لا أقصد بمصطلح القارئ الأنثى، نقيض الذَّكَرْ من حيث الجنس، بل أقصد القارئ الكسول، المُدَلَّل، الذي يبحث عن السَّجع والمعاني السهلة، ولا يريد أن يصدع رأسه بالتفكير، القارئ الخنثى الغنَّج، مع صفاتٍ تبرَّأ منها الشاعر الجاهلي الشنفرى(ولَسْتُ بمهِيْافٍ يُعَشِّي سَوامَهُ/ مُجَدَّعَةً سُقْبانُها وهي بُهَّلُ/ ولا خالِفٍ دارِيَّةٍ متغزلٍ/ يروحُ ويغدُو داهناً يَتَكَحَّلُ/ ولا جبأٍ أكْهَى مُربٍ بعِرْسِهِ/ يُطالعُها في أمْره كَيْفَ يَفْعَلُ). ومهياف لا يصبرُ عن الماء، يُعَشِّى سَوامَهُ: يرعاها ليلاً خوف العطش، وسقبان جمع سَقْب، وهو ولد الناقة الذكر، وناقة باهِلٌ، لا صرار عليها، وبَهِلَتْ الناقَةُ: حُلَّ صِرارُها وتُرِكَ ولَدُها يَرضَعُها، والجمع: بُهَّلٌ وبُهْلٌ. خالفٍ: لا خير فيهِ، وداريَّةٍ، ورجلٌ داريٌّ، أيْ لا يبرحُ بيتهُ(بالعامية بيتوتي). جبأ جبان، أكهى ضعيف، مُرْبٍ بزوجهِ، ملازمٌ لعروسهِ. ويقول خوليو كوتاثار(وهو في حقيقة الأمر لا يبدي كبير اهتمام باللغة باستثناء الجانب الجمالي.. يدرك موريلي أنَّ مجرد الكتابة الجمالية ما هي إلا شعوذة وكذبا، الأمر الذي يستثير القارئ الأنثى، أي ذلك النمط الذي لا يريد مشاكل، بل يريد حلولاً، أو مشاكل زائفة بعيدة عنه تهيئ له المعاناة المريحة وهو جالس على الكرسي، ودون أنْ يكون ضالعاً في الدراما التي يجب أن تكون الدراما الخاصة به أيضاً… سعيدٌ ذلك الذي يجد الثنائي الخاص به، وهم القراء النشطون) كوتاثار- لعبة الحجلة- ترجمة علي إبراهيم علي منوفي- المجلس الأعلى للثقافة- 2000- القاهرة- ص465. ويقول ابن عبد ربه الأندلسي(وقد يأتي من الشِّعر ما لا فائدة له ولا معنى كقول القائل: الليلُ ليلٌ والنهارُ نهارُ والأرضُ فيها الماءُ والأشجارُ) ابن عبد ربه الأندلسي- العقد الفريد/ ج2- باب من مقاطع الشعر ومخارجه- ص384. وفي ذلك يقول ابن خلدون(وكذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال، فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة. وكذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضاً، فيصير مبتذلاً ويقرب من عدم الإفادة كقولهم: النار حارة والسماء فوقنا. وبمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة، إذ هما طرفان). مقدمة ابن خلدون- عبدالرحمن بن خلدون- دار الغجر للتراث- ط1- 2004- القاهرة- ص733. فعبارة «السماء فوقنا» حقيقة تهبط إلى هاوية الابتذال، وهناك الكثير من المركبَّات التي يستخدمها شعراء الحداثة تتدحرجُ نحو هاوية الابتذال، حيث لا يعني العالم عندهم شيئاً مدهشاً، بينما الشاعر يندهشُ بكلِّ شيء، ويدهشنا في كل كلمة، يقصد إلى أنْ(يجعل العالم يعني شيئاً…أنْ يتصالح مع العالم ومع ما كان خُلوَّاً من المعنى فيه، ويضطرُّه إلى أنْ يكون ذا معنى، إلى أنْ يتمكَّن من جعل الصمت يجيب، وجعل اللا موجود موجوداً. إنَّه عمل يأخذ على عاتقه أنْ يُعَرِّف العالم لا عن طريق التأويل أو الإيضاح أو البرهان، ولكن مباشرةً كما يعرف الإنسان التفَّاح في فمه). آرشيبالد مكليش- الشعر والتجربة- ترجمة سلمى الخضراء- دار اليقظة للتأليف والترجمة والنشر- 1963- بيروت- ص 16-18. والشِّعر يعتمد الاستعارة، فبدلاً من أنْ «ثلاثين مركباً» سيقول «ثلاثون شِراعاً»، والثانية أقرب إلى التأويل، وهذا يضعنا أمام سؤال: المَعنى أمْ المبنى؟ (شعار «ماكليش» الصوري أو ما بعد الصوري: «لا يتوجَّب على القصيدة أنْ تعني/ بل أنْ تكون») وفي هذا الشعار تأكيدٌ على الشكل، (مع فحوى الشاعر براوننك: «ليس هذا العالم بقعة أمامنا/ ولا فراغ، إنَّهُ يعني بشكل مُركَّـزْ»)وفي هذا الشعار تأكيدٌ على المعنى، وبعد هذا يستنتجُ ميويك (وبوسعنا إعادة كتابة القولين بهذا الشكل: «قصيدة المفارقة يجب أن تعني/ وتكون معاً). د. سي. ميويك- موسوعة المصطلح النقدي- المجلَّد الرابع- ترجمة د.عبدالواحد لؤلؤة- المؤسَّسة العربيَّة للدراسات والنشر- ط1- 1993- بيروت- ص10- 15. أحياناً قد يذهب النقد الأدبي بعيداً عن الشكل الخارجي للقصيدة، لكن السؤال الآن: كيف لنقد الشِّعر أنْ يذهبَ بعيداً عن المعنى؟ وماذا سيكون غرض هذا النقد؟ وللأسلوب والوزن والقافية، خاصية تتعلَّق بالموضوع أيضاً، والتعلق يبقى ناقصاً إلى أنْ يَتم التعرّف على المعنى الذي يُراد التعلُّق به، ويقول أبو إسحاق الصابئ(فلمَّا كان النفس لا يمكن أنْ يمتدَّ في البيت الواحد، بأكثر من مقدار عروضه وضربه، وكلاهما قليل، احتيجَ إلى أنْ يكون الفضل في المعنى، فاعتمد أن يلطف ويدق). د. محمد صابر عبيد- الشعر إلى أين: بحوث الحلقة الدراسية في احتفال المربد الشعري السابع عشر(22-27/ 12/ 2001)- دار الشؤون الثقافية- 2002- بغداد-ص15. من رسالة أبو إسحاق الصابئ التي حققها محمد بن عبدالرحمن الهدلق ونشرت في الكتاب المشترك: قراءة جديدة لتراثنا النقدي- النادي الأدبي الثقافي- 1990- جدة- ووقعت الرسالة المحققة في المجلد الثاني: ص583- 599. ويقول صالح مجيد عيسى: ما قالته الحبيبة عند الفراق تخيلوا ماذا قالت: أحمق لم تعرف كم أهواك وكم في حبك أغرق لم تعرف أنَّ عطوري وزهوري تسألني عنك وتزعجني وكما أعشق وجهك تعشق وكما أتعلق في مَرْآكَ وفي صوتك يا عمري تتعلَّق آهٍ لو تعرف يا أحمق، أنَّ الكحلَ المغرور على خدي سال وأن الشوق القاتل طال، وساعاتي بدأت في بعدك تقلق آه لو تعرف أنَّ حنيني وهديلي وتجاعيدي صارت أعمق آه لو تعرف أن العالم كل العالم من حولي في مأزق هل تعرف يا أحمق أني طول الليل أحاور آلامي وعلى نار أنيني أتحرَّق هل تعرف أنِّي أجهشُ بالحزن عليك وأرى نفسي باكيةً بين يديك فأنا من غيرك أوراقٌ لو مرَّ الحزن عليها تتمزَّق هل تذكر يا أحمق حين امتزج الهمس مع الهمس، وذاب الموج مع الموج وحين اختلط الأحمر بالأصفر والأخضر بالأزرق، هل تذكر حين التمعَ الشوق على كفينا وتألق، هل تذكر حين اندلق العشق وفاض علينا وتدفق، أرجوك أعِد لعقارب ساعاتي فرحتها، وأعد لشفاهي هيبتها، وأزل عني حزني المطلق، أرجوك أعدني لي، فأنا تائهةٌ في بحرك، يا بحراً ضيعني وأنا زورقْ، عُدْ لي أرجوك حبيبي، عُدْ لي أرجوك، ولا تبقى حبيبي أحمق). (ما قالته الحبيبة عند الفراق تخيلوا ماذا قالت: أحمق)مفارقة طريفة، لكن تم اغتيالها، بجمل وكلام تقليدي مسجوع، جاء بما يتوافق مع أفق انتظار القارئ، مأزق وتدفق وتتعلق يا أحمق وساعاتي تقلق، وحزني المطلق، وأنا زورق، صارت أعمق، أوراق تتمزق ولولا السجع لما قالت وأنا زورق لقالت أنا شراع أنا أي شيء آخر ولكن حكم القاضي فقالت أنا زورق وليس بمقدوره أن يجد كلمة غيرها إلا أن تقول أنا أحمق من باب يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره فيؤنث المذكر ويذكر المؤنث، ملايين المرات كتبت هذه الكلمات وأعيدت حتى تهرأت. وهي لا تختلف شيئا عن حقيقة السماء فوقنا والأرض تحتنا!!!.
كاتب من العراق