النثر : ذلك الطيع . الواضح . العملي :
ظل النثر قرونا عديدة ، خشن النبرة ، مجرح الشفتين . من وضوحه . ورصانته. دونما حلم ،أو مغامرة أو عاريا الا من وضوحه عموض . هكذا كان النثر ، في مسيرته عامة. لم يكن جذابا أو مترفا ، أو مشاكسأ باستمرار ، لكنه كان طيعأ وعمليأ على الدوام . كان يعبر عن الانسان في أكثر شؤونه خطورة وعن أشدها بساطة . عن أكثرها تفاهة وعن أشدها طيشأ. لقد كان "نافعأ بطبيعته " ، كما يشير سارتر " 1 " ، ولهذا السبب ، ربما ، لم يلجأ السيد "(جوردان " الى النثر ، كما نعرف ، الا ليطلب خفيه ، ولم يكن أمام "هتلر" غير النثر ليعلن حربه على بولونيا.
قدر ، قاهر ، رتيب كتب على النثر أن ينوء به زمنأ طويلأ دون أن يتهيأ له ، الا نادرا ، أن يتمرد على قدره هذا. ولم تكن لحظات التمرد تلك الا لحظات انتفض فيها النثر على طبيعته النثرية الدنيا ليخترق حاجزا مصطنعا ظل يحول بينه وبين امكانية شعرية ، كامنة فيه با لقوة .
لقد انتفض النثر ، أخيرا ، على واقع تاريخي حرمه ، زمنا طويلا ، من خصائص ظلت حك!ا عل الشعر وحده تدنيه من نبض الروح ، وتعلي من هيمنته الأخاذة ، الغامضة على أنماط التعبير الأدبي الأخرى ، وتمنحه أفضلية تاريخية ساحقة في التصدي المباهج البشر ، وتصدعاتهم ، والتعبير عنها بطريقة تحفل بالإثارة.
حين كان الشعر يحظى بهذا الترف كله ، وهذا الإعلاء ، ظل النثر يتخبط في عراء أجرد ، ظل خارجيا ، نفعيا ، في معظمه . حين كان الشعر يبتل بانين الروح ، ويتماهى مع تشوفاتها الغامضة الحارة كان للنثر حرمانه الفاجع أن يظل ، لا في فضاء ما يصعب اقتناصه أو التعبير عنه ، بل في حدود ما هو سهل ، واضح ، براني يلبي حاجات الأنسان اليومية ، ويشبع رغباته الحسية الطارئة ، ظل ، بتعبير آخر ، كما الصقر أو كلب الصيد في ملاحقة ضحاياه طيعا
واضحا ، عمليا. دون أن يكون له ما للضحية من غموض ، أو وحشة ، أو فجائعية .
كيف حقق الشعر ، عبر تاريخه ، كل هذه الهيمنة الجارفة . ، وما عناصر الأفضلية التي جعلت الشعرية ، أو السحر ، حكرا عليه 90 ولماذا توج ، وحده ، طاغية شديد الفتنة والجبروت ؟
أرجحية الشعر. لماذا ؟
في مواجهته للنثر يبث و. أحيانا ، ان أرجحية الشعر لم تنبثق ، تماما ، عن طبيعة داخلية . أي أن شريته لم يقررها له عامل داخلي " أو جذر كامن لا يمكن اقتلاعه . بل يمكن القول ان تلك الشعرية لم يكرسها عموما الا عامل أساسي واحد الوزن Metre.
لقد ظل الوزن عاملا حاسما في تحديد الشعر ، والإقرار بشعريته ، مع انه أي الوزن ، عنصر خارجي م لا يتحتم كمونه . كمونا قبليا ، في لغة الشعر ، ولا بتوجب ، كذلك ، انبثاقه عنها انبثاقأ آليا.
أما القافية Rhyme وهي عامل خارجي أيضا ، فلم تكن مؤهلة ، في حد ذاتها ، لتلعب هذا الدور كله في ترجيح شعرية القصيدة ، ذلك أن القافية لم تستطع ، عمليا ، أن تنجز هذه المهمة قي آلاف القصائد التي ظلت ، مع توفر القافية فيها ، نصوصا مهجورة لا دفء فيها.
وبسبب هذين العاملين ، وهما عاملان خارجيان في الغالب ، حظيت هذه القصائد بنعمة الانتساب الى الشعر ، دون آن تكون ، حقا ، قصائد شعرية . صحيح أن الوزن والقافية قد وفرا لهذه النصوص ان تكون نظمأ ، Versification إمكانية شعرية . آو وعدا بالشعر ، لكنهما لحم يضمنا لها أن تكون شعرا متحققا ، أو واقعة شعرية مجسدة. بينما ظلت مئات النماذج النثرية مهملة . لا يعبأ أحد بثرائها الشعري الكامن ، أو يلتفت إلى ما فيها من طاقة ، داخلية ، متلظية وذلك بسبب افتقارها الى شرطي الوزن والقافية .
ولو تفحصنا جهود نقادنا القدامى ، للوصولى الى تعريف للشعر. لوجدناها تكشف عن قلق لا يخفى ، واحساس بخطورة المشكلة وتشعبها. لذلك ظل تعريف الشر ، بسبب نقصه أو عموميته ، عرضة لاعادة النظر والتعديل المستمرين .
ان قصور تلك التعريفات كان يفصح ، دون أن يحدد المشكلة ، عن أن بعض النقاد ما كانوا يرون من الشعر ، غير دخانه العالي مع أنهم كانوا مأخوذين بجمرته اللاذعة العذبة.لقد كانت محاولاتهم لتعريف الشعر تهتدي بالوزن والقافية ، أو تحتكم اليهما كعنصرين أساسيين تظل العناصر الآخرى ، كالمعنى أو اللفظ ، ذات أهمية ثانوية ازاءهما . ان تحديد شعرية النص استنادا الى الوزن والقافية ، بأرجحية واضحة " كان في الغالب واقعا مشتركا بين الكثير من القدامى مثل ابن قدامه وابن قتيبة ، وابن رشيق . وابن خلدون .
وفي غمرة هذه التعريفات ، كان الجاحظ يرفع مصباحأ صغيرا ، لكنه باهر الضوء ، لينير به حاشية الظلمة : الشعر صياغة وضرب من التصوير "2" ، نقلة حادة في النظر الى الشعر وتعريفه ، تتجاوز الوزن باعتباره معيارأ تقليديا راسخا لتمييز الشعر عن النثر. ويتخطى القافية ، أيضأ ، باعتيارها من متعلقات الوزن من جهة ، وأساسأ في الحكم على شعرية الشعر من جهة أخرى.
ويصل هذا الضوء حده الأقصى لدى الجرجاني ، هذا الفاتح المدهش ، المغامر ، الذي تخطى بعقلية خصبة جريئة ، الكثير من الثوابت والأعراف في النظر الى الشعر والاشارة الى مواطن الشعرية ، أو السحر فيه .
ان الشعر لا يستمد ، على رأي الجرجاني ، تأثيره أو شعريته من وزنه أو قافيته أو معناه ، بل يستمدها من شيء آخر النظم ألذي هو "تعليق الكلم بعضها ببعض ، وجعل بعضها بسبب من بعض " 3" وبذلك تجاوز الجرجاني المعايير التي كانت ،آنذاك ، مستقرة وفاعلة. لم يعد الوزن لديه ذ ا حظوة كبيرة فليس هو ((مما لا يكون الكلام كلاما الابه "4 " وأنت ، في رأي الجرجاني ، حين تهتز لنص شعري ما ، لا يكون الوزن أو القافية التي استخدمها الشاعر سببا في ذلك ، بل لأن الشاعر "قدم وأخر ، وعرف ونكر ، وحذف وأضمر ، وأعاد وكرر)) "5" .
وهكذا يقترب الجرجاني برهافة مدهشة من القصيدة ، ليلتمس موطن السحر الحقيقي فيها: أي ما يجعل الكلام شعرا ، ما يمنحه الحق قي الانتساب الى هذا النوع الآسر من القول الشعر. وبذلك يؤسس الجرجاني . وفي وقت مبكر ، معايير للشعرية لم يكن العرب على عهد بها آنذاك . شعرية لا يقررها احتكام الى عناصر خارجية ، برانية ، لاحقة كالقافية أو الوزن أو المعنى. بل ينبثق ، وبثراء شديد ، عن صياغة النص الشعري على شكل محدد دون سواه . أي أن الجرجاني قد أبطل معيارا تقليديا راسخا من معابير الحكم على شعرية الشعر. لقد حرر الشعرية من حبسها في قفص الشعر وحده ، جعل متها امكانية قد يفجرها أي نص آخر ، شعرا كان أم نثرا ، يتوفر فيه ذلك المنحى من الصياغة ، المحكمة ، المتوترة النظم ، أو بناء الجملة Syntactic.
ان الجرجاني ، في تحديداته السابقة ، يوميء إلى موطن الشعرية في النص بدراية وعمق نادرين . وهو ، حين يفعل، ذلك ، يضيء لنا ، وبسبق زمني عجيب ، معضلة عن أكثر معضلات الحساسية الشعرية تعقيدأ. ومصطلحات الجرجانى المبكرة تلك لا تبعد كثيرا عما تسعى اليه المغامرة النقدية الحديثة الآن :تلمس جمالية الشعر ، والكشف عن كوامنه المثيرة ، حيث لا نرى ما يمكن تحليله في النص الشعري الا لغته "6". أي " وجوده الفيزيائي المباشر على الصفحة أو في الفضاء الصوتي " "7" . وفي هذا المدى المحسوس ، في هذه اللغة تحديدا ، يغامر الناقد الحديث لاكتشاف الخصائص المميزة للشعرية . أي أن اللغة ، لا الوزن أو القافية ، هي ما يتجلى فيها أو خلالها شعرية النص ، ونبضه أو شرارته .
شعرية النظم أم شعرية اللغة ؟
كان الانبهار بالنص القرآني ، وهيمنته التعبيرية الآسرة يمثل أحساسا عفويآ ، عامآ أتخذ . في البدء ، شكل التضاد مع الحالة الجديدة واتهام النبي بكونه شاعرا.
لا شك أن تهمة كهذه ذات دلالة على احساس الناس بالشعر ، ونظرتهم ، آنذاك اليه . لقد كان العرب في ذروة فطرتهم النقية ، وكانت معرفتهم بالشعر ، وهو ديوإنهم ، معرفة وثيقة. فكيف لم يمنعهم ذلك كله من اتهام النبي بالشعر والجنون ؟ مع انهم يدركون ، تمامأ ، خلو القرآن من عنصر الوزن المطرد ؟
قد لا يخلو الأمر من مكابرة ، أو مغالاة ، لكنه يعكس ، وبعمق ، هول الخضة التي أحدثتها لغة القرآن ، تلك الخضة التي لا يحدثها الا نص فريد ساعدت على انجازه قوة روحية هائلة لم يجد عرب الجاهلية تفسيرا لها غير الشعر والوحي والجنون . لقد كانوا ، في ربطهم بين القرآن والشعر ، يستجيبون لفطرتهم الانسانية الأولى" 8 " .
ان ذ لك الجدل الخصب ، حول النص القرآني وطاقته التعبيرية ، لا يعكس اقرارا بسحره الطاغي فحسب ، ولكنه يجسد في الوقت نفسه ، الاحساس بامكان شعري مدهش يقع خارج النثر المطلق ، وخارج الشعر المطلق كذلك . انه اعادة اعتبار لفاعلية نصية لا تستمد قيمتها من وزن أو قافية ، لكنها ، مع ذلك ، تظل طافحة بامكانات تعبيرية ، مؤثرة .
كان ذ لك الجدل ، حول قوة النص القرآني وجاذبيته ، أو ما اصطلح على تسميته بالاعجاز يمثل ، إلى حد واضح ، إعلاء للغة باعتبارها مقياسا للأداء الراقي ، وتكريسا لبنيتها باعتبارها تجليا للشعرية والتأثير.
لقد تم ، في أجواء تلك النقاشات الخصبة ، التخفيف الى حد كبير من هيمنة الوزن والقافية على تحديد الشعر وفهمه ، فما عادا حاسمين في تحديد شعرية القصيدة وبذلك حرم الشعر /النظم من عنصر مهم كان يضمن له أفضلية مطلقة . من جهة أخرى بدأ الاقرار بشعرية نصية ، داخلية تنبثق من لغة النص وتترشح عن بنيتها ، ووشائح الصلة والتفاعل بين عناصرها.
ذهب الكتاب مذاهب شتى ، في حديثهم عن النص القرآني ، هذا النص العميق ، المثير ، الآسر. ولقد دفعهم ذلك لا الى اكتشاف الفاعلية التعبيرية في القرآن فقط ، بل الى تلمس خاصية السحر والجمال في الكلام عموما ، شعرا كان هذا الكلام أم نثرا. وقد وصلت اجتهاداتهم الجريئة ذروتها الراقية لدى الجرجاني لتشكل منحى جديدا ، في النظر الى النص وتحديد جماليته ، لا يلعب الوزن والقافية ، مجردين ، أي دور حاسم فيه ، أي أن تلك الكشوفات كانت تقول ، بلغة زمانها وببراعة وعمق ، ما يقوله النقد الحديث عن شعرية النص التي تطفح بها لغته أو بناؤه .
الأثر القرآني ، اذ ن ، لا يتمثل فقط في تجسده النصي العميق ، الصادم ، المتماسك في حد ذاته بل يكمن ، أيضأ. في ذلك الأفق الذي فتحته بنيته الكتابية تلك أمام الشعرية العربية "9". أن القرآن لم يكن ، بالنسبة للجاهلية قطيعة معرفية فقط ، بل كان ايضأ قطيعة "على مستوى الشكل التعبيري " " 10 " لقد كان بعبارة اخرى "كتابة يصح القول ، أن الجدل حول النص القرآني يمثل ، في حقيقته مدى جديدا أدى الى البحث عن تأثير شعري يقع خارج الشعر بحده المشروط بالوزن والقافية . أي أن ذلك الجدل المدهش كان إيغالا داخل النص ، كان فتحا لمغاليقه ، وبناء عبارته والوشائج العلائقية فيه التي تنضح عبر تفاعلها المشتعل ، برائحة النص وشعريته . وبذلك صارت اللغة هي المحك . وصارت الطريقة "11 " التي تستخدم بها اللغة هي المقياس للتمييز بين النثر والشعر.
شعرية الحلم والوجد والرؤيا حين نتحرى عن تجسدات الشعرية ، خارج مظانها العربية ، المألوفة ، الراسخة ، علينا ألا ننسى مستوى آخر لهذا التجسد بتمثل في النص الصوفي . لتد كان هذا النص في خصائصه التعبيرية والنفسية والروحية ، يطفح بطاقات شعرية أخاذة ، إنه نص مفارقلجادة النثر المألوفة بامتياز وافي ، هذا من جهة ، وهو من جهة أخرى ، نص يخترق مملكة الشعر الموروثة ليؤسس بوجوده الصافي ، الغامض ، المتشظي نموذجأ لشعر آخر مختلف يقع خارج التقاليد ، شعر يتطلع من وراء الأسيجة السميكة ، الى ذلك البحر المائج الطري المكتظ: أعني امكانيات الشعر ، الشعر الممكن ، أو الشعر بالقوة ، الذي يتفجر ، كما في النثر الصوفي ، بعيدا عن شرطي الوزن والقافية اللذين كانا ، في المنطور التقليدي ، حاسمين في تحديد شعرية النص والحكم عليه .
في النص الصوفي تنهض اللغة ، كما في النص السوريالي والرمزي ، بدورهائل في التعبير عما هو خفي ، وشائك ، وقصي ، ومحاولة الامساك بما يصعب الامساك به: النبض الخفي للروح وهي تلتاع في توقها ، وشطحاتها ، وصبواتها المدمرة.
وبذلك فان هذا النص لا يستمد شعريته من قانون قبلي ، كالوزن أو القافية ، بل من بئر الروح ، من تفجر لغتها الاشراقية ، ومن انثيالها الطليق ، الغض ، المتناقض كالحلم .
ان النص الصوفي والنص السوريالي ، كليهما ، ينطلقان غامضين ، كثيفين ، من النبع ذاته ، فالشعر السوريالي نشاط صوفي ، عدا أنه "يرفض أي انتماء ديني " "13 " وهو يصدر عن "الحرية والحلم والرؤيا" كما يقول أدونيس .وتجسد الكتابة الصوفية حنينا عميقا الى المطلق . كما تكشف عن نزوع مدمر هو ، في حقيقته ، تجل لتوتر حاد ، بين الذات والآخر. ""بين اللحظة الحاضرة. والزمن الأبدي ، بين امكان القائم الآن والمكان الآخر"15 ".
وهكذا ينضم النص الصوفي الى تلك النصوص التي تسهم جميعها ، قي خلق مناخ ابداعي لا عهد للكتابة العربية به ، مناخ يحرر الشعرية من قيد الوزن والقافية ، ويعود بها ، مرة أخرى ، خصيصة في النص أو في اللغة تحديدا وما تشتمل عليه ابنتيها وعلاقاتها من اشتعال وفتنة .
كيف يغدو الشعر نثرا موزونا ؟
من المؤسف حقا ان المناخ الذي شكلته تلك الاجتهادات الخصبة ، الجريئة ، الباحثة عن شعرية لا يحددها الوزن والقافية وحدهما لم يتنام الى أفقه المرجو ، لقد حال ببينا وبينه ركام من الكتابات المنطومة التي تستمد شعريتها ، وشرعيتها أيضأ ، من أعراف خارجية ، جاهزة . وقد صار التسليم بتلك الأعراف ، كما هو التسليم بكثير من قيم الحياة ، قانونأ أوصل حياتنا العربية الى عراء روحي لا حدود له . وهكذا ترسخت ثانية ، تلك المقاييس الخارجية التي كانت قد فقدت ، بسيب أجواء الجدل المنفتح آنذاك ، الكثير من هيمنتها.
وشهدنا. بذلك فترات لم يسد فيها الوزن والقافية وحدهما ، بل هيمن فيها الصدأ ، واللعب اللفظي على لغة الشعر ، فلم تعد تفجرأ لروح النص بل غدت رغوة لامعة لا حياة فيها. ما عدنا نرى نثرأ راقيأ يتفجر بثراء شعري داخلي ، ولا مسعى يتحرى عن الامكان الشعري داخل تركيب النص بعيدا عن قوسي الوزن والقافية. لقد تحول الشعر ، شيئآ فشيئأ ، الى ركام يدنو من النثر العادي ، يقترب من فجاجته وتفككه ، وبرودته ولا يتميز عنه الا بالوزن والقافية ، تحول الشعر الى ما يسميه جون كوين نثرآ موزونا.
ظل التعارض راسخا بين الشعر والنثر زمنآ طويلأ ، حتى لم يكن هناك درجة أقدم من هذا التعارض ، كما يقول "جيرار جينيت "، ولا أكثر عالمية منه "16 ". ومع بداية هذا القرن العاصف بدأ عصر آخر مغاير ، أخذت فيه الفنون عامة وفنون القول بشكل خاص تقترض من بعضها بعضأ. هبت ريح أخرى ، عميقة ، باطشة هزت مملكة الشعر كلها:
وجعلت منها فنآ ادبيأ يتفق مع النثر في معظم الخصائص الألسنية ، ولا يمتاز عنه الا بصفات شكلية محدودة "17 ".
وهكذا تداخلت الحدود بين الأجناس الأدبية ، بى غامت الخطوط بين أنواعها ، وأخذت بعض النظريات النقدية الحديثة تمعن في تغييب تلك الحدود ، فاذا بالشعر "نثر اذا كان نظما ، واذا النثر شعر اذا كان مشبعا بالصور "18 " ، تشحنه الرؤى . وتنهض به لغة ذات خصائص شعرية. وبدأ بعض النقاد يرون في كثير من الآثار النثرية أعمالأ "ترقى الى منزلة شعرية عالية" " 19 " بل وذهب آخرون " 20 " إلى أن "الأوديسة" و "الالياذ ة" ، مثلأ روايتان شعريتان كما ان "سلامبو" قصيدة نثرية.
أما البداية العربية لهذا القرن فقد شهدت نهرا من الجدل ما يزال هادرا حتى هذه اللحظة. ففي مقالة له عن (الشعر المنثور في اللغة العربية) كتب جرجي زيدان " 21 ".
"إن الشعر عند الغربيين منظوم ومنثور ، وان المنظوم قد يكون موزونا غير مقفى أو مقفى غير موزون ، وانما العمدة عندهم على الخيال الشعري أو المعاني الشعرية".
وبذلك فان هذه الاشارة تطرح قضيتين مهمتين فهي ، أولأ ، تستخدم مصطلحأ لا عهد للعربية به: الشعر المنثور Prose Poetry . كيف يكون الشعر منثورا، صدمة للذائقة التي كرستها قرون من السلوك الفني الذي وضع النثر في موضع التضاد مع الشعر ، وهو ، أي المصطح ، خرق لأعراف ثابته ترى في الوزن والقافية عنصرين لا وجود للشعر ، خارجهما ، على الاطلاق .
أما ثانيأ ، فان زيدان يحتكم هذه المرة لا الى ما قاله نقادنا القدامى عن حدود الشعر وموطن السحر فيه ، بل الى نظرة الغربيين الى الشعر وفهمهم له ، هذا الفهم الذي يرى أن الخيال أو المعاني الشعرية هي المعول في تقرير مفهوم الشعر ، وتحديد فاعليته .
وللحقيقة فان نقلة أخرى في فهم الشعر يمكن تلمسها في كتابات جيران . إن الشعر ، لديه ، لم يعد وزنا وقافية ، بل أصبح "رؤيا جديدة للعالم والانسان ، وشكلأ كتابيأ ، موزونأ أو منثورأ ، يحتضن هذه الرؤيا" 22 " .
كان جبران ، في ما كتبه عن الشعر المتثور ، يضع الأساس لمعايير مختلفة يتم ، عل ضوئها ، تحديد الشعر تحديدأ جديدا "23" ، كما أن ما كتبه هو والريحاني من شعر منثور كان يعتبر ، لدى البعض ،آخر السلم "الذي أوصل الشعراء الى قصيدة النثر " 24" ، كان التمهيد الآول والضروري لها.
قصيدة النثر والانماط المجاورة :
ان اول ما يواجه من يتصدى لدراسة قصيدة النثر Prose Poem العريية هو ضيابية الخطوط الفاصلة بينها وبين الشعر المنثور Prose Poetry أو الشعر الحر Free Verse . ولقد أدى غموض تلك الخطوط الى نتائج أسهمت ، بدورها ، في زيادة المشكلة .
ويعود هذا التشويش ، في معظمه ، الى تباين المصادر الثقافية لقصيدة النثر أو الشعر المنثور من جهة ، والى تداخل النماذج الشعرية وضياع التمايز بينها من جهة أخرى .
كان الرافد الفرنسي يمثل التآثير الأساسي ، نموذجل ومفهوما ، على شعراء قصيدة النثر من العرب ، كما يتجلى في شعر ادونيس وانسي الحاج ويوسف الخال تحديدا . أما المصدر الم لانكلوسكسوني للتاثير فقد ظل اقل انتشارآ ، لكنه كان واضحا في نتاج شاعرين لا يسميان ما يكتبانه قصيدة نثر بل شعرا حرا Free Verse هما جبرا ابراهيم جبرا وتوفيق صائغ. ان تباين هذين المصدرين في النظر الى قصيدة النثر . مصطلحا وتطبيقا وجد صداه في الكثير مما كتب في
قصيدة النثر وعنها أيضأ.لا شك ان هناك فروقأ ملموسة ، بين قصيدة النثر والشعر المنثور ، لكنها تشير جميعأ الى فارق أسالهي يتمثل في البناء الشعري لكل منهما ، وتقود ، في النهاية ، الى تعميقه وابرازه . أما التمايز بينها وبين النثر الشعري فهو شديد ولا يمكن التهوين منه. إن "ادونيس " ، مثلا ، يرى " 25" "
"ان النثر الشعري إطنابي ، يسهب ، بينما قصيدة النثر مركزة ومختصرة ، وليس هناك ما يقيد ، مسبقأ ، النثر الشعري ، أما في قصيدة النثر هناك شكل من الايقاع ونوع من تكرار بعض الصفات الشكلية . ثبم ان النثر الشعري سردي ، وصفي ، شرحي ، بينما قصيدة النثر ايحائية".
لقد حاول نقاد كثيرون التمييز بين قصيدة النثر وسواها من الكتابات الشعرية المجاورة كالشعر المنثور ، أو النثر الشعري Poetic Prose ، أو الشعر الحر. ومع كل ذلك فان الحدود بينها ما تزال غائمة في أذهان الكثيرين . كانت تلك الجهود تسعى الى الكشف عن التمايز ، وبلورة المغايرة لكنها كانت تصطدم بذلك إلتداخل ، واختلاط الحدود أحيانأ.
ويبدو ان هذه الصعوبة ، في التمييز بين قصيدة النثر وغيرها من الأنماط الشعرية ، لا يقتصر على الأدب العربي وحده . لقد كان الاختلاف ، بين النقاد الانجليز شديدأ ، في الحكم على ما يكتبه "وولت وتمن " ، مثلا ، ذلك لأن:
"الخطوط الفاصلة ، في الانجليزية ، ببين الشعر المنثور والشعر الحر كانت مبهمة الى حد أن ما يكتبه شاعر مثل ،(وتمن ) كان يعتبر من قبل بعض النقاد شعرا حرا ، بينما هو ، لدى آخرين ، شعر منثورا" 26 " .
تذهب موسوعة "برنستون " للشعر ، في تعريفها قصيدة النثر"27" ، إلى أنها تأليف له "بعض ، أو كل ما للقصيدة الغنائية القصيرة من خصائص " مع استثناء واحد هو انها "تطبع على الصفحة كما يطبع النثر" ثم تميز بينها وبين الأنماط الشعرية المجاورة"28". فترى انها تختلف عن النثر الشعري في قصرهـا وتركنيرها ، وتتميز عن الشعر الحر في افتقارها الى الوقفات في نهايات الأسطر ، أما ما يميزها عن القطعة النثرية القصيرة فهو انها تمتلك عادة ايقاعا أشد بروزا وتأثيرا صوتيا واضحا ، وكثافة تعبيرية .
وفي حديثه عن الشعر الحر ، يرى "ابرامز" " 29 " انما هذا الشعر يختلف عن النثرفي انه:
"يطبع في أسطر قصيرة ، دون أن يكون له ما للنثر من استمرارية ، ويشتمل ، أكثر من النثر العادي ، على ايقاع محسوب . لكنه يفتقر الى أنماط النبر المقطعي المنتظم في العروض التقليدي الذي يأخذ شكل التفعيلة المكررة".
أما بالنسبة لأدبنا العربي فقد بذلت جهود كثيرة أيضأ للتمييز بين هذه الأنواع الشعرية كما رأينا ذلك لدى أدونيس وانسي الحاج وآخرين ، يرى جبرا ابراهيم جبرا مثلا " 30" ، ان ما يميز قصيدة النثر عن الشعر الحر كون قوامها "نثرا متواصلا في فقرات كفقرات أي نثر عادي " بينما يذهب د عبدالواحد لؤلؤة الى ان الشعر الحر هو تنظيم الأبيات "دون اعتبار لوزن أو قافية الا ما جاء عفوأ "31".
وحين نتأمل هذد التعريفات وسواها نجد أن المعول عليه في التفريق بلإت قصيدة النثر والشعر المنثور والشعر الحر هو الوجود الفيزيائي للنص ، أي شكله المتحقق على الورق . وهذا المقياس خارجي ، ومؤقت ، ونسبي وليس داخليا، أصيلا متجذرا في النص الشعري . إن ترتيب الأسطر أو توزيعها على الصفحة قضية بالغة المرونة وقد تختلف من شاعر الى آخر اختلافا بينا ، لأسباب شكلية ، أو طباعية ، أو جمالية لا صلة لها بجوهر النص أو طبيعته الشعرية.
قصيدة النثر : المفهوم والخصاص :
في كتابها "قصيدة النثر من بودلير الى أيامنأ" تعرف "سوزان بيرنار" قصيدة النثر بأنها:
"قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية ، موحدة ، مضغوطة ، كقطعة من بلور. . خلق حر ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء ، خارجا عن كل تحديد ، وشيء مضطرب ، ايحاءاته لانهائية" 32".
ويتضح من هذا التعويف ، كما سيتضح من تعريفات أخرى غيره ، ان هذا النمط الشعري يقترض من الشعر الكثير من عناصره عدا إلوزن والقافية . كالتركيز ، والوحدة ، والدافع الابداعي ، الحر ، وثراء الايحاءات .
ومع ذلك فان هذا المصطح يختزن قدرا مثيرا من التناقض ، هو تناقض قصيدة النثر ذاتها شكلا وطبيعة:
"نثر وشعر ، حرية وصرامة ، فوضوية مدمرة وفن منظم . . ومن هنا يبرز تباينها الداخلي ، وتنبع تناقضاتها العميقة الخطيرة. . والغنية : ومن هنا نجم توترها الدائم وحيويتها " " 33 " .
ان هناك ، كما هو واضح ، تضادا ، مثيرا ، خصبا في أصل التسمية ، تضادا بين طرفين لم لا يلتقيان عادة ، غير أن ما يجمع بينهما وحدة التضاد طرف من التسمية يتضمن نزوعا قويا "الى رفض الأشكال الموجودة" " 34"بينما يتضمن الطرف الآخر قوة تسعى الى التنظيم وبناء وحدة شاعرية " "35".
تمثل ولادة قصيدة النثر رغبة عميقة في التحرر من تقاليد اللغة ، والتمرد على قوالب العروض ، ووضع حد لطغيانها الذي كان يحدد ، بمفرده ، شعرية النص . لذلك حاول الشعراء تحرير الشعر أولأ من ارتباطه بقيد خارجي هو "فن نظم الشعر" والبحث ثانيا عن "عناصر شعر جديدة" داخل النثر "36".
وكان الميل الى اقصاء الوزن ، باعتباره عنصرا أساسيا من عناصر الشعر ، لا ينفصل عن الدافع الأساسي لولادة هذا النمط الشعري الجديد: الاعتراض على قيد خارجي متوارث . كان الوزن التقليدي يلبي ، في الانسان ، غريزة الاستسلام للايقاعات الجسدية والكونية وحب النظام "37".
وهكذا فان النظرة الى الوزن الشعري ترتبط بموقف الانسان من الكون والحياة واستجابته لهما جماليا وفكريا. تقول "بيرنا" "38"
" ان الشاعر الذي يكتب شعرا (نظاميا) يكون متطابقا بصورة أساسية ليس مع المجتمع حسب ، ولكن مع الخليقة برمتها ، في حين أن الشاعر النثري المناهض للشكلية ، يتمرد على هذا الخلق ".
حين أقصي الوزن الشعري خارج اهتمام هذا النمط الشعري ، خارج مكوناته ، كان على الشاعر ، وننك حقيقة لا مهرب من الاقرار بها ، أن يعوض عن الوزن بجملة من الخصائص التي ترتبط بالنثر. ان يستنفر في لغة النثر أقصى طاقاتها ، للارتفاع بها الى مستوى الأداء الشعري. لذلك كان على قصيدة النثر ان تلتم على نفسها ، وتتوتر ، وتصفو ، وتقاوم الانزلاق الى النثر العادي . عليها أن تحقق ما تسميه سوزان برنار التأثير الكلي ، والمجانية والكثافة ذلك لان قصيدة النثر:
"(عالم مسور ، مغلق كل نفسه ، ويكتفي بذاته .. كتلة مشعة ، مشحونة ، بحجم صغير ، بلا نهاية من الايحاءات "39".
واشتراط الحجم المحدد ، في قصيدة النثر ، يتم التركيز عليه باستمرار كما يبدو. ان موسوعة برنستون " 40 " ، مثلا ترى ان طول قصيدة النثر يتراوح عموما ، بين نصف صفحة(فقرة واحدة او فقرتان ) الى ثلاث وأربع صفحات ، وهو طول قصيدة غنائية متوسطة. ويبدو ان لهذا الشرط علآقة بالشروط الأخرى لقصيدة النثر ، كوحدة التأثير ، والكثافة. لأنها حين تمتد أكثر من ذلك فانها تخسر توترها وتأثيرها ، وتصبح نثرا شعويا " 41 ". حاول شعراء قصيدة النثر أن يعوضوا عن الوزن الثسعري بعناصر أخرى كالتوازي Parallelism والسجع ، والجناس الاستهلاليAlliterarion التكرار ، التنويع في أطوال الأسطر ، الافادة من حروف اللين دلالة صوت الكلمةOnomatopoeia كما حاولوا ايضا ، أن يولوا عناية خاصة للتركيب اللغوي لقصائدهم ، وذلك يشمل:
"البناء الكلي للعبارة ، الجملة ، الفقرة. القلب والتقسيم غير المتوقع وغير التقليدي للوحدات أو السياقات التركيبية ، والتنويع في أنماط العبارة (توكيد ، استفهام ، تعجب ) "43 ".
ولا شك ان هذه المحاولات تعكس ، قبل أي شيء آخر ، توق الشاعر ، أعني شاعر قصيدة النثر ، الى تجاوز جمالية الوزن الشعري والتعويض عنه بخصائص صوتية وجمالية تنتمي الى حقل آخر هو حقل النثر. لكن هذا المسعى لا يكلل دائمأ ، كما يبدو ، بابداع قصيدة نثر مكتملة تماما. ان خلو قصيدة النثر خلوا مطلقا من الوزن لم يكن في صالحها دائما. وليس من الحكمة في شيء ، كما يقول "كمال أبو ديب " " 44 " ، نكران هذا الارتباط "بين الشعر وبين الايقاع أو الوزن أو كليهما ، حتى حين نرفض اعتبار الوزن شرطا كافيا للشعرية "، لأن للبنية الصوتية دورا عميقا في " تجسيد التجربة و الدلالة ".
يصف "ريفاتير" الجهود التي درست قصيدة النثر قبله بأنها أرادت:
"أن تكشف في النثر ايقاعات الشعر وخصائصه الصوتية ، بينما تخلو كثير من قصائد النثرمن أي من هذه العناصر" 45 ".
ويبلغ الاحساس بصعوبة هذه المهمة أقصاه لدى شاعر كتوفيق صائغ . فهو يرى انك "46" ،في قصيدة النثر إما ان تكتب شعرآ ممتازا جدا أو رديئا جدا ، وليس هناك من خيار ثالت . وعنده أن شاعر قصيدة النثر حين يرفض عناصر الشعر المتفق عليهاكها ، فعليه ان يعوض عنها بالصور ، الأخاذة "47 " ، ونمط من الايقاع متنام ، داخلي ، جديد ، ورؤيا جديدة للحياة والوجود. ولا شك ان
قلة من الشعراء فقط ، كما يضيف توفيق صائغ نفسه ، كانوا قادرين على تحقيق ذلك .
قصيدة النثر وحداثة الشعر العربي :
إن الجدل حول قصيدة النثر لا يتخذ الآن ، عمومآ ، ذات المسار الذي اتخذه في منازلاته المبكرة: البحث عن شرعية لهذا النمط الشعري ، أو أب ودود ، او تسمية لائقة . ان الآمر ، كما أ ظن ، يتجاوز الآن هذا المطلب ، ليصبح قضية أشمل تندرج في سياق القصيدة العربية الحديثة ، تنصهر في مناخها الآعم والأعمق . ان الخلاف حول المصطلح "48 " لا يضير قصيدة النثر كثيرا ، اذا
استطاعت أنها تشكل ، ب الأنواع الشعرية الأخرى مجرى حيا في واقعنا الشعري .
تجسد قصيدة النثر ، الآن ، في ما تجسد من دلالاتها جزءا من اتجاه حداثتنا ااشعرية ومطالبها الجمالية والفكرية . وهي ليست اندفاعة خارج هذد الحداثة ، ولم تتبت أنها كذلك حتى الآن . ان عليها ان تبرهن ، باستمرار ، انا تمثل عبر نماذجها ا الفاعلة ، شرارة اضافية تندلع في الطرف الآخر من الغابة.
أرست حركة الشعر العربي الحديث ، لاسيما في مراحلها اللاحقة مناخا لحداثة شعرية مغايرة. الى حد واضح ، لتلك التي سعت اليها إلقصيدة العربية في حداثتها الخمسينية. ولقد حققت قصيدة النثر الكثير من شروط حريتها ضمن مناخ الحداثة هذا.
كان من أبرز ما أسفر عنه هذا المناخ الجديد جملة من المعايير يحكم ، بالقياس اليها ، على شعرية النص وغناه الداخلي . فلم يعد الشعر صياغة وزنية للتجربة ، ولم يعد أيضأ ، فيضأ من آنين الروح أو بهجتها الطافحة ، يتدفق ، هكذا ، عفويأ منثالأ ، دونما ضابط ، أو هيمنة ، أو تنظيم .
لقد صار الشعر ، في تطوره الأرقى ، رؤيا للحياة والكون تختزل تجربة الشاعر الكيانية في شكل حسي شديد الدلالة . لذلك ما عاد الشعر الحديث مجرد انعطافة شكلية ، بل صار مفهوما جديدا ، ورؤيا ساعدا على الانتقال بحركة الحداثة الى أفق جديد مغاير "49 ". وهكذا تستمد القصيدة الحديثة حيويتها ، لا من انجاز عروضي شكلي بل من جسيدها لرؤيا شعرية تخص الشاعر ، ويترشح عنها
موقفه الجمالي والفكري ، في بنية حسية تعبيرية.
وكان الموقف من الوزن الشعري يمثل زحزحة أخرى للحدود الضاغطة على حرية الشاعر. وتليينأ لقيوده التي أحزنت قدميه وحرمتهما حرية الرقص قرونأ عديدة ، وآفقدت يديه حرية التلويح والكتابة في فضاء ، حر ، غامض ، منفتح . بذلك بدأ البحث عن ايقاع للقصيدة لا يتمثل في الوزن الشعري وحده ، بل في حرية إيقاعية ممكنة تقع خارج ااوزن الموروث ، خارج اطاره الجاهز الذي تحدر إلينا عبر ركام من القرون الصوتيه ، متخطيآ حواس الأسلاف ،
حاملأ الينا ميراثنا من احساسهم القديم بالطرب والنشوة الحسية.
وكان هذا الايقاع يتجاوز الوزن الشعري ليجد تجسيده الممكن في خلخلة ذلك الوزن . في كسر تشكيله الهندسي الحاد، وترويض اندفاعاته الصوتيه المتسارعة. وكان الشاعر العربي يحاول انجاز ذلك عبر سلسلة من عمليات الاقتحام تعيد ألاعتبار ، لأول مرة ،. لزحافات الشعر ، وتشحنها. بعد تحريرها من طاقتها السلبية ، بفاعلية جديدة، تستطيع عن طريقها تغذية القصيدة بما تتطلبه من
سرعة أو ابطاء آو بعثرة أو انثيال . ولم يكن هذا الايقاع مقصورا على
ما يحدثه الشاعر في الآشكال الوزنية من تحوير أو زعزعة شيقة تقترب