إن مساءلة القصيدة المغربية المعاصرة من مكان التداخل بين الشعري والسردي، في حقيقة الأمر، مساءلة نقدية للشعرية بوجه عام، العربية منها وغير العربية. فوفق الاشتراطات الإبداعية المنفتحة والرؤى الحضارية الحركية تتأبى تجارب الكتابة الشعرية خارج القوالب المتعارف عليها على التحقيب وتعميم المثال الجمالي، والمنطق اللغوي المسكوك: الماضي في أوجهه البلاغية المتوارثة وصيغه التعبيرية المكرورة.
وكمثيلاتها في الأقطار العربية والعالمية، تتحقق بوصفها منجزا شعريا اختلافيا لاعتبارات تغييرية وبوصفها عاصفة شعرية تعيد كتابة تاريخ الشعر والقصيدة، وسؤال الذات في علاقتها المتوترة بنفسها وبالكائنات المحيطة في العالم بها، وهي تنكتب وتنوجد بـ/ وعبر الكتابة. وبخلخلة الساكن وإعادة بناء قضايا الراهن المعرفي والوجودي تكون قصيدة صراعية بامتياز، جديرة بالإقامة في الوجود والكينونة الشعرية الحداثية خارج الاعتبارات والمرتكزات النقدية والتأويلية الإطلاقية المتعالية، باعتبارها ضرورة، وشرط حياة وكتابة.
ومن بين الأسئلة التدميرية سؤال الحدود: البداية والنهاية حول ركني الثنائية : شعر – نثر ، وما يتفرع عنه من تداخل وتناص بين ما هو شعري وما هو سردي. ما هي نقط التماس والتقاطع المؤسسة قرائيا ونقديا وتأويليا وفق علاقة التفاعل بين المكونات النصية لتحقيق الشعرية. سؤال الحدود والإقامة التخومية البرزخية يستبطن فرضية محورية هي فرضية الكشف والتجاوز التي تنزل اللغة الشعرية منزلة الدهشة والمفاجئة: ’’ إذا كان الشعر تجاوزا للظواهر ومواجهة للحقيقة الباطنية في شيء ما أو في العالم كله، فإن على اللغة أن تحيد عن معناها العادي، ذلك أن المعنى الذي تتخذه عادة لا يقود إلا إلى رؤى أليفة، مشتركة. إن لغة الشعر هي لغة الإشارة.‘‘ (1)
بهذا المعنى، فالمنطق الشعري في القصيدة المغربية المعاصرة هو منطق الاتصال والانفصال: الاتصال المبدع وفق سجلات بنائية يحكمها التناص وتثاقف النصوص، والمشاركة الفعالة في تأسيس المغرب الشعري وفق الانفتاح على بهاء الأمكنة والجغرافيات والذوات والمتون، والانفصال الذي لا يتهيب القطع مع المنجز والمتحقق الشعري الفردي والجمعي على حد سواء. ولهذا فإن الرأسمال الشعري ما فتئ ينوع نفوذ استثماراته ومضارباته في بورصة القيم الجمالية الإنسانية.
هي رؤيا تكاملية تؤسس لقصيدة حرة منطلقة تتغذى من نبع التحولات العميقة في الذات والعالم، وتفيد من مختلف التجارب المعرفية والشعرية الإنقلابية عبر التاريخ الإنساني ابتداء من القديم والحديث بنفس الروح النقدية، وانتهاء بتقويض الأنظمة والأنساق ومعانقة مختلف الإتجاهات الفكرية والفنية التثويرية الجذرية.
وقبل هذا العامل الحيوي أو ذاك، تنبثق الكتابة الشعرية خارج المألوف من طرائق وأشكال عن الضرورة والحاجة الماسة إلى التذويت، والرهان على القصيدة الخطاب باعتبارها أفقا انقلابيا في برامج الكتابة المغايرة المنذورة للمحو، والمنفتحة على النقصان، وإعادة أفعال الهدم والبناء.
قصيدة سياستها مراجعة نقدية للمنجز الشعري المغربي الحديث على اختلاف أسماء الفاعلين الشعريين في بناء جغرافياته وتواريخ ذواته وسياقات تحققاتها المعرفية والثقافية، ابتداء بالتقليدية وانغلاقها في حدود محاكاة النماذج الشعرية المشرقية، مرورا بالرومانسية وظلالها الباهتة من الناحية النظرية والنصية، إلى التجارب الشعرية المعاصرة وتفاوتها في وعي الراهن والرهان الحداثي الصراعي. ولا نبالغ إن زعمنا أن القصيدة، ضمن هذه الدورة التاريخية، مراجعة للشعرية العربية الحديثة في تآلفها واختلافها مع قريناتها في الوطن العربي الكبير. ومشترك التفكيك والإبدال بين التجارب الشعرية في القصيدة المغربية المعاصرة، تحديدا، يناقض، في جوهره ، المشترك الرؤيوي الشعري والمعرفي المنغلق على نفسه ضمن حدود المثال والشكل الجمالي المعمم. ولهذه الأسباب، لا مسوغ نقدي يسمح بالحديث عن جيل أو أجيال شعراء لأن الإمضاء الشخصي الذي يمهر الجسد النصي مدموغ بدمغة ذاتية تنصهر فيها المعرفة الشعرية الحديثة بكل أبعادها التفكيكية، ورهاناتها على التحول المستمر. واستعصائها على التحقيب الذي لا يسعف سوى في إبراز الملامح والتقاسيم المشتركة على النحو الذي يتجلى في البرامج الشعرية المهادنة التي لا تغاير التقليد، أو التي تتوسل بالتجديد الشكلي ضمن حدود المحافظة والارتكاس.
عندما تهدم الثنائية : شعر – نثر التي يقابل ويماثل فيها الشعر النظم، كما استقر في الشعرية العربية القديمة، تنهدم، تلقائيا، الحدود بين ما صنف في خانة الشعر الكلام الموزون المقفى، وما صنف في خانة النثر : الكلام المحلول المنثور، كما ينتفي ركن التمييز: « الوزن» باعتباره عنصرا محددا للجنس الأدبي: الشعر. ، معيار القولبة والتصنيف في هذا الجنس أو ذاك بكل تناقضاته ومفارقاته. ومن هنا، لا تصمد مفاهيم وتصورات شكلت أدوات إجرائية في مقترحات قرائية وتأويلية، ومثلت انشغالا: نظريا وإبداعيا في ممارسات نصية تأسيسية من قبيل: المركز والمحيط، المحلي والعالمي، الحقيقي والمجازي، الشعري والسردي.
مناط النظر في القصيدة المغربية المعاصرة، هو اجتراح لغة شعرية تستوعب الجروح المعاصرة والضيعة الوجودية والفراغ المفضي إلى حدود العدمية. لغة المعاناة الوجودية، وإجابة النداء الجوهري، والسفر في اتجاه الأعماق والمهاوي، تأسيسا للجوهري في الذات والعالم، وما بينهما من أرخبيلات وجزائر تظل، دوما، بحاجة إلى غزو واكتشاف. إننا عندما نناول قضايا الكتابة الشعرية في هذا الأفق الحداثي نخترق، بالضرورة، الأوضاع الثقافية والشعرية المتأزمة، ونعمق الشروخ والتصدعات في بناءات لغوية ومعرفية وتخييلية مكتملة، ونراهن على اكتشافات وسيرورة أنساق تناصات بين ممكنات لغوية تستل الشعري مما هو سردي والسردي مما هو شعري. إن الذات في الكتابة تخلق النسق وتكتشفه فيما تعيد بناءه وتشكيله وتصويره.
ومن ثمة فإعادة النظر في القوانين الشعرية مدخل نقدي أساس في البحث عن رؤى معرفية وجودية وشكلية مغايرة، بها تستبدل سلطة الواحد بسلطة المتعدد. من هذا المكان النقدي، تحديدا، يوضع، بلا توقف تاريخ شعري برمته تحت مجهر النقد وإعادة البناء على مستوى التنظير الشعري المنجز والمفترض، وعلى مستوى البنيات النصية المتحققة، وما تستوجبه من طرائق قرائية مخالفة وتصورات إجراءات تحليلية وتأويلية جديدة. والواقع أن هذه المراجعة لا تقتصر على الخارج النصي بل تتحقق بشكل شعري باذخ في الداخل والخارج على حد سواء. وبمكنتنا مقاربة هذا المكون الحركي من خلال السمة الأساسية المتمثلة في الصراع بوصفه قدر الحداثة، كما يؤكد هنري ميشونيك: ’’الحداثة معركة، بداية معادة دون توقف لأنها حالة مولودة، حالة مولودة للذات لا نهاية له. ‘‘(2) صراع مع التقليد ومع المنجز والمتحقق الفردي والجمعي.
رؤى نقدية تاريخية تساؤلية هي جوهر الوجود الشعري المشع الذي سيجعل المشترك والخاص اللغوي والجمالي في جانب المغاير. وذلك مفتاح محو المطابقة بين الوزن والإيقاع ، ومبدأ ترسيخ الإبدالات الشعرية اللانهائية، والجواب / الأجوبة الشعرية عن أسئلة الأزمنة المعاصرة، بثوراتها وانقلاباتها العقدية والمذهبية والإيديولوجية.
لا نخلص، بالتالي، من تأمل تاريخية القصيدة المعاصرة سوى إلى وعي أسرار الانتقال من الشعر إلى القصيدة، ومن الواحد الجمالي والفني والشعري إلى المتعدد بتحققاته المتباينة وانفتاحه الدائم وارتهانه بالنقصان واللا اكتمال لأن الرهانات الشعرية الإنقلابية نفي مستمر لشجرة الأنساب الشعرية وادعاءات الزعامة والريادة. القصيدة، بهذا المعنى، انفلات من الجاهز المحدد سلفا: اللغوي والتخييلي. إن المرجعيات الشعرية الأساسية في نفيها للمعايير والقوالب الجاهزة لم تنغلق ضمن إطار مذهبيات عقائدية تستبدل معايير بأخرى، تصير، لاحقا، قيودا وأغلالا تقلص من آفاق الحرية. ولهذا وصف الشعراء الأساسيون في هذه العاصفة الشعرية بالملعونين والصعاليك وبالمجانين في تطلعهم العميق نحو المستقبل واللا نهائي في الكتابة والذات والعالم. ومن هنا، ظل الفعل الكتابي الشعري تاريخا للذات في الخطاب، مثلما برهن هنري ميشونيك، فتنوعت، بالتالي، مداخل جس نبضات الماضي، وتفكيك الراهن واستشراف المستقبل. وقد أسهمت العمليات التفكيكية في فتح آفاق بنائية لا نهائية في حقل الشعرية طبعتها الصرامة والدقة، والوعي النظري باشتراطات الجمالية المتجددة المبنية على أساس التناسب والانسجام، كما يتحقق في الشعرية البرتراندية [ نسبة إلى ألوسيوس برتراند Aliosiosius Bertrand] حيث يتأسس حضور المقطع كمكون شعري له وضعية الامتياز في البناء النصي، فضلا عن وعي متقدم بلعبة السواد والبياض في الخطاب. ومثل هذه البنيات قابلة لإعادة البناء والتشكيل والقراءة والتأويل لأنها تحقيق مادي للقطيعة الشعرية مع التقليد، ومع الحداثات المنقوصة التي تعوزها الهواجس الانقلابية. حركية لا نهائية نحو التغيير والفرادة والاختلاف هي علامات التجارب الطليعية في القصيدة المغربية المعاصرة في امتداداتها الكونية. تأكيد الحضور الصراعي الحداثي بامتياز سواء من خلال ارتياد العوالم الما ورائية، وتمتين الوشائج الرحمية بين الفعل الشعري والألم الحياتي من خلال عمق التجربة وصفاء الإشراقات كما خبرها الشاعر الرؤيوي أرتير رامبو من مكان التيه والضلال والضيعة الوجودية العنيفة، أو الرهان على مجهول الذات ومجهول العالم في اختراقات النثري للشعري ، والعادي للنبيل، والتافه الأساسي. دروب وسراديب معتمة آوت الشاعر شارل بودلير الذي تمكن من «العبور من النثرية الإرادية إلى التحليق الغنائي».(3) أو التوتر والقلق والصراع على مستوى التشكيل اللغوي والنسيج التخييلي والسلوك اليومي. وتلك تصدعات عميقة في الكيان الإنساني تتصادى في الجسد الكتابي واشتغال ذواته وأمكنته، شكلت واجهة صراع شعري وحياتي جربه شاعر القسوة والعنف والسخرية إزيدور ديكاس لوتريامون. أو غيرها من التجارب التي راكمت نصوصا شعرية تأسيسية في مختلف الثقافات واللغات أكدت جدارة القصيدة المعاصرة، وطاقات شعرائها الكشفية الهائلة المزلزلة مثلما نطالع في المتون الشعرية العربية التأسيسية لشعراء راكموا إبداعات شعرية أسهمت في تغيير المفاهيم والتصورات وفتحت آفاقا كتابة شعرية منفتحة على الممكن والاحتمال والبحث والمعرفة والسؤال. مثلما يتحقق لدى الشاعر الغريب توفيق صايغ أو الشاعر أنسي الحاج وسركون بولص و محمد الماغوط.. بنيات نصية متقاطعة ومنفصلة فتحت آفاق الحداثة الشعرية العربية على مصاريعها باحتضانها تجارب الكتابة خارج المعايير المعتادة، فأسست بالتالي، تاريخا شعريا مغايرا جسده التراكم الدال والتنوع الملموس في المشاهد الشعرية العربية على امتداد الوطن العربي الكبير، وبروز أسماء شعرية لها حضورها على مستوى الإبداع والتنظير.
ويحسن التنبيه إلى أنه لا بد من الاحتراز لتجنب مزالق في القراءة متداولة، تتجسد، في الغالب، في الانسياق في مسار رصد تقنيات وخصائص شكلية كلية معممة فيما أطلق عليه، عادة، جمالية تعبيرية إطلاقية محددة للشكل الشعري خارج السياقات اللغوية والخطابية والتاريخية. لذلك نهتدي بالتحليل والقراءة النصية لتجنب مزالق الاختزال والتبسيط والتعميم.
فالمنظور الذي نحاول من خلاله رصد سؤال التداخل بين الشعري والسردي في القصيدة المغربية المعاصرة، مزدوج موزع على لحظتين: لحظة نظرية نقدية، ولحظة قراءة نصية نحاول فيها الإنصات للقصيدة نفسها، مع ما يمكن أن يتحقق من امتزاج بين اللحظتية النظرية والقرائية.
نحاول إعادة بناء قضايا العلاقة بين الشعري والسردي من داخل الشعرية بالاستناد إلى المراجعة النقدية التي أنجزها جيرار جنيت من خلال دراساته وأبحاثة العلمية الرصينة في مجال الشعرية. في كتابه: التخيل والإنشاد FICTION ET DICTION 4 وفي دراسته: حدود السرد (5)
واعتبارا لراهنية سؤال العلاقة بين الشعري والسردي في القصيدة، فإننا سنحاول الإفادة من هذه الإضاءات النظرية والنقدية لاكتشاف أوضاعها : مسألة الحدود والتناصات في القصيدة المغربية المعاصرة تحديدا انطلاق من متن شعري محصور لأسباب إجرائية محضة، على ضوء واقع التراكم الشعري الغني والمتنوع، والأسماء الشعرية الفاعلة في تغيير المشهد الشعري الذي يميز تضاريسه التجاور والتساكن بين عدة أشكال وتعابير شعرية.
التخيل والإنشاد: التداخل بين الشعري والسردي:
الفرضية النواة التي يبني جرار جنيت وفقها مقترحه النظري والنقدي من منظور محدد ومحصور قائم على أساس بحث أطراف الثنائية: التخيل والإنشاد ، هي الصياغة الأكثر تداولا من الصياغات الممكنة لتعريف الأدب التالية: «إن الصياغة الأكثر تداولا ، والتي سأتخذها نقطة انطلاق، هي الصياغة الآتية: الأدب هو فن اللغة، إذ لا يعتبر أثر ما أدبيا إلا إذا استعمل الوسيط اللساني بشكل أساسي وحصري .» (6) غير أن شرط اللغة المرتكز الأول في التعريف ليس كافيا؛ ذلك ما أبرزه هيجل، كما بين جيرار جنيت، الذي كان يرى في الأدب وتحديدا في الشعر: «ممارسة غير محددة وزائلة بشكل أساسي، فيما يبدأ الفن بالانحلال ليصل إلى نقطة الانتقال إلى التمثيل الديني، ونثر التفكير العلمي.» (7)
وقضية تعريف الأدب هاته هي نفسها التي كان رومان ياكوبسون قد تناوها في محاولته تأسيس الشعرية اللسانية من خلال السؤال المركزي الموالي: « ما يجعل من رسالة لفظية أثرا فنيا؟» (8)
ومن خلال تأمل هذا السؤال وتفريعاته، والمقترحات التوليدية والتكوينية للشعرية يستنبط جرار جنيت سؤالين تفصيليين حين يؤكد: «ومن ثم نتساءل: : ما الذي من نص ما، شفهي أو مكتوب ، أثرا فنيا» (9) كما يستنبط من سؤال رومان ياكوبسون سؤالين مركزيين هما على التوالي:
ـ ما هي النصوص التي تعتبر آثارا؟
ـ ما هي الشروط ، أو في أي الظروف ( المقامات) يصبح نص ما، وبدون تغيير داخلي، أثرا؟
وما يقابلهما: ـ ما هي الشروط، أو في أي المقامات يكف نص ما، ودون تغيير داخلي على أن يكون أثرا؟ (10)
جامعا الشعريات فيما أطلق عليه شعريات جوهرية للأدبية تشترك في اقتراح جواب / أجوبة ممكنة: فيما يقابل ذلك شعرية مغايرة يطلق عليها شعرية شرطية، ينشغل ضمن إطارها بتقديم جواب / أجوبة عن السؤالين المترابطين:
ـ ما هو الفن؟
ـ أين يوجد الفن؟ (11)
ليخلص إلى المقابلة بين الشعريات المغلقة والشعريات المفتوحة، مذكرا بأن تاريخ الشعرية الجوهرية عبارة عن مجهود طويل ومضن من أجل الانتقال من المعيار الموضوعاتي إلى المعيار الشكلي:
« إن تاريخ الشعرية، الصريح أو الضمني، يبين بأنها قد توزعت بين معيارين ممكنين. أنعت، وبفظاظة، أحدهما بالموضوعاتي والآخر بالشكلي» (12)
كيف يمكن للغة أن تصبح وسيلة إبداعية؟ والجواب المطروح في الشعرية الأرسطية: « لا يمكن حصول إبداعية من خلال اللغة إلا إذا كانت حاملة للمحاكاة، أي للتمثيل أو بالأحرى إذا كانت حاملة أو بالأحرى الإيهام بأفعال وأحداث متخيلة التي إن استخدمتها فلإبداع القصص، أو لنقل القصص التي سبق إبداعها. تصير اللغة إبداعية عندما تسخر لفائدة التخيل»(13)
إن إبداعية الشاعر بالنسبة لأرسطو، لا تتمظهر على مستوى الشكل اللفظي، بل على مستوى التخيل، أي في ابتكار وتنسيق قصة ما: «يجب على الشاعر، كما يقول أرسطو، أن يكون صانع حكايات لا ناظما ، لأنه يدعى شاعرا بالتخيل، ولأن ما يحاكيه هو الأفعال.» وبعبارة أخرى، إن ما يقوم به الشاعر هو التخيل لا الإنشاد. (14) ذلك ما طرحه هويت Huet بعد عشرين قرنا، حيث يقول: « ويمكن، حسب حكمة أرسطو، التي مفادها أن الشاعر يعد شاعرا بالتخيلات التي يبدعها، لا بالأوزان التي يؤلفها، أن نضع صانعي الروايات في عداد الشعراء.» (15)
إن الطريقة الوحيدة التي تمكن الشعر من الانفلات من خطر الانحلال في الاستعمال المعتاد للغة، وتجعل منه، بالتالي، أثرا فنيا هي التخيل، سواء السردي منه أم الدرامي.»(16) وضمن هذه الأطروحة النظرية، يذكر بأن حقل الشعر بوصفه إبداعا: «قد انقسم إلى نمطين إبداعيين هما: النمط السردي والنمط الدرامي، كما انقسم إلى مستويين حسب الموضوعات . ومن ثم نجد هذه الأجناس الأربعة: التراجيديا والملحمة، والكوميديا، والمحاكاة الساخرة (التي تمثلها في أيامنا الرواية). (17)
لا قيمة، ضمن هذا التصور، لنسق الأجناس لأن الأساسي ومناط التأمل والتفكير هو مبدأ الأدبية: ما يجعل من استعمال اللغة استعمالا مفارقا للاستعمال اليومي المعتاد، والمتمحور أساسا حول التخيل.
ومن أجل استكمال النقد والتفكيك يبحث جيرار جنيت في أنظمة خطابات الشعريات الكلاسيكية، فيتوقف عند كات همبورغر Kate Hamburger في منطق الأجناس الأدبية Logique des genres littéraires 18ا لتي يعتبرها: « ممثلة لامعة في أيامنا للشعرية الأرسطوطاليسية.» (19)
وضمن هذا المنظور العام، تتأكد، مجددا، سلطة شعرية أرسطو بوصفها مصدرا مرجعيا هيمن ولا يزال على الوعي الأدبي الغربي والعربي. إن مصطلح الشعر poesis الذي يقابل المحاكاة mimesis ، كما يؤكد جيرار جنيت، لا يدل في اللغة اليونانية على الشعر وحده:
«وأذكر بأن مصطلح Poièsis لا يدل في اللغة اليونانية على الشعر وحده، بل يدل أيضا على الإبداع. ويحدد عنوان الشعرية نفسه موضوع بأن هذا البحث سيكون هو الطريقة التي بفضلها تصير اللغة أداة لإبداعية أي وسيلة لإنتاج أثر ما.» (20)
إن من القضايا الأساسية المطروقة قضية الحدود التي تفصل السرد التخييلي وملفوظات الحقيقة لأن مركز الاهتمام موجه، بالدرجة الأولى، إلى إعطاء شكل وإنتاج وإعادة إنتاج. ويجدر التنبيه إلى أن الرواية، في أيامنا، هي التي تمثل التخيل السردي كما ينبه جيرار جنيت ، في مسعى التذكير بسلطة ونفوذ الشعرية التخييلية.
وينبني مقترح كات همبورغر، حسب أطروحة جيرار جنيت، على رسم الحدود بدقة وصرامة بين مجالات التخيل، سواء كان بالنظم أم بالنثر، أو بصيغة سردية أو بصيغة درامية. بما أنه عبارة عن سمة تتمثل اللذة الحاملة لمبدأ علامة الحكم الجمالي. استعمال مختلف للغة مغاير للاستعمال المعتاد اليومي المقصور على الوظفية التواصلية الإبلاغية. ما يناقض طرائق اشتغالها في حقل التخيل الذي يتموضع «ما فوق وما تحت الصواب والخطأ» (21)
وباعتماد مبدأ التخيل، ينقسم مجال الشعرية إلى ثلاثة أنماط كبرى، كما هو الشأن في الشعريات الكلاسيكية. أجناس تخييلية وأجناس غير تخييلية، و يتولد عن ذلك نسق جديد متفرع عن التقسيم الثلاثي، يحدده جيرار جنيت على النحو التالي: الملحمي والدرامي والغنائي. نجد في جانب التخيل الدرامي والسردي، وفي جانب آخر الشعر الغنائي أو الشعر حصرا. ذلك ما يؤسس منطق الأجناس الأدبية الذي يحتوي وفقه « حقل Dichtung على الجنس التخيلي والإيمائي والجنس الغنائي. في التخيل نواجه ملفوظات تخييلية مصدرها أنوات الشخصيات المتخيلة وتتحكم فيها وجهة النظر والوضعية الفضاء زمنية لملفوظات الحكي بمجمله، أما في الشعر الغنائي فيبقى المصدر مبهما غير محدد.»(22)
تفكيك مضاعف، ومنهجية صارمة تقود إلى الانتباه إلى الاستراتيجيات والفرضيات والأسس النظرية في الشعريات. ما أدركه جيرار جنيت، بصرامة منهجية، وتفكيك رزين ، عندما سجل بأن كات همبرغر تحدد الغنائي حسب موقف التلفظ لا حسب وضعية اللغة. هذا المنهج، كما يشدد جنيت، يعود إلى تقليد رومانسي ألماني عام، يبين بأنه يتحدد من مالارميه إلى الشكلانيين الروس. من مصادراته أن اللغة الشعرية مغايرة للغة النثرية أو اللغة المتداولة. إن اللغة الشعرية ، في هذا الطرح لازمة غير متعدية، لأن الشعر: « يميل إلى إنتاج شكله، إنه يثيرنا لنعيد بناءه تطابقيا.» (23)
ومن خلال تركيز الشاعر الروسي رومان ياكوبسون على النص في شكله اللفظي، وعلى الرسالة اللفظية في وجودها المكتفي بذاته، ينبني المقترح الشعري النقدي، فيما يؤسس علم الشعر: الشعرية اللسانية بالبحث في وظائف اللغة، والمقابلة بين أطراف العملية التواصلية، والوظائف اللغوية من خلال طبيعة الاشتغال في كل نمط من أنماط التواصل، والانتباه إلى مبدأ المهيمنة في التمييز بين كل وظيفة من الوظائف، بما أن: « الشعر هو اللغة في وظيفتها الجمالية»(…) والوظيفة الجمالية للغة هي التخيل.» (24)
بهذا الحفر المعرفي، يهتدي جيرار جنيت في مسار كشف الرهانات والاستراتيجية والفرضيات النظرية في المقترحات الشعرية، ليخلص إلى اعتبار الشعريات الجوهرية شعريات مغلقة، مبررا الحكم بكون النصوص التي تنتمي للأدب، حسب مقترحاتها هي النصوص الموسومة بالعلامة الأجناسية. يقابل ذلك الشعرية الشرطية التي يعتبرها: « فطرية وتجريبية غير تنظيرية تجعل من حكم الذوق معيار كل أدبية.»(25)
وتأسيسا على ذلك، ينقسم نظام الأدبية، في تقدير جيرار جنيت، إلى قسمين: تأسيسي وشرطي، تشمل الأدبية السردية التخيل السردي والدرامي والشعر.
أهمية السرد ومركزيته في التعبير الأدبي
عند بحث أوضاع السرد: شروط كينونته وحدود اشتنغاله، نقف مع جيرار جنيت، مرة أخرى، عند: «…تحديد السرد كعرض لحدث أو لمتتالية من الأحداث، حقيقية أو خيالية، عرض بواسطة اللغة، وبصفة خاصة بواسطة اللغة المكتوبة.»(26)
وهذا التعريف يلغي الحدود وشروط الاشتغال، كما يحجب، مثلما يؤكد جينيت، عن ناظرنا داخل كينونة السرد ذاتها، ما يؤسس، على وجه التحديد، إشكالا وصعوبة.
نرجع قليلا لتأمل مسألة العلاقة بين المحاكاة والسرد.
يعتبر السرد بالنسبة لأرسطو واحدا من صيغتين اثنتين للمحاكاة الشعرية، تمييزا بين الشعر الغنائي والشعر الدرامي، وبين العرض المباشر للوقائع بواسطة ممثلين يتكلمون، ويتصرفون أمام الجمهور، وبين عرض لحدث أو لمتتالية.
وبناء على ذلك : « يتموضع السرد في تعارض مع المحاكاة، وذلك ما كان أفلاطون قد استند إليه في التمييز بين الصيغتين: 1. الصيغة السردية المقدمة بواسطة الديثرامب، 2. صيغة المحاكاة المقدمة بواسطة المسرح. ذلك ما نتعلمه من الدرس الجنيتي (نسبة لجيرار جنيت ): « فهذه القسيمة النظرية بقدر ما تموضع، تعارضيا، بين الصيغتين الخالصتين أو المتغايرتين للسرد والمحاكاة داخل الإلقاء الشعري فإنها تعمق بل تستحكم في تصنيف عملي للأجناس الأدبية،….» (27)
إن التعريف أعلاه يقترب من تعريف المحاكاة التي تقوم على صيغتين: 1. الصيغة المباشرة المتمثلة في المحاكاة، 2. الصيغة السردية، يندرج ضمنها الجنس الملحمي الذي يظل حكائيا بشكل رئيس؛ كما ينضاف إليه نوع مختلط للإلقاء الملحمي أي السردي، بينما يتحقق التعارض بين الدرامي والسردي لننتهي من التقابلات والتعارضاات إلى ربط المحاكاة المكتملة بالسرد، مثلما يتأكد من خلال المصادرة التفصيلية التالية: «ومن هذه الوجهة، يبدو أن أرسطو يعترف ضمنيا بطابع المحاكاة للحوارات الهوميرية، وإذن، بالطابع المختلط للإلقاء الملحمي أي السردي في جوهره، والدرامي في جانبه الأوسع.»(28)
ومن داخل العلاقة الارتباطية : المحاكاة ـ السرد تتأسس قيمة السرد وأهميته من قلب المحاكاة التي تنشطر قسمين. الأول: محاكاة مباشرة تستند إلى تقديم أفعال، لكنها لا تلبث أن تبرح المستوى اللغوي الذي من خلاله يمارس النشاط المميز للشاعر. كما أنها: « … وبالنظر إلى ارتكازها على الكلمات، أي الخطاب تأخذ بزمامه شخصيات (…) فهي ليست ممثلة بدقة بما أنها تكتفي بإعادة إنتاج خطاب واقعي أو خيالي وذلك كيفما اتفق. (29) ؛ الثاني: المحاكاة الشعرية التي يمكن أن نعتبرها فعلا تمثيليا:» يقوم على وسائل لفظية، لواقع غير لفظي، واستثناء لواقع لفظي. (..) (30)
تأمل فعل المحاكاة يستتبع ضرورة الانتباه للمادة / الموضوع التي تنفصل هي الأخرى إلى شطرين: 1. مادة غير لفظية تقتضي عرضا. 2. مادة لفظية تعرض نفسها بنفسها.ذلك ما يستنبط من تأمل الخاصية المتغايرة: «صيغة تعبيرية نحن متعودون بكثرة على عدم استيعاب التغيرات الأكثر تنافرا في نبرتها.» (31)
كما يتفرع عن ذلك انقسام فعل السرد إلى قسمين: 1. سرد تاريخي أمين إلى حد الصرامة: « يقتضي من المؤرخ ـ السارد مراعاة أي تغيير في النظام أثناء أفعال السرد، عند الانتقال من العلاقة بين الأفعال المنجزة والتدوين الآلي للكلمات المتلفظ بها..» (32)
2. سرد خيالي ارتكازه متمحور حول محمولات لفظية وغير لفظية، وتعلقه بنمطين من المحاكاة: نمط أول له ارتباط مباشر بالواقع، ونمط ثان معقد ومتشابك جامع بين الواقع والتخييل، كما يتم التمييز بين صيغ التمثيل الذهني، وصيغ التمثيل اللفظي أي بين اللوغوس واللغة، وذلك ما يؤسس الفرق بين التخييل والتمثيل.
استنادا إلى معالجة تحليلية نقدية أو لنقل تفكيكية، يخلص جيرار جنيت إلى المصادرة التالية: : «ّالصيغة الوحيدة التي يعرفها الأدب، بما أنه تمثيل، هي السرد، المعادل اللفظي لوقائع غير لفظية، وكذلك لوقائع لفظية…» (33)
هناك اختلاط وتداخل بين السردي والوصف مما يتطلب تأمل هذه الأوضاع وإعادة بناء العلائق، تتحدد تبعا لها سمات مجالين هما السرد الخالص والوصف باعتبار الأول عرض / عروض أفعال ـ أحداث، واعتبار الثاني عرض / عروض لأشياء وشخوص: « إن الفرق الأكثر دلالة، لربما كان هو أن السرد يعمل، داخل التتابع الزمني لخطابه، على إعادة السيرورة الزمنية للأحداث كذلك؛ بينما يبدو الوصف ملزما، في نطاق العنصر المتتابع، بتعديل الزمني مع موضوع الوصف…» (34)
ولهذه الأسباب بالإمكان تصور نصوص وصفية موقوفة على تمثيل الأشياء في حدود كينونتها الفضائية خارج أي حدث بل وأي بعد زمني في الوقت الذي يستحيل تصور سرد: عرض أحداث ووقائع دون وصف. ما يحدد طبيعة العلاقة بين الوظيفتين: السردية والوصفية: «إن السرد لا يقدر أن يؤسس كيانه بدون وصف. (35) .
لا مناص، إذن، من مراعاة اشتغال المكونات الحكائية للوصف عند دراسة العلاقة بين ما يرجع إلى السرد وما يرجع إلى الوصف. فإذا كان الوصف في البلاغة التقليدية مجرد محسن من المحسنات الخطاب، وبالتالي شكلا أسلوبيا خاصا فإنه في الخطاب السردي ينهض بوظائف متسعة وموسعة تجعل منه نواة حيوية تفاعلية تحقق القيمة الفنية والجمالية من خلال تفاعل المكونات الخطابية المتخلقة في الخطاب. حضور الوصف، ونمط اشتغاله في الخطاب، وما يتحقق من إبدال تبعا لأوضاع الإيقاع، كل ذلك يدفع بالدوال إلى التفاعل إلى الحدود القصوى. ذلك ما تحقق نصيا في المرحلة الباروكية على النحو الذي يؤكده جيرار جنيت.
وبمعاودة تأمل المرجعية اليونانية، بغرض كشف الفرضيات، وبحث أسسها على مستوى التنظير وعلى مستوى القراءة والتأويل ، وبناء النظرية الأجناسية، يخلص جيرار جنيت إلى أن افلاطون وأرسطو قد عملا ، سواء في كتاب «الجمهورية» أم كتاب « الشعرية» على حصر مجال الأدب واخنزاله في نوع من الأدب التمثيلي. ذلك ما يتوضح من خلال المعادلة التالية: الشعر = المحاكاة. الأمر الذي يترتب عنه تأسيس حد آخر من حدود السرد، والتشديد على محاكاة الأفعال الواقعية أو المستعارة باعتارها شرطا من شروط الأدبية و الإبداعية. ذلك ما جعل العرض والتمثيل والتخييل يتصدر القائمة الأجناسية، ويدفع بالوظيفة التمثيلية للشعر إلى الهامش.
وضمن بحث قضية حدود السرد، يتصدى جيرار جنيت لقضية مركزية ضمن هذه الاشكالية النظرية والنقدية هي قضية مبحث العلاقة بين السرد والخطاب يكشف من خلالها فرضيات إميل بنفنست EMILLE BENVINISTE باعتباره من أوائل مؤسسي نظرية الخطاب.
يبحث بنفست قضايا الخطاب في أبحاثه الطليعية ، منشغلا بطرائق اشتغال المكونات النصية البنائية، وذلك بتحديد أوضاع ووظائف الأشكال النحوية في الخطاب مثل ضمير المتكلم، وقرائن الضمائر والظروف، وأزمنة الفعل بغرض كشف طرائق الاشتغال والأنساق البنائية في الخطاب، وتمايز ذلك واختلافه في السرد حيث تهيمن صيغة ضمير الغائب، والزمن الماضي..ذلك ما يؤسس التعارض بين ما ينعته جيرار جنيت بـ«موضوعية السرد» و«ذاتية الخطاب». فحضور ضمير المتكلم في الخطاب يجعله ذاتيا تتحدد الأنا فيه باعتبارها شخصا لحظة الحديث، بينما غياب الإحالة على السارد في السرد تجعله موضوعيا. لذلك ينطبع الإلقاء السردي بخاصية التعدي وغياب الإحالة على ركن الخطاب المؤسس: « في الخطاب يتكلم أحد ما، وموقفه داخل فعل الكلام نفسه، مما يشكل بؤرة الدلالات الأكثر أهمية (….) أما في السرد فلا أحد يتكلم كما يشدد على ذلك بنفنست». (36)
أما على مستوى التحقق والإنجاز النصي، هناك امتزاج وتداخل بين السرد والخطاب، قد يهيمن طرف ما في نص من النصوص، ولكن يتعذر في الغالب تصور حضور طرف بمفرده في نص من النصوص. امتزاج مؤسس على علاقات تفاعلية:
« فهناك في كافة الأحوال تقريبا نسبة من السرد متضمنة في الخطاب، ومقدار من الخطاب في السرد(…)» (37)
لكن عندما نتأمل قضية التداخل، فإن إدماج عناصر خطابية في السرد تبدو مشوهة لوضعية السردي على نحو مختلف عن آثار إدماج عنار سردية في الخطاب حيث تتحول إلى عنصر من عناصره؛ ما دامت العلاقة التفاعلية هي ضامنة فاعلية السرد بوصفه عنصرا في الخطاب، مع الحفاظ على مبدأ الاستقلالية واللزومية، لأن: «الخطاب يمكنه أن «يروي» بدون أن ينقطع عن كونه خطابا، في حين لا يمكن للسرد أن « يفيض في الكلام» بدون أن ينفصل عن ذاته.» (38)
القصيدة : بين الحكي الشعري وشعرية الحكي
ننطلق من شعرية الإيقاع باعتبارها أفقا لتأسيس القصيدة الحداثية بامتياز، بما إنها مشروع تأسيسي ونقدي وأنطروبولوجي للغة يندرج الإيقاع ضمنها باعتباره دالا أكبر في الخطاب. القصيدة باعتبارها تجربة / تجارب كتابية تعيد بناء مفاهيم شعرية جديدة، بل إنها تصفي الحساب مع القديم والتقليدي، بنفس القدر الذي تخلخل فيه منطق الأجناس الأدبية، ومبدأ صفاء الجنس الأدبي.
وتجدر الإشارة إلى أن الدرس الميشونيكي (نسبة إلى الشاعري هنري ميشونيك) يقوم أساسا على تفكيك الخطابات والنظريات الشعرية القديمة والتقليدية حول الشعر: الفينومنولوجية واللسانية والأسلوبية وفق رؤية تركيبية تفكيكية. إنها مغامرة كشف الرهانات، ورسم الحدود الابستيمولوجية بين الخطابات حول الشعر وممارسته؛ فضلا عن العمل الرصين، وبناء المقترحات والإبدالات المغايرة، وما تضمره من صرامة علمية في تحديد مجال الشعرية، وإعادة بناء الموضوع، وطرائق البحث والاشتغال.
ويفيدنا الانتقال من نظرية العلامة إلى نظرية الخطاب في وعي وضعية / أوضاع الإيقاع بوصفه دالا بانيا للمعنى في الخطاب، وأنماط التدليل التي تتشكل في وبالخطاب، لأن الإيقاع المنبثق عن الخطاب بوصفه فعالية دينامية يتجسد في الكتابة باعتبارها قولا لما لم يقل سابقا، ولقاء بما هو جوهري، إنه: « انكتاب الذات في تاريخها، ولذلك فإنه غير قابل للانعكاس، كما أنه ما لا يتوقف عن الرجوع، غير موحد، إنه الخطاب بوصفه نسقا.
الانتقال من تعريف الشعر إلى القصيدة إبدال نظري مركزي في شعرية الإيقاع، يتولد عنه تعريف مغاير للإيقاع باعتباره: « حضور طريق ما .» تحويل دينامي من اللغة إلى الخطاب، وتأسيس أسبقية الخطاب على أسبقية اللغة.
إن القصيدة صراعية، في تقدير هنري ميشونيك، ذلك قدرها الذي يضعها في صلب الحداثة. تقوم على أساس إعادة النظر في القوانين ( المعايير) الشعرية المتعارف عليها من خلال البحث والمراجعة والهدم والبناء. لكل قصيدة تاريخها بما أنها كتابة شعرية مختلفة تقتضي تنظيرا ونقدا مختلفا وتنظيرا مغايرا. بحث العلاقة بين الشعري والسردي كما يتحقق في القصيدة المغربية المعاصرة حصرا يتأكد، نصيا ونظريا من خلال فعل / أفعال الهدم والبناء على المستوى النظري والكتابي في آن واحد، بما في ذلك نقد مفهوم الجنس الأدبي من داخل الأشكال وتفاعلها على مستوى الآثار والكتابات حسب تاريخية شعرية متحولة ومحولة.
والواقع أن الحكي الشعري الذي براهن على مشروعية استقلاليته جان ييف تاديي JEAN_ YVES TADIE في كتابه الحكي الشعري، Le récit poétique 39 والذي اعتبره جسر عبور إلى القصيدة لا يفتأ ينحل ويتلاشى فيما انمحى من حدود بين الحكي شعرا والحكي نثرا، وفيما تداخل وتمازج من أشكال سردية وحكائية على حد سواء. ذلك ما يبرز بتأمل الكتابات الشعرية نفسها على مستوى البنيات النصية والأطروحات والفرضيات النظرية.
القصيدة المغربية المعاصرة: آفاق التداخل الشعري والسردي
تؤسس القصيدة المغربية المعاصرة لحضور شعري حداثي خاص ضمن التراكم الشعري المكتوب باللغة العربية. يمكن الحديث ضمنها عن طلائعية كتابية ملحوظة مجاوزة ما عرف بإشكالية المركز والمحيط. فيما يخص التعالق بين الشعري والسردي في القصيدة فإن الاشتغال الشعري الرصين حول هذه العلاقة من منطلق كون القصيدة صراعية بطبيعتها في حركية نقضية دائبة لتجاوز منجزها ومنجز مثيلاتها في اللغة العربية، ومن اعتبار القصيدة علاقة في حد ذاتها، تعيد بناء روابطها بالذات وبالمجتمع وبالتاريخ. ذلك هو رهانها المركزي من أجل ترسيخ الحضور والإقامة الجوهرية.
وأمام اختلاف الذوات والمتون والنصوص والخطابات، واختلاف تمظهرات وأوضاع التحققات الكتابية، وبالتالي أنساق العلاقات والتناصات فيما يرفع من درجات التشابك والتعقيد. بما يتطلب تحديد المتن الشعري بغرض اختبار الفرضيات، واكتشاف طبيعة التمظهرات النصية والخطابية اعتماد على القصيدة نفسها، من داخلها لا من خارجها. لذلك يتكون المتن الشعري: موضوع بحث التداخل بين الشعري والسردي في القصيدة المغربية المعاصرة من قصائد المجموعات الشعرية التالية:
1. حكايات صخرية للشاعر محمد الأشعر ضمن : أعمال شعرية(40)؛
2. حياة صغيرة للشاعر حسن نجمي (41).
حكايات صخرية للشاعر محمد الأشعري
نتقدم بفرضية اعتبار القصيدة حكاية. فرضية تدعمها التسمية الصريحة للديوان الشعري: « حكايات.. مسندة للصفة: «صخرية»…إبدال أولي للقصائد أساسي يدرج، بطريقة صريحة، ما هو سردي في ما هو شعري. القصيدة ـ الحكاية: فضاء اشتغال وتجريب ومعرفة.
يبدأ الحكي في القصيدة ـ الحكاية: «عير الساعة… في الجدار « باستخدام الخطاب غير المباشر، ومخاطبة الشخصية في الحضور والغيبة: ـ محياك ـ هو أنت ـ محياك ….(42)
ـ وكل ما كان أنا انتهينا إلى ساعة جمدت في الجدار عقاربها…
ـ ومحياك كان هناك
وكان الشذى
والخريف
وبرد المدى.(43)
المسافة بين السارد والشخصية محددة بدقة منذ البداية، ثم لا تلبث تبدأ مجددا في التلاشي بعد الانتقال من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع، ليس بين السارد والشخصية ـ المخاطب، ولكن بين السارد وقرينه، وبين السارد والشخصيات الحاضرة الغائبة:
ـ تركناه ـ أبنانلعق أفراسنا ـ نمشط …
ـ بين مفازاتنا ـ أغرى بنا ـ خضنا ـ في حربنا(44)
مسار السرد في سلسلة المتتالية المتعاقبة والمتقاطعة، تبرز في محاور محددة:
السارد الشخصية (ة) الشخصيات (الحاضرة الغائبة )
المخاطب (ة)
القرين(ة)
ق: نقش صخري
النسق السردي مبني على أساس استخدام ضمير المتكلم واعتماد أسلوب الخطاب غير المباشر: حكي عن الآخر : الأنت ـ الأنا ، وذلك باتخاذ «الحجر الصقيل» مشترك التأمل ومادة الحكي. تجربة الجسد في مواجهة الحجر: تطويعه وتسويته في الداخل والخارج، نحته وتشكيله من خلال اللغة بله الكلام الشعري. الحجر باعتباره رابطا بين السماء والأرض، بين الجسد والروح، بين الذات وآخرها.
ما تعضده البنية السردية القائمة على أساس الوصف وعرض المشاهد المتلاحقة والمتداخلة واعتماد تقنية التوسيع والتمطيط، والحصر والتقليص. اقتصاد ملحوظ في العرض المشهدي لا يوازيه إلا تحفيز على الحكي التضميني التأويلي على مستوى الكتابة والقراءة في نفس الوقت:
ثور جريح ـ أشباح.ـ سحاب أبخرة ـ براكين مهججة ـ أفاع ـ سحليات ـ سرب غربان ـ زواحف ـ سلاحف ـ صبايا عاريات ـ جند يافعون ـ نقوش ـ سرب أفراس ـ قتلى ـ ظفائر ـ أكف ـ طواويس مبعثرة ـ رؤوس أينعت …(45)
تليها متتالية قائمة على أساس التخاطب، ضمن الاستمرار وتمديد المتتالية السابقة، مع إعادة التركيز على الحجر، وإعادة تفجير مكنوناته، وإيحاءاته ورمزيته، وغزو أقاليمه اعتمادا على المعرفة القلبية الكشفية، وإعلاء شأن العين: جارحة البصر والبصيرة.
والواقع أن تشكيل الأنساق السردية خطابيا إمكان واحتمال، متجدد مع كل محاولة تجريب / مغامرة كتابية تجعل المعنى وليد سيرورات نصية هي التي تؤسس إيقاع الذات في القصيدة. ومن هذه البؤرة تتحاور الأنساق والأشكال والبنيات.
في قصيدة : « درس في المرارة» يتجه البناء إلى عملية إفراغ وتفريغ : تجريد القصيدة من المقومات الاستعارية والمجازية الصقيلة كما في البلاغة التقليدية، والإيغال في مادة نثرية غفل، مع إبدال الوظيفة الشعرية التقليدية بالوظيفة التواصلية التي تتحول بالتدريج إلى وظيفة شعرية حداثية:
ـ المرارة يا صاحبي (46)
والمزاوجة بين الجمل الخبرية والجمل الإنشائية:
ـ أن يمر القطار بعينين حالمتين (…)
ـ فيقفز قلبك منذبحا
وتطير فراشات مبللة حول نبضك
وتسقط فوقك كل السقوف ثقالا
وتهرب من قدميك المسافات والأرصفة .(…)
ـ أن تؤوب إلى غرفة تتلقف وقع خطاك
فتهرب مذعورة (…) (47)
ويتضافر الوصف والسرد للتخفيف من حدة النثرية، والرهان على التقابلات الاستعارية بغية استلال الشعرية من عجينة السردية:
هناك تنوع في أنساق الحكي من قصيدة إلى قصيدة في الديوان الشعري: «حكايات صخرية» فمع قصيدة «وجبة زجاجية» يتبدى العمق الذاتي للكتابة، والانشغال الصريح والضمني بالتجاوز والمغايرة. تجديد البداية، أو لنقل اختراق مغاير للقول، وتجريب ذات مغامرة عاشقة لا تتهيب التجريب وتتوسل بجميع الوسائل والإجراءات، كما تستبطن الأعماق، وتغوص في متاهات الذاكرة والمخيلة على حد سواء.
تتأسس البداية السردية على نسقية نثرية تقريرية جارحة:
ـ المرآة كبيرة جدا تملأ الجدار
ـ وعما قليل ستنتهي الوجبة في المطعم
ـ وسيخرج حشدنا الصغير إلى الشارع
حرا طليقا
ـ سيفتح أحد باب المطعم الصغير (48)
لا تلبث تضيع تُضيّع المعنى: البنية السردية، لتغوص في مهاوي سحيقة، سحرية عجائبية، يكون محركها أداة التشبيه» كما» :
ـ ستنتهي الوجبة في المطعم
ـ كما في الجدار..
ـ كما في المرآة
ـ لتتلقفه المرآة طعما سائغا
فتطحنه بين أضراسها (49)
إنه سرد الحلم كتابة حرة أخرى تمزج ما حدث فعلا أو تخيلا بما سيحدث فعلا أوتخييلا. وهو في الآن نفسه مفتتح بداية جديدة مع قصيدة: « يقظة مضطربة» ، مُعلّمة بالتحديد الزمني: «بالأمس….» والمشابهة لمضاعفة الحدث والفعل الحلمي الباني لسلسلة البرامج السردية.
استعادة الذكرى الطفولية: الموضوعة الأثيرة في «الحكي الشعري» التي تمزج في التركيبة الحلمية بين رؤيا الحلم ورؤيا التخييل:
ـ أطوف في مدينة قديمة
تصحبني أمي
واهنة
تجر خطوها
كما تجر السنوات خلفها (50)
يقوم السارد بنسج تفاصيل الحكاية الحلم، والانتقال من اللامقول إلى القول، من الصمت إلى الكلام، والمزاوجة بين ما كان في الحلم وما تخيل وأضيف إلى الحلم من أحداث ووقائع بالنسبة للسارد وللشخصية :
ـ أسألها
هل تذكرين يا أماه المسجد القديم
هل تذكرين صحنه
(,,,)
ـ تهز رأسها حائرة (51)
لكن سرعان ما تفارق طبيعتها صورتها لتصبح طفلة مثلما كان السارد قد صار طفلا من خلال استعادة سيرته الطفولته في الحلم وفي اليقظة:
أحملها
ما اخفها
أما من شجن وريش
(…) (52)
فتستحيل طفلة بين يدي (53)
عندئذ تغيب الأم من المشهد والصورة، ويبقى السارد الطفل الذي كانه وحيدا:
أخترق الصحن
والمحراب
أبحث عن زيتونة كانت هنا
أسأل عنها العابرين
الساهرين
الراكعين
الخاشعين
كلهم تذكروا
وكلهم تأملوا
ولا أحد
سألني عن الطفلة التي أحملها (54)
يهمن، في هذا النسق المكاني: المسجد القديم الفضاء الروحي القدسي، الصحن المحراب الزيتونة بما يستدعي كل ذلك من تأويل باطني باعتباره نسقا سرديا يتفاعل مع باقي الأنساق السردية يكاد يتلاشى وينحل لفائدة الفعل البؤري: ـ تحول الأم إلى طفلة. إن فعل التحول من خلال عملية الاستعادة: فعل التذكر قد تحقق في ارتباط بالمكان، غير أن سيرورة التحول / التحولات قد انمحت فيما عاداها لدرجة استحالت معها الشخصيات إلى ظلال:
ـ داعبت طفلة أحملها
هتفت: إنها أمي (55)
ببهجة وغبطة لقاء، بناء جديد لعلاقة طفل بأمه، يأبى السارد إلا أن يستجمع طاقات الذاكرة والمخيلة لبعث صورة الأم جميلة شهية. إنه الحلم الرؤيا، كما عاشها وخبرها ضمير المتكلم العائد على السارد وعلى غيره. يقظتان تؤسسان أطراف الحكي: يقظة سابقة وأخرى لاحقة للرؤيا هما معلما جرح / جروح الطفولة الغائرة.
إن تاريخ الذات في الكتابة هو تاريخ كينونة ذات متحولة في مواجهة الموت: السابق أو الذي لم يحصل بعد. وهذا ما يفسر بجلاء كيف أن القصائد المحكيات هي احتمالات وممكنات بناء علاقات بالأنا والأنت، بالوجود.
ديمومة الوجود بالحكي، وبالبقاء داخل العدم بالمفهوم الهيدجيري. فلكي يستمر الشاعر في الحياة لا بد أن يحكي. وحياة القصيدة في إقامة علاقة وتأسيس رابط، والمتحقق الممكن في المحكي يتضمن موته ومستقبله، أي إدراك موته لذلك عليه أن يبعث باستمرار، ويتوالد إلى ما لا نهاية.
قصيدة: سرير السنبلة
القصيدة كتابة سيرة الذات: تجريب وبحث، وعبور من الماضي إلى الحاضر ومنهما إلى المستقبل على مستوى اللغة والحياة من خلال إعادة استحضار وبناء العلاقة بالذات من بؤر ضوء، ومن داخل عزلة خلاقة من جهات عيش تجربة يتم، وموت وتجدد حياة. يتم مضاعف واختيار، او لنقل عزلة وتوحد يدفعان، صراحة وضمنيا، إلى الانكفاء على الذات والانهمام بها. موت أو قتل رمزي سيان.
في المسافة بنيت ريشي
و فيها يموت
كما تذبل المفردات (56)
يتسيد المحفل السردي تيار مجريات التجربة الحياتية والتجربة الكتابية: البحث عن شكل معنى، وشكل حياة من خلال رصد تفاصيل مغامرة ذات متوثبة، متطلعة إلى الآخر:
ـ جذلا أعبر العمرحتى الرحيق الأخير
ولا أتوقع شيئا يطل على دهشتي (…)
ـ وحدي أداهم نفسي
وأدهشها
وأربك أبهاءها بألاعيب لا تنتهي، (…) (57)
الكتابة عن الكتابة وبالكتابة من مقام الغزو والاختراق: اختراق البياض والصمت، وتفجيرهما من نفس المقام: مقام الانخطاف والذهول والدهشة، وتأجيج التعارضات والتقابلات بين الداخل والخارج.
البداية بالوصف: وصف أحوال الذات في مسار العبور: عبور الزمن: التاريخ الشخصي والتاريخ الجمعي. إنخراط أولي في مغامرة الذات في أحوال الانغلاق والانفتاح، وفي المقامات والمخاطبات: التوق والتوحد، الإقامة في القرب والبعد في الما بين حيث الظهور والخفاء هنا وهناك، في الداخل والخارج . هي سيرة مغامرة ذات مشاءة في الكتابة وفي الحياة.
وتعالق الوصف والحكي يؤمن مسارات / مسارب تبادل تحولات في النسيج النصي: المقترح السردي المبني على التشابك والتفاعل المؤسس لحركية وأفعال السارد بضمير المتكلم الدال المركزي المتحد بالإيقاع.
هناك، حسب هذا الحفر النحت، مزج صوت السارد في صيغة الحكي بضمير المتكلم وصوت الشخصية: المخاطب الآخر الأنت القرين بحكم التنامي والتسلسل والانقطاع المخيب لأفق الانتظار:
ولكنك مرا ستمضي،
ومرا سترجع لو رجعت (58)
اليأس والمرارة مبتدأ الذهاب والإياب ومنتهاهما. « إشكال العبور من اللا مقول إلى القول، ومن الصمت إلى الكلام» كما كان قد سجل رولان بارت ROLAN BARTHE في مقام آخر مغاير: « إن الافتتاح منطقة خطرة في الخطاب: ابتداء الخطاب فعل عسير؛ إنه الخروج من الصمت.» (59)
سيرة الذات في القصيدة هي سيرة تجدد وتجلي مستمر يشمل الماضي والحاضر تأسيسا لما سيأتي تجديد للهمة قائدة الحب ومنبع الاستماتة:
ـ أو ما يشبه استماتة الكائن (60)
عندما يدخل يده في جيب كينونته حتى يلامس عضلة القلب، ويبدأ في عد النبض كأنما يعد حبات سبحة باردة ويرجع بلا نحيب أو صدى.
تجربة كينونة هي محرك الآلية السردية اللاحقة للقصة. وظائف السارد الخطابية سواء على مستوى التفضية والخطية اللتان تسهمان في تأزيم وضعية البيت الشعري، كما توسع نفوذه وسلطته في إنجاز أفعال التخطي والعبور من اللامقول إلى القول المغاير، مسارات شائكة من الصمت إلى الكلام.
أمام ما يمكن أن يحدث، أمام الآن الذي لم يحدث بعد صور انفتاح تجدد بدايتها باستمرار وفي كل تجربة تدشن تجربة عميقة تقلب الكرونولوجيا بالتراجع والتقدم. العودة إلى الوراء والتقدم إلى الحاضر والمستقبل مع الحفاظ على التوتر، والاسترسال والتداعي الحر في عمليات الحكي:
ـ ولو مر بيننك وانبلاج الفجر صوت امرأة
أو وقع ورقة تصل الأرض
(…)
فإنك لن توقد شيئا لابتهالك
سوى جملة عمياء
ستسبق بها الشمس إلى شرفة لا تنتظرك (61)
تحكم المتتاليات السردية في القصيدة، صيغة الحكي بضمير المتكلم على لسان السارد أو الشخصية، مفردا وجمعا. كتابة سيرة الذات استعارة ومجازا، تمثيلا ووصفا: قصة الذات في الكتابة وبها، عرض ما حدث وما تخيل، ما سيحدث وما سيتخيل من خلال نسج الواحدة الثانية والثانية الأولى. مقترنتان بخوض تجربة الموت. عبور التاريخ الشخصي: مادة الحكي؛ ومزج الوقائع الأحداث والتجارب الواقعية والمتخيلة. شكل من أشكال مداهمة الذات، غوص في أغوارها ومجاهلها. خيوط متشابكة تحكم تعاقب وتتالي الصور والمشاهدات، في أحوال الانفتاح والانغلاق، وما يقابلهما من أوضاع التجلي والظهور، والقتامة وانسداد الأفق:
وكم مرة أوصد القلب أبوابه
فنأى جسدي
ونأيت
(…)
وكم مرة ثقلت خطوتي
فمشيت إلى حيث لا يصل المشي
ومشت يقظتي.(62)
إنها تجربة كتابة الجسد والانكتاب به: سيرة ذات مشاءة تعبر نفسها والعالم المحيط بها. كتابة اليأس والألم بامتياز.
حب مستحكم بدرجات قصوى يعتمل في الأعماق هو دليل الغزو واكتثاف العلاقة، علاقة الذات بنفسها وبآخرها حسب شرعة معرفة قلبية ذوقية تفتح كوات مضيئة في الجدار السميك الحاجب. وأحوال تخييلية افتراضية تؤثثها اللغة، من خلال صيغة الرجاء والتمني، أو التمثيل والتمني:
ـ لو……+ الحدث : الظهور
المسافة بين السارد والشخصية متلاشية معرضة للانهيار في كل لحظة، يتعاورها استحضار باعتماد الأسلوب المباشر والأسلوب غير المباشر، توجيه الخطاب أو نقله من أو عن: الشخصية أو المحبوبة: أحوال الاستحضار بحوافز الرغبة والاشتهاء أو الاستدعاء والتداعي الشخصي. استعادة من أجل النسيان: المرور في الخاطر:
وهذا مرورها الآن في خاطرك، (63)
في الحاضر الماضي والماضي الحاضر في السكون والحركة الموت والحياة، المحو والكتابة ، أسر الروح الجسد والجسد الروح:
ليست هي من يمر فحسب
بل سنوات من الدهشة والأقحوان (64)
الحب مقرون بالدهشة والأسى، اللذة الممزوجة بالألم. هما، بلا شك ، ما يضمنان ديمومة البقاء في الغواية، وترسم خطى القرين في سفراته وهجراته في الأقاليم الليلية والنهارية، في الحلم واليقظة:
ـ هل كنت تغادر النهر
لتغتال كل الماء الذي سيمر بدونك (65)
عبور نهري الحياة والموت في البرزج في مركب حب ماحق هما ذات وموضوع الحكي في توق وشوق لمقام الجلال النبوئي الرؤيوي:
ـ هل ترى المرأة التي تمشي فوق ماء النهر
(…)
ـ هل تراها كما أراها
برؤوس أصابعي
وقد احترقت في جحيم نعومتها
هل تراها كما أراها الآن (66)
ـ مهلا هل ترى الزورق الذي أرى
والخطر الداهم الذي يتربص به (67)
الرؤيا مغموسة في ماء الكتابة وفي عسلها، مضمخة بالزرقة: زرقة السماء وتلبد الغيوم. تجسيد لمادية الكتابة، وتراسل الحواس في جلال انبثاق الصور والفيوضات بفعل طاقات الخيال الخلاق وسحر التحولات والتجليات اللانهائية.بغية الاقتراب من الجمال الأبدي .
حكاية الذات في الكتابة تتغذى بضوء تجربة الانتقال من الصمت إلى الكلام، حكاية الصمت تقابل حكاية الكلام. الانتقال من الصمت إلى الكلام، ومن الكلام إلى الصمت وفق تناظر بين حركية سفلى وعليا، متقدمة ومتأخرة، من الواقع المحسوس إلى الوجود الأوسع. والسارد والشخصية في هذه الانبثاقات مجردان من الأعراض، ومن الفردانية، متحدان ظاهرا وباطنا، فيما يمثل كائنا كاملا مأخوذ بسحر العوالم التخييلية، وجلال المواقف والمخاطبات. الوقوف وجها لوجه في مواجهة الفراغ.
فعل الكينونة: محرك الآلية السردية ينهض بوظائف خطابية أساسية، من مقام التخاطب، والتساؤل: الحيرة والقلق: طلب انفتاح أمداء أخرى على أفعال الخرق والاختراق بغية تجديد دماء شهيد العشق. إنها طاقة حب كشفية لا نهائية، بله خلقية إبداعية، سعيها حثيث لامتلاك أسرار القدرة على إعادة تغيير المصائر والأقدار:
ـ هل كنت تغادر النهر (68)
والتدرج في مراتب السمو حتى بلوغ مقام الرؤيا: ـ
ـ هل تراها كما أراها الآن
شعاعا يوزع جسدي على ألغازها فلا أراها(69)
من مقام التخاطب تتوطد العلاقة بين السارد والشخصية بما يشتت وبما يوحد من صور استعارية تحتدم في رحمها التقابلات والتعارضات بين «سيف الرغبة» و»سيف الرهبة» و»سيف اليأس» بكل حدة محتدمة، وبكل قوة وقدرة محتملة على التخييل وكتابة الحلم؛ وبقلق السؤال المفتوح على الإمكان، وطاقة الخرق والاختراق، تجري دماء جديدة بين النهرين: نهر الحياة ونهر الموت اللذين يخترقان الوجود واللغة.
الكتابة من بؤرة رحمية أساسها الألم الدفين في الذات وما يحيط بها. نداءات من هنا ومن هناك عبر حوارية وتناصات متصادية، وتجارب غوص. تشغيل لطاقات الحب الكشفية اللامتناهية، والعمل بحكمة مخصوصة لامتلاك القدرة على امتلاك تغيير المصائر والأقدار .
ـ هي قصة واحدة لهذا الجسد
نزوة صغيرة جعلت خريطة دمك
خريطة شهوتك
وشهوتك خريطة موتك
وموتك دليلا عليك (70)
رواية قصة الجسد شعرا هي في البداية والنهاية رواية أسرار الغواية، وفصول الشهادة والاستشهاد. إنها سيرة شهيد المحبة. شهيد القطرة التي سقطت على «راحة اليأس» نقطة ماء ومني: بؤرة التحول العميق، وسبب تجلي الكينونة المتوسطة، والانمحاء بعد مكابدة الارتقاء بين المقامات:
ـ وأنت لم تعد أنت (71)
وما يتلو كل ذلك من تجليات وظهورات، هي علامات الخلق المستمر والمتجدد:
ـ رؤيا المرأة : الأنثى الخارقة الكاملة التي: تمشي فوق ماء النهر
ـ رؤيا الزورق المحاط بالأهوال الذي يترنح ثملا..
تحويل التمثيل إلى مادة خام تعجن من جديد في اللغة لتدوين التجليات وكتابة مفردات الوجود بحروف من نيران الرغبة والرهبة والجلال والجمال. ما يجسد الثراء الجمالي والمعرفي، والقدرة على بناء الإيقاع الخاص للذات في الكتابة، وترسيخ الأبعاد الإنسانية في الموقف والتجربة، وطاقة كشف العلاقات والتحولات الدرامية في الشكل والمعنى والكتابة والحياة:
ـ ويا لست حجرا أنزلني إلى عمق قصيدة طفوت على سطحها
ولم أر من زبد الموج إلا فقاعات الكلام (72)
حجر استعاري مقدس يصل الذات بعمق القصيدة وبعمق الأرض، وذلك بإعادة تركيب العالم، وصهره في التجربة الشعرية. إعادة بناء وتركيب، وحركات متوالية من الحسي إلى التجريدي، ومن النهائي إلى اللانهائي من خلال التجميع والتشتيت، والجمع بيم مادية وروحية الجسد والكتابة.
ديوان الشاعر حسن نجمي: «حياة صغيرة» (73)
قصائد الديوان الشعري عبارة عن متون سردية مقترحة، وهي من هذه الفرضية، تحديدا، غير مكتملة مشروطة بالنقصان. نتقدم من أجل التعرف على البنية / البنيات الحكائية فيها بوصفها خطابا / خطابات، إضافة إلى متون سردية مضمرة لها صلة بالحوارية وبالتناص، وبالماهية الكتابية الجامعة لسير ذاتية شخصية متعددة، رابطة بين الأنا والأنت ضمن تصور نظري ونصي أساسه كون القصيدة علاقة على النحو الذي يتكشف في شعرية هنري ميشونيك.
إن التفاعل وتبادل العلاقات بين الأنا والأنت، وبين المتون السردية المكونة للقصائد الشعرية ، وتلك المضمرة التي تمنح القارئ حرية مضافة في انتقاء حلقات وأفعال وأحداث بما يتلاءم ومقدرته التأويلية، ووجهات النظر في إنتاج الحكي وتلقيه حسب أنساق تراتب وتراكب، وتفريق وتجميع، وبالتالي تقليص وتمطيط.
تتسمى القصيدة باسم العلم: الاسم والنسب: «نور الدين الصايل»، أو باللقب: الأمازيغي، أدونيس
حسب شكل من أشكال الانفتاح على الذات والآخر.
يبتدئ المحفل السردي في قصيدة: «ظلال الصديق» بالتمثيل عن طريق المشابهة: مثل خشب ـ مثل طفل ..
متخذا من الشخصية المخاطبة مادة للتصوير بالكلمات، وتتبع الحركة: ـ يهرب، يرقد، يموت… المؤسسة حسب إشعاع البؤرة ومركز الدائرة الكشفية الرؤيوية:
ـ يرقد الصمت في حنجرته(74)
ـ يموت في اليوم مرات
إنه الثابت والمتحول في بناء صورة الشخصية ـ المخاطب (ة). نحن هنا في مواجهة تمثيل التمثيل أو محاكاة المحاكاة .
وتتحكم نفس البنية الحكائية في قصيدة « أدونيس» : الشخصية موضوع السرد حيث يقوم اللقب: « أدونيسّ» مقام الاسم: علي أحمد سعيد» الآخر المخاطب: ذات الحكي وموضوعه في نفس الوقت.
يتحقق الحكي بضمير المتكلم في الزمن : ما حدث وما لم يحدث: تولد.. ـ يسرق العشق …يسمع وقع أقدام.. الحكي التخاطب من الأنا إلى الأنا ، ومن الأنا إلى الأنت، أي الآن الذي لم يحدث بعد:
الآن تولد روحه …
الآن يوقد لغتي ..
الآن تنشرح يداه …(75)
إنه المخاطب القرين والدليل.
ويحقق نسق سردي مختلف في قصيدة : رسالة إلى محمد بنيس» بجعل الرسالة محكيا متواطئا عليه بين السارد والشخصية المخاطب. ينبني المحكي على أساس الرغبة والتوق: التوق إلى …. مع التقاط علامات مضيئة من السيرة الحياتية أو التجربة الكتابية: إشهارا وإعلانا لعمق صداقة وأخوة شعرية.
وعملية التوليد والإنتاج السردي التي ينهض بها السارد في سعيه الحثيث لبناء علاقة انصهار وتوحد من خلال الحكي وذلك باستعمال ضمير المتكلم لنقل معنى أو إشارة، أو بث نفس أو دفق انطباع أو رفة وجدان في لحمة كينونة نصية ووجودية: قيمة شعرية شكل معنى مصاحب لبداية ونهاية سيرة بحث وارتقاء مراتب سمو لبلوغ ما كان الشعراء السورياليون يدعونه نقطة عليا. روح واحدة تسكن جسدين توحدهما المحبة وجرح اليتم:
في دمي بعض من مطر يتمك:
جسدانا من ريح تحن إلى ينابيعها
ونتآخى في الغيم(76)
أما في المقترح السردي الموسوم باللقب: « الأمازيغي» الذي يحيل فيه السارد إلى الاسم والنسب: «الحسن العسبي» فإن الافتتاح بحرف التشبيه: «الكاف» يعمل على مضاعفة وتعقيد الإحالة المرجعية، في الوقت الذي يمتن الروابط العلائقية الوجودية: كائن تخيلي نموذجي في سيرورة حركة وفعل:
سيمسك … سيقطف
في الزمن الحاضر: « الآن» .
ومع قصيدة « وليد خزندار» يدشن مبتدأ السرد بالتشبيه أيضا: ـ كأن .. مما يفيد بأن السارد ينهض بوظائف وانحناءات وتموجات مختلفة ، وإن كانت آلية الحكي باستخدام ضمير المتكلم هي الغالبة والمهيمنة، مع تعليم المسافة الفاصلة بين القصة والحكي السابق واللاحق: ـ كنت رأيته .. تهنا في رفقة…منذ فاس قدم لي..ـ قال لي…
ـ كأنه متعب في طريق لا تصل (…)
ـ كنت رأيته كما لوكان لائذا بجدار .
كما لو كان الفم مجرد ثقب في الوجه الناصع.
وتهنا في رفقة. (77)
النهاية ـ البداية، مبتدأ الحكي ومنتهاه مسنده: انفتاح المقترح السردي، وتوالده بشكل تلقائي ومتجدد اعتمادا على الفعل: ـ أحرر… بؤرة الأفعال المحتملة اللانهائية. هي أفعال سرد موجودة بالفعل وبالقوة ضمن إطار الممكنات السردية الخطابية:
ـ وصعدت إلى الغرفة لأحرر أبجديتي..(78)
يقوم التشبيه ضمن هذا السياق بتحقيق التوازن: ـ كما لو كان…
لأن مجال النظر والتأمل موجه إلى الكائن: المثال والسارد يقوم بمحاكاة وتمثيل الشخصية: «وليد خزندار»، وهو تمثيل يحفر عميقا في الذاكرة والمخيلة، وفي النسيان وذلك بالجمع بين الكتابة والمحو.
أما في قصيدة العين والليل، فيتدحرج الاسم واللقب : الاسم الشخصي أسفل ليستقر في الإهداء إلى اليسار من الصفحة: « إلى عبد اللطيف اللعبي» في الوقت الذي يتشكل التقابل والتناظر في العنوان. مع الحفاظ، مرة أخرى، على صيغة الحكي بضمير المتكلم، وتنويع الضمير بين المفرد والجمع: «نا» الدالة على الفاعل أو ضمير الجماعة المنفصل البارز والمستتر…في سعي نحو التوحد والاتحاد: ـ نهارنا… ـ ها نحن…ـ نركض… ننتصر…ـ نبتكر…. لننتقل من موقف التخاطب إلى التجلي والاتحاد: انمحاء الأنا في الأنت. إنه خطاب الأنا للأنا ، وخطاب الأنا أنت أنا
ـ دعك ..ـ دعني.. مسندا إليهما فعلان: ـ نروض..ـ نداعب…قصة الكتابة، قصة مغامرة ذات في الكتابة هي نفسها قصة سارد داخل الحكي وخارجه. انخراط في سيرورة حكي وكينونة متجلية، باستخدام فعل الكينونة: كان» صيغة من صيغ الإفصاح، والقبض على الخفي والمستور ، الدال الدليل:
كم نهارنا مر
والليل
كم استعمل الزمن الذي كان بيننا (79)
استحضار بعث من الرماد بله مما يتجدد يتوالد من تلقاء نفسه بوصفها طاقة إيحائية ورمزية هائلة، تعبر من الحياة إلى الموت ومن الموت إلى الحياة. سمة الشخصيات المفارقة في الأنساق السردية في القصائد الشعرية التي تستمد لحمتها من الواقع: الكينونة الحاضرة أو الماضية التي لا تعدو أن تكون عارضة ظاهرة لتتشكل من جديد وباستمرار ضمن نسقية كتابية تخييلية شعرية مغايرة لها صفة الديمومة والأبدية.
ذلك قدر الشاعر: الشاعر الكئيب الميت الحي: «أحمد الجوماري»، وبقية الشخصيات المؤمثلة.
أونغاريتي هو العنوان الذي يسم المقترح السردي الشعري المحتمل. وجه من وجوه الأتوبيوغرافيا الخطابية يعرض سيرة حياة: تجربة عيش، وتجربة كتابة تخييل استثنائيتين. يخدم الوصف الحكي فيها خدمات جليلة. أثر اللقاء الأول والهم والانشغال الكتابي المشترك. من الحسي إلى التجريدي قلق وجودي واحد ومتاهات تجربة كينونة وذات متوحدة.
من مقامات العشق، تنسج خيوط الحكاية، القصيدة مختبر كشف مسارات ومتاهات الرغبة والغواية الأنثى في كوكبتها الرمزية ليست مادة الحكي فحسب بل دالا مهيمنا في السرد وفي العالم تتخلق وتسوى من خلال التسمية « إمرأة» والصفة: « صغيرة» التي تنحل وتتلاشى وتسمو وتتعالى بما أنها أنثى من ورق أو لنقل من تخييل. امرأة شبيهة القصيدة: القصيدة الحداثية التي كان الشاعر بودلير قد دشنها وسماها: قصائد نثر صغيرة.
تركيب مفتوح
أنساق الحكاية متبدلة من قصيدة إلى قصيدة أخرى نظرا لتعلقها باستراتيجية الكتابة ولانفتاحها على الإمكان والاحتمال. إن بناء القصيدة مغاير ومتعدد تهتدي الذات فيه بالمحو والكتابة، بالصمت والكلام، وبالسواد والبياض، كما تتلمس المرئي واللا مرئي، وتتوسل بالتخييل والإنشاد لتشكيل عوالمها. تاريخية القصيدة المغربية المعاصرة هي في المحصلة تاريخية الحكاية المتشكلة باللغة وفيها. حكاية مستمرة في الخطاب، هي الإيقاع المتجدد من خلال البناء والانبناء النسقي في الكيمياء اللغوية، وما تتمخض عنه التحولات والتشكلات التي تلامس سيرة الذات في الكتابة قطعا.
تفاعل دوال نصية، وطرائق اشتغال مخصوصة من الناحية الإيقاعية، ومن الناحية التخييلية. ذلك ما حاولنا التركيز عليه من خلال الإنصات لأنساق بناء الحكاية شعريا، وطرائق اشتغال الحكي شعريا في تجربتين شعريتين مغربيتين دالتين لكل من الشاعر محمد الأشعري، والشاعر حسن نجمي.
بهما اختبرنا فرضياتنا، وبهما اهتدينا في تلمس مسارات القصيدة المغربية المعاصرة، وهي تؤسس لاستقلاليتها وحضورها المتميز في المشهد الشعري الوطني والعربي والعالمي من موقع اختراق السردي للشعري واختراق الشعري للسردي حسب استراتيجية كتابة شعرية معاصرة قوامها البحث والتجريب، وتوسيع أمداء المغايرة بما يضمن حرية الممارسة والتنظير، والهدم والبناء، ومحو الحدود الأجناسية، والاحتفاء بالتعدد، وبالإبداعية سواء على مستوى الكتابة: قصيدة وتنظيرا بالمفرد والجمع، والتشتيت والضم. الإقامة في اللغة باعتبارها مسكنا له وضعية الامتياز في بناء الكون الإيقاعي والتخييلي في أفق التجاوز والتطلع للجديد، وممارسة حق الاختلاف شعريا وما يقتضي كل ذلك من حوارية، وتناصات، وتقاطع بين الأجناس الأدبية، والأشكال والأنساق، والعوالم والأكوان.
تاريخية القصيدة المغربية المعاصرة تاريخية تحولات مستمرة، أثمرت وتثمر خصوصيات بنائية خطابية سواء على مستوى التراكم الكمي أو الكيفي، أو على مستوى تعدد التجارب والرؤى الإيقاعية والتخييلية. قصيدة توجد في اللغة باعتبارها شكل معنى وشكل حياة، تمحو وتكتب مساراتها متاهاتها بالإنصات لنفسها ولما يحيط بها، موقعة إمضاءها أثرا أو برزخا (80) ضمن مسار التحولات في الكائن والوجود.
الهوامش
1 – أدونيس، مقدمة للشعر العربي، دار العودة ، بيروت، ط.4، 1983، ص.112_113
2 – Henri Meschonnic , Modernité Modernité
, Verdier, 1988, P.10
3 – سوزان برنار، قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا، ترجمة راوية صادق، ج. 1، دار شرقيات للنشر والتوزيع، 1988، ص, 162
4 – Gérard Genette, Fiction et diction, Paris ; Edi
tions du Seuil ; janvier 1991
5 – جيرار جنيت، حدود السرد، ترجمة بنعيسى بوحمالة، ضمن كتاب، طرائق تحليل السرد الأدبي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط.1، الرباط 1992
6 – جيرار جنيت، التخييل والإنشاد، ترجمة عبد القادر الغزالي، ص.11
7 – نفسه، ص. 12
8 – نفسه، ص. 12
9 – نفسه، ص. 14
10 – نفسه، ص.14
11 – نفسه، ص.15
12 – نفسه، ص.15
13 – نفسه، ص. 17
14 – نفسه، ص. 17
15 – نفسه، ص.17
16 – نفسه، ص. 18
17 – نفسه، ص. 18
18 – Kate Hamburger, Logique des genres
littéraires (1957, Paris, Ed, du Seuil, 1986
19 – نفسه، ص. 18
20 – نفسه، ص. 16
21 – نفسه، ص. 20
22 – نفسه، ص. 22
23 – نفسه، ص. 24
24 – نفسه، ص.24
25 – نفسه، ص. 26
26 – جيرار جنيت، حدود السرد، ترجمة بنعيسى بوحمالة، ضمن كتاب، طرائق تحليل السرد الأدبي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الطبعة الأولى، الرباط 1992، ص. 71
27 – نفسه، ص. 72
28 – نفسه، ص.73
29 – نفسه، ص.74
30 – نفسه، نفس الصفحة
31 – نفسه، نفس الصفحة.
32 – نفسه، نفس الصفحة.
33 – نفسه، ص.75
34 – نفسه، ص. 78
35 – نفسه، ، ص. 76
36 – نفسه، ص. 80
37 – نفسه، نفس الصفحة
38 – نفسه، ص. 81
39 – Jean_ yives Tadié, le Récit Poétique, Collec
tion Tel, Gllimard , 1994
40 – محمد الأشعري، أعمال شعرية، دار الثقافة ، الدار البيضاء، الطبعة الأولى أبريل 2005
41 – حسن نجمي، حياة صغيرة، دار توبقال للنشر، ط. 1، 1995
42 – محمد الأشعري، أعمال شعرية، سبق ذكره، ص.273.
43 – نفسه، ص.274
44 – نفسه، نفس الصفحة
45 – نفسه، ص.275_276
46 – نفسه، ص.278
47 – نفسه، ص.278_279
48 – نفسه، ص. 305_306
49 – نفسه، ص. 306
50 – نفسه، ص.307
51 – نفسه، ص.307_308
52 – نفسه، ص.308
53 – نفسه، نفس الصفحة.
54 – نفسه، ص. 308_309
55 – نفسه، ص. 309
56 – نفسه، ص. 312
57 – نفسه، ص.312_313
58 – نفسه، ص.314
59 – رولان بارت، التحليل النصي، ترجمة وتقديم عبد الكبير الشرقاوي، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2000
60 – محمد الأشعري، أعمال شعرية، سبق ذكره، ص. 314
61 – نفسه، ص.314_315
62 – نفسه، ص. 313
63 – نفسه، ص. 315
64 – نفسه، ص.316
65 – نفسه، ص. 325
66 – نفسه، نفس الصفحة
67 – نفسه، نفس الصفحة
68 – نفسه، نفس الصفحة
69 – نفسه، نفس الصفحة
70 – نفسه، ص. 323
71 – نفسه، ص. 324
72 – نفسه، ص. 331
73 – حسن نجمي، حياة صغيرة، دار توبقال لنشر، مرجع سبق ذكره
74 – حسن نجمي ، حياة صغيرة، مرجع سبق ذكره، ص. 23
75 – نفسه، ص. 26
76 – نفسه، ص. 27
77 – حسن نجمي، حياة صغيرة، سبق ذكره، ص. 29
78 – نفسه، ص. 30
79 – حسن نجمي، حياة صغيرة، سبق ذكره، ص.31
80 – ينظر عبد الرحمان طنكول، الشعر المغربي الحديث، الأثر والبرزخ، الدراسة منشورة ضمن كتاب : الشعر المغربي المعاصر (دورة أحمد المجاطي الأكاديمية)، أعمال بيت الشعر بالمغرب، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، 2003، وفيها أورد التعريف التالي: « يشكل الأثر، من هذا المنظور، حسب تعبير جورج نوننماشير، نقطة تقاطع «يشتبك فيها الغياب بالحضور، ويمزج فيها « الواقع» بالعلامة». ص43
عبد القادر الغزالي