إعداد وتقديم : هدى حمد
من خلال الراهن الفلسطيني المُتفجر بالدموية والبشاعة الإنسانية والموت الكثيف الذي لا يُبرره إلا تغلغل العدوان الغاشم الذي يطمس منذ بدء تخلقه كل فسحة تُنبئ عن بارقة أمل لتعايش مُطمئن، فإنّ مجلة من موقعها الثقافي تحاول –عبر فتح ملف أساسي في المجلة- رصد هذه الوحشية واستقصاءها وتفنيدها وكشف أعماقها، لفهم سياقات الصراع الحضاري العربي الإسرائيلي، الذي أربك العالم وخلخل مسلماته منذ 7 أكتوبر وحتى البرهة الراهنة، وذلك لإيماننا أن«الشكل الثقافي في المقاومة يطرح أهمية قصوى، ليست أقلّ أهمية من المقاومة المُسلحة ذاتها»، كما يُشير إلى ذلك غسان كنفاني.
شارك معنا في هذا الملف الباحث في الشؤون الإسرائيلية أنطوان شلحت، الذي يلفتنا إلى سقوط الفصل الأيديولوجي والسياسي بين معظم السكان في قطاع «غزة» وبين «حماس»، إذ يتم التعامل معهما باعتبارهما شيئًا واحدًا مستحقًا للفناء والإبادة، ويُحيل شلحت بقاء التوحّش واستمراره إلى العنصرية الإسرائيلية ذات السمات البنيوية التي تتعدى أمزجة الأفراد، لتُدار بروح القوانين وجهاز التربية والتعليم ووسائل الإعلام. حيثُ تتأصل نزعة التمسّك بالنظرية التي ترى أنّ «الغير» أدنى، ولذا ليس من المفاجئ أن يتبنى حاخامون كُثر فكرة أنّ من مهام «الأغيار» حرث الأرض وحصادها بينما يجلسون هم كأفنديين ليأكلوا.
من جانب آخر يرى الكاتب والأكاديمي محمد شاهين أنّ اليهود الأوروبيين الذين وصلوا فلسطين حملوا معهم الجيتو والنازية والتطهير العرقي، فلم تتحدر كلمة «اجتثاث» من قواميس اللغة وإنّما من خطاب استعماري استيطاني لفرض الهيمنة على العالم، فما قامت به إسرائيل في غزة يتجاوز شريعة حمورابي وشرائع الأديان والمنظمات الدولية بأشواط ضوئية. يُعيدنا شاهين إلى مشهد اجتثاث الهنود الحمر من أمريكا على يد المهاجرين الأوروبيين من قبل، كما يجتثُّ نتنياهو الفلسطينيين الآن.. فبقدر ما يُكرر التاريخ نفسه بقدر ما تبدو المقارنة بين نازية ألمانيا والتدمير في غزة خالية من الإنصاف، فما آلم الأجداد لا يُبرر فعل الأحفاد في مكان آخر!
الشاعر والكاتب الفلسطيني عبد الرَّحمن بسيسو، يؤكد لنا أنّ مشروع الكيان الصهيوني نشب مخالب توحشه، فأظهر الجشع الرأسماليّ الاستعماريّ التَّوسُّعي الاستحواذي المنفلت من كل عقال دون مكياج أو أقنعة في الآونة الأخيرة، فرسالة الصهاينة الحَضَارية المزعومة لا تحمل في صُلبِهَا إلا نقيضَهَا الهَمَجِيَّ مَنْزُوعَ الإنْسَانية وبالغ الضَّراوةِ والسَّواد، ولذا فما كان يُدَبَّر في الخَفَاءِ ضد فلسطين وشعبها يُغَطَّى بدعوى مظلوميَّة «يهود أوروبا» النَّاجمة عن النازية الألمانية. ومن وجهة نظر بسيسو فقد أُسهِب في تزوير مشروعية المخطط الغربي الصهيوني، وتزييف براهينه بغية تضليل الرأي العالم ونيل موافقته أو إسكاته، إلا أنّ الحقيقة المرعبة تكشف لنا أنّ هذا الكيان الإرهابيّ هو وظيفيّ في حقيقتهِ ودوافع إنشائهِ وهو لا يعدو أن يكون قاعدة عسكريَّة استعمارية وجيشَ غزو وعدوان. ويؤكد بسيسو أنّ هذا التَّوحُّش سيفتك بمُقْتَرفِيهِ من الوحوش البشريَّة بقدر ما يفتك بالمُسْتَهدفِيَن من الإنسانيين الأحرار.
ولأنّ الماكث على الضفة الأخرى من العالم يمتلكُ هو الآخر تصوراته الخاصة إزاء مشروع الاجتثاث الوحشي، فكان لا بد من الاقتراب ولو قليلا مما يُكتبُ في اللغات الأخرى، وعليه فقد قدّم لنا المترجم أحمد الويزي، ترجمة لمقال كتبته نوريت پيليد إيلهانان حول استعارة مفهوم «البستنة» التي تنهضُ على فكرة تحديد أجزاء معينة على أنّها أعشاب بشريّة ضارّة يتعيّن إبعادها أو منعها من الانتشار أو القتل إذا لم تنفع كافّة الطّرق في إزاحتها، الأمر الذي يُرينا صورة مُقربة لشكل الصراع بين الفلسطينيين والصهاينة. تركز هذه المقالة على المنهج المدرسي في إسرائيل الذي يتضمّن كل المزاعم غير القابلة للدّحض والأساطير المؤسّسة للنّزعة الصّهيونية الاستعماريّة، فتشير مادّة الجغرافيا -على سبيل المثال- إلى أنّ القدس ظلّت منذ ثلاثة آلاف عام عاصمة دائمة للشّعب اليهوديّ، وتُقدِّم صورة العرب باعتبار أنّهم هم من تخلّوا عن قُراهم وغادروها دون إشارة للتهجير أو التدمير والإبادة! كما تمّ تغييب اليهود الإثيوبيين واليمنيّين والبدو والدروز والفلسطينيّين تغييبا تامّا من الدّروس والصّور المرئيّة. هكذا ينتزعُ المنهج البُعد الإنسانيّ عن مجموعة بشرية مُحددة فلا يعودون مُلاكًا لقضيّة عادلة وإنّما مصدر إزعاج. تزرع المدرسة هذه الفكرة أيضا: حول عدم وجود أي تناقض بين مجموعة مدنيّة مكوّنة من مختلف الأقلّيات، وبين امتلاك إسرائيل لوحدها حقّ تقرير المصير!
قد تبدو المادة التي ترجمها سعيد الريامي للكاتب جوناثان جلوفر بعيدة عن واقع الصراع الذي ننشدُ تفنيده ولكنها مادة ضرورية لنعيَ التآكل الحاصل في الهوية الأخلاقية للجنود في أي معركة، وفلسفة الإقصاء لإنسانية الأعداء كجزء من سياسة الصلابة الدفاعية، فالقتل عن قرب يحتاج إلى الانسلاخ التام من الموانع الاجتماعية التي تُقنن ردود أفعالهم؛ ولذا يتم في الحرب تحييد الثوابت الأخلاقية، فيتحول الفعل المروّع في العادة إلى فعل يُرتكب بدم بارد، في غياب تام لردود الأفعال الطبيعية. هكذا يمكن أن نرى أنّ للحرب جاذبيتها الآتية من أغوار نفسية سحيقة؛ إذ تطفو على السطح عند البعض أفعال لم يتصوروا أبدًا أنّ في مقدورهم القيام بها، فكأنّها ظهرت فجأة، أو كأنّها نتاج انفجار داخلي، فالتدريب العسكري يتضمّن تخديرًا تدريجيًا لمشاعر التعاطف التي تقف عائقًا أمام الجرح أو القتل. إنّ فترة كسر الهوية المدنية لدى المجنّد تسمى التوحّش ثمّ يعقبها احتفال وطقوس تمثل العبور إلى مرحلة «البلوغ العسكري». أما فورات القتل الجماعي فلا علاقة لها بالشعور بالغيظ أو الرغبة في الانتقام، لكنها -في الغالب- حالات انتشاء يُولّدُ العنفُ من خلالها إحساسًا بالتحرر من القيود والموانع.
تكمن المشقة الحقيقية في الخنادق المظلمة التي يصطدم بها الفلسطينيون كل يوم، في الأفق المجهول، وفي تناسل المآسي باهظة الأثمان التي يسددونها كل يوم لقاء الأرض، ولا ندري إن كان ما بعد 7 أكتوبر سيُرينا منعطفا جديدا في سيرورة التاريخ أم سيعيدنا إلى سيرتنا الأولى!