حاوره: أحمد الفلاحي *
في النصف الأول من عام 1984 قدمت أسئلة مكتوبة للشيخ عبدالله بن علي الخليلي شاعر عمان الأكبر وتكرم مشكورا بكتابة الأجوبة عليها بخطه الجميل المميز، وكانت أسئلة منوعة من الشعر وأحواله وظروفه
وكان القصد أن تنشر في مجلة “الغدير” الشهرية الثقافية، ولكن المجلة توقفت بعيد منتصف ذلك العام قبل أن يتم نشر الحوار وبقي الحوار في أوراقه على أمل أن نجد الفرصة لنشره بإحدى المجلات، ولكن مشاغل الحياة وارتباطاتها أخذتنا يمينا وشمالا وكل ما نتذكر يحصل ما يؤخرنا ومر الزمن سنة بعد أخرى، وأخيرا كان لا بد من إظهار هذه المقابلة المهمة النفيسة ولكونها طويلة بعض الشيء نشرنا مؤخرا ملخصا لها في جريدة “عمان” والآن حان الوقت لنشرها كاملة في مجلة “نزوى” الثقافية التي منذ صدورها وهي تفتح صفحاتها للأدب والشعر بكل تجلياته وصنوفه والتي سبق لها الاحتفاء بشاعرنا الكبير بكتابات لأعلام الأدب والثقافة عنه وعن تجربته الثرية.
Z بعد هذه التجربة الطويلة مع الشعر ماذا يعني الشعر بالنسبة لأديبنا الكبير الشيخ عبدالله الخليلي؟
ll الشعر هو الشعر ذاته لأديب كبير مارسه وأجاده أو أديب مبتدئ، وإن أردنا تعريف الشعر فهو المعنى والهدف وحسن التركيب وغزارة المادة ورقة الأسلوب إلى غير ذلك من مقوماته؛ وحيث إن الشعر نبع الشعور كان حريا أن تشتق منه تسميته ولست بمؤمن بما يتوله به بعض النقاد من أن شاعرا يرى في شعره وآخر لا يرى فيه كما يقول العقاد متحاملا على شوقي من أن المتنبي تستطيع أن تراه في شعره ولا تستطيع ان ترى شوقي في شعره، ولعلك لو أطللت على الموقف إطلالة عميقة لأمكنك أن ترى الشاعر بل وكل ذي موهبة أن تراه في موهبته على ضوء الشهرة التي اكتسبها وعلى مقدار حجمها.
أما أنا فعلى من يقول أن ثمة شاعراً تراه في شعره وآخر لا تراه فقد لا أكون ممن يرى في شعره؛ وأنا والشعر بعد هذا الالتصاق الطويل أصبحنا وكأننا كيان واحد ليس باستطاعتي الفكاك منه، وقد ارتبطت به وارتبط بي ومن ناحية المستوى والجودة فكل يجود بما في وسعه، والناس هم الذين يقومون ما يقرأون والقرائح تتفاوت بين ما هو جيد والذي أجود منه.
Z الشيخ عبدالله هل لي أن أسأل في أي سن اكتشفت أنك شاعر؟ وكيف كان ذلك؟ وما هي لو سمحت أول أبيات قلتها؟
ll نشأت في صغري وكأني أعوم في بحر من خيال مما دفعني إلى صناعة الشعر وأنا في الثلث الأول من العقد الثاني وكانت بدايتي بأبيات قلتها وأنا أكتب رسالة ودية لصديق
هذي سمائل لانتظار قدومكم تزهو وتصبح كل يوم تزهر
كالروض باكره الندى فإقاحه
ثغر ونرجسه عيون تنظر
والآس من تحت النسيم كأنه
قد يقدمه الهوى ويؤخر
والياسمين على البنفسج طافح والورد يفتحه الغمام وينشر
ثم تركته فترة وكأني أنسيته حتى خرجت مع عمي الإمام الخليلي رضوان الله عليه في رحلة بشرقية عمان، وبينما كنا في بدية إذا بالشباب المتعلمين وقد أجمعوا على إنشاء قصيدة تتضمن وقائع تلك الرحلة وقد بدأوها بأبيات لا أذكر شيئا منها الآن وكل من وصلته الورقة أضاف ما يتبادر له، فلما جاءتني كتبت تحت كتاباتهم أربعة أبيات احفظ منها بيتا واحدا وأنا اصف الناقة :
تحركها بالأريحية همة
فتعدو بنا كالرائح المتحلب
وشطرا من بيت أقول فيه وأنا اصف الامام رضي الله عنه:
“على سيرة حاذى بها سيرة النبي”
هذه الأبيات الأربعة رآها في يدي القاضي الأديب أبو الوليد سعود بن حميد وكان من هواة الأدب والمغرمين بالشعر فأخذ مني الورقة ومضى يسرع معجبا حتى انتهى إلى الامام وأطلعه عليها، فقال الإمام: لو قال حاكى بدل حاذى ولم يزد، ولكن ذلك الإعجاب لم يشجعني وبقيت برهة وأنا محجم عنه حتى بدأته عند الثلاثينات من عمري وأول قصيدة قلتها جاء في بداياتها:-
ما للمطي وقد عزمت رحيلا
يرزمن من ألم الفراق عويلا
أجزعن مما لو أصيب ببعضه
رضوى لغاب عن العيون نحولا
يا نوق حسبك ما الفراق بهين
لو كان للمجد العظيم سبيلا
قلتها بتاريخ 19 ذي القعدة سنة 1369هـ
ثم القصيدة الثانية والتي مطلعها:
إليك فقد أقدمت عزمي مشمرا
إلى خطة تسمو على المجد مظهرا
وهكذا بدأت رحلة الشعر عندي.
Z منذ تلك الفترة وحتى الآن هل تراك راضيا عن مسيرتك الشعرية وتجربتك الفنية في الأدب؟
ll إن الله جل شأنه يقول “ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا” إن ما يقوله تعالى هو الحق الذي لا مرية فيه ولا يقبل التردد.
تجد الكاتب أو الشاعر يكتب فيعود يقرأ ما كتب فيقول ليتني غيرت هنا وزدت ذاك وأنقصت هذه ووضعت تلك اللفظة محل أختها.
يروى أن النابغة الذبياني لما قال قصيدته التي جاء في مطلعها:
من آل مية رائح أو مغتدي
عجلان ذا زاد وغير مزود
أخطأ في بيتين الأول قوله وبذاك “خبرنا الغراب الأسود” والثاني قوله “عنم يكاد من اللطافة يعقد” فالقافيتان في محل رفع وجميع القافية كلها على الجر، ولكن ذلك الشاعر الفحل المتين في شعره لم ينتبه حينها وقد انتبه الناس ولكنهم لم يجرأوا على مراجعته لمكانته الكبيرة وحين جاء إلى البصرة دعوه لحفلة غناء فلما حضر أمروا الجارية المغنية أن تغنيه من شعره ودسوا له البيتين مع إطالة في الإيقاع عند نبرات الصوت على تضاريس القافيتين المقصودتين لتسترعي انتباهه، وفعلا فقد فطن الذبياني ولما خرج غير الشطرين بقوله في الأول “وبذاك تنعاب الغراب الأسود” وفي الثاني “عنم على أغصانه لم يعقد” ثم قال دخلت البصرة وفي شعري عاهة وخرجت منها وأنا أشعر الناس.
وأنا نفسي أكتب القصيدة فاقرأها فلا أرضى عنها ولكني أجد من يثني عليها ويرى فيها الصورة الحية غير الصورة التي رأيتها بها، وكان لي أن كتبت قصيدة أقول في مطلعها:
دعاني أقود عنان السما
الى الله أسعى به ملجما
فقرأتها مرات عدة وأطلعت عليها الشيخ ابن جميل والشيخ العبري إمام العربية وأحمد الخليلي ورآها جمع من الأدباء وظلت تتداولها الألسن ما يزيد على اثني عشر عاما على وجه التحري وطيلة هذه الفترة لم أر ولم يرني أحد فيها ما يعاب حتى كنت ذات يوم أتأملها فرأيت وكأني اشاهد في ثلاثة أبيات ثلاثة أفعال جزمت بلا جازم فاعدت ترتيب الأبيات المعنية ترتيبا سليما فهل بعد هذا نستطيع الرضا حقا عما كتبناه أو قلناه.
Z أود أيضا أن أعرف إن كان ذلك ممكنا من هو أستاذك في الشعر؟
ll في معتقدي انه لا أستاذ للشعر سوى الموهبة ولكن الأستاذ يكون لمقومات الشعر من علوم العربية التي لا يستغني الشعر للمعتني به عنها، أما أنا فقد قرأت العربية على الأستاذ اليوسفي الذي قالوا عنه أنه سيبويه زمانه ثم على الشيخ أبي عبيد والمدرسة الجامعة هي مدرسة الإمام الخليلي رضي الله عنه، وليتني خرجت عنها ولو بلعقة من شهدها، ولكن هل يرد الندم شيئا مما فات ذلك ما يتردد في غضون نفسي ومنحنيات قلبي.
Z أقرب شعرك إلى نفسك وفي أي الفنون ترى أنك أجدت أكثر؟
ll قيل لحكيم عربي أي أولادك أحب اليك قال صغيرهم حتى يكبر ومريضهم حتى يبرأ وغائبهم حتى يعود وإن افتتان الإنسان ببنيات أفكاره كافتتانه بأحب أبنائه إليه، ولكن الناس يتباينون في الشجاعة والنقد وعمق التفكير حتى بين ما يفتنون به وما هم به غير مفتونين، ولذلك قيل عن المعري أنه يكتب فيرمي بالكثير مما يكتبه او بالأكثر مكتفيا ببقية يعتبرها قمة مع انه لا يقول إلا قمة، أما زهير وحولياته فإنه مع نقده يضع ميزانا نقديا او موازين محددة له ولغيره، فهل يا ترى ان هذين الفحلين غير راضيين عن شعرهما الذي طبقت شهرته الآفاق ام تراهما مفتونين به ولكن حاسة النقد والشجاعة الأدبية لديهما هي الأغلب في تقويم ما يقولانه.
أما أنا فأرى في شعري عالما من حياة مارستها وكأني أشاهد نفسي وأترابي فيها فأجدني في ذلك العالم بمن فيه وما فيه، وأجدني في الفخر والحماسة غيري في النسيب وغيري في عالم القصة الشعرية، ولعل آراء القراء هي المرآة التي تعبر عن الرضا أو السخط فالمرء مرآة أخيه، وآخيرا أقول كما يقول الشاعر “كفى المرء نبلا أن تعد معائبه”.
Z لقد قال لي بعضهم ممن يهتمون بشعرك إن أبرز ملامحه شيئين اثنين الفخر وشكوى الزمان بم تعلل ذلك؟
ll في حديث نبوي أو أثر يروى ما ترك العرب الفخر وأنا لم اخرج في شعري عن المدرسة التقليدية فشكوى الزمان غالبا نزعة كل موهوب فـ”السيل حرب للمكان العالي” وأحسب أن خيار الشعر ما دفعته النفس دفعا وهذا النوع من الشعر هو الذي تتجلى فيه الموهبة على حقيقتها وقد أجدني أحيانا وأنا واقع تحت سيطرته، فلا أجد لي محيصا عنه ولا حتى مناما أو طعاما دونه حتى يبلغ به الشوط مني غايته فيأتي وفيه الفخر والحماس والشكوى غالبا، ومع هذا فأنا أرمي منه بالكثير ولعل هذا النوع في الغالب لا يحمل قائله أية أعباء من تنقيح او مناقشة، أما النوع الثاني الذي يمتريه الشاعر ليدر ضرعه فيحتلبه غزرا او نزرا فذاك هو الذي يأتي في الدرجة الثانية ويكون دائما قابلا للنقاش والتنقيح وإن كان فيه البالغ في الجودة كما روي أن امرؤ القيس قال بيته المشهور “مكر مفر مقبل مدبر معا” وظل ثلاثة أيام بلياليها يلتمس له الشطر المناسب فلم يجد حتى أتته جاريته وهي تقول سيدي أغار على الغنم ذئب “كجلمود صخر حطه السيل من عل” فقال لها حسبك أنت حرة لوجه الله، وجعله تتمة لبيته ومثله ما روي عن أبي تمام إذ قال بيته المشهور “واحسن من نور تفتحه الصبا” فلم يتسن له اتمامه وظل حائرا كصاحبه الأول إلى أن جاءه سائل يقول “اعينونا ببياض عطاياكم على سواد مطالبنا” فأخذه تتمة لبيته فقال “بياض العطايا في سواد المطالب”، وأنا كشاعر او متطفل على الشعراء أجد في شعري مثلما أجد في شعر غيري وقلما تجد شاعرا عربيا يخلو شعره من فخر وشكوى زمان ولعلها طبيعة من طبائع الإنسان وربما كان الفخر مصدره الاعتزاز بالنفس.
Z الشيخ عبدالله كيف تقول الشعر ومتى تقول الشعر؟
لحا الله الشعر وهل أجدانا من شيء لئن نكون أبناء جابر بن زيد او خالد بن الوليد فنوسم بسمتهما أحب الينا من أن نكون أبناء حسان فنوسم بسمته وحتى ولو نحن نقول:-
أقول لها اذا جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
فإما رحت بالمجد المفدى وإما رحت بالمجد المريح
أو على نحو ما يقول معاوية بن أبي سفيان ما منعني ليلة الهرير أن أضع رجلي على ركابي وأهرب الا قول ابن الإطنابة:-
أقول لها وقد طارت شعاعا
من الأبطال ويحك لا تراعي
فانك لو سألت بقاء يوم
على الأجل الذي لك لن تطاعي
أو ونحن نقول:-
إن كان للناس جاه يفخرون به
فإن جاهي وعزي نظرة الله
أو كان للناس مال ينعمون به
فإن مالي وكنزي نعمة الله
أو ونحن نقول:-
سنحيا كما شاء الإله أعزة
ونقضي وعين الله منا بمنظر
وتصحبنا الدنيا على رغم أنفها
بفتح وتمكين ونصر مؤزر
ونستقبل الأخرى بثوب شهادة
عليه خلوق من نجيع معطر
إن هذه كلها ما هي الا تواقيع والحان لا تخرج عن كونها تفاؤلا أو تشاؤما أو دعاء إلى خير فأسعد بمن دخل تحت الاستثناء من قوله عز من قائل “والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون”
أما كيف أقول الشعر ومتى؟ فغالبا يكون الشعر نفسه هو الذي يشدني إليه تحت الكيف والمتى فإذا حاولته قبل أن يحاولني فكثيرا ما أحسر دونه ولعلي من خلال تجربتي أستطيع أن أقول إني شاعر اضطرار لا شاعر اختيار.
Z أرجو أن لا تؤاخذني فإني إنما أنقل ما سمعت إن مما يعاب عليك عدم التطور والبقاء حيث أنت المصطلحات والجمل والعبارات التي تستخدمها في شعرك كلها من القديم وحتى الصور أغلبها تقليدية، وكذلك الأسلوب أقرب إلى طريقة القدماء منه إلى المعاصرين ما هو تعليقك؟
ll نعم أنا أسلم بذلك لأني أربط بين أشياء لا يمكنني الخروج عنها، البيئة العربية تحت هوائها الطلق بكل ما تحمله من السمات الخاصة بها والتي هي كجزء من حياة الإنسان العربي ثم المجتمع المتدين الذي عايشته وهو موغل في أعماق العربية الفصحى، بحيث يرى الشاعر نفسه وكأنه لا يستطيع التخلص من ربقة ذلك الأسلوب، وبعد ذلك يأتي عدم الاختلاط بالشعراء والأدباء الأشقاء من البلاد العربية وكل من اختلطت بهم معظمهم علماء دين أقرب إلى القديم ولم يخرجوا عن دائرة التقليد المأثور وعباراته المألوفة. قيل لابن الرومي إن ابن المعتز أقدر منك على التشبيه قال حيث يقول ماذا؟ قالوا حيث يقول:-
ترى منها ثدييها على صدرها كحقين من عاج على مرمر
تثبتهما حين تخشى سقوطهما بمثل المسامير من عنبر
وقوله :-
وترى الهلال كزورق من فضة
قد أثقلته حمولة من عنبر
وقوله :-
كأن آذريونه والشمس فيه كالية مداهن من ذهب فيها بقايا غالية
فأجابهم إن هذا يتحدث عن آنية بيته وقصده أن هذا أمير غني يعيش بين الذهب والفضة والعنبر مما لا يوجد عند غيره وذلك هو تأثير البيئة.
ولعلك تذكر قصة ابن الجهم حين دخل على المعتضد العباسي فمدحه بقوله
أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدّ مناك دلوا
من كبار الدلاء كثير الثقوب
فانتهره الحضور مستنكرين أن يخاطب الخليفة بتلك العبارات! ولكن الخليفة لم ينزعج وإنما قال لهم خلوا سبيله فهو شاعر كبير وأعطاه دارا مطلة على دجلة وأغدق عليه فيها فلم تمض عليه فترة حتى قال:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
ولا شك أن بيئة الرجل هي الركيزة التي يرتكز عليها والنقطة التي ينطلق منها والجو الذي يطير فيه فترى البيئة وكأنها سيطت بدمه وامتزجت بلحمه، فأصبحت له الطبع الثابت الذي لا يستطيع الفكاك منه.
ومع ذلك فإني لم أجد فيما رأيت حسب تصوري بالحديث من العبارات والمصطلحات ما يتفوق على القديم، ولو تأملنا بعض الشيء التطور الذي يشار إليه لوجدنا الكثير الذي لا يتفق مع أسلوب العربية، وأنا بالتأكيد لا أستطيع أن أقول “قتلناك يا آخر الأنبياء” ولا أن أصف الحسناء بالزرافة، وعلى أي حال فإن لكل ذوقه وطريقته التي يرتضيها ويصعب على غيره انتهاجها.
Z وفي سياق الاتهام السابق يقولون أيضا: إنك على الرغم من اهتمامك بقول الشعر الحديث وكتابة القصة القصيرة والرواية وهي كلها من فنون الأدب الجديد غير أنك لا تتابع ما ينشر من هذا الأدب كدواوين كبار الشعراء المحدثين أمثال البياتي ونازك الملائكة وفدوى طوقان وصلاح عبدالصبور وأدونيس ويوسف الخال والفيتوري وغيرهم من أئمة التجديد، وكذلك لا تحرص على قراءة روايات نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وتوفيق الحكيم ولا قراءة القصص القصيرة التي صدرت منها العشرات من المجموعات منذ أن بدأت القصة القصيرة تأخذ مكانها في أدبنا العربي على يد رائدها محمود تيمور ومن قبله والى الآن وهذا بالتالي يحد من انطلاقتك في آفاق التجديد؟
ll قبل أن ننطلق في الحديث عن التجديد والجديد نود أن نعرف بالتحديد ما هو معنى التجديد وأي شاعر قيل انه مجدد ففي أي مجال وفي أي قصيدة؟ فإن الكلمات لا تتجدد والمعاني هي المعاني التي تناقلها الشعراء من عهد امرئ القيس، لكن لعل المقصود التجديد في الأهداف والمسالك وهذه يحددها الدهر وهو الذي يزج بالشاعر والكاتب على حد سواء ليرميهم في أحضانها فلا يجدون سبيلا إلى الخلاص فيضطر كل منهم لإعمال موهبته على ضوء واقعه ومن وحي محيطه.
Z سؤال آخر ..الشيخ عبدالله أنت شاعر تقليدي وقد أثبتّ نفسك بجدارة في ذلك، فما الذي تراه يدعوك لطرق باب الشعر الحديث وكتابة القصة القصيرة هل هو محاولة إثبات القدرة أم هناك دوافع أخرى؟
ll أنا إن ذكرت التقليد فلست أعني به وضع القدم على القدم ولا الحافر على الحافر ولكني أعني به الاستنارة بأضواء من سبقوا والورود على حياضهم.
أما الشعر الحديث فما هو إلا وليد الشعر الوتري قصرت به التفعيلة حينا وطالت به حينا آخر وقربت القافية فيه من أختها مرة ونأت عنها مرة أخرى، ولكنه يأتي في أسلوب أشبه ما يكون بأسلوب التواشيح الأندلسية التي من بعضها.
كم أناديك ودمعي في الخدود أربع أربع
ومنها
والظبا تمشي على متن الغدير
قد زهى وأرفض
وحمام الأيك رجع في الهدير واستقام الحظ
فاشرب يا نديم
فانظر إلى التفعيلات الأولى في الأبيات كيف طالت وفي عجزها كيف قصرت وبدون إخلال بل برشاقة هذا مع أني لا أسلم بالشعر الحديث متخليا عن ترابط التفعيلة ولمسة القافية.
أما القصة فما هي إلا مقامة فقدت التسجيع وأخذت أسلوبا مجانبا لأسلوب المقامة التي سبق إليها الهمداني والحريري والشيخ خلف بن سنان العماني صاحب المقصورة الطويلة التي جاءت على أسلوب بيتين بيتين أي كل بيتين لهما قافيتان متحدتان لفظا ومختلفتان معنى، إن لم يكن كل القصيدة كذلك فجلها.
وقد رأى الناس القصة وما تحمله من مأخذ جذاب وأسلوب شيق سهل التناول فولعوا بها وقلدوها ففرطوا وأفرطوا وأخذوا منها مقاطع شعرية حادوا بجاذبيتها عن معالم العربية.
ألا ترى البعض أو الأكثر يكتبون كلما أو طالما كان أو يكون كذا أو كما كان أو يكون كذا وكتبوا إخطاره أو أخطره بكذا بمعنى أخبره وكتبوا تواجدوا أي وجدوا وليست من العربية في شيء وكان الجيل الذي عشناه يرتقي عن الفصيح إلى الأفصح ومن البليغ إلى الأبلغ وحسبك بالمتفوقين الذين برعوا في صناعة الأدب وأتقنوا أساليبها ومناهجها ودقة سبكها.
Z يلاحظ بعضهم عليك شيخنا أنك تأخذ نفس شوقي فهل تعتبر نفسك مقلدا له وبمن تراك تأثرت من الشعراء؟
ll أحسب أن النفس الذي تشير إليه لشوقي ليس بأطول من نفس أبي مسلم ولك أن تنظر في مقاطع القصيدة وطولها وقصرها والتخلص فيها واقتضابها، اما أبو مسلم فإنه يستوعب الأسلوب من غير ان يبدو الاملال عليه ولا تراك تحسه وهو ينتقل من مقطع لآخر، كما لا تكاد تشعر به وهو يبتدئ المقطع الثاني انظر إلى نهروانيته اذ يقول وهو يصف البرق
يهلهل في الآفاق ريطا موردا
طوال الحواشي مكثهن قصير
فتجده ينتقل بعد البيت انتقالا خفيا بقوله
تنبه سميري نسأل البرق سقيه
لربع عفته شمأل ودبور
ويوالي الانتقال كعادته في خفاء فيقول
ذكرت به عهدا حميدا قضيته
وذو الحزن بالتذكار ويك أسير
وهكذا يربط طرف المقطع الثاني بطرف من جنبه في المقطع الأول ثم يمد يده إلى طرف آخر في آخر البيت أو الذي يليه ليربطه بطرف آخر فتجد شعره سلسلة مترابطة لا يمكنك الخروج عنها الا بعد نهاية القصيدة وهذا أسلوب تجده لبعض فحول الشعراء كالنابغة وجرير والبحتري وغيرهم كثير اما أسلوب شوقي فيبدو غالبا وكان القصيدة مجموعة قصائد ولكن في وحدة متكاملة لا يستغني جزء فيها عن الجزء الآخر ولك ان تتابع إن شئت نونيته التي مطلعها
“قم ناج جلق وانشد رسم من بانوا مشت على الربع أحداث وأزمان”
فبينما تراه ينادي جلق ويصف نضارتها وبهجتها ورجالها وما فيهم من عراقة الشرف وأصالة الكرم ويصف الأديم وما فيه تجده ينتقل فجأة فيقول
بنو أمية للأنباء ما فتحوا وللأحاديث ما شادوا وما دانوا
وهكذا تجده ينتقل من أسلوب لآخر شأنه شأن امرئ القيس وآخرين من فحول الشعراء، أما أنا فأجدنى أخذ بالأسلوب وكأني أحسر في آخره فانتقل عنه إلى غيره وهكذا فان ناقشت ما قلته أراني على الغالب راضيا عنه ولعل كل صاحب صنعة ليس هو الذي يعرف قيمة صنعته ولكن الناس هم الذين بيدهم ميزان النقد الصحيح.
Z انا أعرف أنك اليوم أحد كبار شعراء العربية على الرغم من أنك أقرب ما تكون مجهولا في البلاد العربية الأخرى خارج عمان بسبب ضعف الإعلام عن شعرائنا أريد أن أعرف أين تضع نفسك بين الشعراء العرب المعاصرين؟
ll سؤالك ذو فقرتين أما الأولى فلست بأدرى بها منك ومن أمثالك من حملة الأقلام إذ أنك تجد الشعراء وأهل المواهب في الخارج يتنقلون في أكناف الأرض ويتطلعون على مختلف البيئات والحضارات والطبائع ليشحذوا أفكارهم ويغذوا مواهبهم كيما يتسنى لهم مواصلة المسير، لأن التطلع حافز الى النشاط والنشاط دافع الى الإنتاج ولا شك ان دعم أولئك الموهوبين ومساندتهم والترويج لهم ونشر انتاجاتهم في شتى البلدان والأمكنة يمثل استثمار واستغلال مواهبهم، كما روي عن قول عمر ابن الخطاب لهرم بن سنان: لقد قلدكم زهير مجدا فقال هرم ونحن قلدناه نعما، فقال عمر: لقد قلدتموه ما يفنى وقلدكم ما يبقى بقاء الدهر.
أما الفقرة الثانية فلا أجدني استطيع التعبير عنها والناس هم الذين يستطيعون معرفة الانسان والتعبير عن أعماله إذ إنها مما بينه وبينهم وليست مما بينه ونفسه لا يعلمها غيره.
Z لو طلبت منك أن تتجرد من ذاتك وتقيم لي شعرك على اعتبار قيمته الفنية ليس إلا وليس كونه شعر عبدالله الخليلي؟
ll ان فعلي مرآة ذاتي ولكن
لا أراني فيها وغيري يراني
فاذا شئت ان تراني يقيناً فبفعلي وما أقول تراني
لا تسلني عني وسلك لتدري كنه شأني أو لا فسل من رآني
انا للناس لا لنفسي شعرا وفعالا فهل بعيني أراني
قد رأتني الأيام فوق رباها فتمنيت لو دعتني وشأني
فالتمسني في غرتي فلق الصبح فهناك ما زلت في الضياء مكاني
ودع الليل لا ترعك رؤاه أفأخشى كفرانه في زماني
Z انت تحسن النقد وبصير به لماذا لا نرى لك أعمالا نقدية؟
ll انا أتذوق الشعر وأهفو إليه وأشارك قائله في تنقيحه إن كان فيه ما يدعو للتنقيح هذا اذا دعاني صاحبه إلى ذلك أما النقد ومميزاته فقد كفانا شأنه النقاد السابقون وأنا لست ممن يميل إلى التأليف ولا أجدني مستعدا له ولعلها وراثة فإن آبائي مع غزارة علمهم ما عدا الوالد سعيد بن خلفان لم يعنوا بالتأليف إلا ما وجه إليهم من أسئلة فأجابوا عليها ولنا أن نعذرهم بمشاكل الحياة التي عنوا بها والأعمال الجسيمة التي تضلعوا أو ضلعوا بأعبائها والتأليف يحتاج إلى فراغ قلب وخلو بال ولا عذر لنا غير التقصير.
Z يقولون أنك تغضب من النقد كثيرا فهل النقد يزعجك فلا تحتمله؟
ll أنا لا أزكي ما يقولون إذ لا أراني اتسم بسمة الغضب ودائما أقف فوق حدود التروي والتؤدة، ولا أخرج عن المعقول ولكن أقول: إن النقد في رأيي نقدان نقد لي ونقد عليّ، أما الأول فأتقبله بارتياح ولا يزعجني مطلقا لأنه قائم على أسس لا يمكن لأحد تجاوزها أو رفضها، ولكني غالبا لا أسكت على الثاني إذا لم يكن منصفا وغير معلل لحيثيات نقده أو محتكم على أساليب النقد العلمية المعروفة المتزنة والدقيقة. فالناقد مثل الميزان يزن ما وضع فيه بصورة متناهية الدقة لا يميل هنا أو هناك، وأنا نفسي قلما يعرض عليّ شاعر شعره ويطلب منى النظر فيه ومعنى النظر النقد فيصبح النقد أمانة في عنقي لطلبه مني أولا ولأنه ابن جلدتي ووليد تراب أرضي وبعد ذلك فله رأيه سواء قبل نقدي أو رده مع أني والعياذ بالله لا أدعي التفوق ولا أمتن صاحبي.
والنقد الخالص أجدني كثير القبول له ولكن من القادر عليه وبعد الاقناع، ولقد كان أن فوجئت بنقد لاذع وبتعريض بنقد فيه عدم الدقة فما ساءني ولا أحرجني، وكثيرا ما تراجعت على القفا بسبب نقد صادق فعدت لأعدل الصنعة ولم يعد لذلك الناقد من تعريفي بالخطأ وإرشادي إليه سوى الأجر الذي ينتظره من الله ومضاعفة الحب له في قلبي وجزيل الشكر مني وعاد صالح النقد وما أشار له من الاصلاح إلى هذا إن كان النقد في محله وببرهان قاطع، اما ما لم يرتكز على أساس فلا قيمة له.
وإن كان النقد هو التقييم للشعر فأجدر بي أن أكون راضيا بنقد القادرين والمنصفين.
Z لمن تحب ان تقرأ من زملائك الشعراء العرب المعاصرين من غير العمانيين ولمن من العمانيين ولمن من الشعراء القدامى من عمان أو من خارجها؟
ll لقد نيفت على تمني مستقبل القراءة فان قلت عمن قرأت فقد قرأت عن الكثير فحولا ومن هم دونهم وأذكر القباني والشابي وصلاح عبدالصبور والأخطل الصغير والجواهري ومعروف الرصافي وبدوي الجبل ومفدي زكريا وعمر أبو ريشة وشوقي أمير الشعراء ومعظم الشعراء العرب المعاصرين والقدامى وكل الشعراء العمانيين قديما وحديثا ومن الأقدمين امرؤ القيس والذبياني والجعدي وابن كلثوم وطرفة وعنترة والحطيئة والخنساء وزهير وابنه كعب وحسان وجرير والفرزدق والأخطل ومروان بن حفص وكثيّر وجميل ومجنون ليلى والمتنبي وابي تمام والبحتري ومن العمانيين ابن دريد وكعب ابن معدان والنبهاني والستالي واللواح الخروصي والكيذاوي والغشري وأبو مسلم وابن شيخان وكثير لا استطيع حصرهم ولا بد للشاعر أيا كان أن ينغمس في شعر من سبقه أو من عاصره ويتأمل أساليبه وطرقه وتنوع معانيه ولغته ولا يستقيم شعر شاعر ما لم تكن صلته قوية بقصائد الشعر على اختلاف أنواعها وأزمنتها فتلك ضرورة لا بد منها لأي شاعر صحيح القول.
Z هل حسدت أو غبطت شاعرا وهل تمنيت قصيدة أو شعرا لغيرك؟
اما الحسد فلا، واما الغبطة فكثير منها وقلما يقرأ الانسان قصيدة أو مقامة أو قصة أو رواية فيستجيدها أو يسمع خطبة فيستحسنها الا ويغبط ذلك الشاعر أو الكاتب أو الخطيب ويتمنى أن لو كان هو ذلك الرجل، أم للإنسان ما تمنى بل لله الآخرة والأولى.
Z والآن يا سيدي بعد هذه الأسئلة الخاصة بك وبأدبك أرجو أن تأذن لي أن انتقل إلى الأدب والشعر بصورة عامة ودعني ابدأ بعمان؟ برأيك ما هي أبرز ملامح التطور في أدبنا العماني؟
ll إن عمان بلد عريق في الأصالة عروبة وديانة ولنا ان نصف العماني بصفة العربي المحافظ على أصالته وتقاليده ولا نغالي إن شبهنا صلحاء أهل عمان بالصحابة، وقد كنا نرى في علمائنا علي ابن أبي طالب وعمر ابن الخطاب ومعاذ ابن جبل وأبا ذر الغفاري وعمار بن ياسر وأضرابهم، كما نجد في شعرائنا الحماس والفخر والدعوة إلى الله والشهامة والكرم وكذلك نجد الأنفة العربية والغيرة الدينية وقلما تجد لشاعرنا أو مؤلفنا الهزل والتبذل والخروج على التقاليد العربية والقيم الإسلامية، فان كان التطور يضرب ممعنا في هذه الأخلاق السامية فما أجدرنا بقبوله والا فلا نجدنا نعنى به.
Z ما هي توقعاتك للأدب في عمان؟ من خلال رؤيتك لما يظهر منه هذه الأيام وما رأيك بمستوى شعرائنا؟
ll إن الشعر صناعة فيجب على من يريد الاعتناء بها أن يوغل في الحصول على الآلة التي هي معدة لهذه الصناعة، فكما قيل في حديث أو أثر استعينوا على صناعتكم بحسن الآلة والآلة هنا هي العربية كالنحو والصرف اللذين لا بد منهما لحاملي الأقلام وكذلك المعاني والبيان والبديع وعلوم العربية التي هي ضرورية للمعنيين بالأدب، أما التي تأتي على لسان الشاعر أو الكاتب عفوا وبلا تكلف فذلك أمر طبيعي وأخشى أن يكون أبناؤنا لا ينالهم أو لا ينالون أو لا ينوّلهم أساتذتهم من تلك الأسس والضوابط ما يبل غليلهم ويصل بهم إلى درجة الاكتفاء، ولعل تعدد المواد شاغل عن الوصول الى قرب الغاية اللهم الا من كانت حاله كالعقاد الذي يقال انه قرأ عشرة آلاف كتاب وأنه قيل له لعلك تبادر لأخذ شهادة الدكتوراه؛ فقال ومن ذا الذي هو كفء لإعطائي إياها مع أنه حسبما يروى لم يتجاوز المرحلة الابتدائية.
Z لو طلبت منك أن تسمي لي شعراء معينين ترى أنت أنهم أفضل من غيرهم وأنهم يأتون في الصدارة والطليعة فماذا أنت قائل؟
ll لكل شاعر أنصار وأصدق أنصاره إحسانه في شعره ويختلف النقاد اختلاف العلماء في التأويل، اما أنا فمع الجمهور الذين قسموا الشعراء إلى طبقات الأولى وفيها امرؤ القيس والذبياني وغالب أهل المعلقات، والثانية وفيها المخضرمون كحسان وكعب والحطيئة وأمثالهم، والثالثة وفيها المولدون كابن دريد وجرير والفرزدق والأخطل وأضرابهم، وتأتي بعدهم طبقات لا تستطيع طبقة العلو على من سبقها ذلك لأن العربية الفصحى ليست في جيل متأخر مثلها في جيل سابق، وهذا في الغالب، وبقي مالا ينبغي أن يفوتنا وهو أن لكل شاعر تفاهما لا يستهان به مع جيله الذي يعايشه وهنا تجد لسانه أشد تأثيرا في محيطه من شاعر سبقه أو أعقبه ولو كان أكثر جودة منه ومع هذا فلا يقال للجميل دميم ولا للجيد رديئ ولا العكس.
Z في الوطن العربي رأينا شاعرات رائدات كأمثال نازك الملائكة وفدوى طوقان وعائشة التيمورية وغيرهن ألم يحن الوقت بعد لنرى الشاعرة العمانية؟
ll الشعر موهبة وهو ينبع من البيئة والشعر لا يلزم أن يكون بيتا مقفى أو قصيدة تقليدية ولكن حتى في الجملة كالتي يقول لها زوجها غاضبا من يأخذ السفل أي أنت سافلة لا يأخذك مثلي فأجابته في الحال أنا، فقلبت ظهر المجن عليه بغير إيقاع أو نبرة شاعرية، أما المرأة العمانية فلها أصالة المرأة العربية ولا يعجزها أن تقول وأن تكتب، ولكن لا تتوفر لها الآلة الكافية وهي حيية كما تستحي من الصخب تستحي من أن تخفق، ولقد سمعت بنفسي من تقول الشعر فتجيده من نساء عمان حتى أني اعرت شعرها نظرة بطلب منها فأكبرته وشجعتها عليه ولكن حكم الظروف لا يسلس لها القياد لتندفع في قول الشعر وهي مع جودة ما تقوله تتكتم وقد طلبت مني الكتمان فلبيت طلبها وأخرى كاتبة مجيدة تملي الرسالة وتسود الكلمة كأحسن ما يملي ويكتب مثقف موهوب؛ هاتان السيدتان اطلعت بنفسي على ما كتبتاه مرارا وانا أكبره ولكن السيدة الكاتبة تكتب فتهمل ما تكتبه ولكليهما ظروف لا تسمح بالبروز.
Z ما هو تعليلك لغياب النقد في عمان انعدام النقاد أم تهربهم؟
ll ان العمانيين القدامى عنوا بالفقه فألفوه وجمعوا شوارده وتزاحموا عليه بالركب وأهملو التاريخ إلى حد بعيد ولم يعنوا بالأدب الا ما جاءهم عفوا فهم لا يقولون الكلمة لتروج وتختال بشاعريتها وتزهو بجمالها ولكن فقط لتؤدي دورها في الحياة، اما اهمالهم للتاريخ فلعله كان لأسباب منها عزوفهم عن الدنيا ولأن التاريخ يثبت للإنسان قيمته للناس ويزيده علوا ورفعة لابرازه ما فيه من أخلاق عالية وخصال حميدة، وربما أيضا لانشغالهم عنه بما هو أهم منه من ضبط قواعد الشريعة، ولا شك أن الاعتناء بالشريعة المحمدية دعوة إلى الله وتحد لأعدائه، وكذلك لعل من أسباب ذلك الحروب التي كانت تدور بينهم وبين الغزاة من الفرس والأمويين والعباسيين ومن جاء بعدهم من الأوروبيين على مر الأزمان ومع تلك الحروب الدائمة توجهوا لنشر الدعوة الدينية سواء باللسان أو السنان في داخل عمان وخارجها، وعلى هذا النحو يمكن تصور وتعليل إغفالهم للأدب وفي نفس مسلك الأدب يمكن لنا تصور مسلك النقد..
Z يقال إن الشاعر ترجمان أمته فهل ترى أنكم شعراؤنا العمانيون قد استطعتم التعبير عن مشاعر الشعب العماني تجاه قضايا أمته العربية وفي مقدمتها قضية العروبة الأولى مأساة فلسطين؟
ll لقد آن لي أن أعبر عما لدي وذلك أني عنيت كثيرا بأمور الأمة العربية وقضاياها فملأت الصحف مستجيبا لنداء الواجب ومعبرا عن الواقع بكل ما حمله من آلام وآمال وأحداث، ولما طلبت مني جهات الاختصاص طبع الديوان رحبت وعددتها خطوة تجر خطوات إلى الأمام فإذا بديواني يخرج من الطبع وقد فلذ منه ذلك المجال القومي بكامله وقيل لي فيه حساسيات، وعلى هذا كيف يمكن للشاعر أن يكون لسان قومه ومعبرا عن أحوالهم وعن انتصاراتهم وانكساراتهم، حطم الله هذه الأقلام ان كانت لا تشارك في المآسي وتشترك فحسب في الغزل والمديح، ذلك لا يصح ولا يجوز، والشاعر هو الناطق بلسان أمته والمعبر عن أحوالها كيفما كانت تلك الأحوال وتعبير الشاعر عما يعانيه قومه هو إخراج لأحاسيسه هو ذاته المتأثرة بحال الأمة وما فيها فهل من العدل أن تكبت مشاعره تجاه ما يراه في قومه من فرح أو حزن؛ إن ذلك هو الظلم البين وتعلقنا بأمتنا هو تعلق الجزء بالكل وذلك هو معنى بيت شوقي الشهير “إن شعري هو الغناء في فرح الشرق والبكاء في أحزانه” ويعني بالشرق البلاد العربية وأهلها ولا نقول في النهاية إلا حسبنا الله.
وطلبت من مسؤول نشر شيء من الأدب وبنفسي أتولى طباعته ونشره وجاءني الرد ان أبعث بكل كلمة تريد طبعها ولعلها لترمى في سلة المهملات.
Z ما هو نصيب عمان في الشعر العربي قبل الإسلام وكذلك في القرون الخمسة أو الستة التي تلت ظهور الإسلام ومن هم شعراء عمان في تلك الفترة؟
ll اما الشعر في عمان قبل الإسلام فلا شك أنه موجود لأن عمان هي واليمن هما منبت العرب الأول في الأزمنة القديمة ولو نظرنا إلى كعب ابن معدان الأشقري وهو من العصر الأموي القريب جدا من الجاهلية لرأينا له شعرا عظيما بالغ الجزالة ولكن لعل أشعار العمانيين في العصور البعيدة ضاعت بسبب الحروب أو بسبب الإهمال أو هناك من سطا عليها من أهل القوة والجبروت الذين يكرهون عمان وأهلها فطمسوها، أما منذ ظهور الإسلام أي منذ خمسة عشر قرنا فهناك شعراء على رأسهم ابن دريد صاحب المقصورة التي يقول فيها وهو يخاطب الدهر:
مارست من لوهوت الافلاك من جوانب الجو عليه ما شكى
وفيها يقول مشيرا للعرب : –
وقسما بالشم من يعرب هل لمقسم من بعد هذا منتهى
والتي هي أشبه ما تكون بالمعلقات والنبهاني صاحب الرائية التي يقول فيها شيخنا نور الدين السالمي إنها تزاحم المعلقات قوة ومتانة وتزيد عليها رقة ورشاقة والتي يقول فيها:
أعاذل من لم يفن بالسيف لم يمت
لدى الذل إلا موت فقع بقرقر
أعاذل إن الجود فينا وراثة يورثه منا كبير لأكبر
والشاعر البليغ الستالي الشهير وشعراء آخرون أحسب أنك تعرف الكثير منهم وعنهم.
ما زال الجدل قائما بين الشعر التقليدي وبين الشعر الحديث الذي يسمونه الشعر الحر منذ حوالي نصف قرن أنت أين تقف من هذا النزاع؟
ll كما سبق وأن قلنا إن الشعر مشتق من الشعور وهو الإحساس لأنه من نبعه ولذلك تجد الشعر إن كان سليم التركيب قوي المباني رقيق الأسلوب تجده والقلب يتقبله بلهفة وليس بضروري أن يكون الشعر في بيت مقفى إذ قد لا يكون فيه وزن أو قافية ويكون في جملة نثرية، ولنا ان ننطلق من هذا فنقول: إن كان الشعر الحديث يحمل ما يحمله الشعر التقليدي من أوصاف فمن المحتم ان يأخذ طابعه كشعر له قيمته الشعرية التي تتوافر في أكثر الشعر العمودي ولا تتوفر في بعضه، وشيء آخر لا ينبغي لنا أن نستهين به وهو القافية والتفعيلة وليس عندي من الضروري أن تتعادل التفعيلتان في البيت ولا أن تتناسق القافيتان فقد تبعد القافية عن القافية وتقرب وتطول التفعيلة وتقصر كما هو موجود في الموشح الأندلسي، أما الشعر التقليدي أو العمودي فذلك فيه مميزات الشعر وصفاته غالبا ولك أن تقول إن شعراء العرب كثيرون ولكن القليلين هم المجيدون ولم يكن فات غير المجيدين الوزن ولا القافية، ولكن المواصفات والمميزات والسيطرة على الشعور هذه هي الأشياء التي فاتتهم.
Z يقولون إن الشعر في محنة ترى ما هي المعاناة التي يعانيها الشعراء اليوم وتحد من انطلاقتهم؟
ll انت تدري أن مدارك الناس تختلف كما تختلف نظرتهم للحياة وليس في وسعي أن أعبر عما لدى غيري ولا هو أن يعبر عما لدي اللهم الا ما درس وتعاقبته الألسن والتصريحات ولعلنا لا نخطئ لو قلنا إن محنة الشعر هي محنة العرب أو المحن التي تتجدد داخليا كالخلافات وخارجيا كنزوات الأعداء ومكائدهم التي تحاول إرغام العرب على التخلف عن ركب التقدم واذا كان العربي العادي يحس بهذه الآلام فالشاعر يكون إحساسه أشد وسمعه أرهف ولا شك أن قلمه الشاعري سيكون مصدر التعبير عن المآسي التي هي مدار المحنة هذا ما يبدو لي ولعل لغيري رأيا آخر،
أما الحد من انطلاقتهم فهو يأتي من الظروف التي تفرضها عليهم المجاملات والتحفظات والحساسيات المزعومة وما أكثرها لديهم.
Z يقال إن الشعر في طريقه إلى الانقراض لعدم قدرته على التعبير عن حال العصر وهموم الإنسان فيه، وإن الرواية تسعى اليوم لاحتلال مكان الشعر وأصبح رجال من أمثال نجيب محفوظ وغيره من الروائيين أكثر تأثيرا من مهدي الجواهري وعمر أبو ريشه ورشيد القروي وغيرهم من الشعراء وخاصة بعد التلفزيون والسينما وافلامهما المعتمدة على الروايات والقصص كيف ترى؟
ll أما الرجل الذي يحسن الشعر ويجيده فانتقاله إلى القصة والرواية إنما هو تفنن في الأدب فلا نستطيع أن نفسر انتقاله ذاك انتقاصا للشعر ولكن إن شئت أن تقول إن الشعر يهتم به بعض الناس وينصرف عنه بعضهم فذلك صحيح إلى حد كبير منذ أن وجد الشعر أما أن يهجره الكل ويتركوه بالمرة فذلك مستحيل ولا يمكن مطلقا أن يندرس الإحساس بالشعر من جميع البشر وتخلو منه نبضات قلوبهم ومشاعرهم، ولكن يوجد هناك من يكون شعره ضعيفا وركيكا ومثل ذلك لا يمثل الشعر على إطلاقه ولا يضر الشعر القوي أن توجد حوله نماذج أقل جودة، أما أن الشعر يموت وينتهي فذلك من الخرافات ولا يمكن أن يحدث أبدا بل هو باق خالد مهما توالت العصور والقرون، والمعول على ذي الموهبة المتمكن الحاذق الذي لا يستطيع الدهر مهما قسا واشتد أن ينال من شعره، وأبرز مثال لدينا المتنبي المتجدد على مر الأيام والأعوام.