غادر الرسام العراقي شاكر حسن آل سعيد (1925 ـ 2004) بغداد إلى عمّان عام 1993، حاملا معه فكرة أخرى عن الرسم، هي غير تلك الفكرة التي انهمك في رعايتها حوالي خمسين سنة. كانت اللوحة المزدوجة (لوحة ورقية تُرى من الوجه والقفا، بعد أن توضع بين زجاجتين) بمثابة التسلية الوحيدة للشيخ في غربته. وهي غربة لا تُقاس مسافتها بعدد الكيلومترات التي تفصل بين عمّان وبغداد، بل بحجم الفقدان، الذي يجسده غياب الملهمات الحسية التي كان ذلك الشيخ مغمورا بها في حياته البغدادية.
لم يكن آل سعيد متطلبا في حياته الشخصية، كان الأقل الكريم يكفيه ويغنيه ويملأ ساعاته نشوة وطربا. غير أن مَن اشتبك بالأثر المحلي بحميمية ذلك الرسام لابد أن يشعر أن حياته صارت خالية من أي معنى بعد أن جُرد من إمكانية تامل ذلك الأثر متى يشاء. لم يتبدل المكان وحده، بل تبدلت الأصوات والأنوار والروائح والأبخرة والإشارات والالغاز كلها. اختفى عالم مرئي ليحل محله عالم مرئي آخر. كانت قدما الشيخ تجوسان دروب متاهة لم يختبر أبعادها من قبل.
غير تلك الفكرة الغامضة التي صارت تربك صلته بالرسم، لم يحمل الرجل معه شيئا من بغداد. يمكننا ان ندرك أن حياته كلها كانت تقيم بين زجاجتين: زجاجة الوطن وزجاجة المنفى. وإذا ما كان قد سمى تلك الفكرة باللوحة المزدوجة فلأنها كانت تُرى من جانبين. لم يكن يرسم لوحتين. كانت اللوحة الواحدة تنتهي تلقائيا إلى أن تكون اثنتين تتوزعان على خيار مشترك. خيار يجذبهما إليه ويشتتهما في الوقت نفسه. بالضبط كما علاقة المرء بقدميه، حين يعيش لحظة تيه. لم يكن الرسام، بعد خبرة خمسين سنة من الرسم، في حاجة إلى التعلق العاطفي بمدركات شكلية جديدة. لم يكن يعنيه أن يرى خارج اللوحة. كان كل شيء يقيم هناك، كل شيء يطلع من أعماق سحيقة يسترها سطح اللوحة الذي تشظى إلى سطحين. الوجه والقفا، في اللحظة ذاتها يُظهران أشياء مختلفة وهما يشفان عن بعضهما. سيكون الضوء القادم من الخارج مجرد ذريعة. ما نراه حقيقة لا علاقة له بما ينطوي عليه ذلك الضوء من قدرة على اختراق السطح إلى ما خلفه. فلا وجود لسطح مؤكد. يتساوى حينها ما نراه وما لا نراه. فالرسام لا يقشر سطحا بعينه كما كان يفعل لسنوات طويلة، كل ما كان يفعله أنه يرعى من خلال الرسم سطوحا عديدة قد تكون كلها افتراضية.
قبل ذلك بثلاثين سنة كان الرسام قد شغف بتصوير وكشط وثقب الجدران ومنها انتهى الى الولع باقتفاء الأثر. أثر العابر أو الأثر العابر. هناك موعظة تُمحى يراها الرسام مثل ايماءة متصلة باليد التي تؤديها. لقد كف آل سعيد عن رسم الانسان منذ زمن بعيد واكتفى بالاشارة التي تفصح عن وجوده. لكن قد تقف وراء هذا الاستبدال (الانسان بالاشارة) دوافع أخرى، تتعلق بالموقف الجمالي الذي اتخذه الرسام من انسانية الانسان، والتي هي في انحطاط مستمر.
لقد توقف آل سعيد طويلا أمام البيئة، رغبة منه في الاعلاء من شأن الجمال الفني. لم يشغله التفكير بالطبيعة. الرب الذي خلقها يحميها. غير أن البيئة التي هي في عهدة الإنسان هي التي احتلت حيزا مهما في تفكيره . وكما ارى أن آل سعيد كان يومئ إلى حدث جلل يتمثل في انحسار التفكير بالبيئة لدى الإنسان. انسانية ناقصة صنعت ركاما متداعيا من الكيانات المتقاطعة وسط فوضى مشوشة للحواس. كان عليه والحالة هذه أن ينتبه إلى العادي والمبتذل والمهمل والمنبوذ والمستهلَك.
أتذكر جيدا أن أحد الرسامين العراقيين قال لشاكر سخرية عدائية ذات مرة: «لو بحثتُ في المزبلة لعثرت على الكثير من رسومك هناك» لم يشعر آل سعيد يومها بالاهانة كما أظن. ثروة هذا الرسام الحقيقية لا تكمن في مواده، لا تلك التي يستعملها ولا تلك التي تثيره بصريا، بل تكمن ثروته في طريقته النزيهة في النظر إلى تلك المواد. وهي مواد أقل ما يقال عنها أنها لم تكن تعني أحدا. تبدو تلك المواد كما لو أنها تركت مصيرها خلفها وعبرت إلى الجهة الأخرى، حيث لاشيء في انتظارها. ليست الإشارات التي يكتظ بها عالم آل سعيد رموزا، بل هي موجودة لذاتها. ما هي فيه هو أكثر ما يمكن أن تقدمه لمن يراها. ما هي عليه انما هو صورتها التي لا تخشى الذهاب إلى أي مصير. لم تعد تلك المواد أشياء. وفي المقابل فان الإنسان الذي انتهى بها إلى ذلك المصير قد فقد جزءا من انسانيته. معادلة واضحة من هذا النوع دفعت بالرسام بعيدا في اتجاه الرسم الخالص، حيث يتخلى الأثر الفني عن أي ارتباط يقيده بالمعنى. الرسام وقد حرر رسومه من المعنى يكون كما لو أنه قد قرر أن يواجه الرسم كونه هدفا لذاته. شيئا يكون وجوده ضروريا لا ليذكر بسواه بل ليؤسس لحياته المستقلة.
لهذا كانت اللوحة المزدوجة، وفقا لاسلوب عرضها أشبه بالتمثال. فمذ فارقت تلك اللوحة الجدار صارت تُرى باعتبارها جسدا يفرض احترامه على الناظر والنظر. تمثال من نوع مختلف: لا يسعى إلى الخلود بمواده التالفة لكنه يفكر بالأبدية. هنا بالضبط تكمن واحدة من أهم خلاصات آل سعيد في الفن وقبله في الحياة. في لحظة اطمئنان وجودي اكتشف آل سعيد أن حقيقة خيار الرسم لا تكمن في التشبه. يعدنا الرسم بواقعة مختلفة هي غير تلك الواقعة التي يمكن العثور عليها في الواقع أو التفكير بها خياليا. ولأن الرسم باعتباره فعلا هو مجهود واقعي فان آل سعيد كان يغذي انتسابه إلى الواقع بكثير من المهيجات والمنشطات الحسية. لنعترف انها واقعية مضادة، غير أنها لا تنحدر إلى ما دون ذلك. وهي واقعية وهبتنا لغة مختلفة للتعبير عن توقنا لاستخراج الفائض الانساني من أعماق نقصنا. ليست هي إذاً فكرة هروب أو حيلة للتخفي.
لقد ثقب آل سعيد الكثير من دفاتره ليرى ما الذي تخبئه الصفحات التالية. تلك الصفحات التي رسمها بنفسه ونسي محتوياتها. كان لديه ما يواريه غير أنه لم يكن يحب أن يكون ضحية لما يتوارى بقوة خياله. كنت أجده منهمكا في الرسم على منضدة الطعام في المطبخ (لم يكن لديه مرسم خاص في كل مراحل حياته). اتذكر ابتسامته التي كانت تعفيني من حرج اللص. كان دائما يحدثني عن الفكرة التي دفعته الى أن يرسم في تلك اللحظة بالذات، وهي فكرة على العموم تظل غامضة، عليه وعلي، فيما كنت في تلك اللحظة أفكر بقوة الرسم المباشر.
يصحو الرسام من النوم ليهذي أحلامه على الورق. ليست هناك منطقة وسطى بين الحلم والرسم. لا أعتقد أن آل سعيد كان يرى أشكالا في أحلامه. عالمه اللاشكلي في الرسم يدل على أنه قد مُنح حظا في أحلام تجري وقائعها في فضاء لا متناه. خفة تهبها الملائكة لمن تباركه برمية من هوائها. كان يجلس للرسم لأن الرسم استدعاه ليس إلا. سيكون علينا دائما أن نرافق الوحي إلى هدفه. في لوحته المزدوجة سعى الرسام إلى تشتيت قوة ذلك الوحي. سيكون على ذلك الملاك أن يحضر في مكانين، لا يعرف أيهما الوجه وأيهما القفا. ولكن من يدور حول اللوحة المزدوجة لابد أن ينكر وجود قفا. لقد الغى آل سعيد قفا اللوحة. لم يعد في الامكان قلب اللوحة. صارت اللوحة عبارة عن وجهين لكيان مزدوج. تلك التقنية تهبنا فكرة عن الروح في ايابها وذهابها، حيث لا يمكن التحقق من مساراتها. وما لم يُرسم انما يظل عالقا بهواء ذلك النشاط الذي يقوم به الوحي وهو يحاول استرداد أنفاسه بين محاولتين لاستيعابه أو للقصاص منه. ففي اي وجه من الوجهين يُقيم؟
«يُمكنك أن لا ترى شيئا» كم كان آل سعيد يتمنى لو أنه قال تلك الجملة للوحي. او جملة من نوع «لك أن ترى كل شيء» وهي جملة شامتة لا ينتفع منها الوحي. بالنسبة له لم تكن الأمور تجري بطريقة معقدة. ما يسره في الرسم كان أكثر بكثير مما كان يغمه. لقد قيل لي أنه كاد أن يحرق منزله في عمان حيت استعمل في الحمام مواد حارقة من اجل ثقب لوحة. قال لي يومها: «للمواد أرواحها التي تتجاذب وتتقارب» وابتسم. كان يلجأ إلى الصمغ ليبقي مناطق بعينها من السطح معزولة فلا تتمكن منها الاصباغ. تلك هي مناطق النور التي تُرسم بوحي من رغبة في التسلل إلى الوجه الآخر الذي لن يكون موجودا حينها. علينا أن نفكر بمن يرسم لا بمن يرى. ولكن آل سعيد كان يومها يستعين بخيال المشاهد ليقيد حرية الرسام بشروطه. يختار من الصمغ أرخصه «لن يبقى منه شيء» يقول ساخرا. وهو يعرف جيدا أن ما لا يبقى من الصمغ هو الذي سيحدد مصير لوحته. في تلك الأجزاء التي سيقع عليها الصمغ سيتحدد معنى اللوحة المزدوجة، قوتها وخيالها أيضا. سلوكه الميسر يدفع المرء إلى الشعور بالدهشة.
من المؤكد أن آل سعيد كان يلعب لكي يخفي معاناته. ضناه هين على نفسه فيما كان يسعى إلى بث روح الدعابة في الآخرين. «الرسم في مكان آخر» الرسام كذلك. كان يحرص على أن لا يكتفي بما تراه عيناه. بما يرى. لديه حواس بديلة هي التي يستعملها في الرسم. يرى ويسمع ويشم ويلمس بالطريقة التي تمليها عليه تلك الحواس. الرسام كائن مختلف وعليه أن يخفيه. لم أر في حياتي رساما يخفي عبقريته مثلما كان يفعل آل سعيد. كان عدو نفسه. هل كان الساحر عدو سحره؟ آخر مرة رايته فيها كان في الرابعة والسبعين من عمره. لم يكن يومها قد دخل تماما إلى نفق النسيان. بعد خمس سنوات من ذلك اللقاء صار صعبا عليه أن يتذكر ما الرسم، وماذا يعني أن يكون المرء رساما. قال لي يومها: «لم يعد الرسم يمتعني. أود أن أقضي الوقت في الصلاة» كنت أعرف انه يعني ما يقول. يصلي مثل سواه من المسلمين، غير أن لديه صلواته الخاصة. أسلوبه في الايمان وهبه قدرا عظيما من الانصاف. ذلك الانصاف كان ميزانا شديد الحساسية لقوة التراحم التي كانت تجمعه بالكائنات والاشياء من حوله، صغرت تلك الكائنات والاشياء أم كبرت.
في اللوحة المزدوجة انجز آل سعيد نموذجا مجسدا هو اشبه بالتمثال لذلك الانصاف، الذي هو ضالة روحية قبل أن يكون سلوكا اخلاقيا. فتلك اللوحة تمكننا من رؤية ما لا نراه والتغاضي أحيانا عما نراه. وهو ما يعني امتزاج قوتي الاخفاء والبوح، بعضهما بالبعض الآخر. لقد خُلقنا لنكون مرئيين غير أننا في الوقت نفسه ندين في وجودنا إلى قوة غير مرئية، هي مصدر كل الجمال. ارادة جميلة وتحب الجمال. وهي لذلك ارادة منصفة. لم تكتف بالجمال لنفسها بل وزعته بعدالة وتوازن بين مخلوقاتها. بالنسبة لآل سعيد فان تلك المخلوقات متساوية في حقوقها داخل المعبد الذي يضمها. ذلك المعبد هو صورة عن الكون السعيد.
من الانصاف فعلا أن يكون الإنسان، كل انسان، موجودا في مكانين وان يجد الوسيلة لتحقيق ذلك. فحين يُمكننا الرسام من النظر من خلال جهتين (كما لو أننا نفعل ذلك حقا) فان ذلك يعني أنا نقف في مكانين (كما لو أننا نفعل ذلك حقا أيضا). ليس في ذلك الأمر أي نوع من الأوهام. ولأن تقنية اللوحة المزدوجة هي اختراع لم يشهده تاريخ الفن في العالم قبل محاولة الرسام العراقي فاننا نكون مع ذلك الاختراع شهودا على تطور عميق جديد في عدد من المفاهيم التي تتعلق بالصورة وطريقة النظر إليها. لقد تغير مفهوم السطح، فإذا كان كما عرفناه من قبل مجموعة متراكمة من السطوح، يغطي بعضها البعض الآخر، فقد صارت تلك السطوح في اللوحة المزدوجة يشف بعضها عن البعض الآخر، بل أن السطح صار يتوق إلى أن يشف عن أكبر مساحة ممكنة من الفضاء المحيط به. فاللوحة المزدوجة هي جزء من ذلك الفضاء وليست معزولة عنه كما هو حال اللوحة التي تُعلق على جدار.
نحن إذاً باعتبارنا مشاهدين غير مطالبين برؤية الديك الذي أطلق صيحته، بل باللحاق بتلك الصيحة وهي تحلق في فضاء بعيد. مهموما بارتياد الأجزاء المنسية، من الوقت، من النص، من الأثر، قادنا آل سعيد (لا يزال في إمكانه أن يقودنا من خلال رسومه) إلى مناطق خفية من الرسم، لا من العالم. وهو ما يجعلني على يقين من أن ذلك الرسام انما انتهى إلى خلاصة تقول: أن الرسم ليس ما يقوله، هو ليس ما يعنيه. ضرورته تنشأ داخل بنيته. نفعيته تكمن في ضرورة أن يكون موجودا لأن فكرة الحياة تكون ناقصة حين تختفي. هو مثل الإنسان تماما لا نفكر في التساؤل عن جدواه. خرج من العدم وسيعود إلى ذلك العدم. لم يظهر آل سعيد حرصا يُذكر على مصير ما يُرسم، بقدر ما صب جل اهتمامه على مصير الرسم. ولأن مصير الرسم لا يمكن أن يلتقي دائما بمصير ما يُرسم فإن جماليات الصورة لم تكن تنبعث في رسومه من رؤى توافقية: بين عناصر الرسم، بعضها ببعض، أو بين الرسم والآخرين. ومما لا يمكن انكاره انه كانت لرسوم الرجل جاذبيتها الجمالية (بالمعنى البصري المباشر) وهو ما كان يغري الكثيرين في الاعجاب بها وفي اقتنائها، غير أن تلك الجاذبية لم تكن لتشغل حيزا يُذكر في فلسفة آل سعيد الفنية. كانت أشبه بالواقعة العرضية التي لا يمكنها دائما أن تنبئ بما يحدث فعلا.
تُسخر اللوحة المزدوجة الفضاء المحيط لخدمتها من غير أن تثني عليه. تستولي على جزء منه ليكون جزءا من مكوناتها من غير أن تحيلنا إليه. رفيق المنسيات الذي هو الرسام كان يرى إلى مكان العرض في صفته عدوا. في حياته لم يتحقق شيء من أحلامه التي تتعلق بفضاء العرض المفتوح. فالرجل الذي عاش حياته كلها مأخوذا بسحر الفن الشعبي لم تُعرض رسومه إلا في قاعات لا تؤمها إلا النخبة. خانته ثقافة المصنفات الفنية التي جعلت من الرسم فنا نخبويا. حين اكتشف آل سعيد كشكا مهملا في منطقة العبدلي بالعاصمة الاردنية عده واحدا من أهم الأعمال الفنية التي تستحق أن تُرى. ولم يكن اهتمامه بذلك الكشك سوى التجسيد الأمثل لرغبته في أن تكون رسومه مشاعة للنظر كما ذلك الكشك تماما. الآن وقد اختفى كشك العبدلي اشعر بالحاجة إلى سطر أخير لا يكون بمثابة مرثية. كان شاكر حسن آل سعيد يهبنا من خلال لوحته المزدوجة نوعا من الثقة بحياة لم نعشها بعمق بسبب غفلتنا غير أنها كانت كريمة دائما في الثناء علينا.
فاروق يوسف
شاعر وناقد من العراق يقيم قي السويد