علوي الهاشمي
كان الانطباع الأقوى الذي تركته علاقتي اللصيقة بالشاعر عبدالعزيز المقالح منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي في القاهرة، يتمثل في أن هذا الصديق مسكون باليمن! فهو محاط كل الوقت باليمنيين من الأصدقاء والمعارف والشعراء والأدباء والسياسيين من أعلاهم رتبة كرؤساء الجمهورية إلى الأقل رتبة مثل الوزراء والإداريين الذين كانوا يحرصون جميعًا على زيارة المقالح في شقته في الدقي مساء كل يوم ثلاثاء من الأسبوع.
وقد مثَّل ذلك اللقاء الأسبوعي الذي أحضره بحكم علاقتي بالمقالح، بالنسبة إليّ شخصيًا، فرصة لا تعوّض للتعرف على كل هذه الأطياف اليمنية، واللقاء بمثل هذه الشخصيات الرفيعة والمتنوعة وهي تجتمع في مكان واحد ضمن مجلس محدود المساحة يجلس فيه الضيوف متلاصقين في مقاعدهم دون أن يشعر أحد منهم بضيق المكان. فقد كان معظمهم لا يطيلون المكوث سوى بعض الشعراء الذين كانوا يتصيدون الفرص لقراءة الجديد من قصائدهم على مسمع المقالح الشاعر المعتبر لديهم والذي يندر أن يخلو ديوان شعري لشاعر يمني من مقدمة طلب من المقالح كتابتها.
وكنت أنا الوحيد من بين الزائرين الذي يبقى في ذلك اللقاء الأسبوعي اليمني بامتياز، حتى نهايته حين ينصرف الجميع، لأرافق المقالح إلى نادي الصيد القريب سيرًا على الأقدام في مشية أسبوعية يتقاطر الشعر فيها بيننا تقدحه القريحة عند كل منا في صور شعرية مبتكرة ومرتجلة، غالبًا ما تتسرب إلى نصوصنا الجديدة التي نكتبها بعد ذلك.
وقد مثل هذا المشترك الشعري واحدًا من أبعاد العلاقة بيننا، بالإضافة إلى المشترك النقدي والأكاديمي الذي جمع بيننا خلال دراستنا العلمية على أيدي أساتذة مشتركين مثل الدكتور عز الدين إسماعيل والدكتورة سهير القلماوي والدكتور إبراهيم عبدالرحمن والدكتور عبدالمنعم ثليمة وغيرهم.
وانتهت هذه المرحلة بنيل المقالح شهادة الدكتوراه عام 1977م وسفره إلى اليمن مضطرًا. وقلت مضطرًا لأني أعرف أن المقالح يخشى ركوب الطائرات، مثلما عايشت وشهدت مفاجأة ترحيله بالقوة إلى اليمن. فقد كان ذاك مساء حزينًا عشته ولم ألتق بعده بصديقي المقالح منذ ذلك اليوم! ثم غرقت بضعة أشهر في طبع رسالة الماجستير ومتابعتها وتسليمها إلى جامعة القاهرة قبل مناقشتها في مطلع شهر فبراير من عام 1978م، ومن ثم عودتي إلى الوطن. وبقي الزمن الذي قضيته مع المقالح في القاهرة على الرغم من قصره يحمل أجمل الذكريات عن وجودي في أرض الكنانة قبل مغادرتها. ثم التقيت به لقاءات سريعة خلال أكثر من زيارة لي إلى اليمن السعيد. ومؤخرًا حرصت على الحضور في حفل تكريم المقالح وعبدالمعطي حجازي عام 2018م تحت عنوان (الشاعر الخالد أحمد شوقي أمير الشعراء)، حين دعيت إلى هذه المناسبة، وكنت واثقًا من عدم حضور المقالح، ولكني فرحت كثيرًا بلقاء رفيق المقالح الشاعر والوزير حسن اللوزي، قبل أن أفجع بخبر وفاته بعد فترة قصيرة في مبتدأ جائحة كورونا – رحمه الله.
لا أذكر أني تعرفت بصورة شخصية على أي شاعر يمني قبل أن أعرف عبدالعزيز المقالح في القاهرة وأتعرف على عدد من الشعراء اليمنيين الذين كانوا يزورونه، فيما عدا الشاعر الكبير عبدالله البردوني الذي جمعتني به غرفة واحدة في الفندق الذي ضم الشعراء العرب المدعوين إلى مهرجان المربد الشعري الثاني عام 1972م، وكان ثالثنا في الغرفة التي ضمتنا بسبب كثرة المدعوين وازدحام الفندق بهم، مرافق البردوني. ولم تدم هذه الرفقة أكثر من ليلة واحدة تم نقلي بعدها إلى غرفة أخرى منفردة، الأمر الذي حرمني وفوت عليّ فرصة التعرف أكثر على شاعر اليمن الكبير الذي انطلقت شهرته العربية منذ ذلك الوقت حين فاجأ الجمهور بقصيدته (يمانيون في المنفى ومنفيون في اليمن).
ولم يتبق في ذاكرتي من الشعراء الذين التقيتهم في مجلس المقالح في القاهرة وسمعت لهم وسمعوا لي غير عدد قليل منهم في مقدمتهم الشاعر زكي مبارك الذي أسماه أبوه بذلك الاسم تأثرًا بالأديب المصري المعروف زكي مبارك. ولكني التقيت بعد ذلك بشعراء متميزين من اليمن خلال حضوري مهرجانات الشعر العربية وخلال زياراتي المتكررة لليمن مدعوًا من المقالح في أكثر الأحيان. وكان في مقدمة هؤلاء الشعراء إبراهيم الحضراتي (أبو الدكتورة بلقيس) وأحمد ضيف الله العواضي وهدى أبلان وهدى العطاس، بالإضافة إلى أستاذ الجميع ورائد الشعر والنقد في اليمن عبدالعزيز المقالح طبعًا.
وشيئًا فشيئًا باعدت بيننا مشاغل الحياة والمسؤوليات الإدارية خلال السنوات العشرين الماضية، هو في جامعته رئيسًا وأنا في جامعتي وكنت أكتفي بالسؤال عنه والاطمئنان عليه كلما التقيت بشاعر أو أديب من اليمن في المؤتمرات الأدبية أو المهرجانات الشعرية التي أحضرها أو أشارك فيها في الوطن العربي، أو أقرأ بعض ما ينشره المقالح في الصحافة العربية وهو قليل جدًا أو ما يصدره من مجموعات شعرية وكتب نقدية ومؤلفات متميزة كثيرًا ما اقتبست منها في بحوثي وأطاريحي العلمية. إلا أنه زاد في تباعدنا عدم حضور ومشاركة المقالح في أي من النشاطات الأدبية كالمؤتمرات الأدبية والمهرجانات الشعرية التي كانت تقام في أرجاء الوطن العربي لخشيته ركوب الطائرة.
ولم يساورني الخوف على عبدالعزيز المقالح الصديق القديم وعلى باقي الأصدقاء الذين عرفتهم من شعراء اليمن وأدبائه، إلا حين ابتدأت الحرب تستعر وتزيد في اليمن السعيد عام 2016م وما بعده خلال السنوات الخمس المنصرمة. وزاد خوفي وقلقي على المقالح وجميع الشعراء الذين عرفتهم لما أعرف عنهم من ارتباطهم الشديد باليمن الذي لا يفكر أحدهم في الابتعاد عنها ولا يستطيعون ذلك وبخاصة عبدالعزيز المقالح! لذلك نادرًا ما كنا نسمع بهجرة شاعر يمني من وطنه خاصة خلال نشوب الحرب. وهذه ظاهرة تستلفت الانتباه وتجعل منها مدخلًا نقديًا لدراسة الشعر اليمني خلال هذه الفترة من الزمن والظروف الملتبسة بها والمنعكسة عليها بملامحها من النواحي النفسية والفكرية والسياسية والفنية. ونظرًا لمحور هذه المقالة حول الشاعر عبدالعزيز المقالح، وبسبب ضيق المساحة المحدودة لهذه المقالة، فقد ارتأيت أن أركزها على قصيدة المقالح الموسومة بعنوان (أعلنت اليأس). وهي قصيدة تختزل بالنسبة لي مجمل تجربة المقالح الشعرية والشخصية في نظري أي التجربة التي عايشتها مع المقالح وسردت بعض تفاصيلها فيما سبق من هذه المقالة. والتركيز على المقالح شاعرًا وناقدًا ومفكرًا، وبخاصة في هذه القصيدة، ضرورة يقرّ بها اليمنيون أنفسهم. فها هي الناقدة الأكاديمية منى المحاقري ترى أن «الأنظار معلقة على المقالح في ظل ما يمرّ به اليمن من صراعات سياسية يمثل فيها المقالح صوت السلام والاعتدال».1
وقصيدة (أعلنت اليأس) ابتداء من عتبة عنوانها تفصح عن نفسها وعن نفس المقالح المهمومة بما يدور في اليمن من صراع وحروب طويلة عاشها الشاعر منذ سقوط الإمامة في عقد الستينييات من القرن الماضي وقيام الجمهورية على أنقاضها. عاشها المقالح بصبر وأمل مكتوم وبروح متوهجة بالحلم والترقب لبزوغ الفجر. والذي يعرف المقالح وعايشه – ولو لفترة قصيرة – يتأكد من أن هذه هي سمات شخصيته الدامغة: الصمت والكتمان والصبر على المآسي، المسكون بالأمل والحلم بالتغيير.
وحين فاجأت الحرب الشاعر قبل ستة أعوام تقريبًا عام 2016م حاول تجرّع الصبر عامين كاملين أملًا في انطفاء نيرانها المستعرة، غير أن ذلك لم يحدث فانفجر الشاعر معلنًا يأسه المطلق الذي لا أمل فيه ولا حلم بعده.2 فجاءت القصيدة بعنوانها الدال تعبيرًا عن هذه الحالة التي يعلن فيها المقالح يأسه لأول مرة وبكل صراحة ووضوح منذ لحظة العنوان والمقالح الشاعر الصموت ذو الصوت المنخفض نادرًا ما يتحدث عن نفسه، وإذا تحدث عن أناه فهو يعني اليمن، الوطن المسكون به لا ينفصل الواحد عن الآخر على الطريقة الصوفية التي عبَّر عنها الحلاج في قوله (أنا من أهوى ومن أهوى أنا)! لذلك من الصعب جدًا بل من المستحيل التفريق والتمييز بين ذات الشاعر وذات الوطن في القصيدة، فبين الذاتين توحدٌ صوفي مطلق، يكتمل به قول الحلاج السابق: نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرته أبصرتني وإذا أبصرتني أبصرتنا
والذين لم يقرأوا القصيدة في حينها وقت نشرها عام 2018م، وكنت واحدًا منه هؤلاء، بل قرأوها عندما انتشر خبر مرض المقالح بل شاع خبر وفاته، بعد بلوغه عمر الشيخوخة واستبد به العجز من جراء مرضه في العمود الفقري وإصابته بانزلاق غضروفي منعه من الحركة والسير إلا بكرسي متحرك، قبل أن يشيع خبر وفاته الذي تناقلته وسائل الإعلام والمواقع الاجتماعية المختلفة3، جميعهم أخضعوا القصيدة إلى مفهوم الرثاء الذاتي المتصل بنعي المقالح لنفسه من فرط ما عاناه من مرض وشيخوخة فإعلان اليأس من الحياة والاستسلام للموت! وقد عاب عدد من النقاد والأكاديميين اليمنيين هذا الفهم المتعجل للقصيدة. وهو فهم في الحقيقة ناقص أو قاصر لاعتماده على الجانب الذاتي المحض، لكنه في الوقت نفسه يكشف عن مكانة المقالح عند اليمنيين في هذه المرحلة بالذات على النحو الذي أشارت إليه الدكتورة المحاقري المشار إليه سابقًا.4
ولكي يكتمل الفهم القاصر المنطلق من قراءة النص قراءة انفعالية وعاطفية مرتكزة على حب القراء لهذا الشاعر والتعلق به، ينبغي في نظري عدم الفصل بين الذاتي والموضوعي أو بين الذات وموضوعها في القصيدة أي بين أنا الشاعر واليمن بوصفهما ضفيرتين في بناء القصيدة يلتف الواحد منهما على الآخر ليخلقا الناتج الثالث الحاصل من علاقة الدال بالمدلول وأعني به الدلالة كما يسميها أبو الألسنية الحديثة دي سوسير. وهذا ما يجعل القراءة الكاشفة للقصيدة تعتمد على عملية التوازي المستمر في النظر للعلاقة بين المقالح واليمن في انصهارهما المتبادل الذي ينتج عنه التأثير الوجداني المختلف الدلالات في النص.
يبدأ نص القصيدة بتقرير واقع الذات الشاعرة في معاناتها الإشكالية الحية المتجاذبة بين الهلاك والموت. وكأنهما قطبان متباعدان يمزقان بينهما ذات الشاعر ويباعدان بين شعورهما وواقعمها. فأنا الشاعر تبدأ بكل ثقة وشجاعة لتقرر واقعها المائل من خلال جملة مباشرة جارحة لقارئها بتقريريتها التي لا مواربة فيها ولا تردد:
أنا هالك حتمًا
ثم يرد منها بذلك التساؤل اللامبالي الساخر من عملية تأجيل موته الذي يرى الشاعر ألا ضرورة لها:
فما الداعي إلى تأجيل موتي؟
ما دامت جميع عناصر الهلاك الذي هو أقسى من الموت متوافرة حتمًا ودون ريب:
جسدي يشيخُ
ومثله لغتي وصوتي
وهنا يبرز شعور الذات الشاعرة بالتمزق والتشظي القاتل الذي يجعل الموت أخف من الهلاك الذي يحوّل الكائن الحي إلى ذرات متناثرة وأوصال ممزقة بين الجسد والروح، وبين الرد والمجتمع حين افتقدت الذات شعورها بحب من حولها من الناس (ذهب الذين أحبهم) وتبع ذلك الشعور القاسي بلا جدوى الحياة والعيش فيها بلا حب ولا أحباب:
ذهبَ الذين أحبهم
وفقدت أسئلتي ووقتي
ومثلما ابتدأ طالع القصيدة بتقرير الذات المفجع عن هلاكها الحتمي، تعود الذات لتقفل الطالع بمثل ما بدأته من تقرير السير وسط القبور والفرار من صمتها إلى صمتها:
أنا سائرٌ وسط القبورِ
أفرُّ من صمتي
لصمتي
وبإقرار الذات الشاعرة في القول (أنا سائر وسط القبور) تبرز حالة الانفصام والانشطار المفجعة بين ذات الشاعر ومجتمعها مما يدفعها إلى الفرار حتى من صمتها ولكن إلى صمتها الذي فرت منه! إنها الذات المحاصرة بموتها وهذا هو الهلاك المفجع الذي يجسد معاناة الذات منذ مطلع القصيدة.
وهكذا تتسع الفجوة وحالة الانشطار شيئًا فشيئًا مع تقدم القصيدة وتتابع مقاطعها، بين طرفي الذات ومجتمعها، تعبيرًا عن حالة الهلاك التي تفوق الموت في التأثير والمعاناة لدى ذات الشاعر:
أبكي
فتضحك من بكائي
دورُ العبادةِ والملاهي
فالذات الباكية هنا محاصرة بلا جدوى في المجتمع الذي يمارس فعل الضحك من بكائها على الرغم من تعارض وجوه المجتمع بين دور العبادة والملاهي! فالذات محاصرة بيأسها من كل شيء حولها، فتفزع إلى السماء بشكواها علَّها تجد في السماء ما افتقدته في الأرض، غير أنها تعود كسيرة محسورة محاصرة بحالة اليأس الذي يتكاثف عليها من جرّاء سقوط الخلق كل الخلق تحت وطأته القاتلة:
وأمدُّ كفي للسماء
تقول: رفقًا يا إلهي
الخلق – كل الخلق –
من بشرٍ، ومن طيرٍ
ومن شجرٍ
تكاثر حزنهم
واليأس يأخذهم – صباحَ مساءَ –
من آهـٍ.. لآهـ
هكذا تتسع حالة اليـأس كما تتسع الدائرة من مركز الذات إلى محيطها المنداح مع تقدم خطوات القصيدة في مقاطعها التي يتكاثف فيها يـأس الذات الشاعر بانتقاله من حال إلى حال، على الرغم من محاولة الذات عدم الاستسلام إلى يأسها وإصرارها على البحث عن شمعة في ظلام اليأس عند كل الناس من حولها، أصحابًا وأعداء، خارجهم وداخلهم علّه يظفر بنقطة ضوء تبدد يأس الذات المتكاثف:
حاولتُ ألا أرتدي
يأسي
وأبدو مطمئنًا
بين أعدائي وصحبي
لكنني لما رحلتُ
إلى دواخلهم
عرفت بأنهم مثلي
وأن اليأس ينهش
كل قلبٍ.
عندها لم تملك هذه الذات اليائسة إلا أن تعلن عن يأسها المطلق الذي لا أمل بعده، وبكل وضوح:
أعلنت يأسي للجميع
وقلتُ إني لن أخبي
ولم تكن رحلة الذات الشاعرة سهلة قبل إعلان حالة يأسها المطلق، بل نجدها قد مرت بعدد من المراحل والاختبارات الصعبة ابتدأت بفحص دواخل من يحيط بها من أعداء وأصدقاء والوصول إلى الحقيقة المفجعة:
لكنني لما رحلتُ
إلى دواخلهم
عرفتُ بأنهم مثلي
وأن اليأس ينهش
كل قلبٍ.
أعلنت يأسي للجميع
وقلت إني لن أخبي
ولم تكن رحلة الذات الشاعرة سهلة قبل إعلان حالة يأسها المطلق، بل نجدها قد مرت بعدد من المراحل والاختبارات الصعبة ابتدأت بفحص دواخل من يحيط بها من أعداء وأصدقاء والوصول إلى الحقيقة المفجعة:
لكنني لما رحلت
إلى دواخلهم
عرفت بأنهم مثلي
وأن اليأس ينهش
كل قلبٍ.
أعلنتُ يأسي للجميع
وقلتُ إني لن أخبى
وتتضمن رحلة الذات الصعبة الفاحصة لكل ما حولها التلفت إلى الزمن المختلف الذي يعيشه الشاعر، والذي يتسم بالتعاسة والكآبة وهما صفتان تمثلان عنوان ذلك الزمن الغريب:
هذا زمان للتعاسة
والكآبة
لم يترك الشيطان فيهِ
مساحة للضوء
أو وقتًا لتذكار المحبةِ
والصبابة
وحين تتلفت الذات اليائسة المفجوعة في مختلف أرجاء هذا الزمان ومكوناته فلا تجد إلا ما يحزنها:
أيامه مغبرّةٌ
وسماؤه مغبرّةٌ
ورياحه السوداء
تعصف بالرؤوس العاليات
وتزدري التاريخ
تهزأُ بالكتابة
وهنا في السطور الأخيرة من هذا المقطع تشعر الذات الشاعرة بالطعنة النجلاء التي وجهها إليها زمانها في مقتل، خاصة حين تم العصف بأمثالها من أصحاب الهمم العالية وازدراء تاريخها المجيد وعدم الاكتراث بما حققته من إبداع رمزت إليه بوصف «الكتابة»، فهي رياح سوداء تهزأ بالكتابة وتشيع الجهل وتزدري التاريخ الذي خطه أصحاب الهمم والرؤوس العالية. وكان نتيجة ذلك أن وقفت الذات المطعونة وحيدة يائسة مكسورة باكية خجلى أمام وطنها الذي كانت تعتز به وتفاخر بالانتماء إليه منذ أن فتح الشاعر عيونه وصار يمنيًا بامتياز:
أنا ليس لي وطنٌ
أفاخر باسمهِ
وأقول حين أراه:
فليحيا الوطن
ولم تجد الذات الشاعرة المطعونة باليأس من كل ما حولها في الوطن إلا أن تتمسك بذاتها في رحلة معاكسة إلى الداخل لكي تجد فيها وطنًا بديلاً للوطن المسروق خارجها:
وطني هو الكلماتُ
والذكرى
وبعضٌ من مرارات الشجنْ
أما الوطن الميئوس منه فقد:
باعوه للمستثمرين وللصوص
وللحروب
ومشت على أشلائه
زمرُ المناصب والمذاهب
والفتن
ولأن الذات الشاعرة كانت منصهرة داخليًا باليمن انصهار المقالح الشاعر بتجربته الحياتية والإبداعية والكتابية ولأنهما (الذات والشاعر) لا يمكن أن يعيشا بلا وطن، واليمن بالذات دون غيره، فقد اندمجت الذات بموضوعها والتحم الدال بالمدلول لتنبجس من بينهما دلالة الوطن المستكنّ في الأعماق، وهي دلالة تتمثل في «صنعاء» التي تستحق أن يتضرع لها الشاعر بكل وجوده وتاريخه وكيانه، ويقف أمامها في خشوع يشبه خشوع المصلي العابد وهو يخاطبها في أرقّ ما سالت به كلمات القصيدة من عذوبة في لغتها التي قلبت حالة اليأس إلى حنوّ وخشية عليها يمحو بواسطتها كل ما جاء في مقاطع القصيدة من مراحل متلاحقة في رحلة اليأس الصعبة من مراحل متلاحقة في رحلة اليأس الصعبة التي قطعتها الذات الشاعرة وَهْنًا على وَهْنٍ وألمًا فوق ألم، لتستجمع أخيرًا كل طاقتها الداخلية المستكنة حيث تستقر «صنعاء» في عمق القصيدة وفي ذروتها الشعرية مثلما هي تستكن في أعماق المقالح الشاعر والمناضل الذي توحد بصنعاء وباليمن كله، لكنه اختار صنعاء لخاتمة قصيدته واختارت الذات صنعاء لصلاتها، لأنها عاصمة الروح مثلما هي عاصمة اليمن/ الوطن الذي توحد بها الشاعر والذات الشاعرة:
صنعاء
يا بيتًا قديمًا
ساكنًا في الروح
يا تاريخنا المجروح
والمرسوم في وجه النوافذ
والحجارة
أخشى عليك من القريب
ودونما سببٍ
أخاف عليك منكِ
ومن صراعات الإمارة
وختامًا تؤكد قصيدة (أعلنت اليأس) أهمية شاعرها بالنسبة إلى اليمنيين جميعهم، خاصة في فكرة وحدتهم بين الشمال والجنوب، وإجماع اليمني على شخصية المقالح مردّه إلى أنها شخصية جامعة غير مفرقة لكونها غير سياسية أو حزبية بل هي شخصية ثقافية وإبداعية بامتياز تخشى وتخاف على اليمن الواحد الموحد من «صراعات الإمارة»، خاصة وهي تنفجر من داخل اليمن ومن صلب اليمنيين أنفسهم، وتأتي من القريب قبل البعيد ودونما سبب. فالخوف هنا مصدره الذات الجماعية الذي يقوم على تفتيت نفسها بيدها:
أخاف عليك منكِ
لأن ذلك النوع من التفتيت الذاتي، على مستوى الوطن، هو ما يقود أخيرًا إلى «صراعات الإمارة» وتجزئة الوطن الواحد وتفتيت وحدة اليمن، وليس تقسيمها إلى يمنين اثنين فقط، على النحو الذي يخبئه تاريخ اليمنيين المجروح والمرسوم في وجه النوافذ والحجارة بجميع ما يوحي به الاختلاف الذي لم يزل يقبع بآثاره وجه اليمن بنوافذها الكاشفة وحجارته الشاهدة على ذلك الجرح العميق في تاريخ اليمن السعيد بوحدته التي يمثلها اليمن الواحد في ذاكرة اليمنيين ووعيهم.
وكان آخر ما قرأت للمقالح كتابه الطريف الذي خصصه لأصدقائه، وكنت واحدًا منهم، وقد صدر عام … تحت عنوان (الأصدقاء)، واختصر المقالح علاقتنا القاهرية في هذه السطور التي يصفني فيها شاعرًا أرافقه في تلك المسارات التي نترافق فيها سائرين إلى نادي الصيد، وهو ما أشرت إليه سابقًا في سطور هذه المقالة. فتحت عنوان (علوي الهاشمي) كتب المقالح:
من رخام قصائده
تصعد الكلمات
تموت مصافيرها لم تولد
أذكر كان لنا في (الكنانة)
بيت من الشعر
كانت لنا خيمة من بديع الكلام
وكثرة الأصدقاء الذين بنوه
وكانوا قناديله في المساء الجميل
التقينا،
اختلفنا،
افترقنا،
اتحدنا
وظلت أساطيره في ضمير الغياب
تضيء
تغالب نار الفراق
وعتمته الموحشة.
ثم ختم المقالح سطوره بنشر مقطوعة صغيرة اختارها من آخر مجموعاتي الشعرية الموسومة (محطات للتعب).
التي كانت تقام في أرجاء الوطن العربي لخشيته من ركوب الطائرة.