ضحى عبدالرؤوف المل
كاتبة وشاعرة لبنانية
يركّز الشاعر اللبناني «سرجون كرم» على بنية القصيدة وتفاعلات المعنى المؤثرة على شيفرة تثير الاهتمام، معتمدًا على جوهرية الابتكار للأشكال الفنية بعيدًا عن التقليد، ودون مبالغات في الغموض. لكنه يكشف عن وجهة نظر بقصد فني يميل إلى الشكل الشعري المقنن، كما في قصيدة «تعلّمتُ الدّرسَ يا خضْرُ» وهي من ديوان «سمكري الهواء العليم بكل شيء» والتي من خلالها اندمجنا مع الأصداء العميقة تاريخيًا أو دينيًا أو حتى قصصيًا، والتي تجمع حكايا التراث مع ملخصات دينية كقصة الرجل الصالح وهو سيدنا الخضر مع سيدنا موسى في قصيدة تخضع لمقاييس تشكيل الحكمة، وانتزاعها من الكتب المقدسة. لتكون في تداخلات وفق إيحاءات التناقضات ما بين الكره والحب والانكماش، والتحرر بغمز ولمز واحتضان تقني لبلاغة الرؤية وفقا للدافع الشعري الحرفي لجعل السياق أكثر مرونة «كلّ مدينة أكرهها اليومَ/ وأحبّها غدًا/ جديرةٌ بالطّلاقِ» وليربط الإيقاع بالوحدات المتفاوتة بين البارزة والأقل بروزًا، وبين الأصوات الطويلة والقصيرة للتميز بين مستويات البساطة والتعقيد، وبفن بلاغي تعبيري يتميز بقيود شكلية وضعها سرجون لنفسه، واضعًا الطلاق بين المدن حيث يختفي المعنى كليا لشكل الأديان، حيث الحب والكره للمدن المقيدة بقوانين تحتاج للطلاق أو للتحرر من الأشكال الثابتة، ليثير الكثير من تأثيرات المعنى الشعري المرتبط بالقصيدة من إيقاع جدي وتناغم مع كل ما ينشأ من المغزى او الخلاصة، ليخدم شكل المعنى بقوة زمنية وأخرى مكانية محددا قوة القصيدة بفن القص الشعري إن جاز لي قول ذلك، لتقريب المسافات بين المعنى الشعري وتأثيراته على الفهم المجازي أو الاختزالي المبطن، والذي يشير إلى كل ما مر بنا زمنيا على الصعيد الإنساني«قبل ساعاتٍ كانت عينايَ واحتَين بنى عليهما/ الخضرُ مسجدًا» وهذا الأكثر انتباها حسيا، فالمادة اللفظية في قصيدة «تعلّمتُ الدّرسَ يا خضْرُ» لا تنفصل عن تحرره من الأشكال والأنواع الشعرية التقليدية، وإن اتخد من قصة الخضر مسارا شعريا فرشه بقصيدة سردية متلاحمة مع الحركة والسكون، والأصوات الطويلة والقصيرة متخذا من هذه الميزة قانونا للانتظام اللفظي. لفرض مستويات متعددة بين الفواصل الصوتية في لغة عربية يصعب التوافق فيها بين الأجزاء الساكنة والأخرى الطويلة على عكس الحروف الأجنبية. لنشعر أن الحروف في هذه القصيدة تحديدًا هي نغمات مستبطنة للاسترسال الحسي مع المعنى الشعري الذي أراد له الانتظام في قصيدة تشير إلى البناء الإنساني منذ نشأة المجتمعات فيها. ليتحرر من الديانات متجها نحو العبد الصالح أو الخضر نحو ما هو إنساني في الشعر. فهل ديوانه «سمكري الهواء العليم بكل شيء» هو نوع من إصلاح للغة الشعرية لما هو ما بعد الحداثة برغم أن أسلوبه الشعري يتوافق مع السمة المشتركة بين القصيدة العربية والقصيدة الغربية؟ أم أنه أراد للجملة الشعرية أن تتوازى مع عدد الكلمات وقوة الإيجاز والفهم البلاغي البسيط في إيصال المعنى؟
قصيدة كنوع نصي يسرد من خلاله المكونات الضرورية بحجج أسلوبية ذات مقامات يتنقل من خلالها بين العلو والانخفاض، وكأنه يخفض جناح القصيدة من التوترات البيانية التي قد تعترض البناء بفن شعري سلس أقرب إلى الشعر السردي أو الراوي العليم بكل شيء إن أردت تغيير معنى سمكري والتي تحمل الكثير من الدلالات إن أردت الوقوف عندها لشرحها. لكنه استطاع أن يربط بين كل التفاصيل بمتانة من البداية الى النهاية. ليترك للأجيال الشعرية أثرا أدبيا متحررا من يقينيات المجتمعات العربية تحديدا. ليتجه كالسهم نحو فضاءات شاسعة للمعنى الحقيقي لقصة سيدنا الخضر، وما تحمله من دلالات تأرجحت بين قصة الرجل الصالح أو الخضر وسيدنا موسى وهنا طبعا القدرة على الخروج منهما ضمن التكوين الملتحم بالدراما وخصائص رمي السهم السردي ونفيه عبر التسلسل الزمني والمكاني، والآخر التحدي للخروج من الأشكال التقليدية في هذا النوع من الشعر، فهل «عاهدنا بعضنا البعض فيه أن لا فراقَ بيننا»، هي العهد الشعري بين سرجون ونظرته للمجتمعات العربية وبين جهابذة الشعر أو الشعراء القدامى الذين يشكلون مدرسته التي انطلق منها؟ أم هي قصة العلم في فنون الشعر وحبكة الحياة الإنسانية على مر العصور؟
وضع سرجون كرم قصيدته في قلب العالم ضمن اتجاهات ربطها بالخضر أو المريد أو البوصلة الشعرية واتجاهاتها المتعددة التي يستخدمها الشعر وفق تصوراته المعرفية للجوهر النقي للشعر مستخدما تمثيلات يمكن تلخيصها بالذي يحرق أصابعه بالنار وهو يتعلم إشعالها «أنفخ على أصابعي تصدر نارًا» ككائن حي يجعل منه نارًا تمتد من أول القصيدة إلى نهايتها بصيغة مترابطة تكمن صعوبتها في التشكيل والإيحاء المتعدد الوجوه ليتبنى الخضر الحضور كمعلم ليس بغامض تاريخي ولا مستتر خلف الشمس «كأنّ شمسًا عرمرميّةً تمخَطُ في هوايَ ثيابي» وهو التلميذ الذي ما يتعلم لغة الشعر ويتواضع لها، وكأنه بين ما يستتر من معنى يشكو من الضعف الشعري العام في الأدب المعاصر، وكأنه يريد للخضر أن يعود ليجعل من القصيدة العربية تحديدًا منارة تضيء العالم إنسانيا بعيدًا عن القيود المجتمعية والمفاهيم الدينية دون أن ينكر الإيمانيات بالجوهر بشكل عام. فهل مناداة «يا خضْرُ/ إنّني تعلمتُ الدرسَ» هي للاعتراف بأنني أستطيع معك صبرا أيها الشعر وأيتها القصيدة التي تشبه المدن والعقائد والديانات والمذاهب وما إلى ذلك؟ أم أن «فكلّ من يخرج من باب مدينة الغبار ليس صديقي/ بل آيةٌ لي» بمعنى أن من أفسد لغة الشعر لا يستحق الصداقة أو التآخي الشعري. بل هو عبرة يتعلم منها أن الشعر يحتاج لمعلم نمشي خلفه كما مشى تلامذة الأنبياء خلفهم أو كما مشى موسى خلف الخضر ليدرك الأخطاء والعثرات في الحياة وبحكمة المعرفة التي تنبض بالحياة؟ فهل «أثقب قاربَه/ وأقتله إذْ أَهْدِمُ حائط أبيه فوقه» هي النقد البناء الذي يحتاج له الشعراء، وفي المقلب الآخر هو الفهم الذي نحتاج له في المجتمعات للتحرر من قوقعة اليقينيات القاتلة؟ أم أنه يشير إلى المقامات الشعرية من خلال الخضر، وما يمثله من حكمة مزدوجة قد لا نفقهها حتى الآن، وإن تعددت المفاهيم لذلك المسار والحوار بين الخضر ومن مشى معه محاولا فهم أسرار القضاء والقدر؟
قدم الشاعر «سرجون كرم» الشكل الشعري المقنن في قصيدته هذه وفق عدة أشكال يمكن تدويرها بشكل لا ينتهي من النقطة وإلى النقطة نعود، وبتواصل لغوي هو انتقال من الفعل إلى الحركة وما بين الثابت والمتحرك يتذبذب بين التقاليد الشعرية لينتفض عليها وينتقدها من خلال رمزية شخصية الخضر المتعارف عليها في الكتب الدينية والحكايا والقصص التي تعود أصولها للتاريخ بعيدًا عن المنافسات الشعرية ومدنها التي تمثل الحضارات من الهايكو وسواه والتي تمثل كل منها مدرسة «فمن مدن كهذه لا تخرج سوى الوحوش الضّارية/ أو الوحوشِ المؤدّبة» فالخلق اللفظي عند سرجون هو استخراج نغمة الحرف للعب دور في منح الكلمة عذوبة تتماشى مع المعنى للتأثير على الإيقاع والتقاطع الموسيقى للمساهمة في التعبير عن معنى القصيدة. فهل التناسق بين السرد الشعري والجماليات الجوهرية لنسبية الفهم المعرفي لبناء القصيدة هو تقنية ذات خاصية نوعية للاحتفاظ بالشكل الفني ونوعا ما الدرامي في قصيدته هذه؟ أم أنه جمع بين الكلاسيكية والمعاصرة للانقلاب على النوع برمته متجها نحو الشكل الشعري المقنن؟ وهل يمكن ممارسة هذا النوع الشعري الحيوي كتابيا لما يحمله من أساسيات تمثل الانغماس في عوالم مختلفة من اتجاهات القصيدة ؟
رموز شعرية أكثر دقة في المعنى والمبنى، ليستقطب مفاهيم صعوبة الرؤية الشعرية وجوهرها وفق اسقاطات قصة الخضر للتوافق بين عوالم الرمز وعوالم النهج الأسلوبي الشعري الذي يتبعه أو الأحرى يتبناه ضمن الحدود الفاصلة بين ما جاء في الأثر عن الخضر وبين ما طرحه «سرجون كرم» من معنى مًخضب بالتشكيل الأدبي والفني وبصبر وأناة ما زال يحتاجه لاستكمال ما بدأ به «يا خضر.. ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرًا». فهل أراد سرجون قول يا شعر الحداثة ستجدني إن شاء الله من الذين يسيرون خلف الأجناس الشعرية بصبر وحكمة؟ أم أنه يريد إصلاح مفهوم الثابت والمتحرك. لتكوين المفهوم الشعري الذاتي بموضوعية مع من سبقوه في هذا الطريق أو من رافقهم خلال مسيرته الشعرية التي يريد لها أن تخرج للعالم لتكون ضمن الفهم الجوهري للغة الشعر؟ أم هو خروج من المدن الشعرية التقليدية عربيا ليتجه نحو فضاءات حرة أكثر اتساعا؟ وهل ديوانه الذي يضم هذه القصيدة هو استنتاج شعري لإصلاح القصيدة العربية والاتجاه بها نحو ما بعد الحداثة؟