صلاح بوسريف
[1]
الشِّعْر ليس لُقْيَةً، أو أثرًا من آثار الماضين، ما زلنا نحتفظ به لِنَتملَّاه، ونستعيد من خلاله من قالوه أو دوَّنُوه، أو نعود بقراءته إلى ماضينا الذي نعتبره الجذر الذي منه جاءت أغصانُنا.
الشِّعْر، تعبير عن كينونة الإنسان، عن وجوده، وعن علاقته باللغة التي ابتكرها ليقول بها هذه الكينونة، وهذا الوجود، ولتكون هي تاريخُه، وما كان يُحِسُّه ويراه، وما كان أصل وجوده كإنسان نأَى عن الغابة، ليعيش في المدينة، وترك الطبيعة خلفَه، ليؤسِّس لوجوده بالثقافة، بالفكر، وبالسؤال والخيال.
[2]
الشِّعر، منذ أول عمل شعريّ وُجِد كاملًا على الأرض، وما زال محفوظًا، تُرْجِم إلى كل لغات الكون، تقريبًا، أعني «ملحمة جلجامش»، كان سؤالًا، كان قضيَّة كبرى، وكان قلقًا، اللغة التي قال بها الأشياء، اختلفت في تركيبها، وفي بنائها، وفي مجازاتها عن لغة الكلام العام، وعن ما يمكن أن يكون وُجِدَ من كتابات أخرى، لم تكن شعرًا، رسائل، أو تشريعات، أو وصايا، أو تعازيم سحرية، أو غيرها مما لا أستطيع أن أعتبره «نثرًا»، لأن اللغة، ببساطة، لم تكن مُجزَّأة، بل كانت واحدة، وما تزال، وهي أساليب في التعبير، رغم أن كلمة لغة تُطْلَق في العربية على الأسلوب نفسه، حينما نقول لغة القرآن، مثلًا، تعني ما يميِّزُه في طريقة القول أو النَّظْم، بتعبير الجرجاني.
[3]
أهم ما في هذه الملحمة العظيمة والكبيرة، هو أن كاتبها أو منشدها وقائلها غير معروف، ما يعني أنها تعبير جماعي، أو بشريّ، اشتركت فيه عقول وأخيلة كثيرة، رغم أن هذا بدوره مجرّد احتمال -كون الملحمة مُحْكَمَة- وبناؤه الشِّعري واحد، بما فيه من سرد وحوار، وبما فيه من تداخل وتقاطع في الأصوات والضمائر، وهذا من مكونات البناء الملحمي، الذي تتصادى وتتنادى فيه الآلهة مع البشر، وفيه بطل مّا، هو من يُدِير الرَّحَى، أو أن الرَّحَى هي ما يدور به، كما في الملحمة نفسها، كون جلجامش، اكتشف الموت، في وقت ظنَّ فيه أنه أبديّ، ومن نسل الآلهة من جهة أمه نِنْسُون البقرة الوحشية.
[4]
العجيب والمُريب هما ما منح هذا العمل الشِّعريّ تميُّزَه، وسَبْقَه، وهو عمل مُؤسِّس، وفاتح طُرُق في الشِّعْر، سنراها عند الإغريق، وعند الرومان، وعند الفرس، والهنود، بعكس الحضارة أو الثقافة العربية، فهي كانت غنائية، الصوت الواحد فيهما هو الغالب، وهو الصوت الذي سيبقى مُهَيْمِنًا على الشِّعرية العربية إلى اليوم، بتنوعه الغنائي الإنشادي، حتَّى عند من ظنُّوا أنهم انتقلوا إلى الكتابة، باعتباره حداثة، ودخولًا إلى طور آخر من الكتابة والإبداع .
[5]
الشِّعْر، إذن، هو وجود، وهو هجس بالعدم، كَشْفٌ لفداحته، حتَّى قبل أن تقوله الديانات، والثورات، في جملة من فقراتها، استعادت ما جاء في «ملحمة جلجامش»، مثل الخلق من طين، وقصة الطوفان، التي كانت الأساس في بحث جلجامش عن جدّه أوتو ـ نبشتم، الوحيد الذي بقي خالدًا من بين من شَرِبَهُم الطوفان، أو طَفَوْا على الماء كذُباب متناثر.
[6]
حتَّى لغة الثورات، اختارت المجاز، والسرد، واختارت مكوِّنات الشِّعر في الملحمة لتقول بها الغيب، وستكون بها دينًا، في الخطاب، وفي طبيعة الرؤية والفكر، ما يعني أنَّ الشِّعْر، بهذا المعنى، أكبر مما نتصوَّرُه، وليس غريبًا أن يُهاجم الدِّين الشِّعْر، يوازيه بالسِّحر، بدل أن يعتبره مجازًا، في صيغة «يقولون ما لا يفعلون»، عن الشُّعراء، عِلْمًا أنّ المجازَ موجود في كل الكتب الدينية، بما فيها القرآن، وهو كثير فيه.
[7]
فقط، في الشِّعر، نحن أمام إبداع خاص بالشَّاعر، أمام ذات تقول وتكتب، وتتأمَّل، وتتساءَل، وتُفَكِّر في الوُجود، تُعِيدُ تفكيرَه وتَخَيّلَه، وهو ما يُسمِّيه بول ريكور بـ «مجازات الكاتب». كما أنَّ الشِّعْرَ فكرة جديدة، صيغت بلغة، أو بتعبير عن مسبوق، هو توسيع لِلُّغَة، ونَأي بها عن التكرار والاستعادة والاجترار، وعن التبعية والتقليد والاحْتِداء. ما يعني أنَّ خلاف الشِّعر مع الدِّين، هو هذا، في جوهره، خلاف حول من يقول، كيف يقول، وما الذي يقوله، وفي أي منحًى أو اتِّجاه يقول، وما يفصل فيه بين الحقيقة والمجاز .
[8]
مجاز الشِّعْر، هو دمُه، هو ما يمنح الشِّعْرَ الحياة. «هذا من آثار المجازات: فلأنها لا ترضى بتوصيل الأفكار مُجرَّدَة، تَعْمَدُ إلى رسمها بقليل أو كثير من الحيوية، وتكسوها بالألوان القليلة أو الكثيرة الغنى» [بول ريكور ـ الاستعارات الحية].
[9]
العلاقة بين الكلمة والشيء الذي تقوله، تختلُّ، وفق طبيعة التعبير كما اعتاد عليه الناس، أو كما تُكرِّسُه التعبيرات الشَّائعة، أو سعى عصر التدوين إلى تكريسه كلغة عربية، تقول الشيء بهذه الطريقة، لا بغيرها، وبينها الشِّعر. البحتري أصاب، وأبو تمام أخفق. الأول لمعرفته بكلام العرب، والثاني بخروجه عن كلام العرب، أو ما قاله وكتبه، ليس فيه شيء من كلام العرب، أو هو «باطِل».
[10]
هايدغر ودريدا، في الفكر الحديث أو المُعاصر، سَعَيا إلى النأي بالمجاز أو الاستعارة، بالأحرى، من عبئها الميتافيزيقي، أو بتحريرهما من الميتافيزيقا، بما يمكن أن نقرأ به معنى الحقيقة والمجاز، أو من يفعل ما يقول، ومن يقول ما لا يفعل، وما تركه هذا المعنى من أثر على اللغة في الشِّعر عند العرب، وما سعى عمود الشِّعر إلى حسْمِه، بتكريس المُقاربة، بدل التَّبْعِيد، أي بالانتصار إلى البحتري، ضدَّ أبي تمام، أو الاحتداء ضدّ الابتداء.
[11]
الذين ينظرون إلى الشِّعْر، بهذا التَّشابُك، وبهذا التاريخ، في سياقاته الفنية الجمالية، هم من تحرَّروا من نظرية موت الشِّعْر وانْتِهائه، أو أن الشِّعر صار لُقْيَةً، أو هو من التُّحَف التي نتملَّاها، لِنَسْتَمِعَ من خلالها إلى الأسلاف، هؤلاء الذين قالوا كل شيء، وكانوا البادئين، ولم يتركوا لنا شيئًا، أو بتعبيرهم، «ما ترك الأول للآخِر شيئًا». وهؤلاء، الشِّعر عندهم هو «القصيدة»، بنفس مفهومها الذي هو «الامتلاء» كما يقول أبو حاتم الرازي «القصيدة الكلمةُ مُلِئَتْ بالمعاني وكَثُرت فيها الألفاظ المُسْتَحْسَنَة. يُقال: ناقةٌ قصيدةٌ، أي ممتلئة كثيرة اللحم سمينة، فكأنهم شبَّهُوا القصيدة بذلك». دون أن نعود إلى البناء، وإلى البنية الصوتية ـ الشفاهية، التي هي البنية الأم في هذه القصيدة، انْسِجامًا مع طبيعة الثقافة العربية، نفسها، التي كانت ثقافة لسانٍ وشفاهة، وليست ثقافة قراءة وكتابة وتدوين.
[12]
لا ننتقد هذا السِّياق الفني الجمالي المبني على الامتلاء، وعلى الصوت، وما يجلبه معه الصوت من وزن وقافية، ومن توازٍ بين الشطرين، بل نُنَاكِفُهُما، ونعتبر من اسْتَغْرَقَتْه القصيدة وسمَّى بها كل الشِّعر، بما فيه ما نكتبه اليوم، نَسِيَ أن الشِّعر ليس جَمْعَ قصيدة، والقصيدة ليست مُفردَه، بل هو جامع أنواع، القصيدة نوع من أنواعه، وعصر التدوين، حَرِصَ على تسمية الشِّعر بالقصيدة، مِثَالُه شُعراء «الطبقات» من المشهورين، مَنْ نَجِدُهُم عند ابن سلام، القاضي الفقيه، الذي لم يهتم سوى بالتشريع، وبما يمكن أن يكون شريعة في الشِّعر، وعند ابن قتيبة الذي لم يكن يعنيه السِّياق الفني الجمالي، بل ما يُبْقِي الشِّعر تالِيًا، أو هو مرجِعٌ لِلُّغَة، وهي تقول ما يُفْهَم، إذا ما اسْتَحْضَرْنا جواب أبي تمام لمن نازَعَه في شأن غموض شعره، أو قوله ما لا يُفْهَم، أو ما لا يفعل، بالمعنى القرآني.
[13]
حين نُجرِّد الشِّعْر من المجاز، فنحن نُلغيه وننفيه، نُلْقِي به في المُبْتَذَل من الكلام، وفي المبتذل من الكتابة. لأنَّ المجاز، هو اللغة وهي تُفَكِّر تخييلًا وتَتخيَّل تفكيرًا، وهذه، بالذات، هي لغة الشِّعر، اللغة التي تَشْرَعُ وتبدأ، اللغة التي تَنْبَثِق وتَنْبَجِس، تكون دهشةً ونَشوةً، وتكون تكثيفًا، أو غموضًا، إذا شئنا، لأن الغموض، في الشِّعْر، ليس مثلبةً، هو الشِّعر في شفافته، مثل الشمس حين نفتح فيها أعيننا، حارِقَةً، تَلْسَعُنا، لكنها تُضيء، وتُوسِّع أفق الرُّؤيَة والرُّؤيا.
[14]
من نَسِيَ، علينا أن نُذكِّرَه، أن الشِّعر سابِقٌ على الفلسفة، والفلسفة خرجت من الشِّعر ذاته. لنقرأ «ملحمة جلجامش»، وغيرها من الأعمال الشِّعرية الأولى، لا حَجَر وقَف في طريق زواج الشِّعر والفلسفة، أو الشِّعر والفكر.
النُّفَرِيُّ، مثلًا، إذا ما غَضضنا بصرنا عن حِسِّه الصُّوفِيّ، فهو مفكِّر، تفلسف، بما جعل كتاباته شعرًا آخر. ترك كل الشِّعر خلفه، وكتب ما فكَّر فيه تخييلًا، أو ما تخيَّله تفكيرًا. لم يجد من يقرؤه، ومن يقبل هذا الشِّعر الذي خرج به عن الشِّعر. الشَّاعريون، بما شرَّعُوه من قوانين وأنساق، لم تَعْنِه قوانينُهم وأنساقُهم، فهو شاعر من جبِلَّة شعرية أخرى، من مجرَّةِ الزَّمَن الذي نحن فيه، هذا الزمن الذي هو زمن كتابةٍ بامتياز، زمن صوت، وليس زمنًا صدًى، ومن يقرأ الأعمال الشِّعرية التي كُتِبَتْ، باعتبارها أعمالًا، لا قصائد، بما يعنيه العمل من تركيب وتشابُك في البناء، وبما يعنيه من تقليص لهيمنة الشفاهة والصوت، وتوسيع دوالّ النَّص، الذي هو نسيج، إذا ما استحضرنا الأصل الإغريقي لمعنى نص Texte وهو النَّسْج والحِيَاكَة وشُغْلُ اليد والأصابع، لا اللسان، أي الخِطاب. [التباسات فادحة في المفاهيم استعملها الحداثيون قبل التقليديين، وهم يدَّعُون أنهم راجعوا ودقَّقُوا، وهذه من مثالب الثقافة العربية التي تعمل بالمُسَلَّم به، حتَّى وهي ترفضُه، لأنه مُقِيم في لا وعيها، ولا تُذَكِّر النسيان، أبدًا].
بَقِيَ النُّفَرِيّ مجهولًا، لأنَّه كتب بـ «مجهول البيان»، بتعبير الدكتور محمد مفتاح، أو بمجهول المجاز، ومجهول اللغة، ومجهول الشِّعر. بداية من مكان قَصِيّ، من النَّبْع، لا من المجرى أو المَصَبّ.
[15]
ما زلنا نقرأ الشِّعر كما تعلَّمْناه، وهو شعر اخْتَزَلَتْه المدرسة والجامعة والإعلام في القصيدة، في شريعة قُدامة بن جعفر التي أحْكَم بها الأساس الجمالي للقصيدة، والآمدي، أحْكَم المعنى، وسيَّجَهُ، لتنغلق القصيدة على بنائها، كما لخصَّها ابن طباطبا العلوي في الصفحات الأخيرة من كتابه «عيار الشعر»، التي كانت بمثابة «بيان» في البناء، وفق هذا المنظور القائم على التبعيَّة والاحتداء.
[16]
هذا هو «العقل الشِّعريّ» الذي حكم علاقة القارئ بالشِّعر، وبقيت عنده الأزمنة والقُرون والحِقَب، كلها واحدة، مثل مرايا متقابلة، تعكس بعضها البعض، وهي، في مائها، صورة لِما يُقابل الفراغ من فراغٍ، أو الصَّدَى بالصَّدَى.
[17]
ما لم نُعِد قراءة الشِّعر العربيّ، بما تحقَّق من قراءات كانت فيها جرأة وسبق، وكانت استكشافًا، بالعودة إلى التجارب، وإلى القصائد والنصوص، إذا كانت هناك نصوص، بمعنى الكتابة والنَّسْج، فلن نظفر بما يكشف لنا التاريخ الفني الجماليّ للُّغة العربية، في الكتابات الشِّعرية، بصورة خاصة، لأن الشِّعر، هو الأرض التي فيها شرعت البساتين تنمو، بكل ما انْشَقَّ من تربتها من زهور وورود وأشجار وزُرْقَةٍ وماء، وما انبثق عنها من عطور وظلال، وطيور وأصوات، بما فيها من تعدُّد، وتنوُّع وتصادٍّ، مثلما يحدث في الموسيقى، آلات مختلفة، واللحن مُؤتَلِفٌ في اختلافه، نوع من الكونشرتو الشِّعرِيّ العجيب والفريد.
[18]
لن يموت الشِّعْر، فقط لأنه هو دم اللغة. في كل اللُّغات والثَّقافات، وعند الشُّعراء الذين اكتشفوا الشقوق السَّرِّيَّة التي منها يدخلون إلى المطهر، حيث الشِّعْر هو الإنسان في كامل عرائه، كِسْوَتُه مجازاتُه، وما يَخْتَلِقُه من خيالات، ومن بَهاء وجمال وجلال.
[19]
موت الشِّعْر، يعني موت اللغة، تجمُّدُها، ولن نُجازف إذا قُلنا، موت الشِّعر، هو موت الإنسان، اختفاؤه وتلاشيه. فالوجود هو كلمة، حتَّى في الدِّين نفسه: «في البَدْءِ كان الكلمة»، أو «إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كُنْ فيكون». ثمَّة مُتَّسَع لتأويل الكلمة، ولتأويل فعل الكينونة هذا.
هذه لغة، كلام، لكنه الكلام الذي ليس هو الكلام كما يجري في الحديث والحوار، رغم أن بعض النظريات الحديثة ترى أن المجازات والاستعارات موجودة في ألْسِنَة الناس، لكن، بأي معنى، وهل يبقى ما يَعُمّ وينتشر، ويتبادله الناس مجازًا، أم يلبس ثوب الحقيقة، وتَحْجُبُه الحقيقة وتُخْفِيه؟
[20]
في الشِّعْر، إمَّا نَبْتَدِع، ونكون نحن فيما نكتبه، واللغة هي نَبْضُنا وخَفْقُ أنْفاسِنا، بل هي دمُنا نفسه، وهي تجري في أجسامنا، نمتحن بها وجودنا، هل هو وجود بالفعل، أم وجود بالقوة، أم وجود بالغير، لا بالآخر، بالمعنى الذي نجده عند رامبو، مثلا، لا بالمعنى الذي تصبح فيه الذات بلا أثر، أو تابعة لآثار سابقة، فيما يُسَمِّيه العرب بـ «وَقْع الحافِر على الحافِر».
[21]
هذه هي حياة الشِّعر، لا موته، كما توهَّم من ظنُّوا أن السَّرْد جاء من خارج الشِّعر، في جهل تامّ بالبدايات، كما يُحِبّ نيتشه أن يسميها، وهو، قبل أن يكون مفكرًا، فهو شاعر، أو أنه رأى أن يسلك نفس طريق الأيونيين من فلاسفة ما قبل سقراط الذين كان أوَّل من انتبه إلى خطرهم، ودَرَسَهُم، لأنهم كانوا فلاسفة شُعراء، وهذه حُجَّة أخرى، سيؤكدها هايدغر، في علاقة الشِّعر بالفكر، أو الفكر بالشِّعر، الأمر سيان، ما دام الشِّعْر حيًّا بالمعنى الذي ذهبنا إليه.
[22]
فالشِّعْر حياة، بل هو الحياة، فقط، علينا أن نُوسِّع رؤيتنا، وأن نخرج من الفهم المدرسيّ التعليمي، أو السْكُولائِيّ، الذي هو قفص، وليس سماءً، أو أفقًا.
لم يكن الشِّعْر عَطَبًا في وجودنا، ولم يكن، حاجَةً قضيناها وانتهى دوره، أو هو وظيفة، تنتهي بما تقوم به، أو ما وُضِعَت له من مهام. وهذا، هو ما يتصوَّرُه من يحكمون على الشِّعر بالفناء، لأنهم لم يدركوا أن الشِّعْر، منذ بداياته، منذ أعماله الملحمية الأولى، أشار إلى الطريق التي علينا السَّيْرُ فيها، وهي طريق تتشَعَّب، وتتشابك، بل هي طريق متاهة، على الدَّاخِل إليها أن يكون واعيًا بما عليه من واجب الخصوصية والاختلاف، ومن حضور للذات بتوقيعها الشخصي المفرد.
[23]
أن تعرف الشِّعْر، بهذا المعنى، وفي هذا الأفق، هو أن تعرف نفسك بنفسك، لا بمن يُملون عليك لغتهم، وقوانينهم وأنساقهم، أو يفرضون عليك ماضيهم، حتَّى وهذا الماضي فيه كثير من الضوء، أو بعض الضوء، فهو ماضي ابتكار واختلاق حدثا في زمن ما، ومكان ما، وليس ماضي الأزمنة كلها، لأن الماضي نفسه، يتعدَّد ويتنوَّع ويتشعَّب، خصوصًا في نظرنا إليه في الشِّعر، الذي كان هو ثقافة العرب، أو ما قامت عليه هذه الثقافة، وكان الأساس في وجودها.
العودة إلى البدايات، هو تذكير للنسيان، ومُراجعة ومُراقبة للمُسلَّمات، وما صار قاعدةً وقانونًا، أو شريعةً تحكم الشِّعْر، وتَحُدّ من طاقاته، وما فيه من زرقة وماء