الهواري غزالي*
فَمَنْ أحَسَّ بَلْعَ دَمْ
ف أَحَسَّ بالعَدَمْ!
ابن الوردي
قد تكون الكتابة عن الطاعون آخر ما يكتبه الشاعر وهو يخلد اللحظة الأخيرة قبل أن يقضي نحبه. والكتابة في آخر اللحظات تتوسَّط الآمال واليأس والانتظار والجزع، وهي مفترق معقَّدٌ يقف فيه الشاعر على العتبات الأخيرة للحياة، وهي العتبات نفسها التي تترك -عبر الشهادات- إلى أجيال لاحقة ذلك الصدى الوجودي للزمن الموبوء. ولقد ورد الكثير من هذه الشهادات عن الطاعون والأوبئة عند المؤرِّخين والأدباء العرب، ولعلَّ أهمها شهادات ابن الخطيب بالأندلس، المقريزي والتغربردي بمصر والشام، وابن الوردي بحلب؛ هذا الأخير الذي استوفى نثراً وشعراً ظاهرة الأوبئة. ولقد نُظمت الأشعار حتَّى أكثر النَّاسُ ذكر هذا الوباء في أشعارهم، كما قال بن تغري بردي. وقال المقريزي: وقد أكثر النَّاسُ من ذكره في أشعارهم، أمَّا السَّخاوي فقال: وأكثر الشعراء وغيرهم في ذكره.
وفي كل ما أصاب العالم الاسلامي من أوبئة، فإنَّ العصر المملوكي (1250-1517م) يعدُّ أكثر العصور التي اُبتلِي فيها العرب بالطَّاعون، حيثُ امتدَّ من مصر إلى الشَّام، ولكنَّه وباء عبر قارتي آسيا وأوروبا أيضا بين سنتي 1338 و1351م، وسمي بطاعون الموت الأسود، كما سمَّوه بالفصل الكبير، وبسنة الفناء ، وقد قضى فيه مائة مليون شخص نحبَهم عبر العالم. ولقد عبَّر عن هذا الشاعر بدر الدين حسن بن حبيب الحلبي (1310-1377م)، بقوله:
إن هذا الطاعون يفتك في العا
لم فـتـك امـرىء ظـلـوم حـســـود
ويطـوف الـبلاد شرقـاً وغـربـا
ويسـوق الـخـلـوق نـحـو الـلـحـود
ويعتقد بعض المؤرخِّين أنَّ هذا الوباء إنَّما حلَّ بسبب ما خلَّفته الحروب -التي شنَّها المغول- من عدد مهول من القتلى، فاختلطت الدماء والجيف بالهواء والماء، حتَّى صار ذلك مدعاة لنزول الوباء. ولا يعدُّ هذا الاعتقاد إلا نسبيًّا فهناك تفسيرات أخرى تذهب إلى غير هذا، فهناك من يعتقد أن طاعون مصر والشَّام عام 1338م إنما كان مصدره إفريقيا جنوب النِّيل، وهناك من يرى أنها الدورة التي قضت بعودة طاعون جوستينيان الذي أصاب عمواس زمن خلافة عمر بن الخطاب، وهناك من يعتقد أنَّ الموت الأسود ظهر في قلب المجالات المنغولية الشاسعة، حيث بحيرة بلقاش، وهي بحيرة اختصَّ بمجاورتها المغول لاسيما بين 936 إلى 1122م، وهناك من يعتقد، في الأخير، أنَّ مصدره هو الصِّين.
ويروي المؤرخ المصري جمال الدين بن تغري بردي (1410-1470م) في كتابه “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة” أن ابتداء هذا الطاعون القاتل في مصر كان في خريف سنة 748هـ/1347م قائلا : “كان فيها الوباء الذي لم يقع مثله في سالف الأعصار، فإنه كان قد ابتدأ بأرض مصر آخر أيام التخضير في فصل الخريف في أثناء سنة ثمان وأربعين، فما أهلَّ المحرّم سنة تسع وأربعين حتى اشتهر واشتدّ بديار مصر في شعبان ورمضان وشوّال، وارتفع في نصف ذي القعدة، فكان يموت بالقاهرة ومصر ما بين عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف نفس إلى عشرين ألف نفسٍ في كلِّ يوم، وعملت الناس التوابيت والدّكك لتغسيل الموتى للسبيل بغير أجرة، وحُمل أكثر الموتى على ألواح الخشب وعلى السلالم والأبواب، وحُفرت الحفائر وأُلقِيت فيها الموتى، فكانت الحفيرة يُدفن فيها الثلاثون والأربعون وأكثر، وكان الموتُ بالطّاعون، يبصقُ الإنسان دمًا ثمّ يصيح ويموت، ومع هذا عمّ الغلاء الدنيا جميعها، ولم يكن هذا الوباء كما عهد في إقليم دون إقليم، بل عمّ أقاليم الأرض شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا جميع أجناس بني آدم وغيرهم، حتى حيتان البحر وطير السماء ووحش البرّ”.
ولا نكاد نجد في التراث العربي كثيرا من هذا الشِّعر إلا في هذه المرحلة، إلا أنَّه شعر يبقى رقم كثرته قليل، لذلك، لم يرفعه النُّقاد ليجعلوا منه غرضا. فلم يترك الطاعون والأوبئة للشاعر نَفَسًا ليجد لنفسه راحة البال فينظم، أو وقتا للتَّأمُّل فيصف، إنَّما من نال شيئًا من فرصة البقاء بعد زوال الوباء لا يلبث أن ينأى بنفسه عنه وعن نظم الشعر فيه. أمَّا من مات فيه، فلا يسعه إلا أن يرثي نفسه كما كان ذاك من ابن الوردي (1292-1349م) الذي قيل عنه إنَّه قال بيتين قبل موته بيوم وذلك بطاعون حلب :
ولستُ أخاف طاعوناً كغيري
فما هو غير إحدى الحسنيينِ
فإن متُّ، استرحتُ من الأعادي
وإن عشتُ، اشتفتْ أذني وعيني
ولذلك، فإنَّنا لا نجد في موضوع الأوبئة مطوَّلات، إنَّما هي قليلة لا تعدو في أغلبها البيتين من كلِّ نظم. وعلى سبيل المثال، ما قاله شاعر العصر المملوكي جمال الدِّين محمد بن نباتة (1287-1366م):
سر بنا عن دمشق يا طالب العيـش
فما في المـقـام لـلـمـرء رغـبـة
رخـصـت أنـفـس الـخـلائق بـالـــطــاعون
فـيهـا، فـكـل نــفـــس بــحـــبـــه
أو ما قاله صلاح الدين الصفدي (1296 – 1363م):
رعى الرحمـن دهـراً قـد تـولـى
يجازي بـالـسـلامة كـل شـرط
وكان الناس في غفلات أمر
فجا طاعونهم من تحت إبط
وفي بيتين آخرين:
– أو ما قاله الأديب جمال الدين إبراهيم المعمار (…-1349 م) في المعنى نفسه:
قبح الطـاعـون داء
فقدت فيه الأحبه
بيعت الأنفـس فـيه
كل إنـسـان بـحـبـه
قد قـلـت لـلـطاعـون وهـو بغـزة
قد جال من قطيا إلـى بـيروت
أخليت أرض الشام من سكانها
وأتيت يا طـاعـون بـالـطـاغـوت
وفي بيتين آخرين :
يا طالب المـوت أفـق وانـتـبـه
هذا أوان الـمــوت مـــا فـــاتـــا
قد رخص الموت على أهله
ومـات مـن لا عـمـــره مـــاتـــا
وباستثناء الأراجيز كالتي صنعها نقولا الترك الاسطمبولي (1763-1828م) حيث يطول وصف الوباء كما هو في مطلع أرجوزته: يـا طـالبــاً حقـيـقـة الانبـاء، فإنَّه بإمكاننا من خلال الأبيات الموجزة، تحديد بعض معالم الكتابة الشعريَّة عن هذه الظاهرة عموما. إنَّها تتميَّز بكثيرٍ من التَّوتر والفزع، لا تختصره إلى مجرَّد موت أو قدر، بل تعتبره إهانة تنزِلُ من قدرِ الانسان وتحطُّ من قيمته. فلا يسع الشاعر أن يكتب وهو يدرك أنَّه يموت دون تشييع لجثمان، أو تأبين يليق، جُثَّةً من بين آلاف الجثث ترمى جميعا في خندقٍ واحد. فها هو الشاعر الصَّاحب شرف الدٍّين (1190 – 1264م)، الذي يكره أن يموت بالطَّاعون، فليس فيه كما يصف همَّة المحارب، ولا فيه ما يكون للمرء به شرف الموت، فيقول:
وإِنِ اخْتُـرِمْـتُ فمِـيـتَةٌ أَرْضَى بها
إِذْ لم أُصـادِفْ عـيـشَـةً تُرْضـيـنـي
وإِذا رأَيـتُ المَـرْءِ غيـرَ مُخـلَّدٍ
فالطَّعـْنُ أَشْرَفُ لي مِنَ الطّاعـونِ
جَبُـنَـتْ عن المجـدِ المُؤَثَّلِ هِمَّتي
إِنْ لم أُلاقِ خُـطــوبَهُ بِـجَـبـيـنـي
تدفعنا هذه الأبيات -لاسيما من خلال مفردة طعن الواردة فيها- إلى القول إنَّ الطَّاعون هو صورة أخرى تقف على طرف المساواة مع الحرب التي ارتبط بها في مناسبات تاريخية كثيرة، ولكنها في الوقت نفسه تنطوي على الدرجة نفسها من الفظاعة والقسوة حيث الجثث مترامية في ساحة القتال. إنَّ الطَّاعون في مقابل الحرب يتخذ بعدا رمزيًّا في نهاية المطاف، وهو شكل ملموس من الشر الميتافيزيقي بمفهوم ألبير كامي. ولعلَّ التقاطع اللُّغوي بين مفردتي الطعن والطَّاعون يسمح لنا بالاقتراب بعمق من مشهد الضَّحية المطعون، كما يفيدنا في فهم صورة القتل العبثيّ، أين تتمُّ عمليات الدَّفن بطريقة متسارعة تعبِّر عن رغبة الانسان في التَّخلص سريعا من الجثث. إن هذا التقارب بين المفردتين يدعِّم من ملامح الحرب في الطَّاعون.
لكنَّ سريعا ما نلمح، من جهة أخرى، صورة أخرى غير الحرب، إنه الطُّوفان، نهاية العالم البشري الأولى. وهي صورة ترمز إلى إرادة إلهيَّةٍ لمحو الخراب الدُّنيوي الذي اعتاد البشر على الاحتفال به في سلوكاتهم اليوميَّة. في قصيدة بن الوردي، يقضي الطُّوفان بتعديل الموازين وإعادة الحقوق، يقول :
فهذا يوصِّي بأولادِهِ
وهذا يودِّعُ جيرانَهُ
وهذا يهيِّئُ أشغالَهُ
وهذا يُجهِّزُ أكفانَهُ
وهذا يصالحُ أعداءَهُ
وهذا يلاطف إخوانَهُ
وهذا يوسِّعُ إنفاقَهُ
وهذا يخالِلُ مَنْ خانَهُ
وهذا يحبِّسُ أملاكَهُ
وهذا يحرِّرُ غِلْمانَهُ
وهذا يُغيِّرُ أخلاقَهُ
وهذا يعيِّر ميزانَهُ
ألا إنَّ هذا الوبا قَدْ سَبا
وَقَدْ كانَ يرسلُ طوفانَهُ
فلا عاصمَ اليومَ من أمره
سوى رحمةِ اللهِ سبحانَهُ
وإذا كان الوصف يعبِّر في هذه الأبيات عن نضال الانسان لأجل البقاء، لاسيما عندما يقوده المرض إلى الكشف عن حقيقته العميقة، فيتحوَّل إلى أمل منبثقٍ في الحياة مجدَّدا، سواء من خلال التَّضامن، أو من خلال قيم أخرى يتمَّ اكتشافها بالتزامن مع مراحل التَّجربة ومختلف مساراتها الوجوديَّة، فإنَّ في هذا التَّصوير المرعب حالة هستيريَّة تعبِّر عن تحوُّل في النظام الاجتماعي والبناء النَّفسي. إنَّه لا يرمزُ إلى قوَّة القدر بحالتيه معا، بل يرمز إلى نهاية العالم من خلال ذلك الاستسلام الجماعي له؛ استسلام من كان يبحث عن القوَّة والسُّلطة والخلود أمام انتصار الطبيعة البسيط، يقول الشاب الظَّريف:
أَراكَ تَشُـمُّ الخَلّ في زَمَنِ الوَبَا
فَخـلِّ حَديـثـاً لِلأَطِبَّاءِ يا خِلِّي
فَإِنْ يَكُ بِالطَّاعُونِ رَبُّكَ قَدْ قَضَى
تَموتُ إِذاً رَغْماً وأَنْفُكَ في الخَلِّ
هذا الاستسلام للقدر جعل الطَّاعون يتَّخذُ بُعداً وجوديًّا في الكتابة الشِّعريَّة، حتَّى صار به يُمدَحُ من يجنِّب المعمورة منه، ويُهجَى به من هو ليس أهلا للحياة، كما صار الطَّاعون مجازًا فتشبيهٌ به لحالةٍ ما، وكنايةٌ عن هلاك. فأمَّا في المديح، فإنَّ الدَّعاء برفعه كان ملزما على الشَّاعر أن يتضرَّع إلى الله بذلك، وكثيرا ما رُفعت هذه الأدعية في القصائد الدينيَّة التي عرفت انتشارا واسعا في العصر المملوكي والعثماني معا، ففي الالهيات، يفيض قلب محمد بن فارس العشاري (1737 – 1780م) بالتَّضرُّع فيقول:
وَعاملهم بِالعَفو وَارحم شُيوخَهُم
وَأَطفالهم فَالشَيخ قَد آب وَالطفل
وَباء وَطاعون وَما ثم مَلجأ
سِواكَ وَأَنتَ الراحم الحكم العَدل
وفي المدائح النبوية قول بن داود الموصلي الآثاري (1364 – 1425 ) :
وللمدينة لمّا ان أقام بها
حصن وأمنٌ من الآفات والندم
ولم يكن يدخل الدجالُ ساحتها
ولا يمرّ بها الطاعون في النسم
أمَّا في مديح الأمراء، فإنَّنا سنجد في ثنايا مدح الشَّاعر علي بن الحسن بن الفضل البغدادي الملقَّب بصَّرَدُر بنِ صَرَّبَعْر (…-1073 م) للخليفة العبَّاسي القائم بأمر الله (1001- 1075م) هجاء للخليفة الفاطمي المستنصر باللَّه (1029-1094م) الذي كان في حرب ضدَّ العبَّاسيِّين، وقد قرنَ الشاعر الطَّاعون بهذا الأخير، وذلك بقوله :
وقـــد عـــلِم المصرىُّ أنَّ جــنــــودَه
سِـنُــو يـوســفٍ مـنــهــا وطاعـونُ عَمْـواسِ
أحـاطــتْ بـه حـتَّى اسـتــراب بـنــفــســهِ
وأوجــس فــيـــهـــا خِـيــفــةً أىَّ إيـجــاسِ
قـصــورٌ عـلى الفـســطـاط أضحـتْ كأنـهـا
قــــفـــــارُ ربـــوعٍ بـــالسَّمــــاوة أدراسِ
سـهــامُ أمـيــرِ المـؤمــنــيــن مَـكــايــدٌ
ورُبَّ ســهـــامٍ طــرن مــن غــيـــر أقـواسِ
هو المصـطَـفـىِ التقـوَى متـاعـاً لنفـسه
بــجـــوهــرِهــا حـالٍ بـسُــنــدُســهــا كـاسِ
إذا وطِـــئت شُـــوسُ المـــلوك بـــســــاطَه
تــضـــاءل مــنـــهــا كـلُّ أغـلبَ هِـرمــاسِ
تَـــخِــــرُّ بِهِ شُـــمُّ الجـــمــــاجـــم سُــجَّدا
ويــخـــشَـــعُ فــيـــه كــلُّ ذى خُــلُق جــاسِ
ولصَّرَدُر أبياتٌ أخرى هجا بها منصور بن أحمد بن دارست الأهوازي وهو فارسيٌّ وزَّره القائم بأمر الله ثم خلعه، وكان ذا لكنة أعجمية، يقول فيه:
لُحِـىَ ابنُ دارَسْتٍ على إمسـاكـه
فـأجــاب إنـى بـاذلُ المـاعــون
أوَ لم تـكــونــوا بيـتَ جِوارَنـا
فقَـرَيـتـكُـم بالمـاء في كانـونِ
فارضوا بأسقيِة الزلال قرىً لكم
ودعوا الجِفـانَ فإنـهـا كجفونى
لا كــان زادٌ فــي وعـائك إنـه
سـبــبٌ لطـاعــمــه مـن الطاعـونِ
إلا أنَّ الطَّاعون وإن كان مقرونا بالمدح والهجاء فليس بأعجب منه أن يكون مقرونا بالغزل والفخر، فمن فخر الشَّاعر بنفسه، يضرب الأخطلُ (640-710 م) مثلا لنفسه بالطَّاعون فيقول:
إِن تَكُ زِقَّ زامِلَةٍ فَإِنّي
أَنا الطاعونُ لَيسَ لَهُ شِفاءُ
أَنا المَوتُ الَّذي حُدِّثتَ عَنهُ
فَلَيسَ لِهارِبٍ مِنهُ نَجاءُ
وقد ذهب ابن حجر العسقلاني (1371-1449م) في الطَّاعون مذهب العاشق الذي يبالغ في وصف حبيبته، إذ يصف قامتها كما لو أنَّها رمحٌ يتذكرُ المصاب في طعنته به طاعون عمواس، يقول:
لا طعنَ فيهِ وَقَدُّ الرُمحِ قامتُهُ
لَكِنَّ قَلبي لَهُ أَضحى كَبُرجاسِ
ساق كَبَدرٍ يُدير الشَمسَ في يَدِهِ
قَد لانَ عِطفاً ولكن قَلبُهُ قاسِ
أَضحى لعشّاقِهِ من رمحِ قامتهِ
طعنٌ ذكرنا بِهِ طاعونَ عَمواسِ
ولقد كثر استخدام طاعون عمواس في الشعر القديم كتشبيه عن الطعنة القاتلة، فللصَّاحب شرف الدِّين قصيدة يمدح بها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد (1228-1260)، وفيها يشبِّهُ طعنَ الملكِ أعداءَهُ بطاعون عمواس :
المـالكُ النّـصــرُ المُـمْــضـي أَوامِرَهُ
عـلى المُلوكِ بِحُـكْـمِ الجودِ والباسِ
ذو فَـطْــنـةٍ أَعْجَـزَتْ أَدْنى بَديـهـتِهـا
مَـنْ بـاتَ يَـضْــرِبُ أخْـمــاسـاً لأَسداسِ
يُـرْدي الخَـوارجَ بَـسَّاــمــاً لخُـلْفِهــمُ
عَهْـدَ الخـلائفِ مِـنْ أَبـنــاءِ عـبّــاسِ
طَــغَـــوا فَـعَــقُّهــمُ لمَّا دَلَفْـتَ لَهُـمْ
طَـعْــنٌ ذَكَـرْنــا بِهِ طـاعــونَ عَـمْــواسِ
سَـقــاهُـمُ جَيـشُـكَ المنـصـورُ كَأسَ رَدىً
يَـحْــظــى بِلَذَتِهِ ساقـيـهِ لا الحاسـي
وإذا كان طاعون عمواس نذير الموت يحمله المحاربُ إلى عدوِّه أو الجميلة إلى عشيقها، فإنَّه عند ابن عربي بشير حياةٍ، فالطَّاعون ليست قطيعة مع الوجود وانفصالا عنه، وإنما تواصلٌ به واتصال.
تــنـــازعــت فـيّ أضـدادٌ فـقــلتُ لهـا
إنَّ الحــيـــاةَ لفـي طـاعــون عـمــواس
أحـيــاهــم الله فـي مـوت مـشــاهــدة
ما في الحياة التي في الموت من باس
ولعلَّ هذا الرَّأي يدفعنا إلى البحث عن تحليل ظاهرة مشاهدة الموت الجماعي بعين الشَّاعر. وسنقف بإيجاز في هذا المقال على بن الوردي الذي توفيَّ بسبب الطَّاعون بحلب. وباختيارنا لبعض أبياته، فإنَّنا سنتبيَّن بعض النِّقاط الشِّعريَّة وعلاقتها بالطَّاعون.
ينطوي شعر ابن الوردي على تصوُّرٍ تقليدي، فهو يرى في الطَّاعون حالة تطهير من الذنوب والخطايا التي يرتكبها البشر، كما يرى فيه انتقامًا إلهيًّا، لكنَّه في الوقت نفسه يراه من وجهة اجتماعية حسنَى الارتياح من الاعداء، فيقول من جهة:
قالـوا فـسـاد الـهـــواء يردي
فقلت يردي هوى الفساد
كم سـيِّئات وكـــم خـــطـــايا
نادى عليكم بها المنـادي
ومن جهة أخرى يقول:
ولستُ أخاف طاعوناً كغيري
فما هو غير إحدى الحسنيينِ
فإن متُّ، استرحتُ من الأعادي
وإن عشتُ، اشتفتْ أذني وعيني
إلا أن الذي يثير الانتباه، هو لجوء هذا الشاعر إلى عالم الأساطير والحروف والحيوانات، فهو لا يشبِّه الطَّاعون بالحيَّة، وإنَّما بسمِّها، وبينما الحيَّة هي حلب المدينة التي يقطنها، فإنَّ ما تقوم بنفثه هو بصاق الدم.
حلب، والله يكفي
شرها، أرضُ مشقه
أصبحت حيَّة سوء
تقــتــل الـناس بــبــزقــه
وتستوجب ظاهرة الفضاء في الأدب الذي يصف الطَّاعون تحليلا خاصًّا، لما فيها من ملامح الرُّعب والفزع والخوف، إنَّها حالةٌ سوداويَّةٌ أقل ما يثير فيها ما قاله بن الوردي في رسالته النبا عن الوبا”: “ولو شاهدتَ كثرة النعوش وحملة الموتى، لوليت منهم فراراً”.
في بيتيه عن الاسكندريَّة، يصف بن الوردي الطَّاعون كأنَّه أسدً يفترس حين يميل بعضده على الفريسة. يستخدم الشَّاعر فعل يمدُّ وهو فعلٌ قرآني مرتبط بالضلالة والطُّغيان، “قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدًّا”، مريم 75، و “اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ”، البقرة 15. إنَّ في مفردة المدَّ هنا إشارة مفزعة إلى انَّ الوباء ممدود، والمدُّ في العربية ليس كالزِّيادة، إنما الزِّيادة تكون في خير، والمدُّ في شرّ. وهو المدُّ الذي أبقى الأسد فيه على سبعة فقط من تلك السبعين المنقرضة. والسِّبعين تفيد عدد الناس في مجملهم.
اِسكندرية، ذا الوبا
سَبعٌ يمدّ إليك ضَبعهْ
صبراً لقِسْمَتِه التي
تركت من السبعين سبعهْ!
في المفهوم نفسه، يتحوَّل الفضاء في حلب إلى ليلٍ قاتم؛ أماكنَ لم تُستجدَّ بالتنظيف والاعتناء، مياهٍ عكرة لا تصلح لشرب، شوارعٍ تضحى قبورا، وسماءٍ نجومها تلحق بالميِّتين. وتنطوي عبارة بنو نعش اللاحقة ببنات نعش على يأسٍ مقصود، فإرادة السَّماء كأنَّها ماتت وما عاد بقدرتها إلا أن تلتحق بالمحمولين على النُّعوش. والنَعْشُ: سرير الميِّت، سمِّي بذلك لارتفاعه. فإذا لم يكنْ عليه ميّت فهو سرير. أمَّا بناتُ نَعْشَ فهي نوعان: الكبرى وهي سبعةُ كواكب، أربعة منها نَعْشُ وثلاث بناتٌ، والصغرى، (الصحاح).
اسودّت الشهباءُ في
عينيَّ من رمم وغش
كادت بنو نعش بها
أن يلحقوا ببنات نعش!
ويلجأ ابن الوردي أيضا إلى علم الحروف الذي اشتهرت به الثقافة الاسلاميَّة لاسيما عند المتصوِّفة كابن عربي، ولكنَّه لا يذهب أبعد من تقديمه تفسيرا عن الطَّاعون بكونه كربًا للورى.
إن الـوبـا قـد غــلـــبـــا
وقـد بـدا فـي حـلـبــا
قالوا له على الورى
كاف ورا قـلـت وبـا
إنَّ هذه القراءة الموجزة لأدب الطَّاعون لا تكفي لترصد أنطولوجيا كاملة للشعر المختص به، فلقد اختصرنا في تقديم هذه الأبيات عموما على الشعر الذي ضمَّ مفردة طاعون، إلا أن الشعر العربي، تناول الموضوع بإيراده مصطلحات أخرى كالوباء، وغيره. إنَّ استقراء الطاعون الأسود في العالم العربي من خلال الشعر خصوصا بإمكانه إعطاء صورة كاملة عن الحساسيات الاجتماعية والسياسية أيضا، كما يمكنه تقديم الكثير من المعطيات الفنيَّة والأدبيَّة عن الكتابة الشعريَّة زمن الموت.