المقدَّس نفسُه تاريخي .. والتراث
كائن تاريخي صامت
منذ بدأ انتباه المفكرين والكتاب العرب إلى تراث الإسلام الثقافي، وكان ذلك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأ التفكير في ذلك التراث، والكتابة فيه وحوله، يحتل مساحةً معتَبَرة من هواجس الوعي العربي المعاصر، ومن جغرافيا الكتابة والتأليف وأغراضهما. لم تكن إشكالية التراث قد وُلدت، في الوعي العربي، حين كان النهضويون الأُوّل (الطهطاوي، التونسي…) يوشحون مقالاتهم بأفكارٍ تنويرية من العهد الإسلامي الكلاسيكي، كشأن خير الدين وابن أبي الضياف مع كتابات ابن خلدون وأفكاره، أو حين كان محمد عبده يستعيد الجداليات الكلامية الإسلامية في رسالته عن التوحيد، ويستعيد قواعد المقاصد عند الشاطبي ليجدد الفقه، ويحرّره من قيود القياس. بل إن هذه الإشكالية لم تكن قد وُلِدت بعد حين كتب فرح أَنْطُون كتابه عن ابن رشد(1) ، وإن كان هذا أوّل نصٍّ فكريٍّ عربيّ حديث في دراسة التراث (النظري) العربي-الإسلاميّ، أو حين كتب جرجي زيدان سِفْرهُ الموسوعي عن تاريخ التمدن في الإسلام (2). بل إن الإشكاليةَ عينَها لم تولَد حين بدأ الجيل الليبرالي-جيل طه حسين ومحمد حسين هيكل وأحمد أمين-يكتب في الموضوع في حقبة ما بين الحربين.
غير أن انشغال هؤلاء جميعا بالموضوع، والكتابة فيه، مَثَّل اللحظة التأسيسية في صلة الوعي العربي بالمسألة. وهي عينُها اللحظة التي فتحت أفقًا وإمكانًا أمام ولادة إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر.
وُلِدت هذه الإشكالية، في الفكر العربي المعاصر، على نَحْوٍ بالغ الوضوح، في ستينيات القرن العشرين الماضي، وإن سبَقَ ميلادَها قدْرٌ ملحوظ من الإلحاح على موضوع التراث في التأليف العربي لدى جَمهَرة كبيرة من الباحثين العرب. وتنصرف الملاحظةُ هذه إلى التنبيه إلى الفارق بين ظاهرة الاهتمام بالتراث، وهي قد بدأت مبكرة، وبين ميلاد إشكالية التراث، وهي أتت متأخرةً-نسبيًّا- عن بدء الانشغال به؛ ذلك أنه ليس من شأن أيّ اهتمامٍ بقضية فكرية ما أن يؤسّس إشكالية وإنْ بَلَغَ من الكمِّ والكثافةِ مبلغًا. والحق أن عناية باحثين عرب كثر بقضية التراث، طيلة النصف الأول من القرن العشرين، لم ينجم منها كمٌّ من التأليف وفير، ما خلا في حالات فكرية قليلة (عبد الرحمن بدوي، علي سامي النشار، شوقي ضيف…)، وهو كمٌّ لا يمكن قياسُهُ بوفرة ما ظهر منه منذ النصف الثاني من الستينيات؛ حين بدأت الإشكاليةُ في التبلور.
قلنا إن الفارقَ كبير بين الاهتمام بالتراث وميلاد إشكالية التراث. والفارقُ هذا إنما هو بين هوىً ثقافي وبين سؤالٍ استراتِيجي في المعرفة والفكر… والمجتمع استطرادًا؛ فالذين انْهَمُّوا معرفيًّا بدراسة التاريخ الثقافي والفكري الكلاسيكي، قبل عقد الستينيات من القرن الماضي، كانوا يفكّرون داخل نطاق اختصاصٍ علمي هو تاريخ الفكر، أو التاريخ الثقافي، كأساتذة جامعات، أو كباحثين مختصين. لم يكن سؤال التراث عندهم قد فرض نفسَه كسؤالٍ سياسي-معرفي، مثلما أمسى عليه أمرُهُ في الستينيات. ويمكن، للدقة، أن نقول إنه كان سؤالاً، ولم يتحوّل بعدُ إلى إشكالية؛ كان سؤالاً مدارُهُ على العلاقة بالأنا، بالميراث الحضاري والثقافي، وما كان سؤالاً عن علاقة الأنا الراهنة بالأنا التاريخية، ثم بالآخر، من منظور حاجات الراهن، ولا كان الهدف منه منازعة روايةٍ لروايةٍ عن ذلك التاريخ الثقافي، مثلما بات عليه أمره حين تحوَّل إلى إشكالية.
نسلّم بأن من غير السهل التمييز بين لحظتيْن من الاهتمام بالتراث الفكري-الإسلامي، في الفكر العربي المعاصر، لأن الثانية منهما تبدو، للقارئ فيها من خارج، وكأنها امتدادٌ للأولى وتطوير: في الموضوعات، كما في الرؤية والمنهج. غير أن قليلاً من الوقوف على بعض ظواهر الموجة الثانية من الاهتمام بالتراث، وبعض أسئلتها الصريحة والضمنية، ناهيك بالانتباه إلى شدّة الإقبال على ميدان الدراسات التراثية وتاريخ الفكر، يُطْلعنا على حقيقة أننا أمام إشكاليةٍ جديدة، أمام طفرة نوعية في علاقة الوعي العربي بالموروث الثقافي، وفي النظرة إلى موضوع التراث بوصفه موضوع رهانٍ معرفي واجتماعي على المستقبل.
أولاً: التراث كرأسمالٍ رمزي
في مقابل نظرة وضعانية، علموية، إلى تراث الإسلام بوصفه جزءًا من ماضٍ طواهُ التاريخ والتطور، وبوصفه رجع صدًى لدعوات محافظةٍ ورجعية يائسة لا يمكن إخمادها إلاّ بمزيدٍ من القطيعة مع ذلك التراث، تبلورت نظرةٌ أخرى جديدة إليه، منذ عقد الستينيات من القرن العشرين، بما هو موضوع راهن لا تقبَل راهنيَّتُه تجاهلاً، وبما هو مَوْطن صراعٍ ونزاع، داخل المجتمع وساحة الفكر والثقافة، بين قوىً متعددة المشارب والخيارات والمصالح، لا سبيل إلاّ إلى الانخراط فيه، وخوضه، من قِبَل من كانوا يستصغرون شأنه من مثقفي الحداثة وأقلامها. ومن المؤكد أن هذه النظرة الجديدة تصحيحية لمغالطات كبرى وَقَع فيها اليسار والتقدميون ودعاة الحداثة، وأوَّلها تلك اليقينية الحاكمة للفكر عندهم، والتي قوامُها أن التطوّر متصاعد متقدّم، لا متعرّج ولولبيّ، وأن التقدم قانون موضوعي يفرض أحكامه في المجتمع والفكر، وليس من سبيل إلى إعادة التاريخ إلى الوراء.
يتعلق الأمر، هنا، بمراجعة حاسمة، في منطلقاتها على الأقل، لرؤية داروينية إلى التاريخ والثقافة وقع اليسار والحداثيون في شِرَاكها، لفترةٍ من الزمن، قبل أن تكذّبها الوقائع، ويصحو الجميع-فجأةً- على هوْل نتائجها: في الفكر كما في المجتمع على السواء. وأوّل ما كذّبها أن التطور إياه حَمَل مفاجأةَ عودة التقليد، وثقافته، وقيمه، إلى النظام الاجتماعي والفكريّ، وأن العودة تلك بدت أعلى من أيّ توقُّعٍ حين تجسدت في صعود خطابات الهوية والأصالة بعد انكفاءةٍ مديدة كانت سادرة فيها. انتبه الحداثيون، متأخرين، إلى أنهم فرَّطوا برأسمالٍ ثقافي رمزيّ، هو التراث، في حمْأة اندفاعةِ وعيهم نحو الأخذ بأفكارٍ وضعية متطرفة، وأن هذا التفريط لم يحْرمْهُم من استثمار ذلك الرأسمال الرمزي فقط، وإنما سمح لغيرهم باستملاكه. والمشكلة في ذلك الانتباه أنَّه بَدَا حادًّا في مواجهة حقيقتيْن متلازمتين: أولاهُما أن خصوصهم ملأوا الفراغ الثقافي، الذي خلَّفَهُ غيابُهم الطوعيّ، وفرضوا من الرؤى والروايات ركامًا يتعَسَّر تبديدُه، وثانيهما أن أسلافهم النهضويين كانوا أحدَّ إدراكًا منهم لأهمية ذلك الرأسمال، حين انصرفوا-في حقبة ما بين الحربين-إلى الاشتغال عليه، و-بالتالي-فقد عجزوا أن يستأنفوا «مغامرتهم» الفكرية التجديدية، من حيث انتهوا، منساقين وراء الوهم بأن ليبراليتهم كانت ناقصة، متذبذبة، وغير حاسمة في انحيازاتها الحداثية.
لنقرأ علامات هذا التحوَّل الذي تُمَثّله صيرورة التراث رأسمالاً رمزيًّا برسم المنازعة.
1- الطلب على التراث
في مقابل ظاهرة الطلب على أفكار الحداثة الغربية، ومدارسها وتياراتها، من لدن المثقفين العرب في سنوات الأربعينيات، وما تلاها إلى حدود نهاية الستينيات، والتي تعرَّف فيها الجمهور العربي القارئ على الوضعية، والوضعية المنطقية، والوجودية، والبنيوية، والتحليل النفسي، والماركسية…الخ، إمّا من طريق الترجمة التي ازدهرت وتمأسست، أو من طريق التأليف المهجوس بنقل معطيات هذه النظريات (3) إلى الجمهور…، (في مقابل ذلك كلّه)، سنشهد –بدءًا من النصف الثاني من الستينيات- موجة أخرى معاكسة، هي موجة الطلب على التراث: على نصوصه الفكرية، وعلى قضاياه وأسئلته والإشكاليات، وستحتل مسائله-منذ ذلك الحين- مساحةً كبرى في الكتابة والدرس الجامعي والنشر. وليس معنى ذلك، أن ظاهرة الطلب على فكر الحداثة ستنحسر أو تزول، فهي استمرت في سنوات السبعينيات، ولكن بإيقاع أبطأ من ذي قبل، وانحصرت-أو كادت أن تنحصر-وراء أسوار الجامعة أو في بيئات حزبية (يسارية) أخذت من الماركسية ايديولوجيتها السياسية ، لا فلسفتها، أو منهجها الفكري. بل إن بعض أولئك الذين أدّوا أدوارًا بالغة الأهمية في ترجمة عيون الفكر العربي إلى اللسان العربي، أو وضعوا مؤلفات تعرِّف بمدارسه وتياراته، مثل زكي نجيب محمود، تحوَّلوا عن ذلك إلى دراسة التراث (4).
لم تكن ظاهرة الطلب المتزايد على التراث من طرف واحد، مثلما كان عليه أمرها قبْلاً، أي لم تأت من جانب أولئك الذين تعوَّدوا الاتصال بمصادره، والتفكير فيه، والكتابة في موضوعاته، من مثقفي الأصالة، وإنما هي أتت شاملةً تيارات الفكر العربي كافة، خاصة التيارات الآخذة بفكرة الحداثة. إذْ لم يكن تفصيلاً أن تزدهر قضية التراث في تأليف جمهرة كبيرة من المثقفين والباحثين العرب، ليبراليين وماركسيين، فلاسفة، ومؤرخين، وعلماء اجتماع، ولا كان تفصيلاً أن يزدهر درس الإسلاميات في الجامعات، وأن يستقطب اهتمام آلاف الطلبة والباحثين، فيصرفهم إلى تسجيل أطروحاتهم الجامعية في موضوعات ذات صلة بتاريخ الفكر الإسلامي الكلاسيكي، والفكر العربي الحديث والمعاصر. مثلما لم يكن تفصيلاً أن يزدهر نشر النصّ التراثي، والإقبال الشديد عليه من القراء، وأن يزدهر تحقيق النصوص: بمبادرات فردية، أو بوازع أكاديمي جامعي، أو بتكليفٍ من بعض دور النشر، وإن يعاد الاعتبار إلى التراث الفكري النهضوي العربي، في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فيحظى بالتحقيق والنشر والدرس.
إنه فعلاً، وكما سمَّيناه، طلبٌ شديد على التراث، الأظْهَرُ في ظاهراته، مثلما نوّهنا، دخول الحداثيين ميدان هذا الطلب على نحو لا سابق له في التاريخ الحديث والمعاصر للثقافة العربية. ولقد نشأت وقائع فكرية جديدة جرّاء هذه الظاهرة، وجرّاء تعدُّد الوافدين على ميدان دراسات التراث، أهمّها أن الموضوع لم يعُد-منذ ذلك الحين- ملْكية حصرية لفريق ثقافي واحد، مثلما كان عليه الأمر في الماضي، وإنما استحال إلى –أو هو أَوْشَك على أن يستحيل إلى-ملْكية جماعية تتقاسم حيازتها تيارات الفكر العربي كافة، وإِنْ بِأنْصِبةٍ متفاوتة. ثم إنّ من تلك الوقائع (الجديدة) أن صيرورة التراث موضوعًا جماعيًا أطلق موجاتٍ متلاحقةً من الصراع عليه، أي من الصراع على حيازة النصيب الأكبر فيه، بل من أجل احتكاره، في الحدّ الأعلى من الطموح، أو من أجل فرض هيمنة الرؤية عليه من هذا الفريق أو ذاك، في حدٍّ أدنى من ذلك الطموح.
إن شكلاً من الحرب الأهلية الثقافية اندلع، في الفكر العربي، لحيازة هذا الرأسمال الرمزي؛ لاحتكاره أو السيطرة عليه. لقد برَّرها الوعي المتزايد بالأدوار الكبيرة التي يمكن لاستغلال هذا الرأسمال أن ينهض بها ثقافيًّا واجتماعيًّا، وبما يمكن أن ينجم من ذلك الاستغلال من عظيم العائدات والفوائد. ولقد يمكن أن يُقْرأ تاريخ الدراسات التراثية المعاصر، خلال الأربعين عامًا الأخيرة، بوصفه تاريخ الصراع على تملُّك هذا الرأسمال واحتكاره، وتعظيم الفوائد-الثقافية والاجتماعية-الناجمة من النجاح في تحقيق ذلك المسعى. بهذا المعنى، يَسَع الباحث أن يرى في ظاهرة الطلب المتزايد على التراث، ظاهرة مزدوجة الطبيعة: ثقافية وسياسية في الآن عينه.
2- الماضي والحاضر في علاقة إشكالية
من يتأمل في مشهد الاجتماع والثقافة في البلاد العربية اليوم، بل منذ عقود خلت، يَلْحظ عودةً كثيفة للتقليد وظواهره، ولنزْعات الإحياء، وطغيانًا ملحوظًا لقيم الموروث الاجتماعي، والأنثروبولوجي، والثقافي، على نحْوٍ يوحي بأن حقبة التحديث السياسي والاقتصادي، والحداثة الفكرية والثقافية، لم تكن أكثر من برهةٍ من الزمن مسَّت، بمفاعيلها، جيلين أو ثلاثة، ولم تدخل إلاّ في بيئات اجتماعية ضيقة ومحدودة، وغالبًا في الحواضر الكبرى. وقد يوحي، أيضًا، بأن ذلك التحديث لم يتناول بتأثيره سوى القشور والسطوح الخارجية، ولم ينفذ إلى العميق من بُنى المجتمع والفكر. ولهذا الإحياء قرائنه التي تبرّره؛ فلقد تراجعت علاقات المواطنة والانتماء الوطني، التي اقترنت بميلاد الدولة الوطنية الحديثة وسياسات الإدماج الاجتماعي (من خلال الإدماج الاقتصادي والتعليم الوطني…الخ)، لتحُل محلّها العلاقات العصبوية القائمة على روابط النسب الأهلي (القبليّ والعشائري والمناطقي)، وعلى الروابط الدينية: الطائفية والمذهبية. وتراجعت الطبيعة «الوطنية» الأفقية للسلطة، بما هي سلطة طبقة اجتماعية (إقطاعية، أو كومبرادورية، أو برجوازية صغيرة)، لتتحول إلى سلطة فئوية (طائفية أو مذهبية أو عشائرية أو عائلية…). وتراجع الفكر التحرري والنقدي، ونزعات الانفتاح على العالم والثقافات الإنسانية، ليسود الفكر الاجتراري، ومنازع الانكفاء على العالم الخارجي، والتشرنق الذاتي، ورفض التاريخ من وراء التمسك بـ«أصالة» معيارية مطلقة ومتعالية عن الزمان والمكان والتغيّر. وبالجملة، بَدَتِ الحقبةُ هذه وكأنها تطوي ما قبلها لتكرّس سلطان الماضي والتراث في النسيج الإجمالي للمجتمع.
لماذا يملك الماضي كلّ هذا السلطان الطاغي في حاضر العرب الاجتماعي والثقافي؟ ومن أين يستمدّ كل هذه القوة، وكلّ هذه القدرة على «الخروج من تاريخه»، وتمديد إقامته في أزمنة أخرى؟
ربَّما بَدَا أن هذا السؤال هو ما أسَّس لنشأة إشكالية التراث في الفكر العربي المعاصر، وبرَّر للباحثين أن ينصرفوا إلى الانهمام به ذلك النحو من الانهمام الذي نشهد ظواهره، كتابةً وتأليفًا ونشرًا، منذ ما ينيف على أربعين عامًا. والحقّ أن الأمر كذلك بالنسبة إلى وعيٍ مشدوه بظاهرة عودة الموروث إلى مسرح تاريخنا الراهن، أي إلى وعي يكتفي من الظاهرة بملاحظة ظاهرها. غير أن بعض التمحيص والتحليل يأخذنا إلى اعتبار السؤال غيرَ ذي موضوع، أو هو يأخذنا-للدقة- إلى إعادة صوغه بعد تحريره من المنطق الضمني الذي يحكمه، ومن الفرضية التأسيسية الخاطئة التي يقوم عليها؛ فمنطق السؤال يسلِّم بأن الماضي قابلٌ لأن يتجاوز تاريخَه إلى ما بعده، فيفيض على أزمنة أخرى لاحقة، أو هو يسلم بأن حاضر العرب ليس أكثر من لحظةٍ من ماضٍ ممتدّ لم ينقطع بعد. وهي فرضية خاطئة على الرغم من أن الكثير ممّن تناولوا التراث والتاريخ الثقافي العربي بالدرس، من الباحثين العرب المعاصرين، أخذوا بها، وسلّموا بمنطوقها، واشتغلوا على مقتضى نتائجها أو نتائج القول بها(5).
ليس للماضي، للتراث (أيّ تراث)، سلطان ذاتيّ من نفسه، حتى وإن كان مكتنزًا بمضمونٍ قداسي يبدو عابرًا للزمان؛ فالمقدَّس نفسُه تاريخي، أي يُعَاش في تواريخ متنوعة ومختلفة، ويتأقلم فيها مع البيئات الاجتماعية والثقافية والنفسية، وإنْ هو عيشَ وكأنه ثابت لا يتغيّر، ولا يَلْحَقُه مُضَاف خارجي، بالنسبة إلى المؤمنين. أمّا البشريّ في التراث، وهو الأكثر (أي الثقافيّ والفكريّ والأنثروبولوجيّ)، فالتاريخية فيه أظهر من التاريخية في المقدّس. ولذلك يبدو كلّ حسبانٍ للتراث مادة فوق التاريخ، أو عابرة للتاريخ، ضربًا من النظرة الميتافيزيقية، غير التاريخية، لتاريخ الأفكار والمجتمعات.
التراث محايد في ذاته، يرقد في الكتب، وقد يرقد في الذاكرة الجمْعية. ولقد يعيشه الناس، أو يعيشون بعضًا من رموزه ومعطياته، كما يعيشون حاضرهم ومعطيات حاضرهم، من دون أن يشعروا بالتناقض. بل إنهم لا يشعرون بالتناقض لأنهم يُخضعون ذلك الماضي لحاضرهم فيعيشونه كجزء من يومياتهم. ولقد يمكنهم أن ينقطعوا عنه إن لم يكن في حاضرهم ما يحملهم على الانقطاع إليه، واستدعائه بكثافة كبيرة. التراث، بهذا المعنى، كائن تاريخي صامت، والناس هُمْ من يخرجونه من صمته ويُنْطِقُونَه أو ينطقوا به، على قولٍ للإمام عليّ بن أبي طالب عن المصحف بين دفتيْه حين يُنْطِقُه الرجال. ولذلك، فإن الطلب على التراث، في فكرنا المعاصر، ظاهرة تجد تفسيرها في حاضرنا التاريخي لا في قوة التراث ونفوذه وسلطانه في العقول والنفوس كما يُظَن.
انتبه مهدي عامل، مبكّرًا، إلى هذه الحقيقة حين كتب (6) في جدلية العلاقة بين الحاضر والماضي منبِّهًا إلى أنها «أكثر تعقيدًا من أن تكون بسيطة بين قديم وجديد، أو تخلّف وتقدُّم، يتحددان بعلاقة التتابع بينهما». وعلى ذلك فإن «مشكلة الموقف من التراث… مشكلة الفكر الحاضر، وليس مشكلة الفكر الماضي، لأن العلاقة بين الإثنين تتحدد بالشكل الذي ينظر فيه الفكر الحاضر إلى علاقته بالفكر الماضي، أي بالشكل الذي يتكشف فيه الفكر هذا للفكر ذاك، ليس من واقعه هو، بل من واقع حاضر هو واقع الفكر الحاضر نفسه. معنى هذا أن الفكر الماضي لا يتحدد، في هذه العلاقة، بذاته، بل بهذا الفكر الحاضر الذي يحدده. منطق هذا التحديد ضروري لأنه منطق الزمان نفسه، فليس من الممكن، على الإطلاق، النظر في الماضي، أو إليه، إلا من الحاضر». وهكذا نتأدى مع مهدي عامل إلى استنتاج مفاده أن «مشكلة التراث ليست تراثية، إذِ التراث ليس بذاته موضوعًا لذاته، بل هي مشكلة هذا الفكر العربي المعاصر الذي به يصير التراث موضوعا له»(7).
ليس للماضي، إذن، تلك السلطة الذاتية المفتَرضة على الحاضر، وإنما سلطته مستمدة من حاضرٍ يستدعيه بشدّة، ويعيش نفسه –كحاضِرٍ- من خلال رمزية ذلك الماضي، ومن طريق استعارة مفرداته ومشكلاته وتنزيلها على واقعٍ يعجز ذلك الحاضر عن مواجهته بلغته ومشكلاته المطابِقة ! لذلك لا معنىً للقول إن مسألة التراث فرضت نفسَها على الثقافة العربية لأن هذه الثقافة راكدة، أو لأن ذلك التراث ما زال معاصرًا لنا، مثلما يقول محمد عابد الجابري، وإنما هي تفرض نفسَها لأن رهانات ثقافية معاصرة تركب مركب الماضي والتراث لكسب معاركها في الحاضر. كان ذلك شأن فريقٍ، في المجتمع الثقافي العربي، حاول أن يفرض هذا الخيار، في النظر إلى مسائل الراهن، ويحتكر تمثيلَه والقول فيه، لكنه أمسى شأن فريق آخر تنبَّه-ولو متأخرًا- إلى خطورة المعركة على الرموز، فآثر الانخراط فيها بدلاً من الإعراض عنها: مثلما فعلَ قبْلاً ودفع الثمن.
3- الاستيلاء على التراث
خيضت معركةٌ، وتخاض منذ ذلك الحين، على التراث بين فريقين ثقافيَّيْن وخطابين فكريَّيْن: خطاب الأصالة وخطاب الحداثة. لم يكن التراث واحدًا عند هؤلاء وأولئك؛ كان لكلّ منهما تراثه الذي ارتضاه لنفسه. وكان عليه، في الوقت عينِه، أن يدافع عن تراثه -أو ما يحسَبُه تراثًا له خاصًّا به-في وجه خصمه الثقافي، وأن يسفّه تراث خصمه أو يبتخس قدره ويكشف عن وجوه التأخر فيه، عند بعضٍ قارئ له، أو عن هرطقته وبرّانيته عن أصول الإسلام، عند بعضٍ آخر قارئ. ولقد اتخذتِ المعركةُ، في الحاليْن، شكل صراعٍ بين قراءتيْن، من أجل تحقيق هيمنةِ روايةٍ بعينها عن ذلك التراث، ودحض الرواية الأخرى التي تزاحمها على ساحة المعنى. ولأنها كانت صراعًا بين قراءتين، كان على كل واحدة أن تتسلح بالأدوات كافة لتعزّر من فرص غلبتها وشيوعها. ومن الطبيعي أن يكون الأكثرُ في تلك الأدوات ممّا يُحْسَب في نطاق الفكر. لكن ذلك ليس وحده ما استُعْمِل في ذلك الصراع؛ فلقد تخلَّلته أفعالٌ غيرُ فكرية، وأُعْمِلَت فيه أدواتٌ غيرُ فكرية، وإنْ هو ظلّ يُطِل كصراع فكريّ، أو هكذا على الأقل كان يقع استقبالُه لدى جمهورٍ عريض من قرّاء المقالات المتصارعة على التراث.
توسَّل التياران، والخطابان، الأساليبَ عينَها في «قراءة» التاريخ الثقافي والفكري؛ الكلاسيكي والحديث (والأوّل منهما على نحوٍ خاص)، وتنافسا في استخدامها الاستخدام الأفعل؛ تظهير لحْظَات ونصوص فكرية وتغييب غيرها أو الحطّ من مكانتها في تاريخ الفكر، تأويل المعطيات التراثية في ضوء مطالب معاصرة، إسقاط أفكار ناشئة في البيئة الراهنة على النصّ التراثي، إخراج المعطى التراثي (=مضمونه الفكري، نظام لغته الدلالي، مفاهيمه الكلاسيكية…) من تاريخيته، ومن حدود الأفق المعرفي الناظم له، وإدخاله في لعبة الصلاحية فوق-التاريخية…الخ. لم تكن الأدوات والأساليب متكافئة بين تياريْن-وخطابين-متفاوتيْن في درجة العلاقة بالتراث، وفي كثافة النظرة الايديولوجية واللاتاريخية لدى كلّ منهما؛ فلقد كان التيار الأصالي أشدَّ صلةً بالتراث من التيار الحداثي، وكانت قدرتُه على إنطاق الماضي بما يريد أعلى من قدرة خصمه على إتيان الغرضِ عينهِ، ناهيك بأن لعبة الصراع ذاك تجري في ملعبه، وهو يستطيع-لذلك السبب- أن يتحكم في قواعدها، كما في خيوطها، أكثر مما يملك غريمُه أن يفعل. ومع ذلك، ورغم مَوَاطن القوة والامتياز التي احتفظ بها خطاب الأصالة، في مطالعة تراث الإسلام الثقافي، لم يسلِّم خطاب الحداثة بتفوُّق أدوات الأوّل، وإنما انصرف إلى منازعته العمل بها وإعمالها !
إن هذه المعركة الكبرى، التي عاشها الفكر العربي المعاصر، وما زال يعيشها اليوم، تحت عنوان قراءة التراث، وفهمه، وإعادة بناء معطياته في وعينا المعاصر، ليست-في المحصلة الأخيرة-أكثر من معركة هادفة إلى الاستيلاء على التراث؛ إلى احتكار تأويله، وفرض الرواية «الصحيحة» عنه، من قِبل كلٍ من فريقيْها المنخرطيْن فيها. ومن بداهات الأمور، في معركةٍ فكرية من هذا الضرب، أن الاستيلاء على موضوع لا يكون أو يتحقق من دون احتكار ملكية معناه احتكارًا حصريًّا، وإخراجه من التنافس الذي تُزَاحِمُ فيه روايةٌ روايةً أخرى، فيمتنع-بتلك المزاحمة-استيلاء. ومع أن الاستيلاء والاحتكار لم يتأتَّيا-حتى الآن-لطالب ٍمن طلابها، إلاّ أن امتناعَهُ ليس مأتاهُ توازنٌ بينهما-لأن هذا مختلّ منذ البداية لصالح فريق الأصالة-وإنما هو حصيلة نجاح نسبيّ في تجذيف روايةِ الحداثيين عن التراث ضدّ التيار التراثوي الغالب، على نحوٍ تحوّل معه ذلك التجذيف إلى موقف دفاعيّ متحرّك، قابلٍ لتوليد ديناميةِ تمثُّلٍ جديد للتراث في المجتمع الثقافي، وفي المجتمع القارئ، في الوطن العربي، وعلى تحقيق حدٍّ-ولو متواضعٍ- من المزاحمة لرواية الأصاليين.
ما الذي تعنيه إرادة الاستيلاء على التراث، الماضي؟ ما الهدف الضمنيّ الذي يؤسّسها ويتنزَّل منها منزلة الدافع؟
الاستيلاء على الماضي بات، اليوم، أعني منذ انطلاق معركته الكبرى في ستينيات القرن العشرين، أقصر طريق إلى الاستيلاء على الحاضر. من ينتصر في معركة الأول، أو يكسب الجولةَ الأكبرَ فيها، ينتصر في الحاضر ، أو يوفر لانتصاره في الحاضر أسبابََهُ الدافعة. والانتصار هذا، في الحاضر، ليس انتصارَ خطابٍ ثقافيّ فحسب، وإنما هو انتصارُ خطابٍ سياسي، وموقعٍ سياسيّ أيضًا. وهذا هو، بالذات، معنى صيرورة التراث رأسمالاً في النزاع الاجتماعي الداخلي، مطلوبًا فيه مرغوبًا، لا من أجل التراث في حدّ ذاته؛ من أجل فهمه ودراسته على النحو المطابِق كما يُزْعَم، بل من أجل توظيفه في المعركة على السلطة الثقافية والسلطة السياسية على السواء. ومن نافل القول إن أوار هذه المعركة اشتدّ اليوم، أكثر من ذي قبل، في سياق توظيفٍ سياسيّ غير مسبوق لذلك الرأسمال-التراثي والديني-في معمعان الصراعات الجارية.
ثانيًا: الوضع الاعتباري لمسألة التراث
من المفترض أن مسألة التراث مسألةٌ فكرية في المقام الأول، وإن الصراع عليه صراع بين رأيين وقراءتين يختلفان في المنطلقات الفكرية، والمفاهيم، وأدوات التحليل، والمصادر النظرية، والأهداف المعرفية، وما في معنى ذلك. ولسنا ننفي أن شيئاً من ذلك ينطوي عليه الصراع على التراث في الفكر العربي المعاصر، مثلما انطوى عليه الجدل حول الأصالة والمعاصرة، القديم والحديث، في الفكر النهضوي العربي بين منصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين. وهذا يعني أننا لسنا ننفي أن يكون هناك نوع من المطابقة بين الوضع الاعتباري والنظري statut théorique لمسألة التراث، وبين وضعها في الواقع الموضوعي، وفي التداول الفكري العربي المعاصر. لكن هذه المطابقة ظلت جزئية، ولم تشمل سائر حالات الجدل في الموضوع؛ فأكثر ذلك الجدل لم يتوسل أدوات الفكر ومفرداته، ولم يتناول من موضوع التراث إلاّ ما وجد فيه بُغْيَتَه، وما أسعفه في كسب قضيةٍ راهنة غيرِ ثقافية، في جوهرها، وإن هي استخدمت لنفسها بعضًا من الأدوات الثقافية. ولقد تأخذنا هذه الملاحظة إلى استنتاج نتيجةٍ، سيكون علينا أن نبرهن عليها، ومفادها أن مستوى التدخل الايديولوجي في جدل التراث ظلّ أعلى-كمًّا ونوعًا- من مستوى التدخل الفكريّ والمعرفيّ فيه؛ إن كان على صعيد المنطلقات والأهداف، أو على صعيد المضمون الفكري لِمَا أنجِز من دراسات في هذا الميدان. ولقد كان لذلك التضخم الايديولوجي أثره السلبي على ميدان الدراسات التراثية، لم يكد ينتبه إلى سوئِهِ إلاّ القليل ممن اشتغلوا في هذا الميدان.
1- في تسييس مسألة التراث
لمقاربة التراث، من موقع نظر ايديولوجي، وجوه عدّة أظهرها-في ما يعنينا في السياق الذي نحن فيه-ثلاثة وجوه: الانتقائية، والإسقاط التاريخي، والتوظيف الفجّ في الجدل السياسي.
أ-طغت نزعة انتقائية حادة في علاقة الدارسين العرب للتراث بهذا التراث. وهي انتقائية اشترك دعاةُ الأصالة مع دعاة الحداثة في العمل بها في ما كتبوه في الموضوع، وإنِ اختلفتِ الأنصبة بين مَن كانت عنده منهجًا ثابتًا في التفكير (عند الأصاليين خاصة)، ومن انزلق إليها تحت وطأة الحاجات الايديولوجية (كما عند الحداثيين). لم يلتفت أحدٌ، من هؤلاء ومن أولئك، إلى التراث في كلّيته، أي بوصفه كلاًّ ثقافيًّا غيرَ قابلٍ للقسمة، مثلما تفرض ذلك مقتضيات البحث العلمي، وإنما انصرفوا جميعًا-بدرجات متفاوتة-إلى اقتطاع أجزاء منه بعينها، والاشتغال عليها بما هي-في زعمهم-المادة التمثيلية لكلّيةِ ذلك التراث، أو اللحظة «الأصيلة»فيه، أو الوجه المشرق منه…الخ. وفي مقابل هذا الانتقاء، كان يقع كثيرٌ من الحَطِّ من لحْظاتٍ ثقافية أخرى، ومن النقد الصريح لها بوصفها لحظةً «برّانية»، «مدسوسة»، «غير أصيلة»، «بِدْعوية»… عند بعضٍ، أو بوصفها لحظة «رجعية»، «متحجرة»، «ظلامية»… عند بعض آخر. والغالب على هذا التشنيع أن الذين أتوه لم يطَّلعوا، بما يكفي، على القسم المنقود والمُشَنَّع عليه، لأنه -ببساطة- لا يدخل ضمن «تراثهم» الخاص، والفرعي، الذي خصّوا به أنفسهم !
تحركت انتقائية الحداثيين على إيقاع انتقائية الأصاليين؛ حين ازدهر الاهتمام بأفكار السلف، وبالأشعرية في العقيدة، عند هؤلاء، وُجِدَ في الحداثيين من أحْيَى أفكار المعتزلة في العدل وحرية الإرادة الإنسانية، وطفِقَ يبحث في جذور العقلانية في الإسلام عندهم (8) . وحين تكاثرت دراسات الأصاليين للفقه، وأصول الفقه، والحديث، وعلوم القرآن، حوَّل الحداثيون بوصلتهم نحو الفلسفة والمنطق والعلوم(9)،وكادوا أن يحصروا البحث فيها. وحين بدأ صعود الحركات الإسلامية، في أوائل عقد السبعينيات، يأخذ شكل حلفٍ سياسي مع النظم العربية ضدّ اليسار، وينشر أفكارًا عدَّها اليساريون رجعية، ازدهرت-في خطاب الحداثيين- لعبة البحث للثورة (المعاصرة) عن جذورها في التراث، فانصرف دارسون كثر إلى الكتابة في تاريخ الحركات الثورية في إسلام العهد الكلاسيكي، والتعريف بحركات الخوارج، والشيعة، والقرامطة، وثورة الزنج…الخ(10). وهكذا كان الخطاب الحداثي في التراث يجيب عن أسئلة وتحديات يطرحها عليه خطاب الأصالة، ولكن بأدواته عينها: الانتقائية.
على أن الانتقائية، في خطاب اليسار في التراث، تغذَّت من انحيازات فكرية لديه إلى تيارات ومدارس وميادين بحثية في الفكر الغربي الذي كان له مصدرًا؛ فحين ازدهرت علوم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وعلم التاريخ (خاصة مع مدرسة «الحوليات»)، في سنوات الخمسينيات والستينيات، في أوروبا، ازدهر الاهتمام بابن خلدون في دراسات الحداثيين، وتناهَبَتْهُ فئات ثلاث من الدارسين (علماء الاجتماع، والمؤرخين، والفلاسفة(11). وعندما انتشرت الماركسية والمنهج المادي التاريخي، في الجامعات العربية والمؤسسات الثقافية، أوائل السبعينيات، انصرف باحثون عرب إلى الكتابة في الجذور المادية في الفلسفة العربية-الإسلامية(12). أما حين انتعش الاهتمام بعلوم اللغة واللسانيات والبنيوية،بتأثير من المدارس الغربية، فلم يتردد باحثون كثر في الانصراف إلى التراث، بحثًا عن جذور هذه البنيوية في نظرية النَّظم عند الجرجاني مثلاً. وفي هذه الأحوال كافة، ظلت الانتقائية سيدة الموقف في النظر إلى التراث، والعلاقة به.
ب- اقترن بهذه الانتقائية، منزِعٌ إسقاطي في النظر إلى المادة التراثية المنتقاة، وفي قراءتها. والإسقاط فعلٌ «معرفي» غير تاريخي، لأنه لا يعترف بزمنيَّةِ الأفكار، وارتباطها بحيّزاتها التاريخية، وهو كثيرًا ما يقرأها بعين الحاضر، ومفردات الحاضر، من دون مراعاة الفواصل الزمنية والمعرفية بين أمس واليوم ! هكذا قُرئ عمران ابن خلدون بوصفه مقدمة إمّا لعلم الاجتماع، أو للمادية التاريخية. وقُرئت الأرسطية العربية، بل الأفلاطينية العربية، وكأنها تحمل جراثيم النظرة المادية إلى العالم. وجيء بابن رشد إلى عصرنا لتُبْنَى العقلانية على مداميك فلسفته. وعُدَّ المعتزلة رواد فكرة الحرية في التاريخ. وبُحِث عن جذور النزعة الإنسانية (الإنسانوية) في كتابات أبي حيان التوحيدي، وابن مسكويه، ويحيى ابن عدي. وطُلِب من التأويل الكلامي للنصّ الديني أن يكون شاهدًا على ميلادٍ مبكّر للتأويلات الحدثية (الهرمينوطيقا). وأُرِيدَ للمجتمع المكّي القُرشي، إبان الدعوة، أن يكون مجتمعَ انقسامٍ طبقي حتى تشتغل عليه أدوات التحليل الماركسي وتَحِقَّ عليه استنتاجاتُ اليوم. واحتيجَ إلى حركات البُغاة والخوارج وإلى المذاهب المغالية من أجل «تأصيل» الثورة…الخ !
كان كلّ ذي طِلْبَةٍ معاصرة يبحث له في التراث عن جدٍّ أعلى ونسبٍ يمنح بهما الشرعية لنفسه؛ ربّما في مقابل شرعيةٍ نقيضٍ يبحث عنها خصمه الثقافي والسياسي. وإذا كان الواجب العلميّ يقتضي النسبية في الأحكام، وعدم تعميمها، والاعتراف بأن هذا المسلك الإسقاطي لم يكن منهجًا شاملاً جميعَ مَن كتبوا في ميدان دراسات التراث، وأن من هؤلاء مَن تَحَرّى التقاليد العلمية الموضوعية، وتمسَّك بالرؤية التاريخية إلى المادة التراثية، فإن معظم المشتغلين في هذا المجال لم يَسْلَم من آفة الإسقاطات؛ سواء أتى ذلك واعيًا أيَّ أمْرٍ يأتيه، أو حصل له على نحوٍ غيرِ موعًى به.
ما كان لمثل هذه الإسقاطات أن تساويَ شيئًا في ميزان المعرفة؛ فهي بدت في شكل تمرين ايديولوجي على إدخال التراث في لعبة المضاربة الثقافية والسياسية الجارية. كان الهدف-معلنًا أو مضمرًا-هو تأسيس الشرعية وخَلْعُها على مقالات معاصرة باسم التاريخية و«التأصيل»، أو ما سمّاه المرحوم محمد عابد الجابري «التّبْيِئَة». كان يراد لأفكار الحداثة أن تفشو وتنتشر من طريق وَصْلها بمورثٍ قُدِّم بوصفة معاصرًا، أو لم ينْتَه تاريخ صلاحيته على الأقل. وليس هذا من الدّرس العلمي وإن هو توسَّل المناهج الحديثة؛ ذلك أن قضيته تقع في دائرةٍ أخرى غير دائرة قراءة التراث لفهمه، وإعادة بناء تاريخه في الوعي، بما هي حاجة معرفية لا تستطيع ثقافةٌ ما أن تستغني عنها إلا بعد الإشباع منها. إنها تقع في دائرة استثمار ذلك التراث لأهداف أخرى: ايديولوجية وسياسية.
ج- طغت، في بيئة الدارسين العرب للتراث، فكرةٌ موجِّهةٌ تفسّر الكثير من ظواهره التي تدعو إلى النقد، هي فكرة توظيف التراث لخدمة قضايا في الحاضر: ثقافية، وسياسية، واجتماعية. من نافلة القول إن عبارة «التوظيف» تكفي، في حدّ ذاتها، لتُخرِج مسألة التراث من مجال المعرفة، والفهم، والاستيعاء، إلى مجال الاستغلال والاستثمار الاجتماعي. وليس من شك في أن الذين انساقوا، من الباحثين الحداثيين العرب، وراء هذا الإغراء غير المعرفي، إنما فعلوا ذلك تحت وطأة الانجذاب إلى لعبَةٍ أسّسها الخطاب الأصالي، وأمعن فيها طويلاً، وبرع في أدائها. وهو ما يكشف عن درجة انحباس خطاب الحداثة في نطاق الطَّوْق الإشكالي لخطاب الأصالة. ولعلهم وجدوا فيها مناسبة للخروج من موقعٍ دفاعيّ مُزمِن، وُضِعوا فيه، أو وضعوا أنفسهم فيه بسبب غربتهم عن التراث. لكنهم أخطأوا قراءة سبيل ذلك الخروج، من طريق اختزالهم التراث إلى مجرّد وسيلة من وسائل تعزيز مركزٍ اجتماعيّ في الحاضر، أو خدمة قضة ايديولوجية لهم فيه.
على أن القائلين بتوظيف التراث، أو السالكين مسلك ذلك التوظيف من دون قصد، فريقان: فريق يصرّح بأهدافه السياسية، ولا يتحرج في الإعلان عنها (13)، وفريق يبتغي توظيف التراث معرفيًّا، أي استثمار ما تبقَّى حيًّا فيه من أجل توطينه. وقد يجتمع الرهانان معًا في عمل الدارس الواحد، فيَقْرن الهدف السياسي بالهدف المعرفي(14). وإذا كان التوظيف السياسي المباشر يؤسّس القولَ في التراث على المماحكة الجدالية، والمضاربة الايديولوجية، فإن توظيفه معرفيًّا ينتهي بأصحابه، حُكْمًا، إلى نزعة تراثوية محْدَثة، ويصبّ رصيدَه الفكري-بالتَّبِعَة-في مصلحة خطاب الأصالة، حتى وإنْ هو جَنَح لنقده بأشدّ عبارات النقد !
لقد دفعت دراسات التراث العربي الإسلامي ثمنًا باهظًا جرّاء انجرار كثير من الدارسين إلى تسييس التراث، أو إخضاع النظر فيه لأغراض سياسية وايديولوجية. وأفدح الأثمان المقدَّمة إضاعةُ الجَهد والوقت في قضيةٍ ليست من المعرفة والبحث العلمي في شيء. أما أسوأ النتائج، المترتبة على ذلك، فهي تعزيز موقع خصومهم الأصاليين؛ ذلك أن أعظم خدمة يسديها الدارسون الحداثيون لهؤلاء هي إنتاج خطاب ايديولوجي في التراث؛ أي عدم إخضاعه للبحث العلمي الذي لا يريده الأصاليون. وحين تكون المعركة ايديولوجية بين الفريقين، يكون الحداثيون هم الخاسرين فيها، لأن أسباب كسب الأصاليين لها موفورة لهم… في التراث نفسه !
في قولةٍ مأثورة لرضوان السيّد أن الدارسين العرب للتراث فريقان؛ فريق اشتغل، بهمَّةٍ، ليثبت أن الإسلام هو الحلّ، وتلك سيرة الأصاليين من الأجيال كافة؛ وفريق انصرف إلى بيان النقيض، وإقامة الدليل على أن الإسلام هو المشكلة، وتلك مقالة الحداثيين أو قسم غير قليل منهم. والحال إن الإسلام، كما تبيَّن لرضوان السيد، لا هذا ولا ذاك، ولا يحوزُ بناءُ أيّ من الفرضين عليه؛ إذِ المشكلةُ في واقعنا وحاضرنا: السياسيّ، والاجتماعيّ، والثقافيّ، والحلّ فيه-أيضًا- إنِ اهتُديَ إليه، وليس تعليق المسألة عل مشجب الإسلام، والتراث، إلاّ شكلاً من أشكال الهروب من جَبْه مشكلات اليوم: في ميادينها الفعلية، لا المُفْتَعَلة والمستعارَة.
والحقُّ أن الفكرةَ هذه وجيهة، وهي تترجم نظرةً رصينةً ومتماسكة إلى موضوع الدراسات الإسلامية-والتراثية عمومًا- وإلى ما شابها من مداخلاتٍ اختلط فيها حابل المعرفة بنابل الايديولوجيا، وضاع-في تضاعيف الخلط ذاك- الهدفُ من الدرس العلمي للتراث: المعرفة والفهم وحُسن القراءة. إننا لا نبغي من التراث إلاّ ما في وسع ذلك التراث أن يقدمه لنا؛ والذي يَسَعُه تقديمُه هو معطاهُ الثقافي والفكريّ في تاريخيته غيرِ القابلة للتجاهل. وصِلَتُنا به هي صلةُ الباحث بأيّ أثر فكري مضى، لا يريد منه أكثر من فهمه على أفضل نحوٍ ممكن. ومن الصحيح أن هذه الصّلة به، في حالتنا، ليست باردة كصلتنا بثقافة قديمة أجنبية، وإنما فيها من الحميمية الشيء الكثير. لكن الصحيح، أيضًا، أنها تكون أدعى إلى الموضوعية كلّما أحرزت نجاحًا في التجرّد من الأهواء والانحيازات، أو من الرغبة في قتل الأب.
من نافل القول إن أحدًا لا يملك أن يمنع أحدًا من أن يُعامِل التراث وكأنه مستودعُ حلول، أو مستودعُ مشكلات، وأن يخوض في «قراءته» على هذا المقتضى؛ فيتناول معطياته بانتقائية ايديولوجية، ويجنح للإسقاطات في الاستنتاجات والأحكام، ويُخضع المادة «المقروءة» للتوظيف الايديولوجي والسياسي…الخ، فذلك من مألوف العمل في ميدان دراسات التراث، عند التراثيين كما عند خصومهم. غير أن حقّ هؤلاء وأولئك، في معاملة التراث ذلك النحو من المعاملة، لا يبني مكانًا للبحث العلمي، ولا يبرِّر-علميًّا- لماذا كان الطلب على الدراسات التراثية شديدًا: وإن كان يبرّره سياسيًّا. والأهمّ من ذلك، أنه يفرض تجاوز هذا النمط من مقاربة التراث بأسئلةٍ ومطالبَ من خارج دائرته، ومن خارج دائرة البحث العلمي والمعرفة عمومًا. وإذا كان لنا أن نعترف بأن قِلّةً قليلة من الباحثين العرب انصرف عن هذا النمط من التفكير في التراث، وانصرف إلى البحث فيه؛ من حيث هو موضوع ينتمي إلى دائرة التاريخ الثقافي، أو تاريخ الفكر، فإن الاعتراف هذا يصطدم بحقيقة أن الكثرة الكاثرة من دارسي التراث العربي الإسلامي، الكلاسيكي والحديث، ليس من هذا المذهب والمشرب، وتأثير كتاباتها في الجمهور القارئ أنفذ وأوْكد ! و-بالتالي-فإن حظوظ ذيوع هذه «القراءة» وفشوّها في المتلقين أكبر، خاصة وأن المعظم، من هؤلاء الدارسين، جامعيون يشرفون على بحوث وأطروحات في الموضوع، ويؤثّرون في الأجيال الجديدة من الدارسين.
نقطة الانطلاق، في نقد هذه الأطروحات الدائرة في فلك ثنائية: المشكلة/الحل، هي التسليم النظري بأن التراث محايد في علاقته بنا كمادة مدروسة؛ فلا هو ضدنا، ولا هو في صالحنا ، وأننا نحن-الدارسين أعني- من يهدر حيادَهُ، أو يخرجه عن حياده، فيورِّطه في معارك الحاضر: الثقافية والسياسية. وإذا كان يبدو، اليوم، مشكلة وعائقًا وكابحًا، عند فريق، وحلاًّ ومرجعًا وملاذًا، عند فريقٍ آخر، فلأن الأول أراده مشكلةً، وأراده الثاني حلاًّ، وليس لأن في التراث نفسه، من حيث هو تراث، عناصر المشكلة وعناصر الحلّ. إن الدارسين العرب للتراث، وللإسلام، هُمْ يطرحون مشكلاتهم على التراث، وعلى الإسلام، وليس هم مَن يطرحون مشكلاته عليهم كما يعتقدون، ويبنون أنساقًا من التفكير على اعتقادهم. وإذا كان يَسَعُنا أن نتبيَّن، بالتحليل التاريخي النقدي، الأسباب التي تحملهم على مثل ذلك الاعتقاد، فليس من المبرر علميًّا النظر إلى ما يكتبونه بحسبانه دراسات في التراث، أو في تاريخ الفكر؛ ذلك أن قضيتهم مختلفة تمامًا، ولا تنتمي إلى ميدان البحث العلمي، ويمكن البحث عنها في مكان آخر (الصراع الايديولوجي مثلا)، وبإِعمال أدوات تحليل أخرى مثل علم الاجتماع الثقافي…
إذا كانت مشكلات التراث هي الإسم المستعار لمشكلات الباحثين في التراث، أي مشكلات الحاضر لا مشكلات الماضي، فإنها تنبّهنا إلى حقيقة بالغة الأهمية، في مضمار فهم هذا المنحى الذي أخذتْه الدراسات التراثية في الفكر العربي المعاصر، وهي أن هذه المشكلات ما فرضت نفسَها على الوعي العربي، في صورة مشكلات يطرحها التراث، إلاّ لأنها لم تَلْقً جوابًا تاريخيًّا عنها: سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، في تاريخنا الحديث والمعاصر. وهي، لذلك السبب، ظلت معلَّقَة وقابلة لفرض نفسها من جديد. وليس للتراث، في حد ذاته، نصيب كبير أو صغير في توليد تلك المشكلات المعلقة، أو في إعاقة المسعى إلى الجواب عنها، لأنها-بكل بساطة- مشكلات حديثة، ولِدَت من أحشاء التجربة التاريخية الحديثة للأمّة منذ القرن التاسع عشر. وقد يكون في قلب تلك المشكلات، التي ينبهنا إليها الاهتمام بالتراث، مشكلة الإصلاح الديني، والعلاقة المضطربة بين مجتمعات المسلمين، وخاصة ثقافتهم، والحداثة…الخ، وهي التي تستنفر الدارسين للتراث للخوض في أسئلة غير دقيقة، حتى لا نقول زائفة، وتدفعهم إلى تسخير التراث للإجابة عنها.
يبدأ البحث العلمي في التراث من القطع المعرفي مع ثلاث نزْعات مؤذية للموضوع شديد الأذى: النزعة التبجيلية للتراث، وهي السائدة في أوساط التراثويين، المتمسكين بفرضية جاهزية التراث ليقدّم أجوبة-أو مواد أجوبة-لمشكلات العصر؛ والنزعة الاحتقارية للتراث، المنطلقة من نظرة عدمية، وإعدامية، له، والمتمسكة بفرضية أن المستقبل يبدأ من القطيعة مع الماضي؛ ثم النزعة الاستثمارية للتراث، التي يشترك في الأخذ بها دعاة الأصالة ودعاة الحداثة على السواء، والمتمسكة بفرضية أن التراث جبهة صراع: ثقافي وايديولوجي، ومادة للاستغلال لصالح هذا الموقع أو ذاك. ليس التراث مقدَّسًا، ولا مُدَنَّسًا، ولا حَلَبة مواجهة؛ إنه موضوع للمعرفة فحسب، أو هكذا ينبغي أن تستقيم علاقة الباحث به؛ وهو-من أسَفٍ- ما لم يأخذ به إلا القليل من دارسيه.
لا يجد الباحثون الغربيون، اليوم، حرجًا في أن يدرسوا التراث الفلسفي الإغريقي، أو التراث القانوني الروماني، أو التراث الديني والفكري المسيحي الوسيط، أو فكر عصر النهضة الأوروبية، أو التراث الأنواري وفكر الحداثة…الخ. وهم لا يفعلون ذلك التماسًا منه لأجوبةٍ عن مشكلات عصرهم، وإنما لأن البحث فيه يقع في صلب صناعتهم و«مهنتهم» كباحثين؛ إذِ الموضوع فكريّ بامتياز، والسؤال الحامل على البحث فيه علميّ بامتياز، وهو ينتمي إلى تاريخ الفكر: حيث لا فكر يقبل الفهم من دون قراءة تاريخه الذي تطوّر فيه. ثم إن الموضوع-وإن كان مطروقًا وأُشْبِع بحثًا-يظل مفتوحًا من وجهة نظر البحث العلمي؛ فأدوات البحث تتجدّد، وتتطور، وبالتالي تغتني القراءة أكثر. لذلك يزدهر الدرس العلمي للتراث، في التأليف الفكري وفي العمل الأكاديمي الجامعي، في مجتمعات الغرب المعاصر، من دون أن يعيش الفكر الغربي إشكالية التراث: كما يعيشها الفكر العربي منذ قرن أو يزيد.
الهوامش
1 – فرح أنطون، ابن رشد وفلسفته، بيروت: دار الفارابي.
(?) أشدّد هنا على عبارة «التراث النظري» لأن الاهتمام بالتراث الأدبي بدأ، قبل ذلك، بفترة غير قصيرة.
2 – جرجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي. بيروت؛ دار مكتبة الحياة، جزآن [د ت].
3 – كان سلامة موسى قد بدأ هذا التقليد، بعقود، قبل أن تبدأ موجته الكبرى الثانية مع زكي نجيب محمود وعبد الرحمن بدوي، وآخرين، منذ بدايات الأربعينيات.
4 – آخر من فَعَل ذلك من مثقفي الحداثة جورج طرابيشي، الذي عرَّف، قبل أربعين عامًا، بالتحليل النفسي والماركسية، قبل أن تشغله قضايا التراث في العشرين عامًا الأخيرة. ويبدو أنه خطا في الموضوع خطوة علمية ملحوظة، متجاوزًا المناظرة السجالية، إلى التحليل النقدي الرصين للنص التراثي. أنظر له: جورج طرابيشي إسلام السَُّّنة ، بيروت: دار الساقي.
5 – هذه، مثلاً حال المرحوم محمد عابد الجابري في تسليمه بفرضية ركود الزمن الثقافي العربي. ومع أنه يسوقها في معرض بيانه ظاهرة الاشتغال التكراري لنظام المعرفة في الثقافة العربية.
منذ عصر التدوين، ومع أن المقاربة الايبيستيمولوجية، التي اعتمدها، تسمح بالظن بثبات وركود الايبيستيمات Epistémés (نظم المعرفة) في ثقافة ما، إلاّ أن وراء هذا الثبات الظاهر حركة في تطوّر النظم تلك، وهي عينها التي تفسّر لماذا تطوّر الفقه المالكي-مثلا- من مالك إلى الشاطبي، والكلام من واصل بن عطاء إلى القاضي عبد الجبار، والفلسفة من الفارابي إلى ابن رشد…الخ. أنظر: محمد عابد الجابري؛ تكوين العقل العربي (بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية).
(?) إن إسلام الجيل الأوّل غير إسلام العهد العباسي أو العهد الفاطمي لاختلاف البيئة. والإسلام الحضري غير الإسلام البدوي. النصوص والتعاليم هي هي نفسها، لكن التلقي مختلف، وقد تختلف الطقوس والشعائر بالتَّبِعة. وما يقال عن الإسلام يصدق على المسيحية واليهودية وتواريخها المختلفة.
مهدي عامل، أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية؟ بيروت؛ دار الفارابي، ط 7، 2002، ص 112.6
7 – المصدر نفسه، ص 175-177 (التشديد في النص) وفي مكان آخر من كتابه، يذهب إلى نقد الأطروحات التي تَقْرن ظاهرة التخلف بهيمنة التراث، معيدا العلاقة إلى جدليتها الصحيحة، قائلاً: «ليس «التراث»، في وجوده الحاضر هذا، سببًا «للتخلف»، بل وليد هذا التخلف، أي أثر له». المصدر نفسه، ص 59.
(?) حدثت متغيرات دراماتيكية جديدة، منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، في صورة الصراع على التراث، وفي صدام إرادات الاستيلاء عليه، اختل بها توازن القوى بين الخطابين، اختلالا استراتيجيًّا فادحًا، لصالح خطاب الأصالة، الذي تعاظمت-في الغضون- فُرصُ فشُوّه وانتشاره. ولكن، هذه المرة، ليس من طريق الدراسات التراثية، والبحث، والمناظرة، كما كان الأمر قبْلاً، وإنما من طريق الاقتحام التلفزيوني (الفضائي) لخطاب الأصالة يوميات الناس ووعيهم، نتيجة الحلف العضوي بين قوى الأصالة وقوى المال الرَّيْعي الذي احتضن الخطابَ إياه، ووفّر له وسائط النفوذ والشيوع، قبل أن يحتضن قواه السياسية، ويمكّن لها رقاب المجتمعات والدول في البلدان العربية، منذ مطلع العقد الثاني من هذا القرن، في سياق ما عُرِف باسم «الربيع العربي» !
8- حسن حنفي، ومحمد عابد الجابري، ومحمد عمارة، من أوائل من انصرفوا إلى إعادة الخطاب الاعتزالي وتظهيره، وبيان الوجه العقلاني فيه. أما محمد أركون فلم يحتفل فيه سوى بمسألة خلق القرآن، لاتصالها بهاجس القراءة التأويلة للنص القرآني عنده. فيما انصرف نصر حامد أبو زيد، بعدهم بعقد ونصف، إلى الاهتمام بآلية التأويل في الخطاب الاعتزالي.
9- لم يكن غريبًا أن أولى دراسات الباحثين في التراث، من الحداثيين، كانت في التراث الفلسفي العربي (محمد أركون، محمد عابد الجابري، طيب تيزيني…)، وفي التراث العلمي (رشدي راشد)
10- كتب محمود إسماعيل في: تاريخ الحركات السرية في الإسلام، وأحمد عباس صالح في: اليمين واليسار في الإسلام، وغالي شكري في: الثورة والتراث…
11- كتب كثيرون عن ابن خلدون، وأنجزت حوله أطروحات جامعية عديدة: في الجامعات الغربية والعربية.
12- من أبرز الدراسات التي أنجزت دراسات محسن مهدي (بالانكليزية)، وناصيف نصّار، وعلي أومليل (بالفرنسية)، ومحمد عابد الجابري (بالعربية)، وعزيز العظمة (بالانكليزية).
كما فعل طيب تيزيني وحسين مروة.
13- يصدق ذلك، إلى حدّ كبير، على طيب تيزيني، وحسين مروة، وحسن حنفي، وخليل عبد الكريم…
14- ذلك ما يمثله محمد عابد الجابري، وما عبر عنه، بوضوح، في مقدمة كتابه: نحن والتراث (بيروت؛ مركز دراسات الوحدة العربية).