام صريح عربات الأمن المركزي, وجعل العساكر والضباط يفرون من أمامه. المضحك أن الشباب لم يكتفوا بذلك بل قاموا بتفكيك العربات المحترقة إلى عدة أجزاء وقسّموها فيما بينهم كي تباع كخردة داخل ورشهم.
مبارك يخرج علينا بعد جمعة الغضب, ويلقي خطابه الأول بوجه بارد وبكامل مكياجه المعهود, بدا كأنه يلقي خطابا في عيد العمال. شعرت برهبة عندما أدركتُُُ أن الخطاب يحمل تهديدا غير مباشر ويخيرنا بوضوح بين الحرية أو الفوضى.
فُتِحت السجون في كل مكان, وأُخرج البلطجية الذين تربوا في حضن حبيب العادلي منذ سنوات. و بدأنا نسمع أخبارا هنا وهناك عن أعمال سلب ونهب وترويع في كل الأماكن حتى إنها طالت المتحف المصري بميدان عبد المنعم رياض فقام شباب الثورة بالتصدي لها وجعلوا من أنفسهم دروعا بشرية لحماية الآثار الموجودة بداخله.
علمت بالمصادفة بأن أخوتي يقسّمون العمل فيما بينهم سرا, أخي الصغير يسهر ليلا مع اللجان الشعبية في الحي لحماية البيوت من البلطجية, وفي الصباح يذهب ليلتقي إخوتي المعتصمين ضمن المتظاهرين في ميدان التحرير.
الشعب والجيش يد واحدة
بعد انسحاب الأمن من كل مواقعه, نزل الجيش المصري إلى ميدان التحرير وبدأ يرسل رسائل لطمأنة المتظاهرين عبر بياناته المتوالية التي أبدت انحيازا لمطالبهم المشروعة. الجيش المصري له رصيد كبير من المحبة عندالمصريين, استقبلوه بالورود والقبلات في ميدان التحرير, لم يعتقد المتظاهرون لحظة أنه نزل من أجل مهمة فشلت الشرطة في تحقيقها, وهي القضاء على ثورتهم. دبابات الجيش بدلا من أن تثير الفزغ والريبة في نفوس الثوار بالميدان, بثت الطمانينة في قلوبهم. فهتفوا: «الشعب والجيش يد واحدة».
أتذكر جيدا البيان الأول للجيش الذي قرأه اللواء إسماعيل عثمان. ملامح اللواء ونظراته الهادئة ذكرتني بالشاب الذي كنت سأرتبط به بعد تخرجي من الجامعة, كان ضابطا بالجيش المصري يمتلك كاريزما من نوع حاص. ثقافته الواسعة حينما يتحدث معي كانت تبهرني دوما. ومع هذا كنت أرتاب في تسامحه الزائد مع مزاجي المتقلب, لعلي لم أستسغ وقتها فكرة العيش مع واحد من العسكر. أتذكره الآن بشيء من الحنين, ولا أعرف أين ذهب هذا الوسيم بعد كل هذه السنوات؟!!
المؤامرة الخارجية ووجبات كنتاكي
بعد أن تتحسن قدمي, أخرج إلى التحرير دون أن أخبر أمي, أقف مع المتظاهرين هناك عدة ساعات, قبل أن أفتش عن أصدقائي المتعصمين هناك وأجلس مع بعضهم حتى يحين موعد حظر التجوال فأنصرف عائدة إلى البيت.
حينما أصعد إلى مترو الأنفاق بصحبة بعض الشباب القادمين معي من الميدان, يسألنا أحد الركاب بعصبية في العربة حينما لاحظ أنهم يحملون علم مصر بأيدهم, «حضراتكم بقى من المتظاهرين بتوع التحرير؟» أجيب أنا بتسرع «أيوه». بعد إجابتي تبدأ المعركة الكلامية والشد مع الشباب, أحدهم صرخ فينا: «حرام عليكو. انتو خربتوا البلد, خدتوا كام علشان تولعوها».
أعود إلى المنزل وحينما أفتح قناة التلفزيون المصري أفهم لماذا تشاجر الناس معنا في عربة المترو. الإعلام الرسمي قام بأفعاله القذرة وشن حملة ضارية لتشويه الثورة وحولها إلى مجرد مؤامرة خارجية على أمن مصر, وبدأ يتحدث عن أجندات خارجية ينفذها المتظاهرون بالميدان, ويؤلف حكايات غير منطقية عن عملاء لجهات أجنبية ومندسين في ميدان التحرير يوزعون دولارات ووجبات كنتاكي لتجنيد المتظاهرين. أطراف المؤامرة, هم إسرائيل وأمريكا وإيران وقطر. المضحك أن بعض هؤلاء الأطراف كانوا في حكم الأعداء. كيف وحدهم ميدان التحرير!!!!
رنين هاتفي المحمول لا يتوقف بعد عودة شبكة الاتصالات المصرية للعمل, أصدقائي من الكتّاب العرب يتصلون يوميا, ليطمئنوا عليَّ ويسألونني عن الثورة وعن أحوالنا في مصر. الكل يترقب ما ستؤول إليه الثورة المصرية, لأن نجاحها يعني الأمل بالنسبة إليهم في إمكانية الخلاص من حكم الديكتاتور.
أمي تتعاطف مع مبارك
صرنا جميعا في الميدان ننتظر عبارة واحدة ينطقها مبارك هي «أنا فهمتكم» ويرحل بعدها عن الحكم, لكن مبارك شخص عنيد بطبيعته وأكثر مكرا من زين العابدين بن علي.
فشل عمر سليمان رئيس جهاز الاستخبارات ونائب الرئيس في التفاوض مع شباب الثورة حتى يفضوا اعتصامهم بالميدان ويتركوا مبارك يمضي مدة رئاسته المتبقية حتى شهر سبتمبر المقبل, فيما هرولت إلي مائدة عمر سليمان بعض أحزاب المعارضة الكارتونية لتتحدث باسم الثورة والثوار, بالطبع هرولت للجلوس معه أيضا جماعة الإخوان المسلمين «المحظورة», والذين رأوا في الدعوة فرصة تاريخية, قد لا تتكرر للاعتراف بهم كفصيل سياسي له حق الجلوس على مائدة المفاوضات.
يخرج علينا مبارك يوم الثلاثاء 1فبراير بخطابه الثاني « العاطفي»معلنا أنه لم يكن ينتوِ الترشح لفترة رئاسية جديدة وأن مصر هي الأرض التي حارب دفاعا عنها وهي البلد التي سيموت بها. تتأثر أمي وتكاد أن تبكي بعد أن ينهي مبارك خطابه. أمي لم تكن تعرف بأن أخوتي من المعتصمين بميدان التحرير إلا بعد أن يصاب أخي الكبير في اليوم التالي في موقعة الجمل.
الشعب يريد إسقاط النظام
نظام مبارك فعل كل شيء لإفشال الثورة, فيما الثوار الشباب عازمون على تحقيق هدفهم الأساسي وهو إسقاط النظام كاملا, فلم يرضوا باستبدال حكومة شفيق بحكومة نظيف. ولا رضوا بالتفاوض مع عمر سليمان نائب الرئيس.
وخطة الإعلام المصري لتشويه سمعة الثوار في ميدان التحرير جاءت بنتيجة عكسية, حيث قرر الآلاف من المصريين الذهاب بأنفسهم لميدان التحرير للوقوف على حقيقة الأمر. عندئذ لجأ الإعلام لحيلة أخرى هي إثارة التعاطف مع مبارك عبر استغلال شعبية نجوم الفن والكرة والغناء في التأثير على الناس البسطاء من المصريين, كل من يتصلون به من هؤلاء النجوم كان يتكلم عن مبارك باعتباره «رمز مصر» الذي لا يجب أن يهان أبدا, وأنه صاحب «الضربة الجوية في حرب أكتوبر التي حررت مصر من العدو الإسرائيلي». تلك الضربة التي ذلنا بها مبارك أكثر من ثلاثين عاما.
لم أستطع النوم بعد الخطاب الثاني لمبارك, وتوقعت أن الأمن يدبر مجزرة للمتظاهرين. خاصة أن التلفزيون المصري بدأ يبث أفلاما عن حسني مبارك وبطولاته كانوا يذيعونها في الغالب في احتفالات أكتوبر وفي الفترة التي تسبق الترشح لفترة رئاسية جديدة.
أحاول الاتصال بإخوتي في ميدان التحرير كي أحذرهم, لكن لا أحد منهم يرد على الهاتف, فيزداد رعبي, وتنتابني حالة توتر عصبي تفضي بي إلى صداع نصفي يكاد أن يفتك برأسي.
في اليوم التالي, تحدث موقعة الجمل التي دبرها بعض أعضاء الحزب الوطني وآخرون. يتصل بي بعدها مباشرة أحد اخوتي ويبلغني بأن أخي الكبير قد أصيب برأسه وبطلقة رصاص في يده, فنذهب جميعا للاطمئنان عليه في المستشفى.
أيقنت بعد أن قتلت القناصة الموجودة فوق أسطح المنازل والكباري الكثير من الشباب المتظاهرين, وأفقدت منهم عددا آخر أعينهم, أن سقوط النظام بات وشيكا, لأن يده صارت ملطخة بالدماء, وأصبح بيننا وبينه ثأر كبير.
أخي الكبير- رغم إصابته- يخرج من المستشفى مصمما على العودة إلى الميدان
و أمي باتت تلعن مبارك وتتمنى موته.
أقرر في اليوم التالي الذهاب إلى الميدان لأطمئن على أخي المصاب وأطلب منه العودة للمستشفى لاستكمال العلاج, لكنني فشلت في إقناعه. تركته وقررت التجول بين المعتصمين لأعرف أحوالهم, فالتقيت في طريقي – بالمصادفة- عددا من الأصدقاء:المترجم أحمد حسان والكاتب هيثم الورداني وآخرين يتفقدون الميدان بفرحة.
صرت أشعر أن مجرد الوقوف بميدان التحرير بين المتظاهرين يمنح قوة خفية هائلة للصمود, وأن شباب الثورة باتوا يعرفون كيف يحمون أنفسهم ويحمون الثورة من مبارك, ولا يسمحون لهم بالدخول إلى الميدان, الكل يخضع لتفتيش دقيق منهم, قلت لنفسي: من أين تعلم هؤلاء الشباب كل هذه الخبرات التي تفوق أعمارهم؟!!!.
رحل مبارك مرغما عن القصر الجمهوري يوم الجمعة 11 فبراير, بعد ثلاثة خطابات وثمانية عشر يوما من الثورة المصرية التي باتت محط أنظار العالم كله وبعد ضغوط شعبية ودولية كبيرة أجبرته على التنحي وسط فرحة كبيرة للمصريين.