دارين حوماني
كاتبة لبنانية
اقتحم الناقد الفلسطيني أنطوان شلحت حقل الرواية العبرية من باب الترجمة وتحديدًا عبر رواية “الطريق إلى عين حارود” للكاتب الإسرائيلي عاموس كينان (1927-2009) الصادرة عام 1984 والتي نُشرت ترجمتها في مجلة “الكرمل” الفلسطينية في نفس ذلك العام، ثم صدرت في كتاب عن “دار كلمة” في العام 1987، وقد أعادت “دار العائدون” نشرها مؤخرًا بطبعة جديدة. ثمة ظاهرة كان يود أن يتطرّق إليها أنطوان شلحت ويعرّف العالم العربي عليها فيما يطرحه الكاتب الإسرائيلي من تسجيل دقيق لذلك الكابوس المرعب الذي يحوم فوق كل إسرائيلي عن حتمية تكرار الزمن ودمار إسرائيل من جديد، وحيث تعدّ هذه الرواية أول عمل أدبي مكتوب بالعبرية يدور في فلك الرؤيا القيامية أو النهاية الفنائيّة الذي أخذ يتكرّر بعد ذلك في النتاج الأدبي العبري. يقول شلحت في تقديمه للرواية “كانت بمنزلة ’نبوءة‘ عاموس كينان في عام 1984 عن إسرائيلٍ ما”، وكما عبّر الشاعر سميح القاسم ضمن دوافع ترجمة الرواية “نجد المصداقية الكافية لناقوس الخطر الذي يقرعه عاموس كينان في روايته هذه، فلسنا هنا أمام قصة من قصص الخيال العلمي، نحن نتعامل الآن مع ضوء أحمر قانٍ يستمد مبرّره الحاسم من حمرة الدم المسفوك في بلادنا”.
في مقدمته التي كتبها في العام 1987 يذكر الشاعر سميح القاسم دوافع اختيار “الطريق إلى عين حارود” لنقلها إلى العربية مع وقفة نقدية لما تتضمنه الرواية من إيجابيات وسلبيات، ولكنه قبل عرض رؤيته النقدية يعرّفنا القاسم على علاقته مع كينان الذي وقف إلى جانب الكتّاب الفلسطينيين في معاركهم مع الصهيونية من أجل حقهم “في التعبير الحر وفي الحياة الكريمة على تراب آبائنا وأجدادنا” إضافة إلى تحوّل كينان من نصير لضحايا الرقابة على الأدب إلى ضحية لهذه الرقابة، وفق ما ذكر شاعرنا الذي سيخبرنا أيضًا كيف أن “عاموس كينان مفعم بالتناقضات، بحيث يبدو أحيانًا أشدّ أعداء الصهيونية مراسًا، ويعود من ثم ليبدو وكأنه حامي حمى الصهيونية. فتسأله حائرًا هل أنت صهيوني يا عاموس؟ ويرد بهدوء يكاد يكون خبيثًا: أنا ابن هذه البلاد ولا تهمني التسميات”!
وتعدّ مقدّمة أنطوان شلحت بعنوان “رواية ’الطريق إلى عين حارود‘ وإرهاصات ’أدب النهايات العبريّ‘” كتابًا ضمن هذه الرواية يسرد فيها شلحت بدايات الأدب الأبوكاليبتي أو أدب النهايات المكتوب بالعبرية ومسوّغات ازدهار هذا النمط من الكتابة. ويعتبر أنطوان شلحت أن نبوءة عاموس كينان بدأت تتحقق جوانب منها منذ العام 2001 حين أدين أرييل شارون من جرّاء دوره في مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982 في بيروت، وأن تشكيك الكتّاب والمثقفين الإسرائيليين بالممارسات والمسلّمات الصهيونية بدأ تحديدًا منذ هذه المجزرة. فثمة أصوات عديدة بدأت تكتب بحسّ نقدي فكري اجتماعي سياسي للممارسات الإسرائيلية منذ ذلك التاريخ، فها هو الصحافي الإسرائيلي أهارون بخار يكتب ضمن زاويته الأسبوعية في جريدة “يديعوت أحرونوت” في ثمانينيات القرن الماضي: “لقد جئنا إلى البلاد كي نبنيها ونبني أنفسنا، لا لتشريد شعب آخر والعيش على خرائبه القومية”، ويكتب بخار في مقال آخر: “شأني شأن كثيرين آخرين غيري وصلوا إلى البلاد من دون أن يعرفوا عنها معلومات كثيرة كان غريبًا عليَّ أن أواجه عربًا هنا. لم أفهم عما كانوا يبحثون هنا. لقد غسلوا مخّنا، طوال سنوات، بالادّعاء الأحمق أن هذه البلاد انتظرتنا بقفارها مدة ألفي عام وأنها كانت خالية ومهجورة. وأصابت الدهشة الكثيرين منَّا بعد أن وجدنا فيها الشعب الشقيق. وبالرغم من ذلك لم يتعودوا عليه حتى يومنا هذا تقريبًا. لكنهم (العرب) هنا. وهم مغروسون جيدًا في أرضهم وموثقون بها بتلك السلاسل التي تربط الإنسان بأرضه ووطنه. وإذا لم تعرف الصهيونية كيف تتأقلم مع حقيقة وجودهم هنا فإنها تضع كل مشروع الانبعاث اليهودي في أرض إسرائيل (فلسطين) في خطر مستمر!”. أما الصحافي الإسرائيلي “ب. ميخائيل” فيكتب في نفس الصحيفة: “يتبيّن في الوقت الراهن أنّ الأهل والمدرسين قد ألقمونا خلال سنوات طفولتنا وشبابنا بمعلومات مغرضة، كاذبة أو زائفة. ومن نافلة القول إن هدف هذه المعلومات هو أن يزرعوا في رؤوسنا أسطورة مرارة حياة اليهودي وصعوبتها في الآن ذاته. فقد ظلمه الطواغيت، ونكّل به المارقون، وذبحه القتلة، ونغّص الأشرار حياته ومعيشته من خلال القرارات والأحكام الجائرة عبر الأجيال”.
ويعدّد شلحت أهم الأعمال الأدبية العبرية التي تندرج ضمن هذا الجانر من الأدب، ومنها رواية “فندق يرمياهو” لبنيامين تموز، ورواية “ملائكة قادمون” ليتسحاق بن نير وذلك في الفترة ما قبل 2005؛ ويكتب شلحت أنه حتى العام 2005 لم يتجاوز هذا الجانر من الأدب القلق من جراء فقدان ’اليوتوبيا الصهيونية‘ سقف الافتراض بـ”وجود حلم صافٍ بريء أصبح بطريقة ما ملطخًا”، ولذا لا يتم إلقاء اللوم على ماهية ذلك “الحلم” وإنما على طريقة تحقيقه “التي لم تكن في مستوى الجنة الموعودة”، بينما الحقيقة البسيطة تقول إن ذلك الحلم ولد ملطخًا لأن صدعًا مميتًا كان في صميم تكوينه، وهذا الصدع قام ويقوم على إنكار الآخر، إذا ما شئنا استعمال التعابير المهذبة الحداثية، وفق ما يقول شلحت.
أما فيما بعد عام 2005 فقد ازدهرت الأعمال التي تنتمي إلى أدب الديستوبيا، ويعرض شلحت لرأي أحد النقاد الإسرائيليين ويُدعى أريك جلاسنر الذي اعتبر أن الدافع الرئيس الواقف وراء هذا الازدهار أن هناك أمرًا ما في الواقع الإسرائيلي الآني، وليس فقط ذاكرة الماضي، يثير الخوف والرعب والرؤى المروّعة حيال المستقبل، ورغم أنه يأخذ على كتّاب هذه الموجة أنهم ينتمون كلهم إلى اليسار في الخارطة الإسرائيلية السياسية لكنه لا يُسقط ضرورة الإصغاء إلى النبوءات السوداء الخاصة بهذا الأدب “ولو من باب الحذر والحفاظ على الذات!”. ومن أبرز هذه الأعمال رواية “الثالث” للكاتب يشاي سريد الصادرة في عام 2015 (تُرجمت للعربية وصدرت عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار في رام الله عام 2022) التي تحكي أنه بعد مرور نحو عشرين عامًا تتورّط “مملكة إسرائيل الجديدة” في حرب أخرى مع جيرانها العرب ينتج عنها خراب الهيكل الثالث. وقبل “الثالث” ظهرت روايات مماثلة كثيرة، كان أبرزها رواية “2023” ليغئال سارنا الذي يحكي عن أن قصة إسرائيل ستنتهي، لأنه في كل مرة تم فيها بناء الهيكل حلّ الخراب. وبالتزامن مع صدور “2023” صدرت رواية لكاتب إسرائيلي شاب هو روعي بيت ليفي بعنوان “جبالًا أرى”، ويحاجج بيت ليفي في هذه الرواية مقولة “الآباء يأكلون الحصرم” من خلال تقديم رؤيا مستقبلية لإسرائيل كدولة فقيرة ومهزومة، دولة فقدت حيويتها وتجرّدت من كل شيء، ويعتبر شلحت أنه “ليس من المبالغة رؤية أن لهذه الظاهرة تعبيرها الاجتماعي والثقافي ولها شهادتها المخصوصة على المجتمع، وهذا ما سعينا إلى استجلائه”.
كان عاموس كينان روائيًا وكاتبًا مسرحيًا ونحاتًا، وكان أيضًا محاربًا سابقًا شارك في مجزرة دير ياسين وأطلق النار على امرأة عربية في هذه المجزرة، لكنه أصيب في بداية العملية، وكان شاهدًا على تهجير وتدمير قرى فلسطينية عديدة. كانت أعماله الأدبية فيما بعد- كما قال- انعكاسًا لندمه على الأفعال التي ارتكبها خلال انضمامه لإحدى الكتائب الصهيونية في شبابه. فيما بعد انضم إلى منظمة تُدعى “المقاتلون من أجل حرية إسرائيل- ليحي”، وقد ادعّى عام 1989 لصحيفة الغارديان: “انضممت إلى هذه المنظمة لأنها منظمة مناهضة للإمبريالية والاستعمار… لا تقاتل العرب”. من عام 1950 حتى عام 1952، كتب كينان عمودًا ساخرًا في صحيفة هآرتس واعتُبرت هذه الزاوية الصحافية أول عمود مناهض للمؤسسة في إسرائيل بشكل عام وللمؤسسة الدينية بشكل خاص. وقد تم إخضاع أعماله للرقابة المشدّدة حيث كان يستخدم حسّه الساخر في أعماله المسرحية -تحديدًا- التي كانت تطول المؤسسة الدينية. عام 1984 نشر روايته التي نحن بصدد الحديث عنها “الطريق إلى عين حارود”، وقد تمت ترجمتها إلى ثماني لغات وتم تحويلها إلى فيلم في عام 1990.
“يتعين عليّ أن أجد عربيًا، بدون مساعدة من عربي لن أنجح بالوصول إلى وادي عارة. وكل خطتي للهرب مبنية على العرب… القضية أين ينوجد العرب وماذا يجري لهم في غمرة هذه الفوضى الكبرى. وبدأت أفكر أنني أنا هو الذي طرد العرب من هنا. أنا، سوية مع شألتئيل ودافيد، وكل الآخرين، طردناهم، ونحن احتللنا ’واهب في سوفة‘… الآن أعطي كل ما لديّ كي ألتقي أحمد أو محمود أو حسن أو علي، لأقول لهم: خذوني، ساعدوني على الخروج من هنا… سأجد محمود. إنه ينتظرني هناك منذ عام 1948”- تشكّل هذه العبارات إحدى العتبات الأولى لحكاية عاموس كينان التي تجمع بين الخيال والواقع، عن “رافي” الذي يريد الهرب من تل أبيب ولن يستطيع غير عربي إنقاذه ومساعدته للتسلل خارج هذه المدينة بعد أن تحولت إلى المدينة- الجحيم إثر انقلاب عسكري وحرب أهلية، مدينة تسودها اللاإنسانية والفوضى والشر المطلق حيث القتل والقمع ونيران الرشاشات وأعين معصوبة وأيدٍ موثقة خلف ظهورها ودوريات الحرس التي تمشّط كل مكان، والطائرات العمودية التي تطلق نيرانها على كل حركة في المدينة. إنها المدينة الفاسدة المناقضة تمامًا للـ”يوتوبيا الصهيونية” التي تم جلب اليهود من أقاصي العالم ليستوطنوا فيها بعد تهجير الفلسطينيين، وهي تمامًا ما يتوقعه عاموس كينان لتل أبيب التي ليست برأيه تلك “المدينة الفاضلة”. وتأتي الفكرة الأولى لكينان عن هذا المكان الذي ليس للخير مكان فيه كردّ فعل على جرائم الاحتلال المتكررة بحق الفلسطينيين أمام عينيه، ويضمّن فيه مزيجًا من المشاعر ولكن أبرزها أن العربي وحده من يمكن مساعدته لأن العربي هو صاحب الأرض ويعرفها جيدًا، وذلك الشعور بالندم لطرد العرب من الأراضي الفلسطينية واحتلالها، إذًا هو اعتراف غير مباشر بأن إسرائيل هي دولة احتلال، وهو ما يكرّره كينان وصولًا إلى آخر الرواية حين يقول “ذهبنا إلى الكرم، كرم محمود. ليس محمودنا. إنه محمود آخر من زمن آخر…”.
لهذه الرواية ضمير يتبدّى لنا في أكثر من مكان، ومنذ الخطوات الأولى لرحلة رافي إلى عين حارود سنرافقه في عالم يكاد يكون لا ثقب فيه للخروج منه، يتناسل الدم منه دون سؤال ودون مبرّر، وهو عالم آخر من مراجعة الذات وضرورة أن يكون المستقبل مشتركًا بين الجميع دون دم، فحين يفكر رافي بصديق إسرائيلي له من يافا لمرافقته سيعدل عن الفكرة “ولكنه من صنف الفنانين ورجال الفكر الذين لم يتورعوا عن امتلاك بيوت كانت عامرة بأهالي يافا السابقين، الذين هربوا منها بالقوارب في العام 1948”. وفي رحلته سيلتقي رافي أولًا بامرأة ستموت أمامه برصاصة طائشة كلقطة فورية عن تل أبيب المثقلة بالموت والخراب المكاني، إلى أن يلتقي بمحمود، وفور لقائه ستبدأ محاورات متضاربة الجذور والجذوات وسجالات إنسانية بكلمات بسيطة وأحيانًا بسخرية مبطنة عاكسة لروحية الكاتب الواعية والساخرة من الواقع والمتناقضة في الوقت ذاته، وتشكّل هذه الحوارات أسلوبًا سرديًا أساسيًا وعَصَبًا سيميائيًا للحدث كله، نقرأ في أحد الحوارات: “محمود: لا يطرحون السلام مع مسدس”، ليجيب رافي: “إنني أؤيد السلام مع الأمن”… و”رافي: آسف على الضربة، لم يكن أمامي خيار آخر”، فيجيب محمود: “دائمًا ليس لديكم خيار آخر”. وفي طريقهما سيصادفان قائد كتيبة إسرائيلي ومساعده السائق فيعتقلانهما لاستخدامهما كأسرى في مقابل السماح لهما بالخروج من تل أبيب، لتدور حوارات أخرى منها: “القائد: عندما تلزمنا الضرورة شيئًا ما، نفعله من دون تردد. نطلق النار ونبكي”، ليجيب رافي: “طبعًا، يطلقون النار ويبكون. أنت تطلق النار وأنا أبكي”، ثم “رافي: حدّثني عن طفولتك يا محمود/ محمود: لم تكن لي طفولة، فيقول القائد: كان من الواجب أن نقضي عليك وعلى أمثالك عندما كنتم صغارًا”، أما حين يعلن القائد عن رغبته بقتل محمود “لأنه شاهد بريغاديرًا إسرائيليًا في الأسر”، فيرفض رافي ويخبره أنه سيُحكم عليه بالسجن المؤبد إذا قتله، ليجيب القائد: “بسببه لن تُسجن يومًا واحدًا”. إن هذه العينة من الحوارات تشكّل حصصًا صغيرة من مشاعر مفكوكة من حصارها، عمارات مشيّدة بالأحرف من مدينة موصولة بالحقائق وبالخراب المرتقب، وكأننا أمام فلاش باك واقعي لما يحدث في فلسطين.
ثمة أفكار أخرى لعاموس كينان تتحرك في مساحة من النقد الاجتماعي والسياسي المحق فيها، هو يؤكد على عنصرية الإسرائيلي حين يطلق “الجنرال” الإسرائيلي على محمود لقب “العربوش” في عملية تحقيرية لكل من هو عربي، ليعود ويطلق لقب “يهودون” على رافي الذي يعدّه خصمًا له، وهنا تتجلى الصهيونية كمؤسسة عنصرية يعمل أفرادها ضمن مواقف ضمنية من التمييز والإلغاء والتوحش الباطني “فليتقدم أحدكم من الخلف ويضرب هذا «اليهودون» على رأسه. ضربوني أيضًا. لم يغمَ عليّ. سقطت مغطّى بالدم وأنا أفكر أن الجنرال يهوى استعمال كلمتي ’على فكرة‘”، لينقلنا كينان من فهم العنصرية الصهيونية مباشرة إلى ذاته ونزوع الكاتب نفسه نحو الحس الساخر.
لكن وجوه كينان في الرواية متعددة، ففي أحد المقاطع الحوارية يريد الكاتب، الذي يرغب بالتعايش المشترك من دون دم، أن يبني تصورًا عن الفلسطيني الذي لا يريد اليهودي على أرضه فيما اليهودي لا يمانع أن يكونا سويًا. يمكن لكينان أن يحرّك شخوص روايته بخيوط واهمة كما يشاء ولكن ثمة حقائق لا يمكن تزويرها ولا يمكن أن تُقال بعكس ما هو واقعي، ولا يمكن تمويل أسطر الرواية بأفكار مشحونة بالذاتي وبما يرغب الكاتب أن تكون عليه الحقيقة، فحين يقول رافي لمحمود إن مكانهم -أي اليهود- إلى جانب الفلسطينيين، سيجيبه محمود: “لا يوجد شيء كهذا في العالم. يوجد فقط إما وإما”، ليكون رد رافي: “يوجد شيء كهذا في العالم. لا يوجد إما وإما”، وتكون إجابة محمود حادّة: “ربما تحت الأرض”. وفي مكان آخر من الرواية سيغني محمود “يا أرض أبوي وأجدادي”، سيبحث رافي عن صوت أبيه هو وأجداده لكنه لن يجدهم: “غنى محمود. عرفت أنه عندما يغني عن أرضه، التي هي أرضي، فإنه يغني عن أرضه التي ليست أرضي.. لم أكن البتة في أرض محمود. إنه لم يغنّ عن قبور آبائي، عن أرض أبنائه وأجداده غنّى، لكني لم أكن فيها إطلاقًا. لم تكن لي البتة حصة في أرض محمود، ولم تكن لي ملكية ولا ميراث… لم يغنّ عن منحدراتي أو مسكني، وليس عن مصلوبي وعن مقطوع الرأس. لم يبكِ أنبيائي هنا. إرميا من عناثوث لم يقل: ويل لي يا أمي إذا ولدتني.. وأبونا الأول لم ينقش على الحجر أشهر السنة، شهر مرحشفان وشهر تشري وغيرهما. آبائي لم يبنوا وينحتوا الدرجات في الجبال.. ولا هم الذين جلبوا بواكير ثمار أراضيهم إلى الهيكل لله، رب السماء والأرض… ملكي الأخير لم يصلب في أنطاكية، ولم تبتر يداه وقدماه ولم يقطع رأسُه بحدّ السيف”، في هذا المقطع يؤكد عاموس كينان مرة أخرى أن العربي لا يعترف باليهودي على هذه الأرض، كما يستعيد كينان في هذا المقطع الروايات والوقائع اليهودية وحيث يكرّر في عمله الأدبي أسماءً وأسماء مواقع عبرية وكأنه يتقصّد ذلك “هنا اختبأ المصريون هربًا من الحثيين، والكنعانيون هربًا من بني إسرائيل، وبنو إسرائيل هربًا من كل البقية.. والماء كان دائمًا مشكلة في ’أرض إسرائيل‘.. ومجدّو هي أرمجيدون، ميدان موتنا”.. وغيرها من الاستعادات التي يحاول فيها تأكيد الهوية اليهودية لفلسطين مع تصديق الرؤى المذكورة في النصوص الدينية. على أن الكاتب يذكر أرمجيدون بشكل مخصوص مرارًا وهو ما يجعلنا نشعر بتبنّي كينان للروايات الدينية رغم توجهه العلماني في حياته العملية، ففي أرمجيدون “معارك مدمّرة ستدور رحاها على أرض أرمجيدون متى تحين نهاية العالم، وفيها سيكون حساب الرب” كما هو مذكور في سفر الرؤيا، وهي نفسها نقطة العبور إلى الخلاص والمنطقة التي تعيق وصول بطل عاموس كينان إلى عين حارود وهناك كما يقول الكاتب سوف تنشب الحرب المروعة والأخيرة، حرب النهاية والضياع، وعلى رافي أن يقطع هذه المدينة ولا طريق أخرى غيرها، “منذ رعمسيس وقعت هنا واقعة النهاية. ومنذ رعمسيس كانت المعركة على مجدو هي الحاسمة. ومنذ رعمسيس كانت “أرمجيدون” تنتظرك”.
ثمة صور أخرى سيمرّرها عاموس كينان موثّقة بخيوط سلبية كالجنود السوريين الذين عمدوا عشية إطلاق سراح أسرى إسرائيليين (من بينهم “القائد” في الرواية) إلى إحضار “فرقة كاملة من البشر المتوحشين” حيث عمدوا إلى اغتصاب الأسرى الإسرائيليين، ويتقصّد الكاتب هنا تصوير السوريين كمجرمي حرب بلا رحمة، ليعود كينان ويتم فكرته كاتبًا “لا شك تعرف، الحرب ليست ذلك الشيء المسلي” محاولًا تعميم هذا التوحش على كل المشاركين في الحروب والذين لا يتورعون عن فعل أي شيء غير إنساني. كما أنه ورغم ثقة الراوي رافي بأن محمود هو منقذه الوحيد إضافة إلى أنه يعلن في نهاية الرواية التزامه تجاهه ورفضه التخلي عنه من منحىً إنساني، إلا أنه يمرّر في أكثر من مكان ما يمكن أن يبني صورة غير سويّة عن “العربي” ممثلًا بمحمود.
قبل وصوله إلى عين حارود سيمر رافي ومن معه في قرى عربية خالية من الإنسان ليس فيها أي عربي، ثمة حمير وقطيع ماعز، هنا استذكار آخر لنكبة العام 1948 من جهتهم في مشهدية فيلمية تتفحص عدساتها دخان ما بعد المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في ذلك العام: “تذكرت القرية الخاوية التي كانت في انتظارنا عندما احتللنا ’واهب في سوفة‘. حمار ودجاجة وصيصان مفزوعة، ومسنّة مشلولة ومسنٌّ أعمى. لولا هوسي لم أكن لأضع صهيون أورشليم في رأس اهتماماتي، إذْ ما الذي تعنيه صهيون وماذا تعني أورشليم مقارنة مع الحياة؟ وأي شيء أكثر سموًا من الحياة وأي شيء أدنى من صهيون أورشليم إذا كان الأمر هو الموت أو احتلال الجبل؟ وهأنذا قد احتللت جبلًا ثم مرجًا، ثم احتللت جبلًا آخر، ومرجًا آخر، وبترت بسيفي ذات اليمين وذات اليسار، وورثت الكنعاني والحتيّ واليبوسي والجرجشي، ولم أشفق على العمالقة وآدوم، ولا على أبناء كتورا كذلك. مثل البرق صعقتهم.. ولم أتوقف إلا عندما سقطت ’واهب‘… لقد هدأت كأنها لم تكن، وبقيت أنا فقط، خاويًا أجوف مثل مسدس تشيخوف الذي انطلقت عبره رصاصة في ختام المشهد الأول… رأيت نفسي، كما كنت آنذاك، واقفًا مصغيًا إلى نباح الكلاب التي تركها أصحابها مستنشقًا رائحة الدخان المتروك، دخان الروث المتقد الصاعد من الطوابين التي ظلت ساخنة”، إنها خلاصة ما فعله الإسرائيليون قبل خمسة وسبعين عامًا يضعه عاموس كينان أمامنا، انعكاس دخان العام 1948 في عمل كينان كفعل روائي اعترافي بالاحتلال، فعل يقاوم نسيان الإجرام الإسرائيلي ويؤرخه من باب الندم، ويدحض السردية الصهيونية أن هذه الأرض كانت أرضًا خالية انتظرت اليهود ثلاثة آلاف عام، فالمخابز كانت لا تزال مشتعلة كدليل على وجود حياة على هذه الأرض وعلى تهجير أهلها بالقوة وبالقتل والطرد. من جهة أخرى فالجنرال الإسرائيلي ينظر إلى الحمير ويتذكر أن هناك مشكلة واجهتهم من الحمير عند احتلال فلسطين “فمن ناحية ما هو ذنب الحمار إذا كان صاحبه عربيًا، ومن ناحية أخرى فإن الحمير والماعز هي من ذرّية الحمير والماعز العائدة لآبائنا الذين عاشوا هنا. لذا فإن لها حقوقًا في هذه البلاد”، ليطرح عاموس كينان هنا ما فكر فيه رافي عند سماعه الجنرال يقول ذلك الكلام: “لم يسخر أحد. ولم يتكلم أحد. ولم يزقزق أي عصفور. ولم ينهق أي حمار”، في إشارة إلى الحصة من الحزن التي أصابت رافي عند سماعه هذا الكلام القاسي والداعي للسخرية.
سيُعدم محمود على يد العسكرية الإسرائيلية لتتظهّر الصورة عن حزن الراوي رافي ومن خلاله تتبدّى لنا رؤية عاموس كينان للعالم الذي يحلم به “ما كان ينبغي أن يموت محمود… فكرت بأنه عندما أصل عين حارود سنلتقي في مكان ما وزمان ما، ونلتقي بشكل مغاير. وذهب بي تفكيري أبعد من ذلك إلى حدّ البدء بكل شيء من جديد في عين حارود، البدء بكل شيء بشكل مغاير. وذهبت إلى حد التفكير بأن عين حارود هي التي ستبقى وتتبخر البقية عن وجه البسيطة، لأنه مستحيل أن يكون خلاف ذلك. مستحيل، ببساطة متناهية.. ولو كان آخر عمل أقوم به هو الأخذ بثأره، فسأفعل… لم نكن زميلين أو صديقين فحسب، إنما كنا شقيقين لأمر لم نُعطَ الفرصة لتفهمه”، يطرح عاموس كينان من خلال هذه العتبات الأخيرة في رحلة بطل روايته مسألة الخلاص من العالم الذي يعيش فيه، عالم انبنى على الجرائم الوحشية ولا يزال التوحش مستمرًا، ويريد ملاذًا آمنًا منه، ولا يمكن أن يكون هذا المكان موجودًا وهذا الملاذ الآمن من دون التعايش الأخوي بين الجميع، وفقًا لقراءته.
تبدو نصوص عاموس كينان الأخيرة، في روايته هذه، نصوصًا تأملية في الحياة والأرض يكتبها عاموس كينان بروح شعرية، إنها نصوص ترغب فقط بنفض الدم عن جسد المدينة وحيث لا أمل بتحقيق الحلم- اليوتوبيا بسبب انعدام وجود العربي معه على هذه الأرض، ليقول أخيرًا: “وصلت. لا شيء. عين حارود هي المكان الذي يبدأ منه كل شيء. لكن لا شيء هنا”، وليعود إلى شكوكه الدفينة بكل الروايات الدينية “إنه ظلام عمره ثلاثة آلاف سنة، ثلاثة آلاف سنة من العتمة”…