الطرف الثالث
لا يمكن أبدا تصور الصعوبة والمعاناة، عندما تجد نفسك عالقا في حلم أحد الأشخاص، أو تجد نفسك مجرد فكرة تتوارى عميقا في رأس شخص آخر أو في لاوعيه، وهي المعاناة التي سأسردها لكم خلال هذه السطور، برغم غرابتها ولا معقوليتها، ليس بكوني أحد طرفي هذا العلاقة، ولكن بكوني طرفا ثالثا يعكس ظلالها كمرآة تشف بصدق بما ينعكس عليها، ومن المعروف أن أفكار اللاوعي تكون أكثر حسية من إحساسنا بالواقع في بعض الأحيان، وهي تتسرب أو تتمازج وتختلط مع الأحلام التي تكون مجالا للتنفيس عن هذه الأفكار، وتظهر بشكل واضح لا شبهة فيه في رؤى المنام، بل نستطيع أن نقول بأن هذه الأفكار هي الطمي والمادة الأولية التي تتكون منها الأحلام والرؤى.
واسمحوا لي في البداية أن أنقل على لسان الطرف الأول الذي يحاول أن يعبر عن الحضور الطاغي للطرف الآخر في تفكيره حيث يقول : أنا لا أدعي أنني أعرف هذا الشخص أو أني التقيت به ورأيته رؤيا العين، لكن في الوقت ذاته أستطيع أن أؤكد لكم بأنه يشغل تفكيري منذ فترة طويلة ويسيطر بحضوره الطاغي على تأملاتي وخطراتي في كل صغيرة وكبيرة منها، مضيفا: فهو يحوم ويطن كذبابة مزعجة على قصعة عسل، في منطقة تفكيري، بل هو مسيطر ومقيم دائما في المنطقة الواسعة من تفكيري، ويصول ويجول في تأملاتي، يتكلم ويثرثر بلا توقف عن نفسه، ينتقل من مستوى إلى مستوى آخر في الشرح والتعريف بنفسه وذاته، يتقدم في شرحه وتعريفه بنفسه، مثل عملية الحفر والتنقيب التي يتبعها عامل منجم من الأعلى إلى الأسفل، وصولا إلى الأعماق الغائرة من شخصيته وتاريخه الذي يمتد بعيدا، بعيدا في الزمن، يحمل معوله ويحفر متقدما في التعمق في الأسفل بلا هوادة وبلا تعب أو كلل، مثيرا غبار التفاصيل الكثيفة في وجهي، أنا الذي لمحته ذات مرة في إحدى رؤاي بشكل عابر، وبلا اهتمام لوجوده في منامي، مؤكدا أنه لم يكن حينها حين زاره للمرة الأولى في المنام يشكل تفصيلا يذكر، ولم يكن له تموضع خاص به في الحلم الذي حلمته، ولم يكن الحلم أصلا الذي ظهر فيه يستحق أن يسرد في الصباح، كعادة الأحلام التي تلح علينا وتبقى طازجة برغم مضي الوقت الطويل، منذ رؤية الحلم وبعد الصحو من فترة نوم طويلة وعميقة، كالذي يحدث في ليالي الشتاء الطويلة التي يأخذ فيها عالم الأحلام راحته في بث مكنونه ويوصل لنا رسائله بكامل تفاصيلها، موضحا أنه لم يكد يظهر في الحلم الذي كان قصيرا أشبه بلمحة، حتى توارى، لم يقل شيئا يذكر، لم يكن صيدا مغريا للانتباه وهو يظهر ويتوارى في الحلم، وكأنه كان روحا تائهة في عالم الرؤى والأحلام، متسائلا في الأخير من يكون هذا الذي يسكنني، والذي عاد بعد فترة لا كضيف ولكنه كمقيم أخذ يفرض حضوره الطاغي.
فيما يعبر الطرف الثاني عن هذه العلاقة بشكل أكثر تفصيلا حيث يقول: لقد استيقظت اليوم مبكرا ما يؤكد بأن صاحبنا الذي يحملني كفكرة نام مبكرا، الأمر جعلني أستيقظ، بعكس اليومين السابقين اللذين بقيت فيهما أغط طوال النهار في نوم عميق، والسبب أنني ما زلت أتوارى في ذلك الشخص المستيقظ، أما قبل أسبوع فقد اضطررت للنوم في المكتب برغم أنني استيقظت بنشاط في بداية اليوم، وهو الأمر الذي أرجع سببه إلى استيقاظ قريني مما دفعني بالتالي إلى النوم والسبات..
موضحًا: أن عادات نوم واستيقاظ هذا الشخص باتت تزعجني، وتجعلني أعيش حياتي التي لا تنفصل عن حياته المعاشة بطبيعة الحال، في معاناة وقلق شديدين، فأنا مرتبط أو متأثر في وقتي وعادات حياتي بمواعيد نوم واستيقاظ هذا الشخص الذي يحملني في داخله كفكرة، ولا أستطيع الانفصال عنه..
شارحًا تعامله مع هذا الوضع الصعب: لقد حاولت مرارا أن أرسل رسائل للجانب الآخر، علّ هذا الشخص المتحكم بي وبحياتي، يعي معاناتي هذه مما قد يدفعه للتفكير في التخفيف من الصعوبة والمعاناة التي يخلقها في حياتي طوال الوقت..
موضحًا الخطوات التي اتبعها في إحدى هذه المحاولات والتي لم تأت بنتيجة مرضية: لقد قدمت لإجازة مفتوحة قبلها من العمل لمدة أسبوع، واضطررت حينها لتنفيذ هذه المحاولة، إلى استهلاك جالونات من القهوة القوية المركزة، طوال الأسبوع، لكي أظل مستيقظا وذلك لكي أخرج من دائرة تحكم هذا الشخص بي في الجانب الآخر، الأمر الذي قاده للتساؤل باندهاش مع عدم وجود مخرج من نفق هذه العلاقة الغريبة : ماذا لو كنا أنا وهذا الشخص في دخيلة طرف ثالث مسيطر، يحملنا كفكرة في لاوعيه، لا نستطيع الفكاك من تأثيرها..؟!
هل تدركون مدى الصعوبة والمعاناة التي أعيشها ليل نهار، من خلال السرد الذي قدمته لكم، مع هذين الشخصين اللذين يمارسان لعبة الظهور والاختفاء في رأسي؟!
الفكرة القاتلة
منذ أن دخلت في رأسه مجرد فكرة، نام وأنا في رأسه وأستيقظ وأنا ما زلت كامنا هناك، جلس ثم قام ثم جلس وأنا مازلت داخل رأسه، ثم قام فخرج من البيت، وقطع الطريق وهو يحملني، بالإضافة إلى جهاز كمبيوتر محمول يتدلى على كتفه، بعد ذلك ركب حافلة النقل العام وأنا معه، بعد ثلاث محطات توقف، ترجل من الحافلة ومشى مسافة ليست بالطويلة وأنا أسكن في رأسه والكمبيوتر المحمول يتدلى من كتفه، ثم دلف بعد ذلك إلى مقهى، وطلب فنجانا من قهوة الاسبرسو المركزة المُرّة، مع زجاجة ماء، شربها بتمهل بجرعات صغيرة، سرعان ما وصل أثر هذه الجرعات مع مفعول القهوة إليّ قبل أن يصل أثرها إليه، فقد أصبحت أكثر حركة ونشاطا بسببها، فكنت من النشاط كأنني أريد أن أقفز إلى الخارج مغادرا الرأس الذي شعرت لفرط النشاط الذي أعيشه أنه لم يعد يتسع لي، وكان ذكيا بما يكفي بحيث فطن لما أعايشه من شعور في الداخل، ففتح جهاز الكمبيوتر، وأخذ ينقر على أحرف الأبجدية في الجهاز بحركات سريعة من أنامله، وكان بالإضافة إلى الفنجان الأول من قهوة الاسبريسو قد طلب عدة فناجين أخرى، منقّلا- وسط سحابة كثيفة من دخان السجائر، التي ظل يطفيء الواحدة بعد الأخرى بعد أن يمجها إلى نهايتها في منفضة السجائر- كل أنملة من الأنامل بين الحروف الأبجدية، بسرعة خاطفة. وحينها كنت أخرج بسلاسة من رأسه إلى غياهب جهاز الكمبيوتر، وكنت أتشكل على مهل من مجرد طينة أثيرية لا قوام لها إلى شكل من الخلق، كأنما جاء إلى الوجود من العدم ،يحمل هيئة وشكلا وهوية.
في الحقيقة وأنا أخرج من بين أنامله الماهرة -كأنامل خزّاف- كنت أشعر شعورا دفينا بالتلهف إلى استعادة كينونتي، والإحساس بذاتي بمعزل عن الكاتب الذي كان السبب في تخلقي، مما دفعني إلى التمتع بممارسة إرادتي الذاتية، بعيدا عن سطوته وتحكمه، حيث دفعني تلهفي لاستعادة الكينونة الخاصة بي، إلى التخلص من الكاتب من خلال استخدامي لأول مرة لإرادتي الحرة، وذلك بارتكاب جريمة قتل بشعة شهدها المقهى الذي تمت فيه ولادتي بشكل نهائي، راح ضحيتها الكاتب بعد أن حززت عنقه، مباشرة بعد أن قام بحفظ مسودتي في جهازه المحمول، بأحد أثلام كوب القهوة الذي قمت بكسره على رأسه قبل ذلك، في جريمة عفوية، ارتكبتها بدون تخطيط مسبق ومن دون حاجة إلى خيال إجرامي خصب، وهي الجريمة التي قادتني إلى حريتي واعتناق إرادتي، مكملا بارتجالية ما بدأه قلم الكاتب وخياله، ارتجالية ستتسم بها كل تصرفاتي وسلوكي في الحياة، تغترف بشكل مبدع من وحي تصرفات وسلوك البشر في الحياة، الحياة التي أنبتتهم من دم ولحم بعكسي أنا، الذي أُعتبر كائنا أثيريا لفكرة تفتقت عن رأس يغرق الآن في دمائه.