أدرج ديكارت في خطابه المنهجي عنصر «الأنا»، مستأنساً بمنطق الحكاية، ومتحدّثاً عن أحلام أضاءت «فكره النائم» وانصرفت ساعة اليقظة· كان في خطابه ما يصل بين كلمتين غير متجاورتين هما: المنهج والحكاية، إذ في كل منهج حكاية خاصة به، وإذ لكل حكاية منهج لا تقوم إلاّ به· يطمئن النظر الموحّد بين المنهج والحكاية إلى أعمال منجزة، فما هجس به ديكارت في ساعات النوم واليقظة أسهم في بناء مجتمع أوروبي حديث (1)، مقرراً أنّ في المنهج النظري الصارم شيئاً من الأحلام، وأنّ «الأحلام المنهجية» قابلة للتحقّق·
يفرض الحديث عن وحدة المنهج والحكاية، في تجربة المثقف العربي التنويري ، الكثيرمن الانزياح: فالمنهج النظري المقترح لازمته الإعاقة منذ البداية، والمنهج النظري المعوّق لم يعرف ممارسة عملية تصوّب إعاقته· وما حكاية المثقف العربي التنويري إلاّ حكاية مشروعه، الذي اعتقد أنّ الأفكار المستنيرة القائلة بخير الجميع تهزم نقائضها·
1. طه حسين وبطوله المنهج:
فصل طه حسين في كتابه «في الأدب الجاهلي» فصلاً حاسماً بين القديم والجديد، قائلاً بعقم الأول وخصب نقيضه· لكنّه وهو يتحدّث عن مذهبين نقديين متناقضين كان يسرد، بشكل مضمر، حكاية نزال بين أزمنة قديمة اندثرت بطولتها وأزمنة حديثة لها بطولة مغايرة· فسّر تآكل القديم بعادات فكرية متوارثة، ورأى قوّة الجديد في منهج ديكارتي يفصل بين الوهم والحقيقة· انطوت حكاية المنهج على عنصرين لا تكون الحكاية إلاّ بهما: تحديد هوية الطرفين المتصارعين، فلكل بطل حكائي ما يميّزه من غيره، ووصف المصاعب التي تواجه البطل الجديد، الذي لا يحتل مواقع القديم إلاّ بعد معركة·
يحدّد حسين هوية البطل القديم، قائلاً أولاً بجمود فكري غير مألوف عرفه العرب ولم يعرفه، ربما، غيرهم، فالأمّة العربية محافظة وشديدة المحافظة كما يقول· وقائلاً ثانياً بفساد العلم وإفساده، ذلك أنّه لا علم إلاّ بنقد سابقه ولا معرفة إلاّ بانتقال من المعروف إلى المجهول، وأنّ الجديد لا يفسّر بالقديم إنّما الجديد هو الذي يفسّر القديم· أفضت هاتان الصفتان ، اللتان لازمتا القدماء وأنصارهم، إلى بداهات زائفة لها صورة العلم، وأنتجتا عادات الفكر المستقيل، التي يحايثها استبداد نموذجي متوالد· سرد حسين صفات القديم بأشكال مختلفة، فحدّث عن : «التكرار، التلفيق، العقم، الانحطاط والضعة، الأغلال والقيود، الجماعة التي لا تستطيع أن تجدّد ولا أن تحيا، الغريب المشوّه، المسخ والتشويه والبتر، التعصّب وفساد الذوق وجفوة في الطبع···»·
يأخذ القديم، كما جاء في «الأدب الجاهلي»، أربع خصائص : الموات المتجدّد، الذي يعبث بالحياة ولا يكون حيّاً، وينصر الموت ولا يكون ميتاً· فهو يشبه الظواهر الحيّة ولا يشبهها، ويشبه العلم وما هو بالعلم: «هذا الغريب المشوّه الذي يسمونه نحواً وما هو بالنحو، وصرفاً وما هو بالصرف، وبلاغة وما هو بالبلاغة، وأدباً وما هو بالأدب، إنّما هو كلام مرصوف، ولغو من القول تُكره الذاكرة على استيعابه فتستوعبه، وقد أقسمت لتقئينه متى أتيح لها هذا،···»(2) بيد أنّ الموات في حدود الغريب المشوّه،وهنا الخاصة الثانية، موات فاعل، ينصر القدماء والمتشبهين بهم، ويضع عوائق أمام الجديد والمجدّدين· موات مقدّس، إن صح القول، ففي استمرارية القديم الموطّدة ما يمنحه القداسة، وما يتهم المحتجين عليه بالكفر والزندقة· تتراءى الخاصة الثالثة في وحدة العلم الزائف والجماعة، ذلك أنّه لا علم إلاّ بعلم مفرد مستقل عن العلوم والأخرى، وباجتهاد مفرد يعارض اجتهادات أخرى، لأنّ «الجماعة العالمة» لا وجود لها· وما وحدة العلم الزائف والجماعة إلاّ الوهم المعرفي، أو الجهل المتعالم المتستّر بالجماعة، التي تقمع العقل المفرد، مثلما تلغي الزمن الحاضر والمستقبل بـ «زمن جماعي» قديم·بيد أنّ وأد العقل المفرد باسم عقل جماعي، كمامحو الأزمنة المستجدة باسم زمن قديم، إفقار للإنسان والقيم والثقافة واحتفاء بالراكد المتكلّس· ولعلّ هذا الإفقار الإنساني الشامل هو ما دعا حسين إلى الحديث عن التعصّب، الذي لا يأتلف مع انفتاح المعرفة، وعن فساد الذوق، إذ لا ذوق إلاّ بالمتعدد والمقارنة بين مواضيع متعددة، وعن جفوة في الطبع، صادرة عن «جمهور» يدّعي احتكار المعرفة·
يغاير البطل الجديد في خصائصه البطل القديم مغايرة كاملة، باستثناء اللغة الموزّعه عليهما·، فهو يؤمن بأنّ للأزمنة الحديثة قضايا لم تعرفها الأزمنة السابقة، وبأنّ التماس الحلول يأتي من تراكم معرفي متصاعد، بلغ ذروته مع صعود العلوم المستقلة، التي لا تُختصر إلى عمومية لا تقول شيئاً· والبطل الحديث مفرد عاقل، لا ينصاع إلى الجماعة وإلى «علم جماعي» متوهّم، ولا يحقق أناه المستقلة إلاّ باصطدامه مع الجماعة والتحرّر منها· ولهذا يأخذ حسين في كتابه بصيغة «الأنا»، التي تتواتر واضحة بيّنة، تُحيل على فرد محدّد ولا تحيل على غيره، كأن يقول: «أحبّ أن أكون واضحاً جلياً، وأن أقول للناس ما أريد أن أقول دون أن أضطرهم إلى أن يتأوّلوا···· أريد أن أريح الناس· أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه «ديكارت» للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث···» (3)· يتعيّن الواضح الجلي في انتساب طه حسين إلى المنهج الديكارتي، وفي انتسابه إلى ذاته أولاً، بعد أن آمن بضرورة الوصول إلى « حقائق الأشياء»، وبضرورة الركون إلى منهج قادر على النفاذ إليها· وما صيغة «الأنا» إلاّ المجاز الواسع، الذي يردّ إلى علم مستقل له «أناه» أيضاً ، وإلى زمن حديث قطع مع الزمن القديم وتحرّر منه·
وضع حسين في خطابه جملة من «الأناوات» المستقلة المتحاورة المتكاملة : العقل المستقل الحر، الذي يشك ويوغل في الشك ولا يطمئن إلاّ إلى ما وصل إليه، حراً، بعد شك طويل، والمنهج العقلاني الذي يضبط خطوات البحث عن الحقيقة، منتقلاً من البسيط إلى المعقّد، وذاهباً من نتيجة إلى أخرى، والعلم الذي له قواعد لا تنصاع إلى غيرها ولا تختلط بها· تحيل هذه العناصر إلى المنهج الديكارتي الخصيب، بلغة حسين، الذي يتكشّف ضمانه في النتائج الصادرة عنه، فقد دلّل على خصبه في «العلم والفلسفة» والأخلاق والحياة الاجتماعية، وفي كل ما وصلت إليه أوروبا من تقدّم وازدهار· يشتق حسين مقولاته من «منهج بطولي» ضمانه المعلن في نتائجه، مغدقاً عليه صفات كثيرة: فهو المنهج المنتج، المنظّم، المثمر، المجدي، المحرِّر، الذي ينشئ الذوق وملكة الإنشاء، ويعلّم الدارسين أصول البحث والمقارنة والاستنباط·
استولد حسين صفات «أناه الديكارتية» من صفات المنهج الذي «اصطنعه» مؤمناً، لزوماً، ببطولة المنهج وببطولة العقل المنتمي إليه· ساوى في هذا بين صفات المنهج : المثمر، المنتج، المحرّر، و صفات «البطل المنهجي»، الذي يؤمّن له عقله المتحرّر نتائج مثمرة· كما لو كانت طبيعة «البطل» من طبيعة منهجه، أو كان للمنهج العقلاني الحديث بطل على صورته، يحدّد له صفاته المعرفية والمعنوية في آن· حين يتحدّث حسين عن المعرفة اللازمة للباحث الحديث يقول: « كيف السبيل إلى دراسة الأدبي العربي إذا لم ندرس اللغات الأوروبية الحيّة، ونتبيّن آثارها في أدبنا الحديث؟ ثم كيف السبيل إلى دراسة الأدب العربي إذا لم نأخذ بمناهج البحث العلمي الحديث، وندرس آدابنا كما يدرس الفرنسيون والإنجليز والألمان آدابهم،···ص 81)· يكشف القائل عن الأدوات النظرية التي تزوّد بها، فهو عارف للغات الفرنسية واليونانية واللاتينية، وملّم بالمناهج الحديثة المتوّجة بالمنهج الديكارتي· لا يكتفي حسين بالكشف عن «سلاحه النظري»، فهو يعطف الشخصي على النظري، مؤكّداً أنّ لـ «البطل المنهجي» مزايا شخصية تتيح له الهجوم والتقدّم، كأنت يتمتع بـ «شخصية قويّة لها من الذوق الأدبي حظ عظيم، وبشخصية قوية لها من العلوم الأدبية حظ عظيم أيضاً···»
تكشف وحدة المعرفة والشخصية القوية عن «صفات قيادية» تفترض الشجاعة والشرف والإقدام: «أريد أن أدرس تاريخ الآداب في حريّة وشرف، ····، لا أخشى في هذا الدرس أي سلطان···»· الشرف، كما مواجهة الخصم دون خشية وتهيّب، وجه من وجوه الفروسية، مثلما أنّ «فروسية المعرفة»، إن صح القول، من طبيعة الأزمنة الحديثة· لهذا لم يتردّد عالم الاجتماع الفرنسي آلان تورين بنعت ديكارت بـ «فارس الأزمنة الحديثة»، الذي خاض معركة ضد «الأزمنة القديمة» وانتصر فيها· يتراءى وجه المعركة جلياً في جملة: «لا أخشى في هذا الدرس أي سلطان»، سواء تمثّل الأخير بـ«قدماء» يجترون كتباً قديمة، أو بمراجع تنصر القديم بوسائل أخرى· وواقع الأمر أنّ حسين الذي أراد أن يجعل من تاريخ الأدب علماً بين العلوم الأخرى، واعيا للمعركة التي يخوضها، ومدرك أنّ دعوته إلى منهج جديد هي معركة، كأن يقول وهو يشير إلى المنهج في وضعه الأوروبي: «أصبح خصومه لا يحاربونه بالسلاح الإداري، إنّما يحاربونه بالسلاح العلمي والأدبي···»· تستدعي كلمة السلاح، المستعملة مرّتين، كلمة المعركة وتستدعي، في اللحظة عينها، غاية يهدف إليها البطل الجديد الذي يقاتل «بطلاً موروثاً»: «أما المذهب الجديد فيقلب العلم القديم رأساً على عقب وأخشى إن لم يمح أثره أن يمحو منه شيئاً كثيراً،··· ص : 62». يحتشد القول بكثير من التحدّي والإصرار والثقافة العالية، وهو سينتصر في مصر لأنّه انتصر خارج مصر·
بدأ طه حسين من بطولة المنهج الديكارتي الذي أعاد صياغة الحياة المادية والعقلية في أوروبا، واشتق منه بطولة «الدارس المنهجي»، الذي يوحّد بين العلم والشرف ويرضى بسلطان العقل دون غيره· أخذ حسين في «سرده النظري» بصورة القرين، الذي يدافع عن منهج ويلتبس به، جامعاً بين العلم النظري و «شيئاً آخر» يوازيه يدعى بـ: «الإيمانية»· وإذا كان دور السارد شرح المقولات والبرهنة عن ترابطها، فإنّ دور القرين الإخبار عن قوّة المنهج ويقين انتصاره· كأنّ روح الباحث من روح منهجه، فالثاني يمدّ الأول بالثقة وصلابة الروح، والأول يتماهى بالثاني ويقرّر انتصاره·
سرد طه حسين، الذي التبس بالمنهج الذي يدافع عنه، بطولة المنهج الحديث، وسرد، بغضب ووضوح، صفات المذهب القديم وبطولته الزائفة· فالمذهب القديم مسكون بمفارقة صارخة: فهو متجدّد فاعل في الحاضر رغم زيفه وعقمه، بل ان له من الحضور المخيف ما يفزع غيره، وهو في اللحظة عينها بطل بلا بطولة ، يقتات ببطولة سالفة ويصرع الأحياء ويقتات بأرواحهم وعقولهم· إنّها بطولة بلا شرعية ، لأنّ البطولة المشروعة الوحيدة هي المنتمية إلى الأزمنة الحديثة، القادرة على تلبية الحاجات المستجدة، ونقل «المجتمع المفوّت» إلى وضع حديث·
يواجه البطل الحديث، إذن، صعوبات من نوعين مختلفين: صلابة الميّت الذي لا يموت، وصعوبات امتلاك المنهج الحديث، الآمر بألوان مختلفة من المعارف الحديثة· بيد أنّ «الحقيقة الخالصة» التي تحايث المنهج الديكارتي الذي برهن عن نجاحه، كما صفات «البطل المنهجي»، تعد بانتصار أكيد· تدفع هذه الإيمانية السارد إلى نقد القدماء بلا تحفّظ: «لندع القدماء الذين أفسدوا العلم إفساداً، «لنصطنعْ المنهج الجديد ونعرض عن القدماء إعراضاً···»، وتدفعه إلى التصريح بالنهاية السعيدة القادمة، نقرأ في نهاية الكتاب: «فأنت ترى في هذا الكتاب كلّه أنّ الأمر في الأدب الجاهلي مخالف كل المخالفة لما اتفق عليه الأساتذة والمعلّمون،···، وما يضاف إلى الجاهليين من نثر لا قيمة له ولا غناء فيه· فأما تاريخ الأدب حقاً، هذا التاريخ الذي يمكن أن يدرس في ثقة واطمئنان، وعلى أرض ثابتة لا تضطرب ولا تميد، فإنّما يبتدأ بالقرآن···»· فصّلت نهاية الكتاب، أو النهاية التي اختارها السارد لـ«حكايته المنهجية»، فصلاً حاسماً بين زمنين: زمن أول يدرس تاريخ الأدب فوق أرض رخوة وزمن ثان يزوّد الدارس بالثقة والاطمئنان، يعلن عن تأسيس جديد·
شرح طه حسين حكاية المنهج، أو المنهج ــ الحكاية، مطمئناً إلى ثلاثة عناصر : تحديد هوية البطلين المتصارعين ، الصعوبات التي يواجهها البطل الحقيقي في صراعه مع البطل الزائف، والإعلان عن نتيجة الصراع، التي تستبدل بالرخو الفارغ العقيم الصلبَ والممتلئَ والخصيبَ· ولعل هذه العناصر الحكائية، شاءها السارد أو لم يشأها، هي التي أدرجت في سرده ضمائر مختلفة: فهو يتحدّث إلى جمهوره مستخدماً صيغة «الأنا»: «أحبّ أن أكون واضحاً ، أريد أن أقول، أريد أن أصطنع··»، مشخصناً المنهج وممنهجاً الشخص، إن صح القول، ويأخذ في حين آخر، بصيغة المخاطب: «فأنتَ ترى في هذا الكتاب كلّه ، وأنا أريد أن تعرفَ، وكنتُ أنتظر منك···»، ومتحوّلاً، في حين ثالث، إلى صيغة المخاطب بالجمع والمفرد: «ما كان يكفي أن تتمنّى لتحقيق أمانيك· إنّما ننال هذه الحريّة يوم نأخذها بأنفسنا لا ننتظر أن تمنحنا إياها سلطةما، فقد أراد الله أن تكون هذه الحريّة حقاً للعلم، وقد أراد الله···»· لكنّه بعد أن يأخذ بصيغة المتكلّم المفرد والمخاطب في صيغة المفرد والجمع معاً، يصل إلى صيغة الـ «نحن» المنتصرة، التي توحي بأنّ جمهور الحكاية اقتنع بها، أو أنّه سائر إلى الاقتناع وعلى مقربة منه: «فلندع لوم القدماء على ما تأثّروا به في حياتهم العلمية، مما أفسد عليهم العلم· ولنجتهد في ألاّ نتأثّر كما تأثّروا، وفي ألاّ نفسد العلم كما أفسدوه· ص : 69». أدرج السارد في حكايته نبرات متعددة، لا يحتملها الخطاب النظري، تتضمن : التحريض، الإقناع، التشويق، المساءلة، الهجاء··· منتهياً إلى عنصرين مختلفين : الإقناع وبداهة الانتصار·
2. سلامة موسى وبطولة «العقل التجريبي»:
أراد طه حسين أن يقلب دراسة الأدب العربي القديم «رأساً على عقب»، وأن يؤسّس منهجاً يجابه القديم وينتصر عليه· تطلّع صاحب «الأيام» إلى بطولة التأسيس، التي تستبدل زمناً بغيره وتستولد من الزمن الجديد مستقبلاً نوعياً، يعيد تعريف الحاضر والماضي معاً· حاكى في تطلّعه بطلاً آخر، انفصل عن الماضي وصارع أنصاره وانتصر· و لعلّ العلاقة بين بطل اكتمل انتصاره، يدعى بديكارت، وبطل آخر يحلم بالانتصار، هو الذي جعل من حسين بطلاً حداثياً في شرط قديم، يروّض صعوبات المنهج، ولا يستطيع ترويض ما خارجه·
دعا سلامة موسى إلى ترويض الشرط الاجتماعي، الذي يجعل انتصار المنهج الديكارتي ممكناً· سعى بدوره إلى بطولة حديثة مؤثراً فرانسيس بيكون على ديكارت، مستبدلاً بركود المجتمع الزراعي بطولة المجتمع الصناعي، الذي تشيّده المصانع والعقول العملية، ولا تحتاج إلى الأدب والأدباء· استعاض موسى عن بطولة المنهج ببطولة المهندس، معتبراً «الصناعة» نظريةً وعلماً ومنهجاً في آن· ذلك أنّ الإبداع يصدر عن التجريب، لا عن الكتب، وأنّ الجديد يأتي عن العمل والتجريب العملي، لا عن المناهج والفلسفات·
سرد، في كتابه «ما هي النهضة» ــ 1935 ــ سيرة «البطل الصناعي»، منذ أن كان احتمالاً واعداً إلى أن غدا «مهندساً» متفوّقاً ، معتبراً التاريخ، في شكله العاقل، انتقالاً تصاعدياً من النظر إلى العمل، ومن الكتب إلى المصانع· تأخذ البطولة في التصوّر التطوري شكلاً جديداً، يضع المجتمع الزراعي وراء المجتمع الصناعي، والأديب وراء المهندس، والفلسفات والأفكار والأديان وراء المخابر والمصانع· تبيّن عناوين مقالات الكتاب معنى النهضة: «رجل العلم ورجل الأدب، من موضوعية «بيكون» إلى ماديّة «هوبز»، العرب أصل النزعة العلمية، قصة الرقم 4 ···»(4)· ساوى «المربّي المصري» بين النهضة و الحلول التقنية للحاجات الاجتماعية، ورسم في مقالة صغيرة عن «ليوناردو دافنشي» صورة العالم كما يجب أن تكون، فقد كان الإيطالي الشهير : «يرسم وينحت ويبحث في الرياضيات ويخترع· اخترع طواحين تدور رحاها بتيار الماء، واخترع دبابات حربية ومدافع، وبحث عن البارود وكيف يؤلّف، وحاول أن يستعمل قوّة البخار للسفن، وفكّر في خرق نفق تحت الجبال،··· واخترع طيّارة··· ص : 72» · أسّس موسى النهضة على عبقرية الاختراع، والاختراع على التجربة، ورأى في التقنية توسيعاً هائلاً لأعضاء الإنسان وقدراته، تتيح له السيطرة على الطبيعة واستثمارها· قادت فكرة توسيع قدرات الإنسان، المتكئة على تقنية متجدّدة، إلى حلم «السوبرمان» ، أو «الإنسان الأعلى»، الذي يصوغ الطبيعة كما يشاء، بعد أن اخترع ذاته، محرّراً حركته وإمكانياته من القيود القديمة·
يظهر الشكل الحكائي للنهضة، في مستوى أول، في حلم «السوبرمان»، الذي يسرد ولادة إنسان نوعي تمرّد على «الإنسان الأدنى»، الذي كانه، وسار مع تجارب عملية أعطته ولادة ثانية· والحكاية هي المسافة الكيفية بين ما كان وما تكوّن، وهي زمن العمل المتمرّد الذي استبدل بالتعاليم الموروثة الثابتة عقلاً عملياً، تقرّر تجاربه معنى الحقيقة بمنأى عن الكتب المكتفية بذاتها· والحكاية كلها اختراع الإنسان العملي لذاته، الذي يخترع التاريخ الخاص به، ويزهد بالأزمنة التي تؤْثر تأمّل الفكر على عمل اليدين· بيد أنّ الشكل النهضوي الحكائي يستبين واضحاً، وممتلئاً بوضوحه، في مستوى ثانٍ قوامه التصوّر التطوّري للعالم، أو في التصوّر الدارويني، الذي يسرد حكاية انتقال الإنسان من وضع متدنٍ، يختلط الإنسان فيه بالحيوان، إلى وضع كيفي ينصبّ الإنسان مرجعاً للمخلوقات جميعاً·
وزّع موسى التاريخ الإنساني على شكلين من البشر: بشر تصرّفوا بأزمنتهم وانتهوا إلى «الإنسان الصناعي»، وآخرون تصرّف زمنهم الراكد بهم وراوحوا في «العقل الزراعي»· يتوازع الطرفان، نظرياً، الحكاية الإنسانية، إذ لكل طرف حكاية تسرد ما وصل إليه· غير أنّ موسى يمنع الحكاية عن طرف، ويعترف بحق نقيضه بحكاية وحيدة، ذلك أنّ المحاكى، أو الواجب محاكاته، هو الوحيد الذي يحق له امتلاك الحكاية، طالما أنّه بطل، وأنّ حكاية البطل تمحو أساطير من لا بطولة لهم· فالأسماء التي يذهب إليها موسى، بتواتر لا ينقصه الانبهار، تعلن عن اعترافه بنوع من البشر، وعن عدم اعترافه بنوع آخر، غير جدير بأن يُعترف به· سرد موسى حكاية «البطل التقني» المسيطرة، وعارضها بحكاية خاضعة لا بطولة فيها· تحدّث، في الحالات جميعاً، عن بطل تقني أوروبي متحقق، أنجبه دافنشي والذين تلوه، وعن «بطل جنيني» غير أوروبي محاصر بمجتمع يسيطر عليه «الإنسان الأدنى»·
يتعيّن البطل، مصرياً كان أم عربياً، بمرجع أوروبي، «يرسم وينحت ويبحث ويخترع»، وبنقيض زراعي، يضع في وجه «البطل الجنيني» عقبات كثيرة· يتحرّك «البطل» الأخير في مجتمع لم يعرف سبنسر وداروين وماديّة بيكون ولا غيرهم مِمّن يرون في «العمل» أصلاً للارتقاء، وهو مقيّد إلى مجتمع يقدّس الكتب والكلمات ويطمئن إلى ثقافة الأدعية· وهو، في البداية والنهاية، لن ينجز انتصاره إلاّ إذا هزم مجتمعه التقليدي، الذي يعتقد انّ الكتب المتوارثة تتضمن الأسئلة والإجابات جميعاً·
نسج موسى خطاباً رَغَبياً، يلتفت إلى «البطل التقني» ولا يلتفت إلى شروطه الاجتماعية· لذا عيّن بطله عن طريق السلب، حيناً، كأن يصف آثار البطل الذي انتصر، أو عن طريق كلام تحريضي ــ جمالي، حيناً آخر، كأن يتحدّث عن ضرورة «اعتناق العبقرية»· فحين يتحدّث موسى عن «البطل المنتصر» ، يقف أمام دافنشي، الذي يبحث ويخترع، وينتقل إلى نابليون، الذي بطولته العسكرية محصّلة لبطولة تقنية، علّمته قواعد القتال والنظر، وأمدّته بالوسائل اللازمة للانتصار· فقد لمس الضابط الفرنسي، وهو ابن الثورة العلمية ــ الصناعية، الفرق بين الجندي المملوكي، الذي يدافع عن نفسه، والجندي الفرنسي، الذي يقاتل من أجل مبادئ الثورة الفرنسية· يكفل الفرق بين جندي يدافع عن سلامته الفردية، وآخر يقاتل من أجل قضية جماعية، هزيمة الأول وانتصار الثاني· مع ذلك، فإنّ عظمة نابليون الحقيقية تتكشّف في «عجائب الكيمياء»، التي حملها معه إلى مصر، وفي المعارف العلمية الحديثة التي مهّدت له «اقتحام المستقبل والاستيلاء على العالم»·
بعد البرهان العملي، الذي يدلّل على مآثر البطل المنتصر أخذ موسى بفرضية مسكونة بالمفارقة عنوانها : العبقرية، التي تتوزّع على القائد العسكري المنتمي إلى الثورة الفرنسية، وعلى هؤلاء الذين يهجسون صادقين بمحاكاته· ذلك أنّ البشر جميعاً «عباقرة»، وأنّ عبقريتهم قادرة على توليد المجتمع الصناعي· وهذا ما دفعه إلى كتابة مقالة طريفة العنوان : «كيف نكون عبقريين»، تحضّ، ظاهرياً، على محبة البشر والتحرّر والانغلاق، وتقول، جوهرياً، بالتعلّم من الذين تجاوزوا المجتمع الزراعي وانتقلوا إلى مجتمع مغاير· اختزل موسى تاريخ التقدّم الإنساني إلى حكاية بسيطة، فدعا إلى محاكاة «الضابط الفرنسي»، الذي أنتجته الثورة الصناعية، وسعى، ببراءة مدهشة، إلى توطيد حكايته البسيطة بحكاية أكثر تبسيطاً عنوانها: العبقرية الإنسانية· آمن المفكر المصري، وهو ينتقل من معادلة ذهنية إلى أخرى، بـ«عبقري ــ مثال» قابل للتكاثر، وبـ«إنسان عبقري» عليه أن يكتشف عبقريته، مشدوداً إلى أسطورة بروميثيوس، التي رفعها عصر التنوير الأوروبي إلى مقامها. الأعلى· ولهذا تحقّق البطل الأسطوري في المجتمعات الصناعية، في انتظار تحقّقه اللازم في مجتمعات أخرى· والبطل الذي جاء، وسيجيء، بطل من نوع جديد يعلن عنه: «الباحث، رجل العلم، المهندس، التقني، الذي تملأ مشاريعه المختبرات العامة والخاصة، منتهية إلى اكتشافات واختراعات،··· بل أنّ بروميثيوس الأزمنة الحديثة أكثر دينامية من أي وقت مضى، وهو اليوم أكثر عدّة وعتاداً مما كان عليه في بداية الثورة الصناعية····»(5)
حدّد موسى هوية البطل الجديد، وحدّد معه هوية البطل القديم المحايث لمجتمع زراعي وجوهه : رجل الدين، حماة التراث، عبدة الكتب، أنصار الكلام، وكل المتذهّنين، الذين يستبدلون بالفعل الكلام، ويمنحون الكلام مصداقية مطلقة· ينقض البطل الثاني البطل الأول، فكراً وسلوكاً ونظراً ويتوزعان، لزوماً، على زمنين تاريخيين مختلفين: زمن الإنسان الأدنى، الذي لم يستيقظ بعد، وزمن الإنسان الأعلى، الذي استيقظ ذاهباً من قمّة إلى أخرى· يتعثّر موسى في كلامه أكثر من مرّة: يتعثّر وهو يختصر العلاقة بين الغازي والمحتل إلى علاقة طبيعية بين أستاذ وتلميذ، ويتعثّر مرّة أخرى وهو يعتبر أنّ التعرّف على عجائب الكيمياء يجعلها متاحة للجميع، ويتعثّر مرة ثالثة وهو يبدأ من الإنسان المجرّد، ويضع الشروط الاجتماعية والثقافية جانباً·
إذا كان سبات المجتمع التقليدي يمنع عنه التعرّف على «عجائب الكيمياء»، فإنّ انبهار موسى بعجائب المجتمع الصناعي يمنع عنه سرد حكايته بشكل متسق: أعلى السارد أولاً من جمالية «العقل العملي»، وأهدر السياق التاريخي للتاريخ المعرفي، الذي يؤسّس الجامعات، ويحوّلها إلى مخابر ويفتح الأخيرة على المصانع· وبقدر ما أهدر سيرورة الإنتاج المعرفي ــ التقني أهدر بدوره سيرورة التحوّلات الاجتماعية التي تنقل المجتمع من الأسطورة إلى العلم ومن العقل الجماعي الراكد إلى عقول مفردة مبدعة· كان مفتوناً، في الحالين، بثقافة أوروبية لم يستطع إدراجها في وعي تاريخي، يرى الظواهر في أسبابها المادية، ولا يكتفي بـ «غائية تاريخية مطلقة»، متحرّرة من الأسباب المادية· وقع وهو يندّد بإطلاقيات المجتمع الزراعي في إطلاقية جديدة ترى في التقنية ديناً جديداً كاملاً· آمن موسى بحتمية التقدّم الإنساني الشامل وأخذ، ربما، من الفرنسي أوغست كونت (1798 ــ 1857) فكرة «التحقيب الحضاري»، إذ المجتمعات كلّها تنتقل من عهد الميتافيزيقا إلى عصور العلم والتجربة، أو من أزمنة «التخلّف العقلي» إلى أزمنة المنطق وقوانين المعرفة المنظّمة· وطّد إيمانه بنظرية التطوّر الداروينية، واصلاً إلى أسطورة «السوبرمان»، حيث العلم المنتصر «يؤنسن الآلهة ويؤلّه الإنسان»· ولهذا أفرد في كتاباته مكاناً واسعاً لنظرية التطوّر، فكتب «مقدّمة السبرمان» ــ 1910 ــ و «نشوء فكرة الخالق» ــ 1912 ــ و «نظرية التطوّر وأصل الإنسان» ــ 1928 ــ و «اليوم والغد» ــ 1928 ــ ·· دارت كتاباته حول مستقبل إنساني يصرع الأزمنة القديمة، ويمضي إلى زمن مفتوح يسكنه الكمال· ومع أنّه كان يكتب باللغة العربية فما كتبه، نظراً وتطبيقاً، كان ترجمة غامضة لماضٍ أوروبي قريب·(6)
سرد موسى بطولة «التقدّم الإنساني»، ناظراً إلى بطل تكوّن وآخر «قيد التكوين»، وقاده تصوّره، الذي يذيب التواريخ الجزئية في تاريخ عام، إلى نقطة عمياء أضاءها بفكرة غامضة هي : العبقرية، التي تتوزّع على البشر جميعاً، إذا المجتع الصناعي من بطولة «العباقرة» الذين صنعوه، أي من بطولة عبقريات متجاورة نموذجها : فرنسيس بيكون» (1561 ــ 1636)، الذي يستطيع أن يحاكيه الفرد المصري، بما في ذلك، بداهة، سلامة موسى· لا غرابة أنّ يقوم الأخير بصوغ أفكار بيكون في كتابه «أسرار النفس» ــ 1927 ــ معتقداً أنّ محاكاة العبقرية إعلان عن عبقرية أخرى·
اطمأن موسى إلى بروميثيوس عابر للأزمنة ، يتجسّد في بيكون، زمناً، وفي دافنشي، زمناً آخر، وفي مهندس مصري في طور أخير· يقول في كتابه «مقدّمة السوبرمان» : «لقد كان الإنسان،···· ، ولكن ها هو ذا قد استوى وأخذ في يده مفاتيح الطبيعة، وليس الآن ما يمنعه من أن يتسلّط بها على هذه الأقدار نفسها»(7) · ينفتح فعل «كان» على فعل «أصبح»، ويندرج «الفعلان» في حكاية واسعة، تحققت في مجتمع، ولا تزال تنتظر التحقّق في مجتمع آخر·
تمكن قراءة أفكار سلامة موسى بمقولات كثيرة: الخطأ والصواب، محاكاة المنتصر، قصور الوعي التاريخي، لكنها تقرأ أولاً بفكرة: المثقف الرومانسي الذي يرى في ذاته جذراً للعالم، ويؤمن بأن الجذور تتكاثر مثل الحكايات·
3. ساطع الحصري وبطولة الفكرة القومية:
اطمأن طه حسين إلى «بطولة المنهج»، التي هي من بطولة ديكارت (1596 ــ 1650) وتلامذته، وارتاح موسى إلى «بطولة العلم التطبيقي»، التي هي من عبقرية بيكون· سرد ساطع الحصري، بدوره، سيرة بطل آخر، يأتي بمستقبل منتصر، يعيد للعرب مجدهم الغابر، ويجسّر المسافة بين مجد ذهب وآخر سيأتي· تسلّحت الحكاية القومية بإيمان مزدوج: صفات البطل الذاتية، التي هي من صفات القومية العربية المتحرّرة من سباتها الطويل، وصفات أنصار البطل القومي: «القوميون العرب»· وعلى الرغم من ثقافة عالية وشغف بالاستقصاء التاريخي، فقد كان «فيلسوف القومية العربية» مسكوناً بفكرة: البداهة، التي تتحدّث عن قومية عربية لا تحتاج إلى برهان، وترى إلى نصرا قوميا قادما لا تخطئه العين·
يقول الحصري في مقالته «عروبة مصر»: «ولكن مصر نفسها كانت بعيدة عن الشعور بالقومية العربية الكامنة فيها· ولهذا السبب ظلّت معرضة عن «فكرة العروبة»· وغير مكترثة بأعمال دعاة القومية وآمالهم، إن لم تكن معرضة عن فكرة «العروبة»· تعبّر صفة «الكامنة» عن شعور لا ينتبه إليه حامله ، في انتظار لحظة أكيدة قادمة، تنقل الكامن إلى مقام التحقّق واليقظة· لذا ينتهي «الإعراض المصري»، كما يقول الفيلسوف، إلى «خاتمة سعيدة، مثل معظم القصص الشعبية التي ترويها الأمهات والجدّات»، إلى أن يقول : «فلو كنت كتبت المأساة المذكورة حينها، لكان ترتّب عليّ الآن، أن أسرد ما حدث بعد ذلك، لأختمها بقولي : وبعد كل هذه الأحداث··· عرف الأخ الأكبر عظم الخطأ الذي وقع فيه···· وعانق أخاه أحرّ العناق، وصار يعيش معه، ويفكّر معه ويعمل معه··· طول حياته»(8).
إذا نظر القارى إلى سطح الخطاب القومي توقف أمام ثلاثة أفكار : المأساة الصادرة عن فعل خاطئ غير متوقع، الخطأ الذي يتلوه الصواب، الصلح المستديم بين أطراف أخطأت وأخرى دافعت عن القومية العربية بوضوح لا خطأ فيه· يستطيع القارئ أيضاً أن يترجم، دون جهد كبير، الكلمات السابقة بالشكل التالي: يأتي بعد المأساة فرج مريح، ويتلو الخطأ صواب منتظر، ويعقب الفراق وصال فرح لا ينقطع· تظهر الحكاية بسيطة شفيفة واضحة، يسردها وعي قومي سعيد، يعبّر عنها بمفردات حكائية، تذكر بحكايات «الأمهات والجدّات» وهو ما يساوي بين جمالية القومية العربية وجمالية الحكاية، ذلك أنّ ما ينطبق على مصر· «أم الدنيا» ينطبق على غيرها من البلدان العربية، مثلما أنّ عودة «الأخ الأكبر» إلى الصواب إعلان عن وعي صائب يتوزّع على «الإخوة الصغار» جميعاً·
يوطّد الحصري تفاؤله آخذاً بحجّتين، تقول الأولى : إنّ الظواهر القومية تعرف النمو والازدهار، كما تسقط في الوهن والذبول· يلغي هذا الوضع التشاؤم ويبعث على التفاؤل، ويتيح للوعي «الحي» أن يستنهض ما غفا وأن يبني ما تقوّض· وتقول الحجة الثانية: تمكن البرهنة، تاريخياً، عن معنى الظاهرة القومية، في ذبولها حيناً وتفتّحها لاحقاً، انطلاقاً من «القومية البولونية»، التي وقعت ضحية، ذات مرّة، لأطماع روسيا وبروسيا والنمسا، وبقيت قائمة وترجمت حياتها المتجدّدة بدولة قومية حديثة، إنّ ما وقع على الأمّة العربية، إبّان السيطرة العثمانية، وقع على أمم أخرى، وما أنجزته الأمم الأخرى ليس صعباً على العرب إنجازه، طالما أنّ الشعوب متساوية، بلا تفاوت أو مفاضلة·
انشغل الحصري، المشدود إلى تفاؤل مستريح، بالإتيان ببراهن تؤيد مشروعه القومي: استعار تفاؤله الضروري من الماضي، فذكّر بـ «الوثبة الكبرى التي قامت بها الأمة العربية بعد هجرة النبيّ العظيم»، واستأنس بالأديب الإيطالي النهضوي «بترارك»، الذي وبّخ شعبه في أوائل القرن الرابع عشر، حين اعتقد أنّه «لن ينبغ أحد بعد العرب، وأنّهم عاجزون عن مضاهاة العرب»· ذهب الحصري إلى الماضي مرّتين، قبل أن يتأمّل الحاضر وإمكانيات القومية العربية فيه· لا يختلف حاله كثيراً عن حال سلامة موسى، فكما أنّ الثاني نسي الشروط الاجتماعية التي تنتج تلميذاً وتصيّره إلى مهندس، نسي الأول مفردات كثيرة: الدولة ــ القومية ، الدولة القومية، القومية والمجتمع المدني،····
انطلاقاً من منطق الحكاية، التي أخذ بها طه حسين، رغم رهافته الفكرية العالية، وارتاح إليها سلامة موسى، بنى الحصري، بدوره، حكايته القومية، قاصداً بطلاً محدّد الهوية، ومتوقفاً أمام أعداء له، لن يعوّقوا مسيرة البطل المنتصر· فالبطل الذي تحرّر من سباته يستند إلى معطى جاهز، لا يغفو ولا يغيب هو: اللغة العربية: «إنّ جميع البلاد التي يتكلّم سكانها باللغة العربية، هي عربية»، أو : «إنّ كل من ينتسب إلى البلاد العربية ويتكلّم باللغة ا لعربية، هو عربي···»· لا مجال للحديث عن «دولة قومية»، تعطي مواطنيها حقوقاً وواجبات متساوية، ولا عن سياسة قومية ثقافية، تجانس ثقافة العربي وغير العربي، ولا عن الدولة، التي تفضي سياساتها المتنوعة مجتمعة إلى : وعي قومي· أوكل الحصري إلى اللغة الموروثة القيام بوظائف الدولة، وعيّن اللغة الموروثة «دولة ديمقراطية»، تساوي بين الأفراد جميعاً وتمحو، بداهة، الفرق بين «الأغلبية والأقلية»· اشتق الفيلسوف القومي بطله من اللغة وأسبغ على اللغة قوّة خارقة·
سرد الحصري، بعد تعيين هوية البطل القومي، صعوبات الطريق، التي تواجه بطلاً سائراً إلى غايته · ــ والصعوبات ، بداهة ،خارجية، طالما أنّ من تحدّث لغة العرب أو انتسب إلى أرضهم عربي بالضرورة: «إنّ الحدود الفاصلة بين الدول العربية، تقرّرت بعد المساومات والمناورات الطويلة، التي جرت بين الدول المستعمرة ضماناً لمصالحها ···» · أتى وَهن الأمّة العربية من خارجها، عثمانياً كان أو أوروبياً استعمارياً، تكشّف ذلك في إيجاد حدود مصطنعة، أو في «نزوعات قطرية»، مثل : الفرعونية والفينيقية والمتوسطية··· عثرت القومية العربية، في تصوّر الحصري، على ضمان داخلي، يحرّرها من العوائق الخارجية، ويأخذ بيدها إلى وضع واجب الوجود· إنّه التفتّح الإيجابي المتصاعد، الذي يطرد السلب ويستعيد النقاء القديم كما كان· ومع أنّ في كلام الحصري ما يعيّن القومية ظاهرة حديثة، فإنّ كلامه الذي «يجوهرها» يصيّرها إلى كيان قديم مستعاد، على اعتبار أنّ حضور القومية من حضور لغتها·
يخلص الحصري، في مقالاته جميعاً، إلى نتيجة واحدة: القومية العربية ظاهرة واضحة للعيان لا تحتاج إلى برهان، لأنّ للغة العربية «جذوراً عميقة وأسساً متينة وممثلين أقوياء في جميع البلاد العربية»· يفصح «الممثلون الأقوياء» عن انتصار «البطل القومي»، بقدر ما تفصح ديمومة اللغة العربية عن هزيمة الذين يقفون في وجه القومية العربية، وآية ذلك أنّ الذين حكموا العرب من غير العرب استعربوا، باستثناء العثمانيين، الذين تأثّروا باللغة العربية ولم يؤثّروا فيها، ذلك أنّ العربية لغة القرآن والطقوس الدينية، تهزم غيرها ولا تهزم: «استطاعت إلى الآن أن تتغلّب على جميع عوامل البلبلة التي تألّبت عليها خلال عصور الانحطاط الطويلة،····، فلا يمكن أن تفقد حيويتها بعد الآن، فيخطئ من يظن أنّها ستنقطع عن النمو والازدهار في عصور النهضة وعهود الاستقلال··· إنّها لا تزال حيّة ونامية، ولا شك أنّها ستزداد نمواً في مستقبل الأيام، وستصبح أشد حيوية مما هي الآن···»·لا تزال اللغة العربية حيّة ونامية، لأنّها كانت دائماً حيّة ونامية، ولا تزال القومية العربية، مثلما كانت، حيّة ونامية، لأنّ حال القومية من حال لغتها، التي مستقبلها المزهر من ماضيها المزدهر·
سرد الحصري سيرة «البطل القومي» موحداً بين زمنين: زمن قديم، هو زمن صعود الحضارة العربية ــ الإسلامية، وزمن قادم، هو زمن الوحدة العربية القادمة· ينطوي السرد الموحّد بين زمنين متباعدين على مقولة: الأصل، التي تقرّر أنّ ما كان منتصراً في الماضي يعود منتصراً في المستقبل ، متجاوزاً مرضاً عارضاً بين الزمنين· تكشف مقولة الأصل، التي هي وجه من وجوه الموروث الميتافيزيقي، عن لا تاريخية التصوّر القومي عند الحصري، على الرغم من ذهابه إلى نظريات حديثة في القومية، مثل نظرية الألماني هيردر· أملى عليه هذا التصوّر أن ينوس بين الماضي والمستقبل، مهمّشاً الحاضر وقضاياه المعقّدة·
أمدّت مقولة الأصل الحصري بإيمانية كاملة، ساوت بين ما كان وما سيكون، وصيّرت المستقبل زمناً حاضراً متحققاً، ووزّعت «سين المستقبل» المنتصرة على ما جاء وما سيجيء· كأن يقول : «ولا مجال للشك أنّ هذه الفروق ستتضاءل، كلّما تخلّصت الدول العربية من النظم التي ورثتها عن عهود الاحتلال والانتداب»، أو أن ينهي مقالته «الثقافة العربية وثقافة البحر الأبيض المتوسط»: «ولما كانت لغة هذه البلاد عربية، فإنّ ثقافتها ستكون عربية، وستشترك هذه البلاد في أمور الثقافة مع سائر البلاد العربية،···، وسيساهم أبناء هذه السواحل وهذه الجبال في تكوين ثقافة عربية راقية،···، إنني أعتقد أنّ ذلك سيتم حتماً، وأنني أجزم بذلك، وأنّ الأشجار التي نراها في الحدائق ستورق وتثمر··· وفق طبائعها المعلومة»·(9) كل شيء سيصير، أو سيعود كما كان·
القومية العربية، في تصوّر الحصري، بطولة بلا بطولة، لأنّها منتصرة قبل الذهاب إلى المعركة· وبقدر ما هي بطولة بلا بطولة، فهي قائمة في التاريخ وخارجه معاً: قائمة في التاريخ لكونها صادرة عن تاريخ مادي قابل للتعيين، وقائمة خارجه لأنّها تحمل ضماناً داخلياً، يحرّرها من الشروط المادية «الخارجية»· بل انّ مستقبلها، وهي المحروسة بأصل بعيد كريم، صورة عن «الماضي الكامل» المنتسبة إليه· وبسبب ذلك يكون المستقبل تتويجاً لكل الأزمنة الفاضلة: فهو زمن انتصار الوعي القومي، وزمن تحقّق الوحدة العربية، وزمن إنجاز التحرّر العربي الشامل، وزمن التحقّق الكلي للثقافة العربية،··· بدأ الحصري من اللغة وانتهى إلى «يوتوبيا اللغة»، وبدأ بالماضي وانتهى إلى مستقبل لا يعترف بالحاضر· أقام مشروعه على خطاب فكري شديد التفاصيل، ووطّده بنزعة تحريضية ، صيّرته خطاباً وعظياً إرشادياً أخلاقياً، يتحدّث عن السعادة والخير والكمال·
يستهل الحصري كتابه «دفاع عن العروبة» بالكلمات التالية: «ما أسعد الأمم التي حققت وحدتها القومية، واستكملت شخصيتها السياسية»· فالقومية سعادة وهزيمة المشروع القومي تعاسة : «ولكن ما أتعس الأمم التي ظلّت بعيدة عن تحقيق وحدتها القومية واستكمال شخصيتها السياسية»· تمازج في خطاب الحصري السياسي والأخلاقي والبرهان التاريخي والنزعة التحريضية المطلقة السراح، اعتماداً على «عروبة جوهرية» تحتضن سكان العالم العربي جميعاً·
ما حكاية القومية العربية الموعودة إلاّ حكاية كيان مغترب، بالمعنى الديني، سقط في الخطيئة زمناً، ومسح ذنوبه وعاد نقياً من جديد· يقول الحصري: «كلا أيّها السادة! إنّ كل ما سردته وشرحته آنفاً، يدل دلالة قاطعة، على أنّ الفروق التي تظهر لنا الآن بين أهالي هذه الدول «العربية» العديدة إنّما هي فروق عارضة سطحية، لا تبرّر قط اعتبارهم منتسبين إلى أمم مختلفة···»· إنّ «الآن» هي لحظة الخطيئة، التي تمحوها توبة وشيكة· وما دور المثقف العربي إلاّ سرد سيرة «البطولة القومية»، التي تنقل العرب من زمن التعاسة المؤقتة إلى زمن السعادة المستديمة·
4. حكاية البطولة والمدينة الفاضلة
انطوى مسار الأسماء الثلاثة السابقة على خطابين: خطاب أول عن ذات متمرّدة، تريد أن تتحرّر من الجماعة التقليدية المسيطرة وأن تحرّرها· وخطاب ثانٍ عن البديل الاجتماعي الذي تقترحه الذات المتمرّدة وتتطلع إليه· أدرك المثقفون الثلاثة، بأشكال لا متكافئة، الفرق بين الجماعة الموروثة، التي تنزع إلى الثبات وتمانع التطوّر، والمجتمع الحديث الذي تتحقق فيه الذات الحرّة· دعى حسين إلى مجتمعٍ ليبرالي يصوغه أفراد «منهجيون» يتبادلون الاعتراف، وأراد موسى مجتمعاً منتجاً مرجعه التجريب العلمي والصناعة الحديثة، وبشّر الحصري بمجتمع قومي، يحرّره مثاله الأعلى من العصبيات الفقيرة والتجزئة· دار الثلاثة حول فكرة المجتمع الحديث، الذي يغاير الجماعة، ذلك أن الجماعة تتعيّن بروابط غير سياسية: الرابطة الأبوية والأسرية والدينية، التي تختصر الإرادات المختلفة إلى إرادة وحيدة، وعلى خلاف المجتمع الذي تصوغه إرادات عاقلة متعددة· والفرق بين الجماعة والمجتمع هو الفرق بين ما قبل ــ السياسة والسياسة، وبين الراكد والمتحرّك، وهو الفرق أيضاً بين الاستبدادي والديمقراطي· ولعلّ الفرق بين التقليدي المتجذّر الثبات والحديث المؤسس على التغيير هو ما يجعل التحرّر من العوائق الطبقية، وهي عوائق حداثية المرجع، أكثر سهولة من الانعتاق من القيود الأسرية، والتحرّر من الأخيرة أقل مشقة من الخروج على الروابط الدينية· فالتحرّر الطبقي، أو النزوع إليه، فعل سياسي، يقول بالتناقض والانقسام والصراع، على مبعدة عن معايير النظام الأبوي، الذي يساوي بين الامتثال وطاعة الأعراف، وعن تعاليم الجماعة، التي تنهى عن الاختلاف، وترى في الفرد الخارجي عن إرادتها «إنساناً مخذولاً» تاه عن الحق وسقط في درب الضلال·
مايز طه حسين بين الرابطة الطوعية والرابطة الإجبارية، وفصل موسى بين العقل الإطلاقي والفكر التجريبي، مثلما رأى الحصري الفرق بين القومي والطائفي،··· اقترح المثقفون الثلاثة، في نهاية المطاف، مجتمعاً حديثاً يقاسم المجتمعات الحديثة المبادئ التي تقوم عليها· فلا تعارض، على مستوى المنظور، بين ديكارت وبيكون، ولا بين الإثنين والألماني هيردر، الذي تعلّم منه «القومي العربي» أشياء كثيرة· وسواء كان المجتمع العربي المقترح ليبرالياً أو قومياً أو صناعياً، فهو في الحالات جميعاً «سيأخذ» بالقيم البرجوازية الأساسية: الفردية، الحرية، المساواة، التنافس، والحراك الاجتاعي الذي يلازم المجتمعات الحيّة· تؤكّد هذه المعايير الإنسان قيمة في حد ذاته، ومركزاً أخلاقياً ذاتياً يتمتع بمسؤولية فردية وجماعية· وهو لا يكون ما يجب أن يكون إلاّ إذا كان حراً، يمارس خياراً طوعياً ويعترف بحق غيره في الاختيار والرفض والمبادرة··· (10)
يمكن القول اتكاء على الأفكار السريعة السابقة: تطلع المثقف العربي إلى مجتمع يجسّد أفكاره ويسمح له أن يوجد كمثقف، ذلك أنّ مقولات المثقف والمجتمع والقومية تنتمي إلى منظومة فكرية حداثية واحدة· عاش المثقف العربي، بهذا المعنى، زمنين: زمناً عملياً في مجتمع متخلّف وزمناً نظرياً مشدوداً إلى مجتمع حديث موعود· ولعلّ هذا الانقسام الصادر عن اليقين الفكري ورخاوة الشرط الذي يراهن عليه، هو ما يوزّع مشروع المثقف العربي النهضوي على البطولة والمدينة الفاضلة، أو على بطولة مأساوية، تساوي بين قوّة الأفكار وانتصار الأفكار·
تأتي صورة البطل من مرجعين مختلفين: مرجع خارجي تظهر فيه الصعوبات الفعلية التي واجهها المثقف: القدماء الذين واجهوا طه حسين ببطولة مستعارة، والفكر الإطلاقي المستديم الذي لا يعترف بسلامة موسى وبأفكاره، والنزوعات المتعددة التي تسفّه الفكر القومي العربي· بل أنّ طه حسين، وهو يعارض القديم بالجديد ، شخصن القديم فبدا «بطلاً» جافي الطبع خشن الذوق، بقدر ما اعتبر ذاته جزءاً من منهجه الجديد ومنهجه المقاتل جزءاً منه· أما الصعوبات الداخلية فتظهر واضحة في تداخل المنطقي والتاريخي، أي في اعتبار التاريخ أداة طيّعة تمتثل إلى ما يريده الفكر وتحقّقه· يصبح المثقف، في التصوّر التقدّمي للتاريخ، صانعاً للتاريخ وخالقاً له، يقترح له غاياته ويدفعه إلى الدرب الذي يجب أن يسير فيه· جعل الربط بين الذات المفكّرة و «قوّة الأفكار» من «صناعة التاريخ» عنصراً ثابتاً في «فلسفة التقدّم»، يستوي في ذلك الماركسي الناظر إلى مجتمع بلا طبقات، والقومي القائل بالوحدة العربية، والتقني الذي يريد مجتمعاً صناعياً لا يحتاج إلى الأدباء· كأنّ للتاريخ سقفاً يجب إدراكه أو مصبّاً نهائياً ينبغي الوصول إليه·
أعلن المثقف النهضوي عن بطولته بفكرتين أساسيتين: التجرّؤ على اليقين المتوارث الذي يملي على الفرد أن ينسحب من الجماعة المتجانسة، وأن ينكر الواقع المعطى وينقضه بواقع مرغوب· وثاني الفكرتين التأسيس لتاريخ جديد يقطع مع التاريخ السابق، ويشكّل نقطة انطلاق لزمن وليد يذهب إلى المستقبل· تطلّع طه حسين إلى علم جديد يقطع مع القصص والأساطير، ونظر موسى إلى منهج تجريبي لا يكترث بفنون الكلام، واقتنع الحصري بمجتمع عربي يوحّد العرب و«المستعربين»· قال هؤلاء ببداية زمن ونهاية آخر، وبفعل حاسم يفصل بين ما كان وما سيكون، ويستبدل باليقين القديم يقيناً جديداً· وما زاد الفصل ووطّده، لدى حسين والحصري بخاصة، التعامل مع الملموس والتخفّف من المجرّدات، كأن يدير حسين حديثه حول «الشعر الجاهلي» وأن يساجل الحصري التيارات الفينيقية والمتوسطية، وأن يحاول الطرفان توليد الصواب والخطأ من معطيات قابلة للتعيين·
انطوى الخطاب التنويري على البطولة والمأساة معاً، أو على بطولة مأساوية· فقد اعتبر أنّ صحة الأفكار ضمان تحقّقها،وأنّ الواقع يمتثل إلى الحقيقة المكتشفة ويطرد ما عداها خارجاً· واقتنع أيضاً أنّ المثقف قادر على خلق المجتمع الذي يبشّر به· تحيل هذه الأفكار على فلسفة التاريخ، التي تثبّت التاريخ بين نبع غائم ومصبّ معروف، وتحيل في اللحظة عينها إلى «المتخيّل النظري المتفائل»، الذي يبدأ من المثقف وينتهي إليه· يتضمّن الأمر في الحالات كلّها نقطة عمياء، لا تروّض ولا تنسحب، ذلك أنّ التخلّف الملموس يأمر المثقف بالقول بتقدّم ضروري· يبدأ ا لمثقف منقسماً، يعيش في مجتمع ويتطلّع إلى بديله، وينتهي منقسماً، لأنّ سعيه كلّه موزّع على «نظرية المعرفة» والمدينة الفاضلة، أو على ذلك الحلم الذي يدعوه الفلاسفة بـ «اليوتوبيا· ولهذا يخترق الحلم، المؤجّل أبداً، أفكار جميع المثقفين الكبار·
يُقرأ الخطاب التنويري في علاقاته الداخلية، التي تنصّب المثقف بطلاً والتاريخ صناعة، ويُقرأ أيضاً على ضوء الحكاية الطوباوية، التي تضيف إلى معناه وضوحاً جديداً· تسرد الحكاية الطوباوية أحوال «مدينة فاضلة» لا وجود لها، هجس بها الإنسان أكثر من مرّة، وبقيت معلّقة في مكان لا يعرفه أحد· تتضمن هذه الحكاية، نظرياً، خطابات ثلاثة: الخطاب النقدي، الذي يشجب واقعاً سلبياً ويعدّد أمراضه، والخطاب الوصفي، الذي يبيّن فضائل البديل الذي خلّف وراءه «مدينة الرذيلة»، والخطاب التسويغي، الذي يشرح الأسباب التي تجعل «المدينة الفاضلة» ضرورة·
تترابط الخطابات الثلاث مسهبة في مجال ، ومقتصدة القول في مجال آخر: فهي تصف السلب وتوغل في الوصف، كما لو كان الوصف المثابر عنصراً فاعلاً في تغيير طبائع الأشياء· لكنها وهي تصف السلب بوضوح تضطرب وهي تصف بديله، أي أنّها، تقتصد في الكلام أمام : سؤال الانتقال من السلب إلى الإيجاب، ومن القديم إلى الجديد، وهو ما تداركه طه حسين، لاحقاً، في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»· ربما يعود تهميش سؤال الانتقال، في الخطاب الطوباوي بعامة وفي الحكاية الطوباوية العربية بخاصة، إلى فكرة الضمان، التي تقرّر أنّ ما يجب تحقيقه في مكان محقّق في مكان آخر، وأنّ ما سيتحقق في المستقبل تحقّق ذات مرّة في الماضي· فالثورة المعرفية التي آمن طه حسين بوصولها الوشيك إلى مصر ، استقرّت في فرنسا منذ قرون، والوحدة العربية المظفّرة القادمة وجدت قبل الإسلام وبعده· فلا صعوبة في توليد الجديد، فقد ولد في مكان مجاور، أو عرف الولادة قبل زمن طويل· لا يستدعي الأمر التحويل والتغيير والتبديل، بقدر ما يلزم بـ «نقل» معطى منجز من مكان إلى آخر، ومن زمن إلى غيره· يتكشّف العنصر الطوباوي، حيناً، في «الضمان المعرفي»، إذ معرفة أسباب ارتقاء الآخر ضمان لتحقيق الارتقاء الذاتــــي، ويتجلّى، حيناً آخر، في أسطورة الجوهر المنفصل عن الأزمنة، فما كان يعود كما كان في زمن آخر·
المعرفة والتنظيم وتأمين الانتصار، عناصر ثلاثة تخترق «الخطاب الطوباوي النهضوي»، وتوكل إلى العنصر الأول ضبط العنصرين اللاحقين· يشرح بيكون، الذي فتن به سلامة موسى، دلالة المعرفة حين يقول: «تتمثّل غاية تعاليمنا بالكشف عن الأسباب، ومعرفة الطبيعة الخفيّة للقوى الأساسية ولمبادئ الأشياء، بغية توسيع حدود امبراطورية الإنسان على الطبيعة كلّها، والقيام بكل ما يستطيع القيام به»(11)· يؤكّد القول قيمة المعرفة، ويؤكّد معها قدرة الإنسان على ترويض الطبيعة· ذلك أنّ دور العلم نقل الإنسان من طور إلى آخر، وصولاً إلى طور أخير عنوانه : الإنسان الكامل· لا غرابة أن تبدو الوحدة العربية، التي يعرف قيمتها الإنسان العليم، علاجاً للأمراض جميعاً، وأن يستعيد إنسان المجتمع الصناعي جوهره المفقود، وأن يهزم الجديدُ القديمَ الزائفَ · يتكشّف «الوعي الطوباوي» في تبسيط الانتقال من الناقص إلى الكامل، وفي اعتبار الكامل المتحقق منجزاً أكيداً، قائماً في الحاضر بالقوّة وقائماً في المستقبل بالفعل، طالما أنّ وجوده اليقيني من يقين المثقف المبشّر به·
يتأتّى اليقين عن اكتشاف العقل في الإنسان، وعن الاحتفاء بالإنسان الذي اكتشف قيمته في عقله· وإذا كان العقل، الذي يتكشّف شيئاً فشيئاً، من خصائص الإنسان، فإنّ البشر جميعاً قادرون على صوغ علاقاتهم المتبادلة بشكل عقلاني· يمكن الحديث، عندها، عن مجتمع «منهجي» ومجتمع «تقني»، وعن ثالث «قومي»، وهو ما آمن به الحصري إيماناً لا شروخ فيه· يتراءى في النماذج جميعاً «مجتمع متخيّل»، لا يعترف بالمعطى الاجتماعي الذي سبقه، ولا يتأمّل كثيراً السياق الاجتماعي ــ السياسي، الذي يستنهض مثقفاًويدفن آخر· إنّها سطوة التجريد، التي تنشغل بوصف «المطلوب» وتهمّش أسبابه·
يحرّض «المجتمع النموذجي»، في أشكاله السابقة، على طرح السؤال التالي: ما هو المرجع الأساسي الذي ينتج مجتمعاً منهجياً يساكنه، أو يجاوره، مجتمع تقني، يأمره الحس السليم بأن يكون مجتمعاً قومياً موحّداً؟ يوكل الجواب المنطقي الوظيفة، أو الوظائف، إلى مرجع محدّد هو : الدولة· بل يوكل الجواب إلى دولة محدّدة، تتمتع بحكمة خاصة، تسوس أفراداً لا يقلون حكمة· فالصراع بين المجدّدين والقدماء، الذي اختار طه حسين التعليم حقلاً له، صراع داخل جهاز من أجهزة الدولة، والسياسات العلمية ــ التقنية لا ترى بمعزل عن الدولة وسياساتها وغاياتها، والوحدة بين شعوب منفصلة متناثرة، تحيل على السلطات السياسية ···ويصبح الأمر أكثر وضوحاً حال الاقتراب من وضع عربي لعبت السلطة فيه، ولا تزال، دوراً مقرّراً، في تقرير السياسات جميعاً، المدرسية والعلمية والأيديولوجية···
اقترح المثقف العربي التنويري مشروعاً صحيحاً مفترضاً «دولة مجرّدة»، تنقل المشروع من حيّز القوة إلى حيّز الفعل· ولأنّ الدولة المجرّدة، أو الدولة الحكيمة المنبثقة من إرادات حكيمة، لا وجود لها ، بدا مشروعه، في التحديد الأخير، مشروعاً طوباوياً، يتوق إلى مدينة فاضلة لا وجود لها· ربما اعتقد المثقف النهضوي، ذات مرّة، أنّه شخصياً «الدولة المجرّدة» المبتغاة، أو أنّه قادر على توليد الدولة التي يشاء، قبل أن تبرهن له «الدولة المشخصنة» أنّها لا تحتاج إلى الثقافة والمثقفين· أعاد مآل المثقف المخفق تأويل مشروعه، مستبدلاً بـ «قوة المعرفة» قوة السياق، ذلك أنّ صعود المثقف، كما أفوله، يرتهن إلى شروط اجتماعية ــ سياسية تتجاوزه·
أراد المثقف أن ينفصل عن جماعة متخلّفة، وأن يقنعها بالانفصال عن ماضيها، متطلّعاً إلى زمن اجتماعي حديث· نسي المثقف أمرين: نسي أنّه محصلة لشروط اجتماعية تظل ممسكة به، حتّى لو توهّم غير ذلك، ومثال ذلك إطلاقية موسى الذي اعتقد أنّه قطع مع التصوّر الإطلاقي الموروث· ونسي أيضاً أنّ المعرفة علاقة بين علاقات اجتماعية أخرى، فقد يصبح الجامع جامعة، في شروط محدّدة، وقد تصبح الجامعة جامعاً في شروط مغايرة· ذلك أنّ معنى النص يصدر عن العقل الذي يتعامل معه، وأنّ العقل يتصرّف بالرسائل الفكرية وفقاً لما تعلّم واعتقد·
عناصر ثلاثة أقنعت المثقف المستنير باقتراح مشروع اجتماعي: الإيمان بقوّة المعرفة الحديثة، إيمان المثقف بدوره النقدي، وفتنة الآخر المنتصر التي تغوي بالمحاكاة· والغائب بين هذه العناصر هو «الدولة المستنيرة»، والحاضر أكثر هو ثقل التاريخ الموروث، الذي يتيح للأموات أن يسيروا فوق الأحياء· ولعلّ هذا النسيان المتعدّد الأبعاد هو الذي أزال الفروق بين طموح التنوير ومنطق الحكاية، مصيّراً ما هجس به طه حسين وغيره إلى حكاية منطوية تؤنس ما سبقها من الحكايات الفاضلة·
احتقب منهج الدكتور طه، كما غيره، حكايتين: حكاية خارجية عن الشخص الذي زهد بالقدماء وأقاصيصهم والتمس درباً جديداً، وحكاية داخلية تحايث المنهج الذي يريد أن يصل إلى غايته سليماً· يتراءى المنهج جزءاً من السيرة الذاتية، وتتراءى السيرة جزءاً من المنهج· والسؤال المنتظر: ما حدود الذاتي والموضوعي في مسار معرفي يبحث عن الحقيقة؟ يمس السؤال طه حسين وكل مثقف يضيف إلى «المقولات العقلانية» شغفاً لا يمكن التحكّم به· كتب جان بول سارتر في «أسئلة عن المنهج» عام 1960: «إنّ نظرية المعرفة الوحيدة الصالحة اليوم، هي تلك التي تتأسّس على الحقيقة التي تقول بها الفيزياء المكروية: يشكّل المجرّب جزءاً من النظام التجريبي: إنّها النظرية الوحيدة القادرة على استبعاد الوهم المثالي، والوحيدة التي تظهر الإنسان الحقيقي في وسط العالم الحقيقي» (12)· ما قال به سارتر في شرط أوربي، اقترب منه طه حسين في زمن عربي، ولما اعتقد به الطرفان لمع حيناً ثم فارقه البريق· (13)
المراجع
1- F.Alquié: Descartes, L.homme et l.oevvre, paris, Hatier, coll , «profile série philosophique». 1988.
2- حسين : في الأدب الجاهلي ، دار المعارف، 1964 ، ص : 14.
3- ع السابق، ص : 67 ·
4- مة موسى: ما هي النهضة ومختارات أخرى، موفم للنشر، الجزائر 1987 ·
5 – Diminique Lecourt; Prométhé, Faust, Franknsteian. Livre de poche paris, 1996 , p : 9.
6- أيوب أبو ديّة: سلامة موسى، من روّاد الفكر العلمي العربي المعاصر دار ورد، عمّان، 2005 ، ص : 49 ــ 62 ·
7. رجع السابق، ص : 50
8. ل الكاملة لساطع الحصري ، القسم الثاني، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1985 ، انظر الصفحات التالية : 11 ، 45 · 95 ، ····
9- صري، ص : 104
10 – H. Arendt: condition de lhomme moderne. AGORA – pocket, 1961 , p : 59 – 70
11 – AUTOPIE : imaginaires européens, lHarmattan , Paris, 2002 , études réunies et presentées par : p – augusti Augustin et B. cou lie, p, 31 – -52
12 – J.P. Sartre: Questions de méthode edition tel galli mard, 1960, p: 34
13 – B. Clément Le récit de methode, Seuil, 2005 , p . p: 35 – 74
فيصل درّاج ناقد واكاديمي من فلسطين