نبيل منصر
عاد محمود درويش، في ديوان “أحد عشر كوكبا” (1992)، إلى قصيدته مُحمَّلا بتجربة الزمان. إن تطوافَه الشعري، الذي كان قد أكملَ، حتى ذلك الوقت، ثلاثة عُقود من الكتابة والترحُّل والانغراس في أرض الشعر المتحوّلة، جَعلَ صوتًا عوليسيًا ينبثقُ من أعماقه الميثولوجية، مُحمَّلا بأعباء عَودةٍ تَكادُ تَكونُ مُستحيلة إلى إيطاكاه الفلسطينية. صوتٌ لا ينفصل، في مأساويته الهادئة، العميقة الجذور في الذات الكاتبة، عن صوت الشعر، الذي يَرى ويُحوّلُ ما يراهُ، بحواسّه المُتوترة، إلى مُغامرةٍ في الكتابة المُنصتة، المُتعدّدَة الأصداء والترديدات. إنَّ تَرجيعات هذا الشعر، تتجاوز أمكنة انبثاقه، لأنها تَنغرس في عُمق مُكابدات التجربة والمُتخيَّل الإنساني.
هذه التجربة في الشعر، دَفعتْ بدرويش إلى تَغيير مكان الالتزام. فهو لَمْ يَعُد يَجدُ في الشّعر تَعبئة للتغيير وعُنفه “القرباني” المُضَحّي باللغة، بلْ أصبح يَجد في اللغة الشعرية ذاتها التزاما، تتعانَق فيه أشواقُ الشعر ووعودُه الرؤيوية، المُنبثقة من أمكنة مُتعدّدة في الرُّؤية للذات والعالَم. صار الالتزامُ شعريا، يَسعى إلى تكسير شَرنقة الواقع، دون التَّحوُّل إلى علامة هرمسية، تائهة في العالَم. إنجازٌ حَققتْهُ تجربة درويش من خلال تفاعلها مع التجربة الكونية، وعبر التفاتةٍ لتاريخها الشخصي، تَجعلُها مَوسومَة بأُورفية مُمَيَّزة، بحَيث لا تَستعيدُ مَوضوعَها إلا عَبر فُقدانه. بهذا المعنى، يَتحقَّق في تجربَة درويش مَلمَحٌ مُضاعَف لمأساوية الكتابة، فهي لا تُقاوم فَحسب علامات الأسلاف والمُعاصَرين، بل أيضا علاماتها الشخصية، المَسنودة برهانات الذائقة العامَّة، فيما هي تبني بالنّسيان وعبر “أشيائه الفردوسية” ذاكرتَها الثقافية الفعّالة.
في “أحد عشر كوكبا” يَترسَّخ أكثر هذا الملمَح “المأساوي”، الذي ظلَّ يَعملُ بصمت في تَجارب درويش السابقة، إلى أن أعلنَ عن نَفسه بقوة كتابية في ديوان “ورد أقل” (1986). لَمْ يَعُد محمود درويش يَستسلم لـ”شرنقة” اللحظة “الواقعية” بترجيعاتها الخارجية، وإنما يَزدادُ انشدادًا لـ”انتفاضة” شعرية داخلية، جَعلته يُكابد بقوةٍ لرؤية ما يُريد (ديوان: أرى ما أريد/ 1992). إنَّ إرادة القول الشعري، سَتتَّجهُ هُنا إلى استعادة داخلية لموضوعها المفقود، عَبر تجديد أدوات الرُّؤية إليه أساسًا، وتَحويل اللُّعبة إلى أرض اللغة وبناء المُتخيَّل الشّعري. وهُنا، سينبثقُ التزامُ اللغة الشعرية، التي يَتعينُ عليها أن تخلُقَ ذاتَها، في الوقت الذي تُعيدُ فيه خلقَ مَوضوعها الشعري.
استعادةُ “الموضوع” تَتم عبر خَلقه من جديد. ما من هبات في هذا الطريق إلا ما كان مُكابدة وعُكوفا مادّيا وانحناء على كتابة تُبدعُ لُغتها وشكلَ حُضورها في العالَم. مُكابَدة تَعي مَسؤولية تحرير أعباء الصوت العام عبر الالتزام بأعباء الشّعر وأدواره التحويلية، التي تتَّجهُ نحو هَدْم الحدود، والانبثاق المُشعّ من أعماق الذات الكاتبة. بهذه الأعماق، يَلتئمُ الحَدث التاريخي في “أحد عشر كوكبا”، ليتحوَّل إلى “تجربة الزمان” مُخترَقة بصوت الشّعر ومُوجَّهة بقوَّته في البناء وتَشكيل المُتخيَّل. إنَّ المكان الفلسطيني، في هذه الكتابة، سَينهضُ من حُطامه الشخصي، ليَشعَّ عبر لا نهائية العلاقة، التي تقترحُها تجربة محمود درويش في تَشييداتها الشعرية الجديدة، بتقاطعاتها الثقافية الكونية بالغة السَّخاء والخُصوبة.
يَمضي محمود درويش، في “أحد عشر كوكبا”، بهذه التقاطعات إلى زَخمها الشّعري، التي يَتخلَّق عبرها الموضوع الفلسطيني في إهاب جديد هو إهاب “الجُرح الإنساني”، الذي لا تَنفصلُ فيه مأساةُ كتابته العربية، عن مآسي الاقتلاع والتهجير، التي ظلتْ علامتُها مَبثوثة في الأرض والتاريخ والأسطورة. اقتلاعٌ يَتمُّ تَحسُّسُه عبر لغة الشّعر، ذات المجسات النفَّاذة، القادرة على التسلُّل إلى مَراتع العيش والمُتخيَّل الدفينة، وتَحويلها إلى علامات لتوَهُّج الرُّوح المُستعصية على كل السُّلط والانجرافات. بهذا المعنى، كافحَ محمود درويش شعريا، في هذه التجربة، من أجل “السطوع”، من خلال سَبْرٍ مُتواصل للأسماء والعلامات والانبثاق من الشخصي فيها. أليس”الروح حفَّارا”، كما يؤكّد ياكوب بوركهارت بعبارته النبوئية؟
يَسبر درويش العلامات، مُحوّلا “تجربة الزمان” إلى تَجربَة في الشعر المُنصت إلى بُرهَته الوجودية، المَشدود بقُوة إلى اختراقات عمودية في تاريخه الثقافي البعيد. لذلك، تَنفصلُ الذاتُ عن مُقاومتها الغنائية السهلة، التي كانت تَسْعى إلى مَوضوعها كقيمة خارجية، لتلتَحمَ بتاريخ ذاتيتها المُثقفة، التي يَنطلق فيها السَّبرُ الشعري، ليس فحسب من اعتبار “الكلمة رمزا للتجربة الإنسانية”(1)، بل أيضا من كونها تأمل دائما “بالكلام نيابة عن الغريب”(2). وليس الغريبُ هنا ذلك الذي يُجاورُنا أو يُناصبُنا العداء ويَحمل لنا التَّهْديد فَحسب، بَل ذلك الذي يَسكُننا أيضا.
تَبني الذاتُ الشاعرة في “أحَد عشر كوكبا” أربعة أمكنة لسَبر العلامات وبناء المُتخيَّل، هي: المكانُ الأندلسي، المكانُ الهندي (نسبة للهنود الحمر)، المكانُ الفلسطيني والمكانُ العراقي. أمكنة تلتحمُ بها الذاتُ الكاتبة، لتنسجَ من خُيوطها المُرهَفة تاريخ ذاتيَتها المُثقفة والجَريحة. أمكنة مُتعددة، تَستنطق الذاتُ عَلاماتها المَمحوَّة لتنسجَ عبرَها ما اخترمَ من تجربة الزمان، التي تجعلُ للجرح الفلسطيني أخوات شعرية في مُشترك التجربة الإنسانية. ولا تَستدعي قصيدة درويش هذا المُشترَك من موقع إسقاطي (سياسي)، بل من مُنطلَقٍ شعري يَستنطقُ المُفتَّت والصامت الذي بَنَى فُسحَة للعيش والمُتخيَّل في تَجربة إنسانية، مثلما تَكشَّفَ عن تَهديد حَوَّلَ علامات الرَّغد والدّعة إلى أثَر للدَّم والخراب. إن الصوت العوليسي، في الديوان، لا يَبني خطابَ عَوْدَته إلا عبر نَبش هذه العلامات، التي تَنبثقُ من داخلها غنائية جَريحة، مُحمَّلة بتجربة الزمان.
1. أمكنة الذاكرة ودوال الزمان
أمكنة درويش تَبني ما تَحلَّل في الذاكرة، وتَنهضُ شعريا من انحلال تَداعياتها(3). لذلك، فما من نَسَقية مَشدودة إلى قُوَّة المَرجع وسُلطة التاريخ. إنَّها أمكنةٌ يَكتُبُها الشّعرُ لحسابه الخاص، مُستَنهضا ما تَرسَّبَ في أغوارها من ملح: فإذا كان الروحُ حفَّارا، فإن الشاعر “من رُعاة الملح في الأغوار”(4). ذلك ما تُؤكّدُه قصيدة درويش، وهي تَجعلُ من “الملح” دالا إيقاعيا، يَسري أثرُه في نَسيج التجربة الشعرية، المأخوذة بنداءات “الأغوار” المالحة. إن “الملح” هو ما يَبقى من تداعي هدير الزمان، في التجارب الأساس، التي تَغنَّى بها الصوتُ العوليسي، في “أحد عشر كوكبا”، ناشدًا حدادًا مُستحيلًا أيضا.
تَداعي أمكنة الذاكرة، في تجربة درويش، غير مُنفصلٍ عن وَعي مَأساويٍّ بالتمزُّق. ثمة اخترامٌ مَسَّ تجربة الزمان واللغة التي تكتُبُها. إنه اخترام مُضاعَف، يَجعل التأويل الغنائي لمزَق التاريخ لا يَقَع إلا ضمن الأخدود “المالح” للجُرْح. إنه أخدود “الزمان” و”اللغة” وما يَنهضُ بينهُما من “هواء”، تَتنفَّس القصيدةُ أحاسيسَه غير القابلة للرَّتق. تنفُّسٌ فجائعي يُقاوم الكتابة، فلا يَتهيأ لها، إلا تمزُّقا غنائيا، النهوضُ بأعباء حدادها المُستحيل. لذلك، ما يَفتأ الشاعرُ يَتساءَل، من قلب هذا التَّمزُّق، بأكثر من صيغة: من يَحملُ الآن عبْء القصيدة عَنّا؟(5). وغَيرُ خافٍ، ما يَنطوي عليه دالُّ الصيغة الحاضرية “الآن”، من ديمومةٍ يَتوهَّجُ جُرحُها المُتسائل في كل حاضر جديدٍ.
تَتواترُ دوال الزَّمان في تَجربة محمود درويش. تواتُر يَتحقُّق دوما عَبر وعي التمزُّق. تَمزُّق يَسري في كل الجهات، فلا يَظفر منها الشّعرُ بغَير مَأساة كتابَته، المُقاومة للمَحو والاقتلاع ولصَمْت العلامات ذاتها. إنَّ ما يَنْهَضُ من تَداعيات هذا الزَّمان يَنهض مُمَزَّقا ومُمزِّقا في آن، ما دام يَستعصي على الالتئام في كتابة انتصارية، تتجاوزَ مآزق اللحظة الوجودية، بثقلها التاريخي المُمتد:
“عبثا يَستديرُ الزمانُ لأنقذ ماضيَّ من بُرهَة
تَلدُ الآن تاريخَ منفايَ فيَّ…”(6)
ثمَّة “عَبَثٌ” يَخترقُ الفعلَ. فكُلُّ التفاتةٍ للزمان لا يَترتَّبُ عَنها سوى الفَقد والتَّلف. التَّمزقُ الأورفيوسي هُنا، لا يَجعَلُ مَوضوعَ الرغبة يَنفلتُ، بل يَحملُ معه أيضا انفلاتَ الذات نفسها، فلا تعودُ سَيّدة قَدَرها وقرارها. يَنفلت المَوضوعُ، فَتهيمُ الذاتُ في تَيهها الشَّخصيّ، ما دامتْ تفتقد للعلامات المعيارية. إن التأويل الغنائي لهذا الفَقد المُضاعَف، يَجعَلُ الصَّوتَ العوليسي مُتصَدّعا، لا يَرتبط بمُكابدة عَودة مُتعذّرة فحسب، وإنما يَحملُ أيضا بداخله، أينما حَلَّ وارتحلَ، تاريخَ مَنفاه. إنَّ ما كان أمَلا بالعَودة، يَستحيلُ ضياعا مُؤكَّدا، تَرتجُّ معه أركان الذات، ويَنفتحُ بداخلها سردابٌ للمنفى، فلا تعودُ رؤيتُها للعلامات مُحصَّنة دائما بالدّعة والسّكينة.
إنَّ قلقَ الكتابة وهي تقاومُ تَصدُّع الزَّمان وتَلاشي العلامات، يُصبحُ جُزءا من مُتخيَّل الكتابة وتراجيديتها في “أحد عشر كوكبا”. هذه الكتابة، التي تَستدْعي أمكنَتها من داخل تَمزُّق الصوت العوليسي، وهو يَعيشُ تجربة ضياع العلامات والحَنين المُتواصل إلى التئامها المُستحيل. إنَّ قلقَ التأويل الغنائي لتجربة التصدُّع: “مَن يَحملُ الآن عبءَ القصيدة عنا؟”، يَتَّخذُ صيغَا مُتعدّدة، في مُكابدة تراجيديَّة الكتابة، التي كثيرا ما تَتلبَّس بمَلفوظات التَّجربة:
“كيفَ أكتُبُ فوق السحاب وصية أهلي؟ وأهلي
يَتركون الزَّمان كما يَتركون مَعاطفَهم في البيوت، وأهلي
كُلَّما شَيَّدوا قلعة هدَّموها لكي يَرفعوا فوقَها
خيمة للحنين إلى أوَّل النخل…”(7)
إن مَن “يَحملُ عبْءَ القصيدة”، هو الصوت الذي يَتساءل الآن: كيف أكتُب؟ تَساؤلٌ يَستبطنُ تساميه الغنائي المُمزَّق، لأنه يَقترنُ بتدوينٍ مُستحيل. تَدوين يَحملُ بداخله تلاشيه، مادام يَقعُ على سَند “السَّحاب”. ثُم إنه أيضا تدوينٌ يُكابدُ تَساميه المُمَزَّق، عبر التحوُّل المُستحيل إلى كتابة إلهية، تُذكّر بقوس قُزح، حيث يَتوهَّج العَهْدُ الإلهيُّ الذي عَمَّ بمَوجبه السَّلامُ على “أحفاد نوح” بعد الطوفان. إنَّ الوعدَ الشّعري، الذي يتوهَّج خلف هذه الرغبة المُستحيلة، يَبقى وَعدا غير مُنجَز، ما دامتْ “وصيةُ الأهل” لن تَعثُر على سَندها القوي، المُتسامي. لَنْ تعثُر عليه، إلا في تَلاشيه القائم على تأويل غنائي، يَسعى لرَتق ما لا يَقبلُ الرَّتقَ.
تلاشي علامات الكتابَة مَوقعٌ لكتابة المُهدَّد بالتلاشي. إنَّ العلاقة الهَشَّة بتجربة الزمان، تَحفُر بالمكان أخدودا عميقا للتصُّدُّع والتيه. هُنا “الوصية” (الإرث الرَّمزي الجماعي) لا تُكتَب، ما دام المَحوُ لا يَمسُّ فحسب علامتَها المُتلاشية، بل يَمَسُّ أكثر العلامات المعيارية، التي تَمنحُ “الأهل”، الذاتَ الجماعية، القومية، رُسوخا وقوة. إنَّ استخفافَ هذه الذات بتجربة الزمان، وَعدمَ وَعيها بالراسّخ في تقلُّباته، يَجعلُها ضَحية سَهلة، لا تَنهلُ ممَّا ترْشَحُ به الشعرية العربية القديمة من التماعات الحكمة، بل تَتلاشى مُنفصلة عن مَواطن قوَّتها الرمزية. إنَّ الزمانَ، في هذا التمثل المَأساويّ المُنقطع عن جُذوره، ليس أكثرَ من “معطف” يُخلَع بخفة، وليس مكانا للفعل والتأمُّل وَرَصْد الآثار.
يُستَتبَعُ الاستخفافُ بالزَّمان، تفريطا سَهلا في علامات القوة. تاريخُ “الأهل” مُخترَق بهذه السُّهولة المُنهكة للجذور، والمُصدّعة لعلاماتها على الأرض. فإذا كان دال “القلعة” يتوهَّج يإيحاءات القُوَّة والمَناعة، في سياق التشييد، فإنَّهُ يَهوي إلى دلالات الضعف والاستباح في سياق الهدم. وليس بين السّياقين حَيّزٌ زَمني للفعل والاعتبار. فالأهل: “أهلي كُلَّما شيَّدوا قلعَة هدَّموها، لكي يرفعوا فوقَها خيمة للحنين”. دال “القلعة” هُنا يتواشَج دلاليا مع دال “الزمان”. فالزمان يصبحُ، في هذه الصيرورة الدلالية، “معطفا”، بينما القلعة تَصيرُ “خيمة”، يَحملُها الأهل على أكتافهم مثل “المعطف” ويَرحلون. تَهتزُّ أمامَهم العلاماتُ المعيارية، فيستسلمون للتَّيه والحنين.
الشّعْرُ يَكتُبُ تجربة الاقتلاع، ويُفرز بداخله، في آن، خُيوطَ مُقاومَتها. إن الصوتَ العوليسيَّ المُمزَّقَ بعودته المُتعذّرة يَبقى مسكونا بالأمل. وليس التأويل الغنائي لهذه التجربة إلا تجليا لهذا الأمل الوعر، المُستعصي. إنه نَوع من الأمل “اليائس”، الذي يَسري في خطاب الشّعر، فيكونُ لَه مَفعول الفارمكان في خطاب شاعر “الإلياذة”. الصوتُ العوليسي في تجربة محمود درويش، يَمضي مُحمَّلا بحُطامه الذي يَنطوي على التماعات المُتخيل، المُشعَّة من أمكنة ثقافية مُتعددة:
“ليَ خلف السَّماء سَماءٌ لأرجع، لكنَّني
لا أزالُ ألمّعُ مَعدنَ هذا المكان، وأحيا
ساعة تُبصرُ الغيْبَ. أعرفُ أنَّ الزمانْ
لا يُحالفُني مَرَّتين، وأعرفُ أنّي سأخرُجُ من
رايَتي طائرا لا يَحُطُّ على شَجَرٍ في الحديقةْ
سوفَ أخرُج منْ كل جلدي، ومن لُغَتي “(8).
كثيرا ما يَتوسَّلُ الصوتُ العوليسي، في “المشهد الأندلسي” بكواكبه (مقاطعه) الأحد عشر، بضمير المتكلّم. لكن “الأنا الملفوظة في قصيدة غنائية لا يُمكن أن تَتحدَّدَ بشكلٍ حاسم بأنا الشاعر” . افتراض غادامير هذا، يُسعفُنا على القول: “إن هذا الأنا ليس الشاعر فقط، بل إنه “ذلك الفرد” (كيركغارد) الذي هو كل واحدٍ منّا”(9). إنه الأنا، الذي يَنبثق من هذا التفرُّد الغنائي، المُمَزَّق، ليكتُب وَصية “الأهل” المُتعذّرة.
مرة أخرى، يَرفعُ الصوتُ العوليسي حُطامَه باتجاه “السماء”. إنه الحنين، يَستقرئ علامات الأرض المَمحوة، وعينُه على السماء: مكانُ الرجاء وقراءة كلمة “الغيب”. ما من “وصيةٍ” تُكتَبُ “فوق السحاب” (الكتابة الإلهية/ قوس قزح)، تُلهم “الأهل”، وُتقودُ خُطوتَهم على الأرض، لكنَّها رُؤيا نفَّاذة، تَخترقُ السماء الأولى، لترى خَلفَها ما يَجعلُ الذات تحيا “ساعة تُبصرُ الغيب”. الزمنُ الشعري عندما يَتدثَّرُ بالرؤيوي، فإنه يَخترقُ الزمن الطبيعي، ليُصبح أكثر عُمقا وامتدادا منه. يَتكئ الصوتُ العوليسي على هذا الزمن، مُخترقا الحُجُب، لتلميع علامات المكان الممحوَّة. علاماتٌ تنهض بفعل أثَر الروح الحفَّار. وصيغة “لا أزال” لا تُضفي على فعل “التلميع” بُعد الامتداد، بل تَجعلُ منه عَملا يَتَّجه إلى العُمق. وليس اقترانُه بدال “الغيب” إلا تأكيدا لهذه الدلالة الاختراقية. إنَّ أفعالَ الخروج مُتعدّدة، وهي لا تَمسُّ الجوهري في العلامات المعيارية فحسب (الراية)، بل تطول مُقوّمات الوجود ذاته: اللغة والجسد. إن تقلُّبَ تجارب الزمان (الزمان لا يُحالفني مَرَّتين)، يُحمّل الذات محنة أفعال الخروج، التي يَنهضُ منْ تداعياتها “طائرُ” الشّعر، مُتغنّيا بحُرقة الكيان المفقود.
تكتُب الذاتُ حُرقة هذا الكيان، مُؤكّدة اخترامَ تجربة الزمان العربية. فالصوتُ العوليسي ما فَتئ يُؤوّل غنائيًا هذه التجربة، ناسجًا مُتخيَّلها المُمزَّق بين ماض مَفقود وحاضر مُصدَّع، يَفتقد إلى العلامات المعيارية. إنَّ “التيه” هو الدَّال الإيقاعيُّ لهذه التجربة، الذي تُقاوم القصيدة لكتابته وابتعاث بعض العلامات المُسعفة على تَجاوُزه. علاماتٌ لها أساس في اللغة الشعرية ذاتها، التي تَمتصُّ أنساغا مَنسية من رَغد العيش ودعة السكينة ومُتخيَّل السرور، يَحفَل بها الصوتُ العوليسي، كُلَّما ضاقتْ به السُّبُل واخترَم الزمانُ مُمعنا في هوَّته السحيقة، المُنفصلة عن الحاضر. إنها صيغةٌ أخرى للحنين، الذي ترفُضُه التجربة حينا، مثلما تَسْتسلمُ له في أحيان أخرى، فيما هي تلتفُّ حول اسمها الشخصي، مُبتعثة ما يَنطوي عليه من أصداء.
2. تجربة الزمان والتأويل الغنائي
لا يكتنهُ محمود درويش “التاريخ” في “أحد عشر كوكبا”، إلا عبر تجربة الزمان التي تسكُنه. اكتناهٌ يَنسَجُ مُتخيَّله تأويلٌ غنائي يَغتَني الشعرُ بتوهُّج علاماته. ويُصبحُ الخطابُ الواصفُ، المُؤشّر على هذا التاريخ، جُزءًا من تَوهُّج النَّسيج الداخلي لهذا المُتخيَّل. إنَّ إرادة الشّعر، في هذه التجربة، تَتجهُ لابتعاث علاماتٍ مَمحُوَّة من هذا التاريخ، تسنُد الصوت العوليسي في عَودته المُتعذّرة. الخطابُ الشعريُّ الواصف لا يَحمل إذنْ علامة التاريخ، إلا مُخترَقة بتجربة الزمان. علامةٌ تُكتَب من زاوية فعل “الرّواية” وما يَترتَّبُ عنه من سُلطة التسمية:
“ما قيمة المرآة للمرآة؟ لي وَجْهٌ عليكَ، وأنتَ لا
تَصحو من التاريخ، لا تمحو بُخارَ البحْر عَنكْ
والبَحْرُ هذا البحرُ، أصغرُ من خُرافته وأصغَرُ من يَديْكْ
هو بَرزَخُ البلُّور، أوَّلُه كآخره، ولا معنى هُنا
لدخولك العَبَثي في أسطورَةٍ تَركتْ جيوشا للركام
ليَمُرَّ جَيْشٌ آخرُ يَروي روايتَه ويَحْفر لاسمه
جَبلا، ويَأتي ثالثٌ ويَخُطُّ سيرةَ زَوجةٍ خانَتْ، ويَمحو رابعٌ
أسماءَ من سَبقوا. هُناكَ لكلّ جيشٍ شاعرٌ
ومُؤرّخٌ، ورَبابةٌ للراقصات السَّاخرات من البداية والختام..”(10)
يتَّصلُ المُنادَى في النص بالأب (يا أبي/ ص54)، الذي سَينفتحُ درويش أكثرَ على بناء مُتخيَّله، مَوصولا بسيرة المكان الأول وأيقوناته الصغيرة(11). مُنادَى تحتمي به الذاتُ من “الغريب”، الذي جاء مُحمَّلا بشريعة القتل والوراثَة ( “أأتيتَ …ثم قتلتَ…ثم ورثتَ، كيْ يزدادَ هذا البحرُ ملْحا؟)(12). غيرَ أنه احتماءٌ لا يَخلو من لَومٍ، يَجعل وراثة المأساة لا تخلو من تَوتُّر. إنَّ تجربة الزمان، تجعلُ اللومَ يَذهبُ في اتجاهٍ آخرَ لقراءة المسارات وتأويل علاماتها التاريخية والجغرافية والثقافية. الأبُ “مرآة” لابنه، الذي يَحملُ عنه الآن “عبءَ القصيدة” ولوعةَ الزَّمن المُعتَمل بأغوارها، لكنَّ الشاعر يتساءَل بحُرقة: “ما قيمة المرآة للمرْآة؟”.
في مرآة الأب، يَنعكسُ “وجْه” الابن. وراثةُ الوجه وراثَةٌ لمأساة الهوية، في امتداداتها الوجودية، وثقلها التاريخي. إن عبارة “أنتَ لا تصحو من التاريخ”، تُكثّفُ هذه الوراثة المأساوية التي تلتزمُ الذاتُ بكتابة “وَجهها” الشعري. التزامٌ يَتمُّ من داخل “رؤيا” الشعر وبَصيرَته النفَّاذة، المُختَرقة للحُجب. تاريخ لا يبقى منه وفق هذه الرؤيا، سوى: تجربة الزمان، التي يُؤوّلُها الشعر غنائيا. ثم، تنتقل حَركةُ المَعنى من دالّ “المرآة” إلى دال “البحر”، المرآة الكبيرة التي يَرى فيها الابنُ وجهَه، الذي هو وَجهُ أبيه في آن واحد. ثمَّة “بُخار” يَصعدُ من هذا “البحر”، تمحوه يَدُ الشاعر لتظفَر بحصَّتها الرُّؤيوية. وليس المحوُ هنا إلا كتابة (قراءة) شعرية مُتبصّرة لما يَنهَضُ وراءَ دالّ “البُخار” من اعتمالات تاريخية، مُختَرَمة بتجربة الزمان.
يَغرقُ “وجهُ” الأب في مرآة هذا “البحر”، وتمتدُّ يَدُ الشاعر “الابن” لانتشاله. (إنه غرقٌ في نمط من المُتخيَّل). لا يَحضُر البحرُ هنا بوَصفه طوبوغرافيا طبيعية، بل مَرتَعا لأفعال التاريخ والمُتخيَّل، يَقودُها إنسان الإرادة والحُلم. وتتَّجهُ إرادة الشعر في عمل درويش لإعادة رَسْم وَجْهَ هذا البحر، الذي تعاظمتْ صورتُه في مرآة إرادات القوة، التي هيمنتْ عليه ورسمتْ أقدارَه وأقدار الإنسان المُتَّصل به. إن مجازَ هذا البحر أكبَرُ من حقيقته، وهو بالتالي “أصغرُ من خُرافته”، التي نَفختْ فيها إرادات القوة، المُؤثرة فيه. الشعرُ يُعيدُ النظر في المُتخيل البحري المُهيمن ببناء مُتخَيَّل مُضاد، يستَندُ إلى إرادة قُوَّة أخرى، أصابَها الوهَن، لكنَّها لَم تَفقد عُنصُر المُقاومة. إنها واحدة من اللحظات الانتصارية القليلة، التي ينعَمُ بها الصوتُ العوليسي في التفاتته إلى ماضيه الشخصي. فهذا البحرُ “أصغرُ من خُرافته وأصغَر من يديك”. إنسان هذا الماضي الشخصي “الأب” أكبر من البحر وما نُسج حوله من مُتخيل. يبني الشعرُ هذا المعنى، مُرَكّزا على دال “اليد”، بطاقته الإيحائية التحويلية، القادرة على الفعل في أحياز الطبيعة وما تَستضمرُ أو تُحفّز من مُتخيَّل.
إن الخروج من “خرافة” البحر هو خُروجٌ من نسيجه الميثولوجي. هو أيضا خُروجٌ من سَرديات النصر والهزيمة، لأنها مُدونة من قبل إرادات قوة تَحترفُ النفخَ في خطاب التاريخ ومَروياته. كلُّ إرادة قوة (دالُّها الصريح: جيش)، تُمارسُ المَحوَ وإعادةَ التدوين: فتكتُب روايتَها الجديدة، نافخة في اسمها ليصيرَ “جبَلا”. وبين هذه وتلك، يَنتسجُ “صَخبٌ” يُريدُ أن يَقعَ تحت علامة التاريخ، فيما هو يُشوّهُه عَمْدا لمَصلحة الرُّواة الجُدُد. صَخبٌ يَتغذَّى على الشائعة والاختلاق والإزاحة، لتؤسّسَ عليها إرادةُ القوة الجديدة شَرْطَ بقائها وهيمنتها. هكذا، يَختزلُ الخطابُ الواصف، في الشعر، قانون كتابة التاريخ: “لكل جيش شاعرٌ/ ومؤرخ، وربابة للراقصات الساخرات من البداية والنهاية”.
الخروجُ من خُرافة “البحر” هو أيضا خروج من خرافة “التاريخ”. الشعر ينهضُ بخطابه ناشدا “حقيقته” الشعرية، المُتَحررة من الحمولات المُتعدّية المُغرضة، بما فيها تلك التي تنتسب للشعر لتخدمَ إرادة خارجة عنه. إنه نوع من “التفكيك” الشعري، الذي تمارسُه التجربة الشعرية، من أجل إعادة تملُّك الأشياء والكلمات وما يَنتسجُ بَينهُما من صلاتٍ تَبْني المُتخيَّل. إعادةُ تَملُّك: الوجه والمرآة والبَحر والاسم والشّعر والأب والأنا والتاريخ ذاته، لبناء مُتخيَّل شعري يَظفر فيه الصوتُ العوليسي بإمكانية التَّصالُح مع ذاته والتغنّي بلوعَة عَودته المَرغوبة. إن “ربابةَ الراقصات السّاخرات من البداية والختام”، بنهاية المَقطع السابق، تَفتَحُ فَجوة بداخل “التاريخ” الرَّسمي ذاته (من داخل ملفوظه)، لتفصحَ عن سُخرية مُوجَّهة ضدَّ كل إرادة قُوَّةٍ تَدَّعي كتابتها لـ “البداية والختام”. يَتقاطع هُنا خطاب “الرَّبابة” مع خطاب “الكمنجات” بنهاية قصيدة “أحد عشر كوكبا”، ليَجعل الحقيقة، تَتدثَّر عَميقًا بلوْعَة الغناء ونَشيد السُّخرية الرَّاقص.
قُوَّة الشّعر “التفكيكية” لا مَثيل لها. وهي، إنْ كانت تتقاطع مع قوة الفكر، فإنها تلتزم بمسافة كافية تُجاهَ أدواته. الشعرُ يَحفرُ في اللغة والمُتخيل، بما يُتيح له الانغراس في أعماق ميثولوجية رؤيوية نفّاذة، تنطلق من الذات وتفيض على العالَم. لذلك، تبقى كلمة الشاعر مُنتظَرة بقوة. وهي، تفسح لذاتها حيّزا للانبثاق من عُمق المآسي والمَضايق:
“ومَهما تَغيَّرَ دينُ الرواة، فلا بُدَّ من شاعر
يُفتّشُ عن طائر في الزّحام ليَخدشَ وَجهَ الرُّخام
ويَفتَحَ فوق السُّفوح مَمرات آلهةٍ عَبرتْ من هُنا
لتَنشُرَ أرضَ السماء على الأرض. لا بُدَّ من ذاكرةٍ
لنَنسى ونَغفرَ حين يَحُلُّ السلامُ النهائي ما بيننا
وبين الغَزالة والذئب، لا بُدَّ من ذاكرة
لنختار “سوفوكل” في آخر الأمر، كي يكسرَ الدائرة
ولا بُدَّ من فَرسٍ فوق ساحات هذا الصَّهيلْ”(13)
يَتَّسعُ دالُّ “الدّين” هُنا لمعنى ثقافي يَشمَلُ المُتخيَّل الميثولوجي. مُتخيَّلٌ يَمنحُ الشاعرَ حيّزا للكلام، يتقاطعُ في انبثاقه الحدثُ والأسطورةُ. يتلوَّن كلام “الرُّواة” بخلفيَتهم الدينية المُنفتحة، التي تتسع للميثولوجي في الزمن الهليني. خلفية تَجعل روايتهم للحدث مُخترَقة بخيال يتسع، في آن، لفعل الأبطال والآلهة وما ينتسج بينهما من صلات. رواية الشاعر تغتني بسردية هؤلاء الرواة الملحميين، الذين تتسع معهم أقدارُ الكلام وما يحمله من حقائق. قصيدة “سنختار سوفوكليس” تنحاز لهذه التجربة في بناء المعنى الشعري للتاريخ. الشاعرُ فيها بحاجة للاغتناء بما يُسعف على بناء تأويل غنائي للتاريخ، يتأسس عليه الصوتُّ العوليسي الباني للرؤيا الشعرية.
رؤيا الشاعر مُرتبطة بانبثاق “طائر في الزحام”. طائرٌ يَصعدُ من “المضايق” مُتغنّيا بما يَخترمُ خطابَ التاريخ من تجربة الزمان. هذا “الطائر” هو الذي يُترجم رواية الشاعر اللصيقة بالحدث والمشدودة إليه، في آن، بمسافة التعالي الكافية. إنه “طائر” الشعر، الذي يُعيد تملُّك “الحدث” عبر “خدش” عميق لما تصلَّب من دواله وارتفعَ إلى مقام التبجيل. تركيبُ “وجه الرخام”، يَكشفُ عن هذا التصلُّب، الذي يتخذ الشعرُ حيويتَه أساسا من “خَدْشه”. طائرُ الشّعْر يَصْعدُ من مَضايقه لمُمارسة هذا الخدش في “وجه الرخام”، لإعادة الحدث إلى ثَرائه الإنساني المُفعَم بتجربة الزمان. خَدشُ يكشفُ عن وَجه الشاعر الذي يَتَمرأى في لُغته ومُتخيَّله الشعري.
يَعقُبُ “الخدش” فَتحٌ لمُتخيّل إنساني يخترقُ “الحدث”، الذي تَحرَّرَ من تَصلُّبه (رُخامه). تَحرُّرٌ يوقظ عبْرَهُ “الطائر” إمكانات تَخْييلية خَصيبة، تُعيدُ الشعرَ إلى أزمنة الثراء الأولانية: “يَفتَحُ فوق السُّفوح مَمرّات آلهةٍ عَبَرتْ من هُنا لتَنشُرَ أرضَ السماء على الأرض”. تولَدُ “الأرض” من هذه “السماء” التي يَفتَحُها لها الشعر. يَستعيدُ الشعرُ أمكنتُه الأولى جاعلا الخطوةَ الإنسانية مُفعَمة بالإلهي، الذي طالما تَغنّى به الصوتُ الهوميروسي أو الهولدرليني. يُعانق درويش هذا الصوت لحسابه الخاص، جاعلا من الأخوة الشعرية مكانا لانبثاق الأساسيّ في الشعر. ذلك، ما تُفصح عنه عتبة عنوان القصيدة: “سنختار سوفوكليس”.
فعلُ هذا “الاختيار” يذهبُ في اتجاه بناء “ذاكرة” مُوسَّعة للذات. بها يَغتني الشّعرُ، فيما هو يُخصّبُ شجرة أنسابه بأنساغ ثقافية أخرى. الشعرية العربية الحديثة لا تَقفُ مُحايدة أمام الثراء الهليني، بل تتَّخذُ منه أحدَ مصادر تَوسيع الذاكرة، وإعادة ترتيب أوراقها وأولوياتُها، في سياقٍ انهارتْ فيه سُلطة “الإعجاز” الشّعري العربي. تُصرّحُ القصيدة، مُستلهمة هذا المفهوم المُختلف للذاكرة: “سنختار سوفوكل قبل امرئ القيس” (ص 64). القصيدة تحفرُ عميقا زمنَها الشعري، ليمتدَّ عموديا في أرض الشعرية الإغريقية. هذا الثراءُ يَحتاجُه الشعرُ العربي لبلورة تأويلٍ غنائيّ لتجربة الزمان. تأويلٌ يمارسُه الصوتُ العوليسي، وهو ينهَضُ بأعباء نَظرته لذاته وللآخَر فيه، في ضوء ما يَتطلَّع إليه من عَزاء.
لا يَتأسَّسُ “العَزاءُ” خارجَ مَفهوم الذاكرة الشعرية المُوَسَّعة. ثَراءُ هذه الذاكرة بما يَختلجُ في أعماقها من روافد المُتخيَّل، هو الذي يُحرّرُها من تَصلُّبها، مُحوّلا الشعر نفسَه إلى ضرب من العزاء المُحرّر: “لا بُدَّ من ذاكرة/ لنَنسى ونَغفر”. إن الشعر تأسيس لكينونة لا ترزحُ تحت أعباء ماضيها، بالرغم مما يَخترقها من تجربة الزمان. وذاكرة الشعر، تبقى “حاضريَّة” بما يجعل من الحاضر شَرْطَ تجديد هوية مُنصتة لزمنها. وليس “كسر” الدائرة الذي يتوهج دالُّه بنهاية المقطع السابق، إلا رفضا لانغلاق “الشعر” ولانغلاق كُلّ المفهومات المُسيّجة له: الذات، الماضي، الذاكرة، الهوية.
3. تَملُّك الرّواية: فتنةُ المُتخيَّل ومُقاومَة الاسْم
يَنسجُ دالُّ “الرُّواة” مَساراتٍ مُتوتّرة لتجربة الزمان في “أحد عشر كوكبا”، من زاوية مَكان الرواية. فانعطافاتُ المأساوي في هذه التجربة، مُرتبطٌ بتبدُّل أمكنة الرواية والإرادة الكامنة خلفها: إن الذات تعيش بامتلاء لحظات مُتخيلها المُفعَم بالحب، في صلة عميقة بالأرض، إلى أن يَأتي مَن يُدمّر سَرديتها الهانئة. قصيدة “سنختار سوفوكليس” تبني هذا المعنى، مُميّزة في صورة “الآخَر” بين مَن يُثري المُتخيَّل ومَن يَسعى إلى الاستيلاء على مَنابعه. لذلك، لن يكون هذا الآخرُ هُنا غيرَ “الغريب/ الغازي”:
“…كان فينا طريقٌ
وحيدٌ إلى الساحة القمرية، والليلُ لا ليْلَ فيه
سوى ثمر التوت، كان لنا قمرٌ واحدٌ في الكلام
وكنا رواةَ الحكاية قبل وصول الغزاة إلى غدنا…
فيا ليتنا شجرٌ في الأغاني لنُصبح بابا لكوخٍ، وسَقْفا
لبيتٍ، وطاولة لعشاء المُحبين…”(14)
يَتحَيَّزُ الفعلُ السردي “كان”، بضمير الغيبة أو المُتلفظ الجمع (كُنّا)، في ماض سعيد، تعتلي فيه العلاماتُ المُضيئة (القمر) أرضَ المتخيَّل وطريقَه. أرضُ المتخيل السعيد، لا تمدُّ بساطَها على “الأرض” فحسب، بل تعتلي مُتوهّجة في “قمر” الكلام. أرضُ المتخيَّل وملفوظُه مُندغمان في لحظة وجودية لها كلُّ امتلاء الكيان. على هذه الأرض، لا يتوهجُّ قمر الليل فحسب، بل توتُه المُترَع بإيحاءاته الإيروتيكية السَّارية فيه بصمت (التوت هنا هو ذلك القمر الآخر). إنها علامات فردوسية صامتة للسعادة الأرضية، التي كانت تتدثرُ بها الذاتُ في مَعيشها اليومي، قبل الانقطاع بفعل “وصول الغُزاة”. إنه شرطٌ “تاريخي” جديدٌ، له تبعاتُه الوجودية، التي يَتصدَّى لها الشعرُ، بفعل مُقاومَته الخاصة، التي لا تتنازَلُ عن الشّعري في أي مُقاومَة تتسمَّى باسمه.
يَمتدُّ فعلُ الغزو إلى “الغد”. إنَّه فعلُ لا يُغيّرُ، فحسب، شروطَ “الحكاية” (الرواية) في الحاضر، بل يَرهَن المستقبل (الغد) كذلك. لا يُهيئُ الغريبُ/ الغازيُّ للأرض روايتَه الخاصة فقط، بل يشرط، بذات الفعل، مُستقبلَها أيضا. لذلك، تكون مقاومة الشعر على درجة عميقة من الغور والاستشراف، الذي يمتدُّ لتحرير الكلمة وما ينبثق عن أغوارها من مُتخيَّل. تحريرُ المكان وإنسانه موصولٌ إذنْ بتحرير كلمته العميقة. يُبنى هذا المُتخيَّل بالانفتاح على آخَر شعري (سوفوكل)، يُعيد للأرض أعيادَ لقاء الإنساني بالإلهي في نفَس واحدٍ. على هذه الأرض، يتهيأ للشعر ما يَحلُم به من راسخ المُقاومة: “يا ليتنا شجر في الأغاني”. إنها أغاني “شجرة” الوجود الراسخة، في أرض اللغة الشعرية، التي تثمرُ إنسانيةً مُحبَّة، مضيافة، بابُها (بَيتُها) مُشرَعٌ على اللقاءات العَذْبة، التي تُؤَمّنُ شرطَ المحبة والبقاء، وليس الغزو والاجتثاث.
يَتوهَّجُ دال “الأيام” في قصيدة “سنختار سوفوكليس”. وهو لا ينسُجُ في القصيدة مُتخيَّل القُوَّة (الظفر)، الذي وَسَمتْه به الشعرية العربية القديمة، وإنما ينهضُ مُحمَّلا بتجربة الزمان الوجودية. لذلك، تأتي هذه “الأيام” هُنا مُمزَّقة بين رَغَد العيش واللحظات الوجودية الظافرة وبين لحظة الانقطاع، التي تحكمُ على نسيجها بالانخرام. ما يتمزَّق من نسيج “الأيام”، تُقاومُ القصيدة لبناء مُتخيَّله، على نحو يُتيحُ للصوت العوليسي، الذي يَخترق التجربةَ الشعرية، النهوضَ من حُطامه، والرؤية إلى ماضيه في نَوع من صَحوة الوعي:
“وأيامُنا تلك…
تَنسلُّ خَيطا خيطا، ونحن الذين
نسجنا عباءَة أيَّامنا. لم يكن للآلهة دورٌ
سوى أنها سامَرتْنا، وصبَّتْ لنا خَمرَها…
تلك أيامُنا
تُطلُّ علينا لنعطَش أكثرَ.. لَمْ نتعرَّفْ على جُرْحنا في
زحام الجروح القديمة، لكنَّ هذا المكان- النزيفْ
يُسمَّى بأسمائنا. لم نكن مُخطئين لأنا وُلدنا هُنا
ولا مُخطئين… لأن غزاة كثيرين هَبُّوا علينا
هُنا، وأحبُّوا مَدائحنا للنبيذ، أحبُّوا أساطيرَنا
وفضَّة زيتوننا. لمْ نكن مُخطئين لأنَّ العذارى
على أرض كنعان علَّقن فوق رُؤوس الوعول
سَراويلَهُنَّ، ليَنضَجَ تينُ البراري ويَكْبُر خوخُ السهول”(15)
يَتصلُ دالُّ “الأيام” بذاتٍ جماعية: “وأيامنا تلك”. يَحتلُّ مَرَّة هذا الدالُ مَوقعَ البُؤرة في الجُملة الشعرية، وأخرى يَتقدَّمُه اسمُ الإشارة الدالّ على البعيد: “تلك أيّامُنا”. عندما يكون دال “الأيام” في البؤرة، ينبَثقُ فيه المؤنث لذاته ولما ينطوي في نسيجه من كثافة وجودية، تَرزحُ الذاتُ تحت ثقل معناها المُفعَم بالسَّعادات. وعندما يقف الدال الإشاري في بؤرة الجملة، يَمتدُّ الزمنُ البعيدُ ليفصلَ الذَّاتَ عن فُسحة أيامها، فتكون الفسحة هي فسحة النأي والتحسُّر على ما ابتعدَ وانخرمَ من نسيج الأيام: “أيامنا”. كثافة دال “الأيام” تنسُجُها يَدُ الزمن، التي تمتدُّ هي نَفسُها لتسُلَّها ببُطء: “خيطا خيطا”. إنها تراجيديا الوجود في الزمن والوقوع تحت عَلامته. الأنثويُّ في دال “الأيام” يَجعلُنا نَستحضرُ يَد “بينيلوب” الماهرة، والصبورة في نَسج الثوب وتفكيكه لوقف الزمن وإرجاء الكارثة. بيد أن يَد “الأيام” غير الرحيمة، لا تُرجئ شيئا، وتتركُ الصوت العوليسي، في مُواجهة مزَقه.
تَتصلُّ “الأيام” بذاتٍ جَماعية، هي التي تَنسُج منها “عباءة” لنفسها. هي لباسٌ من صُنع هذه الذات، موصولٌ بجسَدها وأنفاسها. ما من انفصالٍ إذنْ بين الكيانين: الذات- الأيام. وإذ تمتدُّ يَدُ الزمن لتَسلَّ خُيوط “عباءة الأيام”، فإنها تَسُلُّ مَعها خُيوطا من الكيان الذاتي والوجودي، الذي احتفى قديما، بالعيش المُترَع بأنفاس الآلهة وبمُباركتها: “لم يكن للآلهة دورٌ/ سوى أنها سامَرتنا، وصَبَّتْ لنا خَمرَها”. لقد اقتسمَ إنسانُ القصيدة، في ذلك الزمن، خمرة الآلهة، التي تبعث فَوْرَة في مجرى الأيام وتُنعشُها بثروة المُتخيَّل. كلَّما التفتَت الذاتُ لـ “خمرة” تلك الأيام، ازدادَتْ عطشا. إنها التفاتةٌ مُحفَّزَةٌ بإطلالة الأيام ذاتها، التي لا تريدُ تحرير إنسانها من الحنين إلى مواطن الثراء: “تلك أيامنا/ تُطلُّ علينا لنعطش أكثر”. هذه الثروة، التي اخترمَتْها تجربةُ الزمان، هي التي تُقاوم الذاتَ لإعادة بَعث خُيوطها من خلف ما تَنسُجُه من مُتخيَّل.
كُلُّ ما يَنْسَلُّ من “عباءة” الأيام من خيوط وجودية، يُخَلّفُ جُرْحا. يَتكثَّفُ دالُّ “الجرح” فيما هو يَتَّصل بـ “الجروح القديمة” ليَسمَ المكان الفلسطيني الذي اقتسمَ أهلُه خَمرة إلهية، تَسرّبَتْ نَشوتُها إلى المُتخيَّل. وَسْمٌ جَعَلَ من المكان الفلسطيني: المكان- النزيف. إن حقَّ الولادة لا يَنخرم مهما طال “جُرحُ” المكان الذي يشع بأسماء أهله. يمكنُ للإنسان التاريخي أن يَقَع تحت علامة الخطأ، لكن حقَّ الولادة والعيش المُضمَّخين بنشوة الخمرة الإلهية يبقى مُشعا: “لم نكن مخطئين لأنا ولدنا هُنا”. إشارةُ القرب “هنا” المُقترنة بالولادة تَبقَى مُشعَّة، مَهما وقَعت “الأيام” تحت إشارة النأي “تلك”. ثمة “نزيف” يخترم تجربة الزمان الفلسطينية، ويَحكُم على علاماتها بالنأي والتمزق، لكن حق الأرض- الولادة، يبقى قائما، مُشعا، مُقاوما لكل سرديات الهيمنة والاجتثاث.
فتنة المُتخيَّل تأتي بخطوة الغُزاة الضارية. دعة العيش وما تُحلّق به من أجنحة المُتخيل، تُحرّك غَرائزَ إرادة القُوَّة عند “الغرباء” لتملُّك أرض المُتخيل: “لأن غزاة كثيرين هبُّوا علينا/ هُنا، وأحبُّوا مدائحَنا للنبيذ، أحبوا أساطيرَنا/ وفضة زيتوننا”. الجناسُ الناقص في الدالَّين “هبُّوا/ أحبُّوا” مُفعمٌ بقوة إيقاعية ودلالية، تؤكّد قوة إرادة الغزو المُتعلّقة بثروة الرمزي. هذه الرواية الشعرية لتجربة الزمان، تكشفُ أهمية” المُتخيَّل” في تَحفيز أفعال الغزو. إنه مَوردٌ رَمزيٌّ أساس، يَقفُ وراء تُحرُّك الجيوش وشُعرائهم، الذين يَكتبون سَرديَتهم الخاصة للمكان وعَلاماته: “لأنَّ رُواة كثيرين جاؤوا إلى أبجديتنا/ لكي يَصفوا أرضَنا”(ص68). إنَّ الوقوعَ تَحت سحْر المُتخيَّل، الذي يَصْنَعُ نَكهتَه الإيروتيكيُّ السَّاري مَفعوله في علامات العيش ورَمزيات الخصب واللغة، هو الذي حَرَّكَْ غَرائزَ “الغُزاة” وفق رواية الأنا المُتكلّم في الملفوظ الشعري.
تَستعيدُ الكتابَة الشّعرية فعل الرّواية. كل ما تَقدَّمَ يُؤكّد ذلك. تلك مُبادرتها الجذرية للتأسيس اللغوي للبقاء. عبرَ مُتخيَّل هذه الكتابة، تنهض رواية شعرية مُقاومة بفعل تجذُّرها في المكان وإبدالها لمكان الرؤية. إعادة تملُّك الكوثر الرمزي للمكان الفلسطيني، لا يتحقق، هذه المرة، إلا باستعادة رواية “أمومية”، تَعرفُ الخرائط السّرية للوُجدان وما يَقدحُ الوجودَ والمُتخيل. روايةٌ تَنهضُ ممّا تَروي به اللغةُ الشّعريةُ عَلامات الهُوية والخصب الرَّمزي، فتنتأ يانعة قويةَ الحُضور والتوهُّج:
“وإن كان هذا الخريفُ الخريفَ النهائي، فَلنتحدْ بالسُّحُبْ
لنُمطرَ منْ أجل هذا النبات المُعلَّق فوق أناشيدنا
لنُمطر فَوقَ جُذوع الأساطير… والأمهات اللواتي وَقَفْن
على أوَّل العُمر كَيْ يَسْتعدْنَ حكايَتَنا منْ رُواة
أطالوا عليها فُصولَ الرحيلْ،
أما كان في وُسْعنا أنْ نُعَدّلَ فَصْلَ الرحيل قليلا
ليَهْدأ فينا صُراخُ النخيلْ؟”(16)
إنها رواية، تَجعَلُ كثافةَ دوال الخصب (السُّحب) في مُواجهة دوال الموت (الخريف). ليسَ الخريفُ هنا علامة زمنية فحسب، بل دالٌ إيقاعي يَسري في نَسيجه الإيحائي قوةٌ وجودية قاهرة، تفصل بين الماضي والحاضر. وإذا كان دال “الخريف” يَتحدَّدُ تلفُّظيا بأداة الشرط (الشعر يبني أفقا للاحتمال)، فإنَّ إرادة القول الشعري تنهضُ حاسمة في ما تُبلور من جواب: “لنُمطر”. جوابٌ يَصل بإيحاءاته الرَّمزية بين الزَّمنين. ويَتكرَّرُ دالُّ “المطر”، ليبني إيقاعَه خطابًا شعريًا، يَجمع بين الابتهال ونُشدان الاتّحاد الصوفي (العُضوي) بعناصر الخصب (الماء)، التي تروي “هذا النبات المُعلَّقَ فوق أناشيدنا”، مثلما تروي “جُذوعَ الأساطير”. يبقى هذا النُّشدانُ أفقَ مقاومَة اللغة الشعرية، التي تروي “النشيد” الجماعي بماء المَجاز، بما يَجعلُ مُتخيَّلُه (النبات المعلق فوقه) دائم الإيناع والتوهُّج، له قوة المقاومة التي تَجعلُ منه امتدادًا لـ “جُذوع الأساطير” ذاتِها.
إعادةُ تملُّك فعل الرّواية، تَبدأ إذنْ باستعادة القوَّة الرَّمزية للغة الشعرية ولما تُؤسّسه من نَشيد. فعلُ الخصب (لنُمطر) يَطول، هذه المَرة، علامتَه القوية التي يَقبَعُ تحتَها مُجمَل مُتخيَّله: “الأمهات”. دالٌّ يأتي مُجاورًا لدالّ “الأساطير” مَوصولًا، عبرَ العَطف، بفعل الخصب: لنُمطر. يُبارك “المطر” بذلك “جذوع” الأمهات، ليَمنَحَ فعلهُنَّ انغراسًا أعمَقَ في الزمن والأسطورة، على نحوٍ يَجعلُهُن قادرات على استعادة فعل الرواية. فهن الأمهات اللواتي “وقفنَ على أوَّل العُمر كَيْ يَسْتَعدْن حكايَتَنا من رُواةٍ/ أطالوا علينا فُصول الرحيل”. رواية “الأصول”، تنتصبُ إذنْ في مُواجَهة رواية “الرحيل”، وحكايةُ “الأمهات” في مُواجهة حكاية “الرُّواة”. إعادةُ تملُّك الأمهات لـ “حكايتنا” يَنطوي على تملُّك فعَّال لتاريخنا، ولتجربة الزمان التي تَخترمه. إنه الأفق الذي يُؤسّسُه الشعر، مُرتكزا إلى رمزيات تموزية لإعادة الصلة بين المُتخيَّل “التاريخي” وعلامات الخصب التي يستند إليها، لبناء معنى آخرَ للفعل المقاوم، المُنصت لنداءات الجُذور: “ليَهْدَأ فينا صُراخُ النخيلْ”.
يَبني الشعرُ “رواية” الأمهات، لينبعثَ المكانُ الفلسطيني مُتوهّجا من تَواشج تفاصيل اليومي ورَمزيات مُتخيَّل الخصب والإيناع. روايةٌ يكون فعلُ المقاومة فيها شعريا، لأنه يَقعُ تحت علامة الشّعر، التي تَمتصُّ النُّسوغ َوعَناصرَ الثراء من أماكن الذاكرة الحيَّة. يُوقظ الشعرُ هذه الأماكن مُنصتا لتراسُلاتها العميقة، التي تبني أسطورة صغيرة للعيش على الأرض:
“وُلدْنا هُناكَ على خَيْلنا، واحترَقْنا بشَمْس أريحا القديمة
رَفَعنا سُقوفَ البُيوت ليَرْتَدي الظلُّ أجسادَنا، واحتفَلْنا
بعيد الكُروم وعيد الشعير، وزيَّنَت الأرضُ أسماءَنا
بسوسَنها واسمها. وصَقَلنا حجارَتنا كي تَرقَّ … ترقَّ
على مَهَلٍ في بُيوت يُلمّعُها الضوءُ والبُرتقال، وكُنَّا
نُعلّقُّ أيَّامَنا في مَفاتيحَ من خشب السَّرو. كُنا نَعيش
على مَهَلٍ، كان للعُمر طعم الفروق الصغيرة بين الفصول”(17)
يَبدأ المقطعُ بدال “الولادة” ليَمْنحَ فعل استعادة “الرواية” نقطة استهلالها المَرجعي، دون فصله عن ثرائه المتخيَّل، الذي تقع تحت علامته عناصر المكان والمَعيش. إنها ولادة “فرسان” مُهودُهم الأولى كانت هي ظهورَ الخيل: “وُلدنا هناك على خيلنا”. تنتشي الذاتُ المُتكلّمة بانتسابها إلى هؤلاء الفرسان، الذين تركت الطبيعة علاماتٍ لا تَمَّحي على أجسادهم وأرواحهم. وليس دالّ “العيد”، في تكراره واقترانه بدوالّ الخصب”الكروم/ الشعير”، إلا تَعبيرا عن فَورة جماعية يَقع الإنسانُ تحت سحْر إفراطها المُحوّل، الذي يَجعل الفردَ يَشعُرُ خلاله أنَّه “مَدعوم بقوى تَتخطاه وتَنتقل به من حالةٍ إلى حالة”(18).
إن قوى العيد لا تَنفصلُ عَن قوى الأرض ومَواسم تفتُّحها. ويكونُ الإنسان في البؤرة من كل ذلك، وهو يفتح “خزان القوى الكلية القدرة”(19)، ليقَع تحت وقع علامتها الباذخة: “وزيَّنت الأرضُ أسماءَنا/ بسوسنها واسمها”. تتوهج “الأسماء” بما يسري في جوفها من روح النبات والأرض، لتحوّل نُسوغَها المُغيّرة إلى الذوات المُنتشية بولادَتها الرمزية. تَتوهَّج أيضا “البيوت” بما يطولُ حجارتَها من أفعال الصقل، وبما يَلتمعُ عليها من “الضوء والبرتقال”. إنها أضواء وظلال تطبَعُ الإنسانَ بمَيسَمها إلى الأبد. وبذلك، تتجه حركة المعنى، صاعدة من الولادة إلى السَّكَن (الرمزي أيضا: الاسم)، نحو بناء مُتخيَّل احتفالي، يَكونُ “العيدُ” فيه أحدَ الدوال الإيقاعية المُفجّرة لخَزانه الميثولوجي. الرواية تتكفلُ باستعادة كل ذلك، لتمنَحَ الدال الأموميَّ (الأمهات) تراسُلَه الإيقاعي مع دال “الأرض”، على نحو يؤسس لوشائج ميثولوجية مختلفة وخصيبة، لخطاب شعري يُقاومُ، بالشعر أولا، لصيانة جَوهَره ورُؤياه، فيما هو يَنتزعُ حصَّتَه من التاريخ ببناء ما يَخترمُه من تجربة الزمان.
يَعودُ دالُّ “الأيام” مُرسخا كثافة إيحائية متجددة. إنها “أيام” منتقاة لا يزيدُها فعل التعليق إلا توهُّجا، يُذكّر بتعليق قصائد العرب الطّوال بمرحلة ما قبل الإسلام. وإذا كان لتلك القصائد عمودَها الشعري، فإن لهذه “الأيام” مفاتيحَها الخشبية: “نعلّق أيامنا في مفاتيحَ من خشب السَّرو”. الشعرُ الآن هو الذي يتكفّل بـ”تعليق” هذه الأيام، بوصلها بفورة الاحتفال والتعييد، التي تمدُّها بقوى تتخطّاها. ثمة ذاكرة حية لهذه الأيام، الشعرُ هو مفتاحُها، الذي يَصون تَوهُّجَها الدائم. ذاكرة مُكتنَزة بأضواء الحياة وظلالها وطعومها التي تَستطيب الإقامة في التفاصيل الصغيرة، حيثُ يَتَّسع العيشُ، يَهنأ ويرغد.
يَبتهجُ “الاسمُ” بذاكرته الميثولوجية الخصبة، بما يَسري في جَوفه من روح النبات والعناصر، لبناء متخيَّل يُقاوم الاجتثاث على أرض اللغة. لذلك، لا يَفتأ دالّ “الاسم” يعود، في “أحد عشر كوكبا”، بصيغة الإفراد أو الجمع، ليلتحمَ، من مواقع متعدّدة، بنسيج متخيل تجربة الزمان، التي تُهيّئ للذات الشاعرة انتزاعَ حصَّتها الشعرية من التاريخ. نَتوقَّفُ، في هذا المكان للقراءة، عند ثلاثة نماذج، تُضيء هذه العلاقة:
الشاهد الأول:
– “أسماؤنا شجرٌ من كلام الإله، وطيرٌ تُحلّقُ أعلى
من البندقية. لا تقطعوا شجرَ الاسم يا أيها القادمون
من البَحر حَرْبا، ولا تنفثوا خَيلَكم لَهَبًا في السُّهول
لكُم رَبُّكم ولنا ربُّنا، ولكُم دينُكُم ولنا دينُنا
فلا تدفنوا الله في كُتُبٍ وَعَدتْكُم بأرض على أرضنا”(20)
يَتوهَّجُ “الاسم” بالانتساب إلى الكلام الإلهي. فهو أحد الفيوض الخضراء لكلام الإله. تَغمُر، مرة أخرى، الاستعارةُ النباتية أسماءَ الذات الجماعية، التي يَتكلَّمُ باسمها الملفوظ الشعري. استعارة تمنح جذرا تمُّوزيا لفعل التسمية، يَعود بها إلى الذاكرة البعيدة، المُقدَّسة للكلام الإلهي. إن أسماء الذات الجماعية “أسماؤنا” ليستْ مجرد علامات خارجية اعتباطية، وإنما “شجر” يَصعدُ من كلام الإله، ليَنشُرَ إيحاءاته وظلالَه المُقدسة على المكان. الأسماء إذنْ، “أسماؤنا” ليستْ حلية أو إسنادات تلفظية، خاضعة لضرورات تواصلية، ولكنها علامات إلهية مُتوهّجة بخُضرة مُتجَذّرَة، دائمة، تَستعصي على البتر والاجتثاث: “أسماؤنا شَجرٌ من كلام الإله”.
يَستمرُّ المَقطعُ في بناء ذاكرة “إلهية” للمُقاومة، يَجعل تَوهُّج “الاسم” يشع من صلات ميثولوجية، يتقاطع في بنائها الشعري والإلهي. فالأسماء هي أيضا “طيرٌ” يَنبثق من هذه الذاكرة، ليُحلّق “أعلى من البندقية”. يَجمعُ الاسمُ إذنْ بين التجذُّر والتعالي، الموسومين بالنفس الإلهي، فهو: شَجَرٌ وطيرٌ إلهِيَّان. جمعٌ يترتَّبُ عنه خطابُ “النهي” بوصفه فعلًا إنجازيًا موصولًا بهذا النفَس، الذي يفيض عَنه الكلامُ الشعري أيضا: “لا تقطعوا شجرَ الاسم يا أيها القادمون/ من البحر حَربًا”. إنَّ خطابَ النَّهي يَستضمرُ، في طياته هُنا، إيحاءاتٍ بعيدةً من النهي الأول المُؤسّس في الرّواية الدينية: لا تقربَا هذه الشجرة. إذا كانت العناية الإلهية التي علَّمت آدم “الأسماء” كُلَّها، قد نَهتْه هو وزوجُه (حواء) عن الاقتراب من هذه “الشجرة”، فإن الذات الشاعرة، تنسجُ من كل هذه التقاطعات البعيدة، اللاواعية أحيانا، إيحاءاتٍ قوية في بناء مُتخيل مقاوم يتكثف حول “الاسم”. إنه “شجر” مُتجذّر ومُتعالٍ، مُفعَم بالنفَس الإلهي، لا يَنبغي للغُرباء، القادمين من “البحر” إعلان “الحرب” عليه.
يُمثل “الاسم” إذنْ، عُنصُرا مَكينا من استراتيجية مُقاومة، مُتعدّدة المداخل، تتمحوَرُ حول فعل تملُّك “الرواية”، بما هي بناء ذاتي للحصة الشعرية من التاريخ. إن “الأسماء” تتوهج بذاكرتها الإلهية والميثولوجية، لجعل فعل المقاومة يَسري شعريا في اللغة نفسها، التي تَستعيدُ ذاكرتَها، في الوقت الذي تبني مُتخيَّلَها الشّعري الجديد. يَمتدُّ نَفَس “مُعجزٌ”، خلاَّق بين الكلام الشعري والكلام الإلهي، هو كلام الذات الكاتبة، الذي يشعُّ من أكثر من اتجاه أوعلاقة. كلام، تنشدُ عبرَه الذاتُ تأمينَ حصَّتها الشعرية في خطاب التاريخ، انطلاقا من تفكيك “رواية” الغرباء، عبر مُمارسة فعلٍ إنجازي قاطع: “لا تدفنوا الله في كُتبٍ وَعَدتكُمْ بأرضٍ على أرضنا”. إنَّ الشعرَ الذي يُصرّح بالنهي قاطعًا هُنا، لا يَكفُّ عن مُمارسَة حَفرياتٍ صامتة، لاستعادة “الله” من مَدافن “كُتُب/ روايات”، أطلقَها “القادمون من البحر” لإضفاء شَرعية دينية على الاحتلال.
الشاهد الثاني:
– “خُذوا أرضَ أمّي بالسَّيْف، لكنَّني لنْ أوَقّع باسمي
مُعاهدة الصُّلح بين القَتيل وقاتله، لنْ أوقّعَ باسمي
على بَيع شبرٍ من الشَّوك حول حُقول الذرة
وأعرفُ أنّي أودّعُ آخرَ شمسٍ، وألتفُّ باسمي
وأسقطُ في النهر، أعرف أنّي أعودُ إلى قلب أمّي “(21)
يَعودُ الشاهدان، الأوَّلُ والثاني، إلى قصيدة (خطبة “الهندي الأحمر” -ما قبل الأخيرة- أمام الرجل الأبيض). تستدعي القصيدةُ المكانَ الهنديَّ، وتنسُج بتفاعل شعري معه، أحدَ الأمكنة التاريخية والرَّمزية لتراجيديا الاقتلاع والفعل المُقاوم. إنها مرآة قديمة لتراجيديا المكان الفلسطيني، التي لم يكف درويش عن استلهام أخواتها الرمزية في تاريخ الثقافة الإنسانية والعربية. عَتبة العُنوان، تُسمّي القصيدةَ “خطبة”، لكنَّ فعلَ الكتابة يَجنحُ بها إلى مَنابع الشّعر، عَميقة الغور. تلك المنابعُ المَشدودة إلى ثَراء المُتخيل الميثولوجي الذي تَستكينُ إليه الذات، جاعلة من خُطوتها على الأرض امتدادا أنطولوجيا عميقا له. تصدير سياتل، زعيم دواميش، يُشع، على رأس القصيدة، بهذه العبارة/ المعنى: “هلْ قلتَ: موتي؟/ لا موتَ هناك/ هناك فقط تبديل عوالم”. المكان الهندي (الأحمر) مُخترَق بهذا الجذر الأنطولوجي، الذي يَتجسَّدُ في تمثُّلات ميثولوجية مُختلفة. فالحياة، في مَنظور هذه العَتبة، مُستمرَّة، وليس ثمَّة سوى “تبديل عوالم”.
إعادةُ النظر في مَفهوم “الموت”، يَمنحُ الفعلَ المُقاومَ جذرا أنطولوجيا يَتعذَّر اجتثاثه. هذا الجذر هو ما تَحرصُ كتابة درويش على تَرسيخه، شعريا، في كتابة تراجيديا المكان الفلسطيني. تَكتنهُ القصيدة، هُنا، على لسان الزعيم الهندي، هذا الجذر، لبناء مُقاومة شعرية لا تتنازَل عن الاسم وتملُّك فعل الرواية، مهما تعاظمتْ تراجيديا أفعال الاقتلاع. يقول الشاعر على لسان الزعيم/ الخطيب الهندي:
“عالية روحُنا، والمراعي مُقدَّسَةٌ، والنُّجومُ
كلامٌ يُضيء… إذا أنتَ حدَّقتَ فيها قرأتَ حكايتَنا كُلَّها:
وُلدنا هنا بين ماء ونار… ونولَدُ ثانية في الغيومْ”(22)
تشعُّ “الحكاية” كلُّها (الولادة، الموت والبعث) في كلام “النجوم”. إنها “الرواية” التي تقاوم كُلَّ أفعال الاجتثاث، ما دامتْ تَنهض مُشعة في قبة السماء. كتابة سماوية، مُرصَّعة، لا يَطولُها المَحو: جُزءٌ مُضيءٌ من نظام الكون والطبيعة، لا تَستطيعُ أيدي “الغريب/ الغازي” إطفاءَه. تَنهضُ الذات “الهندية” من الكلام الشعري المُشع، مُخترَقَة بعناصر التقديس وهالاته الموصولة، عُمقيا، بفضاء الطبيعة وعناصرها. تلك، مُقاوَمةٌ الشّعر بالشّعر المُؤسّس لهُوية تَرسخُ في ثنايا الأسطورة وطيَّات العناصر، على نحو يُؤسس ما يَبقَى ويَتحدَّى الموتَ نفسَه، ما دام هذا الأخيرُ ليس غير”تبديل عَوالم”. ثمَّة ولادة ثانية، تتوهَّجُ بين “الغُيوم”. ثمَّة أيضا “كلامُ” النجوم، الذي يَتكفَّلُ برواية مُتجدّدة لهذه الولادة الدائمة، المُستعصية على كل موت.
يَجعلُ الشاعر، في الشاهد الثاني، “الاسم” في مُواجَهة “السيف”. كلام “النجوم” في مُواجهة أنباء السيف. ثمة قلبٌ لأمثولة أبي تمام: الكُتبُ هي الأصدقُ أنباءً من السيف. الكلمة تشع مُتوهّجة، نازفة، مُقاومة، مُستعصية، في قلب المأساة. لذلك، فهذه الكلمةُ، المُنغرسةُ في قلب الميثولوجيا، والمُفعَمة بهالات التقديس وأصداء العناصر، لا تَستسلم أبدًا. طبيعتُها البدئية، الأولى والأخيرة، هي المُقاوَمة. البقاءُ صامدة في وَجه ما يَخترمُ التاريخ من تجارب الزمان المُحوّلة. تحويلُ هذه التجارب إلى تَجربة عميقة في الشّعر: ذلك هو ما يُضاعفُ أصداءَ مُقاومة لغوية، مَشدودةٍ بقوة إلى “الإسم” بوصفة أحد أقوى الأدلة، التي تقعُ تحت علامتها المُشعة الهويَّةُ الرافضة للاستسلام: لَن أوقّع باسمي/ مُعاهَدة الصُّلح بين القتيل وقاتله، لن أوقّعَ باسمي/ على بَيع شبر من الشَّوك حول حُقول الذرة”.
يُسَطّر “السيفُ” شَريعَتَه على الأرض، لكن كتابَة “الاسم” تبقى مُشعَّة بتوقيعها الرافض للاستسلام: أليس “الاسمُ” هُنا، أصدقُ أنباء من “السيف” في أمثولة أبي تمام؟ الاسمُ الذي يُقاوم الاقتلاع، سيكون هُنا نَفسُه بمثابة “شبرٍ من الشوك” يَحمي “حُقول الذُّرة” من أنْ تمتدَّ إليها الأيدي العابثة. الشّعرُ يُفرزُ عناصرَ مُقاوَمته من أعماقه العُضوية، مثلما تفعل الأرضُ وهي تحوّل بُذورَها الشائكة، إلى أسْيجةٍ تَحمي رُوحَها وحياتَها العُضوية، المُفعَمة بالعجائب والأسرار والتحوُّلات. يُحرّك الشعرُ هذه الحياة العُضوية، التي تَمتدُّ في الأسطورة وهالات التقديس وأفعال المَعيش المُخترَقة بجذرها الأنطولوجي، الذي لا يَكفُّ عن التوهُّج في لَحظاتٍ الضّيق والشّدَّة. الشّعرُ يَخبر بقوة هذه اللحظات، ويَعرفُ كيف يُحوّلُها إلى نشيد، تتقاطعُ في تفجيره أصواتُ البشر والطبيعة والآلهة والهَجينيَّات، فيما هو يُؤسس ما يبقى. خطابُ الهندي الأحمر، في هذه القصيدة، ينبثق مُتوهّجا برُوحه وحياته العُضوية، المُقاومة، من عُمق هذه اللحظات.
يَرفُض “الاسمُ” توقيعَ “مُعاهدة الصُّلح بين القتيل وقاتله”. ذلك، هو “البيان” السياسي في “خطبة” شعرية، يُوقّعُها درويش باسم الزَّعيم الهندي. الشّعرُ يَنهضُ ضدَّ تسوية سياسية بين “القتيل وقاتله”، لأنه لا يَستسلم لحلول سَهلة، وغير مُنصفة، لتعقيدات أنطولوجية لا تفصلُ الخيرَ عن الحَقّ والجَمال في يَنابيعه الشعرية والأسطورية. لذلك، تَشتغل القصيدة الدرويشية، في “أحدَ عشرَ كوكبًا” كثيرا على “الاسم” بالمعنى الأنطولوجي، الذي يَجعلُ منه مُنعقَدَ تقاطعات عُضوية وميثولوجية، تُغذّي المُتخيَّل بعناصرها التي لا تَكفُّ عن التوهُّج من قلب المأساة. رَفضُ التسوية السياسية، يَحمي القصيدة من إملاءات الخارج، ويَجعلُها مُلتفَّة أكثر حول عناصر خُصوبتها الداخلية. إعادةُ تملُّك “الرواية” يَنخرطُ في هذا المَسار الشعري الرافض لما تُمليه مُؤسسة “السيف” على “المُؤرّخ” في لحظات الضيق. صوتُ الشعر، المُخترَق بتوهُّج جذره الأنطولوجي والثقافي العميق، هو الذي يَستعيدُ فعْل “الرواية” من مُؤسسة “السيف” إلى رحابة الكلمة، المُنصتة لجذورها البعيدة.
ثمة “التفافٌ” بالاسم: “وألتفُّ باسمي”، تَصدُر الذات عن “معرفة” يقينية به. التفافٌ، يَمنحُ الكلامَ الشّعريَّ مُكوثا واستعصاء، لا يَكون “الوداعُ” بَعده، إلا فعلًا خارجيًا يُؤشّر على التاريخ، لكنَّه لا يَكفُّ عن الإنصات للزَّخم والتَّرجيعات الأنطولوجية التي تقع خلف علامته. هي تجربة الزمان، تَنتهك بأدواتها الخاصة، صَمم الفعل التاريخي، فتجعلُه مُنصتا لما يقع في خلفيته الإنسانية. إنَّنا، لا نودّع إلا ما ليس لنا، أما أشياؤنا العميقة، فتنهضُ كتابتُنا من تَحلُّلها، مُطالبَة بحَقّها بالعودة ومُلحَّة عليها. ذلك، هاجس درويش ولا وعيُه النصي أيضا في مُعظم تجربته الشعرية. وهو ما يَفتأ يَعود، يَنتأُ ويَتوهَّجُ بأكثر من صيغة وعلاقة. ترتيبُ الدَّوالّ، في الشاهد الثاني، تَجعل فعلَ “الالتفاف” بالاسم، يَعقب فعلَ “التوديع”، لتأتي جُملةُ الخلاص الشعرية، بمثابة القرار العميق: “وأسقُط في النهر، أعرف أنّي أعودُ إلى قلب أمي”. إنه التفافٌ بالاسم وتَحلُّل في الماء، الرَّمز الأمومي الكبير: أعودُ إلى قلب أمي.
يَكتملُ فعلُ تَملُّك “الرواية” مع فعل “الالتفاف” حول “الاسم” للنهوض بالأعباء الشعرية للفعل المُقاوم. الجدل الأنطولوجي بينهُما يَستحثُّ خصوبة شعرية مُتعَدّدة الروافد والإيحاءات. خصوبة تنهضُ عموديا على موارد ميثولوجية وعُضوية، يشتبكُ في إيناعها جدل الأرض والسماء، لبناء مُتخيل شعري عميق، ثري، ومترامي الأطراف. مُتخيَّل يَفتحُ مَسارات مُتجدّدة للتجربة الشّعرية، في تَمفصُل أساس مع أسئلتها الأنطولوجية والثقافية الجَوهرية. إنَّ قضايا الهُوية واللغة والاسم والرّواية والمَوت والولادة المُتجدّدة، تَنبثقُ من اكتناهٍ شعري لخطاب التاريخ. اكتناهٌ يُؤسّسُ لفعلٍ مُقاومٍ، يجعل التجربة الشعرية مُكتنزة بتجربة الزمان، التي يُحوّلُها الشعرُ إلى مُتخيَّل عُضوي، تتقاطَع في بنائه علاماتٌ مُتوهجة من ذاكرة المعيش والأسطورة والطبيعة.
الشاهدُ الثالث:
“وإن كان هذا الخريفُ الخريفَ النهائي، فَلْنختَصرْ
مدائحَنا للأواني القديمة، حيثُ حَفَرْنا عليها مَزاميرَنا
فقد حَفرَ الآخرون على ما حَفرْنا مَزاميرَ أخرى
ولَمْ تنكسرْ بعدُ. تَصعدُ فوق الدُّروع القديمة خُبيزَةٌ
لتُخفي أزهارُها الحُمرُ ما صَنعَ السيفُ بالاسم. آثارُنا
سَتخضَرُّ منها الظلال إذا ما استطعْنا الوصول
إلى أمّنا، في نهاية المَمرّ الطويل.”(23)
يَنتَمي الشاهدُ لقصيدة “سَنختار سوفوكليس”. هذا “الآخَر” الشّعري (سوفوكليس) الذي تَنفتح عليه القصيدة، لإثراء مُتخيَّلها بما يَخرجُ عَن أُطرها البيانية القديمة (امرؤ القيس) المُهيمنة. صوتُ درامي يَنبثقُ من الخيوط الداخلية لشعرية درويش الغنائية، ومن حاجَتها للهجرة والحوار. يَعود “الخريف” بوَصفه دالا إيقاعيا، يَفصلُ بين زَمنين وبُرهَتين وُجوديتين. يُواصل هذا الدال، في تكراره الشعري، الاقترانَ بشَرط مُؤسّس للمُتخيل بوَصفه جوابا. ولا ينفصل هذا المُتخيل عَن الكتابة وأشيائها، في تقاطع مع أشياء المَعيش ورُموزه: “مَدائحنا للأواني القديمة”. يَتوهَّجُ في هذه العبارة دالّا “المَديح والأواني”. فالمديح “آنية” رَمزية تَجمَعُ القيم الجماعية والفردية المُعترَف بسُمُوّها وتعاليها، والأواني مُعدَّاتٌ أيقونية انفصلتْ عن وظائفها المَعيشيَّة، اليومية، لتمتلئ بما يَسمو بها إلى حياة الرموز. دالّ “القديمة” يُؤشر على هذا التسامي، المُنتَزَع من التبجيل، الذي يُضفيه الزمَنُ على الأشياء والأدوات، عندما تَنفصل عن وظائفها المَرجعية المُعتادة.
ما يُضاعفُ فعْلَ التَّبجيل، أنَّ هذه “الأواني” مَوضوع “مديح” من قبل الذات الشاعرة، التي تُريده أن يكون مُختَصَرًا. إنه مديحٌ لقدامتها وتساميها ورَمزيَّتها، التي هي أيضا مَوضوع صراع بين الذات وإرادة القوة الغازية. صراعٌ يتجسدُ في كتابةٍ (الحفر) تتجاوزُ الزُّخرفَ، المطبوعَ على “الأواني” إلى معنى الغناء والتَّرتيل الدّيني: “حيث حَفرنا عليها مَزاميرَنا/ فقد حفَرَ الآخرون على ما حَفَرْنا مَزاميرَ أخرى”. الدَّوال الدّينية (مزامير)، تتواجَه حَفْرا، بأبعاد غنائية، أنطولوجية، تصعَد إلى الذرى، لتملُّك الرَّمزيّ الذي يُجسّدُ دومًا مَجالًا حيويًا للهوية. صُمودُ الأواني (“لمْ تَنكسرْ بَعْدُ”)، يُؤشّر، بالنهاية، على انتصار فعل رمزي أكبر، يَتجسَّدُ في استعادة “الرواية” وصُمودها بوصفها أحد أسانيد المَعيش والذاكرة الحَيَّة. هو إذنْ صُمودٌ للسَّردية الذاتية، في وَجْه “كتابةٍ” غازية تُريد أنْ تحفر (بالسيف) علاماتها الدينية على أواني المَعيش، المُتوهّجَة بقدامَة حُمولَتها الرَّمزية.
يَسْتمرُّ الشاهدُ الشعريُّ (الثالث) في تكثيف الدَّوال الكاشفة عن الفعل المُقاوم. إنَّ علامات إرادة القوة الغازية (الدروع القديمة) مُتناثرة في المكان، لكنَّ الأرضَ تُخرجُ من أعماقها علامة تمُّوزية مُقاومة، وفاء لما تشرَّبَتهُ من عناصر المَعيش، ومن تراتيلَ ومدائح وأمطار ودماء سخية: “تَصعَدُ فوق الدُّروع القديمة خُبّيزةٌ/ تُخفي أزهارُها الحُمرُ ما صَنَعَ السيفُ بالاسم”. ثمَّة علامة تَمُّوزية مُتوهّجة (أزهارٌ حُمْرٌ) تلتفُّ بـ”الاسم” لتخفيَ جراحَه وتتعهَّدَهُ بما يُسعف على المُقاومة والبقاء. إن ما يَنتشر على سطح الأرض من علامات الحيوية وتبدُّل الفصول، يَختَزنُ، في الشّعر والمُتخيَّل، رَمزية إحيائية تُؤمّن للاسْم وَمُشتقاته السَّردية والهُوياتية حياة مُتجدّدَة، بها يَنتصرُ على صنائع “السيف” ومَرْوياته التدميرية.
يَنتقلُ الشاهدُ إلى دالٍّ جامعٍ “آثارُنا”، تقعُ تحت عَلامته فُيوضاتُ تموزية، مَوصولَةُ، عبر أداة الشرط، بدالٍّ إيقاعيٍّ أكبر: أُمّنا. لا يَنفصل هذا الدال الأمومي، في شعرية درويش، عن مَراتع الخصْب، التي تَجعلُه مَوصولا جذريا بـ”الأرض” وعَلاماتها الفردَوسية. فُيوضاتُ تمُّوز، تُواصل نَسْجَ مُتخيَّلها الشّعري عبر الثراء الأمومي للماء والأرض. التَّراسُل السَّعيدُ بينهُما، يُقيمُ أعيادَه التي تَتوهَّجُ في الاحتفالات والتراتيل التي تتوّج أيامَ الكدْح والعمل. كل “الآثار”، المُنتَسبة لجماعة الشاعر “أثارُنا”، تَنهلُ من هذا الثراء الأمُومي (في لحظات الشّدَّة أيضا) ما يُقوّي عَضُدَ الاسْم ويَجعلُه مُستعصيا على المَحو والاقتلاع.
تَنهَضُ تجربة الزمان من حُطام التاريخ، من الرؤية الشعرية التي تَخترقُه، فتنهَضُ من المُفتَّت في خطابه. الشّعرُ يَظفَر بتأويله الغنائي من ذلك المُفتَّت، الذي يجعَلُ الصوت العوليسي يُقيمُ في لَوعَة مُتجددة، تكابدُ عودة مُتعذّرة. يُشعُ المكانُ الأندلسي من جَوف هذه اللوعة، التي تَجعلُ الشعْر يَكتنه العلامات، ليُقيم فيما يَختلجُ في ثناياها من تَرجيعات الهُوية والمَصير والأسئلة الأنطولوجية الحارقة. تتكثفُ الأنا وتشفُّ، تتفرَّدُ وتتعدَّدُ، لتجعل من ذاتها قادرة على اختراق ما اخترمَ، في خطاب التاريخ الأندلسي، من تجربة الزمان، بما يُسعف على قراءة العلامات واستشراف الأحوال. قراءةٌ تتهيأُ، في تجربة درويش، عبر “أحدَ عشَر كوكبًا” (نصًا/ القصيدة)، تُضيء رؤيويا “آخرَ المَشهد الأندلسي”.
الهوامش
1 – هانس جورج غادامر، مَن أنا ومَن أنت، ترجمة علي حاكم صالح وحسن ناظم، منشورات الجمل 2018، ص 46.
2 – المرجع نفسُه، ص 138.
3 – عبد الكبير الخطيبي، مجلة الكرمل، عدد 13، السنة 1984، ص 105.
4 – محمود درويش، أحد عشر كوكبا، الأهلية للنشر والتوزيع، دار الناشر، الطبعة 2014، ص 51.
5 – المرجع نفسُه، 87.
6 – المرجع نفسه، ص 23.
7 – المرجع نفسُه، ص 11.
8 – المرجع نفسُه، ص 13.
9 – مَن أنا ومَن أنتَ، مرجع سابق، ص 21.
10 – أحد عشر كوكبا، مرجع سابق، ص 55.
11 – محمود درويش، لماذا تركتَ الحصان وحيدا، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الثانية 1996.
12 – أحد عشر كوكبا، مرجع سابق، ص 54.
13 – المرجع نفسُه، ص 56.
14 – المرجع نفسُه، ص 66.
15 – المرجع نفسُه، ص 67/ 68.
16 – المرجع نفسُه، ص 61/ 62.
17 – المرجع نفسُه، ص 62.
18 – روجيه كايوا، الإنسان والمقدَّس، ترجمة سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة 2010، ص 143.
19 – المرجع نفسه، ص 164.
20 – أحد عشر كوكبا، مرجع سابق، ص 38.
21 – المرجع نفسُه، ص 43.
22 – المرجع نفسُه، ص 35.
23 – المرجع نفسُه، ص 63.