توطئة:
لم تعد نظرية الأنواع الأدبية محط الاهتمام في مقاربة النصوص الإبداعية، على اعتبار أن التداخل والتماهي هو السمة التي تتصف بها ، مما يعني أنها عرفت تراجعا، لكونها كانت المدخل الأساس للتمييز بين نوع أدبي وآخر، وهذا دليل على حركية التحول والتغير التي يعرفها النوع الأدبي، فإذا كان القدماء يميّزون بين الشّعر والنّثر على أساس الخصائص والأساليب التعبيرية، فاليوم لا حاجة لهذا الفصل، بل يمكن – كما قال رينيه ويلك – أن مفهوم نظرية الأنواع أصبح في موضع شك؛ انطلاقا من كون الشعر « يحمل معنى التعدد وكثرة الأنواع، لأن الشعر ليس نوعا واحدا، وإنما هو عدة أنواع …وهو نمط من أنماط الخطاب الأدبي يضم كل السمات اللغوية الجمالية التي تحققت بوجه أو بآخر فيما يطلق عليه الشعر»(1) فالأمر لا يحتاج إلى حُجّة للتأكيد على أن النوع الأدبي يخضع لإبدالات تفرضها المرحلة التاريخية والتحولات الاجتماعية والثقافية. ومن هنا فالشعر ، من طبيعته الإبداعية، ككتابة متجددة ومجدّدة تأبى الإقامة في القيود التي تحُدّ من انفتاحها على آفاق تعبيرية لأن « الإبداع الشعري يرفض مفهوم المغلق، المنتهي، يرفض الطرق الشعرية التي تبحث عن حلولها في الفكر، وتخضع القصيدة لبنية العقل- لحدوده وقواعده وإلزاماته المنطقية»(2) ، ونقصد بالانفتاح احتضان أشكال تعبيرية فرّقت بينها المقاربات النقدية، الفاقدة للعمق في الرؤية والتصورات، وترى أن استقلالية النوع الأدبي ضرورة حتمية، غير أن حقيقة الواقع تفنّد هذه الادّعاءات وتؤكد على التمازج والتزاوج بين ماهو سردي وشعري. فالتماهي والتحاور والتجاور بين الشعر والنثر تأكيد على هجنة الأنواع الأدبية -حسب باختين- فليس هناك جنس أدبي خالص وإنما هو خليط من أجناس مختلفة، وعليه فان « التمييز بين الأنواع الأدبية لم يعد ذا أهمية في كتابات معظم كتاب عصرنا، فالحدود بينهما نعبر باستمرار، والأنواع تخلط وتمتزج، والقديم فيها يترك أو يحوّر وتخلق أنواع جديدة أخرى إلى حد صار معها المفهوم نفسه موضع شك»(3)
1) التداخل النوعي بين الشعر والنثر:
لا شك أن مقاربة القصيدة العربية، من حيث العلاقة الوشيجة والمتداخلة بين الشعري والسردي، تثير عدة تساؤلات متصلة بالكتابة الشعرية الخارجة عن القوالب الجاهزة والخاضعة للشرط الجمالي، الذي يرسّخ هذا التداخل بين الأجناس الأدبية، وهو أمر ليس بالجديد. فالقصيدة القديمة تميزت بهذا الحضور لما هو شعري في تعالق متين مع ماهو سردي، بل هناك هيمنة واضحة للنفس القصصي في المتن الشعري القديم ، ولعل نصوص امرئ القيس وعمرو بن كلثوم وعنترة وعمر بن أبي ربيعة دليل على عمق هذا الترابط بين الشعروالنثر.
هكذا تحفل القصيدة العربية بهذه الميسمة الجمالية؛ التي تزيد الخطاب الشعري انفتاحا على آفاق فنية تمنح للنص الشعري إمكانية تحطيم الحدود بين الشعر والسرد؛ لكتابة قصيدة تؤسس هويتها بالتزاوج المثري والمخصّب ؛ فهما في علاقة جدلية تفاعلية، تأثيرية تأثرية، أسهمت في محْو وطمْس التقاطعات الوهمية الموضوعة بين الشعر والنثر، ومن ثم لم يعد للحدود أي حضور في الشعرية العربية المعاصرة المتخلّقة من صلب هذه الثنائية الأبدية في الخطاب الإبداعي. وعليه فالإبداع الشعري تجاوز الجانب التزييني المرتبط بالشكل إلى ما يحقق شعريته، عبر الاشتغال باللغة، كممارسة لعبية بوساطتها يتم تحطيم السائد، بخلق نصيّةٍ الشعرية فيها تشكّل « حدود الأسلوب لهذا النوع، وهي تفترض وجود لغة الشعر، وتبحث عن الخصائص التي تكونها»(4) لأن الشعر والنثر يشتركان في توظيف اللغة توظيفا ينسجم مع طبيعة كل منهما، واعتبارهما « يتمثل كل منهما في كونه تشكيلا جماليا باللغة إلى جانب كونه نشاطا إنسانيا، يعكس حركة واقع اجتماعي تاريخي محدد عكسا خاصا» (5) وهذا يعكس تجاوز هذه الفروقات المفتعلة بين الشعر والنثر.
إن هذا التواشج بين الشعر والنثر لا يعني اتفاقهما في السمات والخصائص؛ بقدر ما يدل على كون كل واحد منهما، يتصف بصفات مغايرة عن الآخر، فإذا كان الشعر يتسم بالكثافة والإيجاز والإيحاء والتوتر والمجاز؛ فإن النثر يمتلك خصيصة الوضوح والسهولة، وبالاطراد والتتابع ـ على حد قول أدونيس- فإن هذا لا يحُول التأكيد على العلاقات الوشيجة بينهما «على الرغم من وجود فروق مائزة بين الأنواع الأدبية، فإن السرد بنية أصيلة في الخطاب الأدبي سواء أكان سردا روائيا أم شعريا مهما اختلفت الأنواع، لأن رغبة الإنسان في الحكي رغبة إنسانية تكشف رؤيته للأشياء وتحدد علاقته بالعالم، إنها رغبة في التطهير، والبوح وإعادة صياغة العالم وهو في حالة تجلّ»(6) وهذا ما يرسّخ حقيقة حضور الجانب السردي في الخطاب الشعري؛ وهذا دليل على حيوية هذه العلاقة التي تتفاعل « داخل تشكيل ذي تحفيزات تأليفية وواقعية وجمالية، تحمل رؤية فلسفية أو طرحا اجتماعيا أو نفسيا في شكل يمزج بين الشعرية والسردية»(7) ، ومن هنا يمكن الحديث عن الكتابة عبر النوعية أو العبور الأجناسي بتعبير إدوارد الخراط، ذلك أن النصوص الإبداعية تحفل بهذا المعطى المتمثل في التداخل الأجناسي، إذ لا يخلو نص شعري ما من حضور ملامح سردية بتشكيلات مختلفة، ومن تم نجد لورنت جيني يقر بأن « كل نص شعري هو حكاية، أي رسالة تحكي صيرورة ذات»(8) وعليه فهو يركز على كون السرد مرتبط باللغة وليس باعتباره بنية مستقلة، وعليه ف «العلاقة بين الشعر والسرد (…) تكون محمولة على وجه آخر مفاده أن يكون الشعر أصلا لكل أشكال الكتابة الأدبية التي لا تعدو أن تكون أساليب أقل بلاغة وتميزا منه أي الشعر»(9) ؛ ومن تم نؤكد على أن السرد يقول العالم بطريقة خارجية تجسّدها الشخصيات؛ في حين أن الشاعر يعتمد على البوح النابع من الداخل؛ مما يمكّنه من رؤية العالم، لكون «عالم الشعر مهما تكن المتناقضات والصراعات اليائسة التي يكشفها الشاعر داخله ، وهو دائما عالم مضاء بخطاب وحيد ومستعص على الدحض، فالتناقضات ، والصراعات، والشكوى تظل داخل الموضوع وداخل الأفكار والانفعالات، وبكلمة واحدة تظل مادة البناء الشعري لكنها لا تنتقل إلى اللغة ففي الشعر يجب أن تكون لغة الشك لغة أكيدة»(10) ؛ فالعلاقة المتحكمة هنا هي علاقة الاتصال والانفصال الوهمية، بتعبير آخر يشكّل الشعر والنثر رابطة اتصالية وانفصالية في الوقت ذاته، مما يكسب هذه العلاقة صفة التفاعل العميق بين المكونات النصية بغاية تثوير الخطاب الشعري،
إن السردية تجعل الشاعر يمتلك إمكانيات للبوح والتدفق والعفوية، عبر اللغة، التي يتم انتهاكها على مستوى التأليف؛ « لأن رغبة الإنسان في الحكي رغبة إنسانية تكشف رؤيته للأشياء وتحدد علاقته بالعالم، إنها رغبة في التطهير، والبوح وإعادة صياغة العالم وهو في حالة تجل»(11) فالمقصدية من وراء هذا المقول تبيان أن السرد مظهر من تجليات الوجود التاريخي للإنسان ، إذ عمد الإنسان إلى كتابة وجوده- في البدايات- من خلال الحكاية التي تؤرخ كينونة الذات، وإبراز علاقة الإنسان بالعالم، هذا الأخير الذي يحتاج إلى صياغتها سرديا عبر الفعل السردي القصصي؛ وذلك «بوصف السرد ظاهرة تستقل بذاتها قد يحويها الشعر كما يحويها النثر القصصي» (12)؛ وهذا ما يوضحه جيرار جنيت الذي يؤكد علاقة الشعر بالفن القصصي وهو يتناول الأنواع الأدبية إذ اعتبر « الشعر الغنائي هو ذات الشاعر، وفي الشعر الملحمي (أو الرواية) يتكلم الشاعر باسمه الخاص، بوصفه راويا، ولكنه أيضا يجعل شخصياته تتكلم …»(13) وعليه فإن فالجانب الملحمي في الشعر هو الذي يفتح إمكانيات هائلة؛ لعبور السرد إلى الشعر في تواشج عميق يحقق ما يمكن وصفه بالخصوبة الشعرية. فتكسير الحدود وتحقيق التقاطعات بين النثر والشعر من أهم فتوحات قصيدة الحداثة، هذه الأخيرة التي لعبت دورا مهما في جعل القصيدة تنفتح على أفق تجديدي، يخرج من النمطية المهيمنة على المنجز النصي الكلاسيكي، وبالتالي فالقصيدة الجديدة منحت للنص القدرة على خلخلة هذه الثوابت عبْر استثمار كل الإمكانات الشعرية وغير الشعرية ، حتى أصبح النص جمّاع ماهو سردي وما هو شعري، وفي هذا تجاوب مع منطق التطور، إذ أن هذه القصيدة تحوّلت إلى فضاء نصي لاحتواء الإبدالات العميقة؛ التي مست مفهوم الشعر الذي لم يعد مرتبطا بما هو وزني، بل مرتبطا بما هو إيقاعي شامل وعام، وقادر على استيعاب السرد في ثنايا البنية النصية. هذا الاستيعاب مكّن اللغة من تحقيق التماهي بين الشعر والنثر، والتداخل بينهما. ومن تم تجاوز النظرة الضيقة في الفصل بين هذين النوعين الأدبيين؛ ومنح للنص الشعري القدرة على احتضان كل الأشكال التعبيرية لتحقق بذلك نوعا من الثراء والغنى في الخطاب الشعري، ويحوِّل التنافر بين الشعر والنثر إلى تلاؤم يعطي الإمكانية للنصية الشعرية أن تثور وجودها الشعري « فعندما تذهب «قصيدة» إلى «النثر» فإنها تستثمر طاقات النثر وأهمها (السرد) الذي أصبح آلية جمالية مناسبة لحوار الذات مع نفسها ومع العالم، فالحكي والوصف وتعدد الشخصيات والرواة يخلق شكلا مفتوحا عميقا يتأبّى على الثبات والسكون، يخلق نصا تراكميا يوازي تشظي الذات وانكساراتها «(14) ، وهذا دليل على أن الشعرية العربية تؤسس لبنية نصية جديدة قوامها الهجنة النصية، ونقصد بها انتفاء نقاوة النوع الأدبي، بل هناك تداخل وتفاعل بين الأنواع الأدبية؛ مما يؤكد أن الفاعلية النصية تنجم عن ذهاب النثر إلى الشعر الذي يمثل « معطى أولي، معطى يتصل بالحياة بكل تموجاتها وتناقضاتها وعاداتها وجنونها، وتصنيفه بالشعري واللاشعري تحدّه طبيعة التعامل معه، ومقاربته، والرغبة المتصلة به ، والأسئلة المتكاثرة المطروحة عليه» (15) ، فالاستثمار الفعّال للنثر باعتباره قريبا من نبض الواقع يزيد القصيدة أكثر انفتاحا على جماليات تتخلّق من رحم هذا التواشج بين الشعر والنثر، غايتها تجاوز المنطق التقليدي في التفريق بينهما، والسعي إلى « الذهاب إلى ما وراء اللغة وهي تستخدم اللغة، وتريد تحطيم الأشكال؛ وهي تخلق أشكالا، وتريد أن تهرب من الأدب وها هي ذي تصبح نوعا أدبيا مصنّفا» (16) ، ويتطلب هذا امتلاك وعي جمالي وفني ينظر إلى النوع الأدبي نظرة التعدد والاختلاف، والانفتاح على روافد تعبيرية تسهم في إغناء الخطاب الشعري، وعليه يمكن الحديث عن نصية خنثى؛ أي تجمع بين الشعر والنثر خالقة شعرية تستفز ذائقة المتلقي النمطي، وكاشفة عن حجب العماء الذوقي الذي لا يتحسس الأفق الجمالي والفني.
فالعماء الذوقي شعور الذات بالعجز أمام سيل التحولات التي لم تعد ترى النوع الأدبي كيانا مستقلا، منعزلا في قارة بعيدة عن تموجات رياح التغيير والإبدال، بقدر ما تبتغي نوعا أدبيا يتسلح بترسانة جمالية لا تخضع إلا لنداء الإبداع والابتداع.
2) قصيدة الحداثة بين سردنة الشعر وشعرنة السرد:
إن قصيدة الحداثة تؤسس لمشروعية مغايرة ومختلفة؛ عمّا سبقها من تجارب شعرية تخلقت من عمق الانعطافات التي شهدها المجتمع العربي، فكانت استجابة موضوعية لذلك؛ وكان تكسير بنية الشكل الشعري عنوانا بارزا، لما ستؤول إليه الشعرية العربية من فتوحات ستتجاوز هذا الإنجاز إلى منجز شعري، مرجعه الرؤيا والحلم كمقومين من مقومات هذه القصيدة، ليتعمّق الخطاب الشعري أكثر وأكثر من خلال « خلخلة الساكن وإعادة بناء قضايا الراهن المعرفي والوجودي تكون قصيدة صراعية بامتياز، جديرة بالإقامة في الوجود والكينونة الشعرية الحداثية خارج الاعتبارات والمرتكزات النقدية والتأويلية الإطلاقية المتعالية، باعتبارها ضرورة وشرط حياة وكتابة»(17) إنها قصيدة لا تعترف بالحدود بقدر ما تروم تدمييرها تدميرا، يتساوق مع الرغبة في خلق نصية شعرية منفتحة على كافة الأجناس الأدبية؛ مستثمرة ما يجعلها أكثر خصوبة وثراء؛ ولعل هذا دليل على حيوية قصيدة الحداثة التي تنهل من الذات والعالم وجودها الشعري المسرود بلغة شعرية «تستوعب الجروح المعاصرة والضيعة الوجودية والفراغ المفضي إلى حدود العدمية . لغة المعاناة الوجودية، وإجابة النداء الجوهري، والسفر في اتجاه الأعماق والمهاوي؛ تأسيسا للجوهري في الذات والعالم ، وما بينهما من أرخبيلات وجزائر تظل، دوما، بحاجة إلى غزو واكتشاف»(18) هذه الحاجة للغزو والاكتشاف مهمة من مهام هذه القصيدة التي لا ترتكن للجاهز، وإنما تخلق راهنا شعريا موسوما باختراقات الجدّة والتجديد؛ أسهمت في التحوّل من الشعر إلى القصيدة إلى الكتابة*، كمنجز يخوض معارك من أجل ترسيخ خطاب شعري لا يؤمن بالتجنيس المنغلق والأحادي الرؤية، بل على العكس يؤسس لكتابة شعرية حداثية هجينة، فالنصية الإبداعية سواء كانت شعرا، قصة أو رواية أم مسرحا لا تخلو من هذا التداخل؛ في حوارية إيجابية تثوّر الخطاب؛ وتدفع به إلى وعي جديد يرى عدم محدودية النوع، بتعبير أكثر دقة، إن النوع الأدبي الصافي لم يعد إلا عند أولي التصور المتكلس الذي يعتبر الجنس الأدبي جنسا نقيا طاهرا أصليا، وفي ادّعاء قاتل لأية ابتداعية تراهن «على اكتشافات وسيرورة أنساق تناصات بين ممكنات لغوية تستل مما هو سردي والسردي مما هو شعري»(19)
هكذا تفتح قصيدة الحداثة أفقها الشعري على احتمالات إبداعية تستقي وجودها النصي ، من خلال، التمازج والتماهي مع الأجناس الأدبية الأخرى ، خصوصا في سياق العبور النصي، الذي يقصد به تداخل الأنواع الأدبية. ومن تم فالإشكال ليس في وجود ظلال شعرية في نص نثري، أو ظلال نثرية في نص شعري وهكذا، بل في كيفية الاستثمار أو التوظيف الأنجع لهذا التزاوج ، فما على الشاعر أو الناثر إلا أن يسلك مسالك تعبيرية، تشحن كل نوع أدبي بملح آخره النصي، وتزيده إبداعية بأبعاد جمالية وفنية؛ تعتمد على تصورات ورؤى في الكتابة والإبداع، وهذا ما تحققه قصيدة الحداثة التي انفتحت على هذا الأفق الأجناسي، لتطعّم بنية النص الشعري بمقومات سردية؛ تكشف عن العمق في زاوية النظر للذات والعالم.
إن ما يميز قصيدة الحداثة كونها غير متنكّرة لروافد نوعها الأدبي، التي تستقي منها وهجها الإبداعي، وأصالتها الموضوعاتية، وغير واضعة الحدود بينها وبين الأنواع الأدبية الأخرى، ، وهذا يعني أن الأجناس الأدبية لا تستلهم قدرتها الإبداعية إلا عبر المحاورة العميقة مع بعضها البعض، وهذا ما يحقق لها تنوعها في الممكنات التعبيرية والأسلوبية.
ومن ثمة فالحديث عن هذا التداخل حديث معقلن نابع مما تعرفه تجربة الكتابة في الشعر العربي المعاصر من إبدالات وتحولات ، هذه الكتابة التي قطعت أشواطا مهمّة في تثبيت شعرية تخترق الحدود؛ وتفكك الراهن والأسئلة التي يطرحها ، دليل على فرادة الخطاب الشعري المعاصر. وعلى الإسهام « في تغيير المفاهيم والتصورات وفتحت آفاقا شعرية منفتحة على الممكن والاحتمال والمعرفة والسؤال» (20) . الشيء الذي يدفعنا إلى التأكيد على كون توظيف السرد في الشعر يحقق بعدا دراميا، ويضفي عليه طابع التوتر والقلق والصراع، ومن هنا يمكن الإشارة إلى أن الرواية تشترك مع الملحمة؛ فهذه الأخيرة توظف الشعر في بنيتها وتتطرق للأشياء الخارقة للعادة؛ حيث تكون شخصياتها عبارة عن أبطال، وفي الرواية مجرد كائنات عادية « لأن كل الأعمال الدرامية بما فيها تلك التي لا نلمح أي سارد فيها توحي بصورة ضمنية بوجود مؤلف يتوارى في الكواليس، إما أنه عارض للعرائس، وإما أنه يكون كما يقول جيمس جويس (إله) محايد ينظف أظافره بصمت، وأن المؤلف الضمني يظل أبدا مختلفا عن الإنسان الحقيقي، ساعيا في كل رواية ناجحة إلى إنشاء صورة مثلى أو متناهية السمو، لهذا الإنسان الحقيقي نفسه، فكل رواية خارقة تجعلنا نعتقد بوجود مؤلف نؤوله على أنه ضرب من الأنا الأعلى وكثيرا ما يقدم إلينا هذا الأنا الثاني صورة للإنسان بالغة الصفاء والطهر والرقة والذكاء بل أشد احتراما من الحقيقة نفسها» (21) ، الشيء الذي فتح المجال لقصيدة الحداثة للبحث عن أساليب وآليات تعبيرية؛ حتى تكون أكثر انفتاحا على عالم أكثر رحابة، الشيء الذي جعل الذات الشاعرة تمتلك القدرة على البوح والإفصاح ، فكانت البنى السردية القناة الجمالية الفنية، التي بصمت النص الشعري بالخصوبة الشعرية. وبالتالي يمكننا أن نقف عند ملامح السردنة (نسبة إلى السرد) والشعرنة (نسبة إلى الشعر) وهي ثنائية غدت سائدة في الخطاب الشعري والسردي معا، إذ نعثر على الشعر داخل النص السردي، والسرد بين ثنايا النص الشعري، هذا التداخل هو الذي يمنح لكل خطاب سمات التجديد والابتداع، على اعتبار أن قصيدة الحداثة كان هاجسها تجاوز البنية النصية القائمة، بخلق نصية منفتحة على بنى تعبيرية تمتحّ من الرّوح السردية أكسجين الإبداعية لكونها « تسعى نحو الاختلاف والتفرد والتميز والغرائبية، لأنها مسكونة بأشباح لغة جديدة لم يتخيلها أحد، ومسكونة بأخيلة ملونة لكوابيس يخاف الإنسان العادي من تصورها، وترى أن العمل الفني هو الذي يحدث صدمة وشرارة عقلية وخيالية وذهنية لدى القارئ» 22)
وإذا انطلقنا من منطلق اعتبار قصيدة الحداثة تستثمر الملمح السردي؛ لإضفاء حياة جديدة متسمة بالحيوية والابتداع، والإسهام في تثوير الخطاب الشعري وتخصيبه، والأكثر من ذلك يشحن النص الشعري بإمكانات تعبيرية تحفل بالخرق وتخطي الألوف في المنجز الشعري السالف؛ حتى تستطيع « الوصول إلى مواقع في النفس الإنسانية تختلف عن المناطق التي يصل إليها النثر… إنها مناطق الحدس والدهشة والذهول وما لا يمكن ضبطه وتحديده»(23) فما هي تجليات الشعري والسردي في قصيدة الحداثة؟
إن قصيدة الحداثة، تجترح لكينونتها الشعرية ملامح خطاب شعري منفتح على كل ما يمكن أن يخصّبه ، ومن الممكنات الأدبية التي بدأت تطغى على هذه القصيدة الممكن السردي، هذا الأخير تحول إلى بصمة يصطبغ بها النص الشعري الحداثي ، وذلك وفق متغيرات في التصور لكتابة شعرية لم تبق رهينة بنية منغلقة ومسوّرة بأغلال ميتة لكونها « جاهدة أبدا في الهرب من كل أنواع الانحباس في أوزان وإيقاعات محددة، بحيث يتاح لها أن تكشف بشكل أشمل عن الإحساس بتموج العالم والإنسان»(24)، فهي قصيدة عاقّة وخارجة عن القوانين، التي تواضع عليها أهل الشعر قديما، متمردة عن المألوف، غير أنها تنصت لذبذبات الذات والعالم ، من خلال ثنائية السردنة والشعرنة ، وقد أكد أبو حيان التوحيدي هذا التداخل أو العبور الأجناسي إذ يقول: « في النثر ظل من النظم ( الشعر). ولولا ذلك ما خفّ ولا حلا ولا طاب وتحلّى. وفي النظم ظل من النثر، لولا ذلك ما تميزت أشكاله، ولا عزبت موارده ومصادره، وبحوره وطرائقه وائتلفت وصائله وعلائقه»،(25) وفي هذا تثبيت للعلائق الوشيجة التي تربط بين الشعر والنثر التي تلعب دورا إبداعيا في الخطاب الشعري المعاصر.
إن المتأمل للنتاج الشعري العربي الزاخر بتجارب شعرية، كان لها الإسهام الكبير في تطوير الشعرية العربية، وجعلها تنفتح على مقومات أسلوبية أثْرت الخطاب الشعري، بل إنها أبعدت النص الشعري المعاصر من الروح الخطابية والغنائية الفجة واللغة الخطابية إلى روح الاحتفاء بصوت النص في تعالق وثيق مع الذات. وما يميز قصيدة الحداثة أنها تعبّر عن مقصدية جمالية وفنية نابعة من عمق التصور وأصالة التجربة؛ كل هذا يؤدي دورا مهما في ثراء الخطاب الشعري، وما الانفتاح على مقومات السرد؛ إلا دليل صحة على جدارة هذه القصيدة؛ هذه الأخيرة التي تفتح منافذ لتعابير أسلوبية، تعتمد على عبور الأجناس فيما بينها؛ هذه المنافذ تزيد قصيدة الحداثة، تتعامل من الانواع الأدبية الأخرى بأريحية إبداعية؛ تستمد منها حرارة التجربة وتوهجها المفضي إلى إضاءة المظلم في الذات والعالم.
وشعراء قصيدة الحداثة استلهموا السرد كوسيلة تمنح الذات إمكانيات هائلة للتعبير عن رؤاهم الشعرية وفق منظور حداثي ، ومن أبرز هؤلاء نجد الشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي تمكّن من الاسترفاد من معين النسق الحكائي ، ففي قصيدة « شناشيل ابنة الجلبي» أنه يعتمد آلية التذكر إذ يقول: (26)
) وأذكر من شتاء القرية النضاح فيه نور
من خلل السحاب كأنه النغم
تسرب من ثقوب المعزف… ارتعشت له الظلم
وقد عنى صباحا قيل…فيم أعد؟ )
فالمقول الشعري ذو طابع سردي يعتمد التذكر كآلية تعبيرية تشحن النص بأجواء الطفولة الممتدة في ذاكرة الشاعر، مع هيمنة ضمير المتكلم، مما يعطينا الضوء الأخضر لاعتباره سردا ذاتيا يتم تحقيقه عبْر تقنية الاسترجاع كمظهر من مظاهر السرد المتنوعة والتي تحقق البعد الدرامي والغنائي في النص، وتسهم في تعميق الإحساس بالتمزق والتناقض والتشظي والصراع والغربة.
من هذا المنطلق فالسياب يحاول بوساطة آلية التذكر القبض على ملامح طفولة هاربة بفعل الاغتراب القسري الذي تحياه الذات الشاعرة في عالم يزيدها شعورا بالمفارقات.
فبدر شاكر السياب، وهو يوظف تقنية الاسترجاع، هو محاولة لاستعادة المنفلت من الذات؛ واستحضار للأجواء التي تعمُّ فضاء القرية، الأرض البكر لكل شغب الطفولة بحمولاته الدالة على البراءة وصفو الحياة، مُسبِغا عليها سردية، بلغة تتصف، في ظاهرها، بالبساطة، لكنها
على المستوى الدلالي محمّلة بالخلق والتجديد؛ يقول:(27)
(كنت أبتسم لليلي أو نهاري أثقلت أغصانه النشوى عيون الحور
وكنا جدّنا الهدار يضحك أو يغني في ظلال الجوسق القصب
وفلّاحيه ينتظرون «غيثك يا إله» وإخوتي في غابة اللعب
يصيدون الأرانب والفراش، و(أحمد) الناطور – نحدّق
في ظلال الجوسق السمراء النهر –
ونرفع للسحاب عيوننا : سيسيل القطر
وأرعدت السماء فرنّ قاع النهر وارتعشت ذرى السعف
وأشعلت ومض البرق أزرق ثم أخضر ثم تنطفئ ….)
في سردية باذخة بصور بديعة الالتقاط والتشكيل نسيح مع الشاعر في وهاد الذاكرة متتبعين ملامح طفولة عبْر منوالية تصويرة ذات أبعاد سردية ، الشيء الذي جعلنا نقاوم هذا الإغراء الأسلوبي الذي زاد من حرارة اللحظة الشعرية التي تعيشها الذات الشاعرة وهي تستعيد هذا
العالم الممتد في الصفاء والبعث والخصب. وفي سياق آلية السرد التصويري نجد هذا الملمح لدى الشاعر صلاح عبد الصبور: هذا الشاعر الذي كان له إسهامات جبّارة في تثوير الشعرية العربية ، من خلال ما أسداه من ابتداع وخلق للنصية الشعرية المعاصرة ، إذ وظف لغة اليومي وشحنها بدلالات زادت من إبداعية تجربته الشعرية، ووفق تصور يعطي للسرد طاقة خلاقة في تخصيب الخطاب الشعري يقول:(28)
( وأتى نعي أبي هذا الصباح…
نام في الميدان مشجوج الجبين
حوله الذؤبان تعوي والرياح
ورفاق قبّلوه خاشعين
وبأقدام تجر الأحذية
وتدق الأرض في وقع منفّر
طرقوا الباب علينا
وأتى نعي أبي….)
إن هذا المقول الشعري نلمس في ثناياه بعدا تصويريا بسمات سردية ، فالصور متتالية ومتدفقة تدفق الدفقة الشعورية للذات الشاعرة؛ وهو يصف لنا موت الأب يقدمه لنا عبر صور مترادفة كشلال ماء متدفّق من الأعالي، وبطقوس جنائزية تبرز الرؤية الشعرية المتسمة بالشج والعواء والوقع المنفّر، معجم شعري يثير الإحساس بالغثيان والسأم ، والشعور بالأسى. هي سردية ممزوجة بالوصف تسعى إلى التعبير عن حجم المأساة التي تحياها الذات بأسلوبية تعبيرية تسمو بلغة اليومي إلى مصاف شعرية مترعة بتآويل متعدّدة؛ لأن « اللغة الشعرية وظيفية، وهمّها الأول والأساس التأثير الجمالي، إنها تتوجّه نحو التعبير نفسه، وذلك بخلاف لغة المنطق الدقيقة والباحثة عن الصدق. ففي لغة الشعر لا أهمية للصدق» (29) بقدر ما يرسم الشاعر هويته الشعرية، من خلال، الرفد من ينابيع المتخيل حتى تستطيع التجربة أن تحقق جمالياتها، ومكْمن هذا «في التعامل مع اللغة بحيث أصبحت أكثر قدرة على التعبير عمّا يجيش في نفس الشاعر من انفعالات وأوهام ورؤى داخلية يتجاوز نطاق العالم المحسوس كي نصنع عالما خاصا يرتكز على الأحلام والأوهام والشطحات والخيال» (30)
يقول الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي: (31)
يا عم..
من أين الطريق؟
أين طريق «السيدة ؟
-أيمن قليلا، ثم أيسر يا بني
***
وسرتُ يا ليل المدينة
أرقرق الآه الحزينة
أجر ساقي المجهدة
للسيدة
بلا نقود، جائع حتى العياء
بلا رفيق
كأنني طفل رمته خاطئة
فلم يعره العابرون في الطريق
حتى الرثاء…)
إن هذا المقطع الشعري يكشف عن سمة من سمات الشعر العربي المعاصر؛ تتمثل في هذا الملمح السردي عماده الحوار كوسيلة تعبيرية للكشف عن صراع الذات وإحساسها بالغربة داخل فضاء المدينة المتوحش، الذي تنتفي فيه القيم النبيلة، ولعل طريقة الحوار تعرّي حقيقة الشعور المأساوي للذات في علاقتها بالعالم ، ليسرد بعد ذلك محنة الذات مع التيه والضياع والغربة والشعور بالجوع والذنب الوجودي، ويبين اليتم الباطني الذي تتكبّده الذات المنفية في صحراء المدنية المنفلتة من عقال القيم الإنسانية.
وهذا ما نعثر عليه كذلك عند محمود درويش في سردية مرآوية مسرودة بجمالية المأساوي مع الموت، نتكشف فيه الذات مسلّحة بإرادة المجابهة يقول: (32)
( ولدتُ إلى جانب البئر
والشجرات الثلاث الوحيدات كالراهبات
ولدتُ بلا زفّة وبلا قابلة
وسمّيتُ مصادفة
وانتميت إلى عائلة
مصادفة
وورثت ملامحها والصفات
وأمراضها..)
هذه السردية المرآوية نقصد بها قدرة الذات على رؤية نفسها وهي تسرد تاريخ وجودها بأسلوب يرشح بسخرية لاذعة، وقاسية ، ولعل هذا ما زاد من توتر العلاقة بين الذات وشبيهتها، هي سيرة الذات تم تسريدها شعريا؛ فالنزعة السردية واضحة في تجاربه الشعرية الأخيرة، التي تتسم بروح سردية تمنح الخطاب الشعري بعده الدرامي والجمالي الذي « يكرس في النص عالما متوترا، ويخلق أفقا أكثر اتساعا من الأفق النصي» (33)
إن السمة السردية من علامات الإبدالات التي مرّت منها قصيدة الحداثة؛ فتمكّنت من تثوير خطاب شعري يتميّز بالتجدد والخصوبة الإبداعية؛ ولعل « أهم المنجزات النصية لحداثة القصيدة، اختراقها للحدود الفاصلة بين الشعر والنثر، أي سعيها لتوظيف أنواع غير شعرية في ثنيات النص الشعري. هذا ما سيؤهل حداثة القصيدة، في بعض مقترحاتها البعيدة إلى تفعيل حركية النص بجعله يحفل بمستويات تعبيرية آتية من غير ما كان يُعتبر شعرا محضا» (34)
فالبنية السردية كملمح من ملامح الخطاب الشعري لقصيدة الحداثة تلعب دورا مهما في فتح آفاق تجديدية للسياق الحكائي في النص الشعري، لكنها وصلت أوجها مع الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي استطاع أن تنفتح هذه القصيدة على البعد الحكائي الشهرزادي
يقول: (35)
(رأيت في المنام
محبوبتي عارية، ترقص في كأس من المدام
أردت أن أشربه، لكنني غرقت في الكأس وفي الظلام.
مستمدة من الفن السنيمائي ، مما يزكّي البنية السردية في الخطاب الشعري المعاصر. فالرؤية ذات سمات حكائية تحاول الوقوف على الحاضر في عملية ارتدادية نحو الماضي لتسريده تسريدا حكائيا يضيء عتمات عالم الحكي الشهرزادي الممتد في الذاكرة التراثية المتوهجة ، كتراث جماعي يعتمد على الحكي لإنقاذ المرأة من الموت، ومن تم فقصيدة الحداثة تروم إنقاذ اللغة المحكية من انغلاقها السلبي، لتنفتح على الشعر وتمتزج به في صوغ جمالي فني؛ وذلك في مشهدية تجوهر الظاهر؛ وتستكنه المبطّن.
وعليه فإن الشاعر أمل دنقل ستكون له إضافات نوعية أسبغت الخطاب الشعري المعاصر بشحنات تجديدية، لعبت فيه الشعرية السردية مهمّة تكثيف الأساليب التعبيرية وتوسيع المعاني والدلالات، وقد تمكّن من ذلك بوساطة المشهدية التصويرية التي تعتبر سمة من سمات التداخل الفريد بين الشعر والنثر في صورة تزيد من حرارة تجربة هذا الشاعر الفذ؛ وغيره من الشعراء المعاصرين الذي لا يسمح لنا حجم الدراسة بالتفصيل في تجاربهم، يقول في مشهدية تصويرية مسردنة شعريا: (36)
( في غرف العمليات
كان نقاب الأطبّاء أبيض
لون المعاطف أبيض
تاج الحكيمات أبيض، أردية الراهبات
الملاءات
لون الأسرّة ، أربطة الشاش والقطن
قرص المنوّم، أنبوبة المصل، كوب اللبن
كل هذا يشيع بقلبي الوهن
كل هذا البياض يذكّرني بالكفن…)
لقد استطاع الشاعر بلغة شعرية مترعة بنبض اليومي أن يعبّر في سردية تصويرية زادت من حدّة التوتر التي تعيشها الذات الشاعرة، فسردية البياض ـ إن صح القول- تشكل بؤرة مشهدية تصويرية مفعمة بالبعد الوجودي في إطار صراع الشاعر مع الموت، وهو طريح السرير في الغرفة رقم (8) في المستشفى، فالشاعر وهو يواجه الموت، استرفد معجمه الشعري من لغة اليومي حتى يوصل إلى القارئ حجم المكابدة التي يتكبّدها في تلك الأثناء، غير أن الخطاب الشعري الذي تؤسسه تجربة الموت لا يعني أن النص الشعري» لا يمكن أن يفهم في إطار الواقع المادّي فقط، إذ لا يأخذ من الواقع سوى نماذج منه، أي ليس انعكاسا للواقع أو انزياحا عنه، وإنما تتحدد العلاقة بينهما في كونها علاقة تفاعلية تمكّن وظائف النص المبدئية من ضبط سياق النص وتحديد معاله الكبرى « (37)
لم يخرج الشاعر أدونيس عن هذا الاختيار المتعلق بتوظيف السرد في الشعر؛ لكنه يرى أن هذا الاستخدام ينبغي أن يكون لغاية شعرية خالصة، بمقدورها تفجير الطاقة المجازية للغة، على اعتبار أن الشعرنة تطوير لمفهوم الجمالية كما نظّر لها جاكبسون المتمثلة في سحر الوصف وجمالية اللفظ ودقة التعبير، وفي هذا دعوة أكيدة على أن اختراق وتغلغل ماهو سردي في شعرية قصيدة الحداثة أمر لا لبس فيه، إذ يمنح للنص بعدا حيويا يضفي ملمحا جماليا وفنيا، ومن الأليات السردية التي تم استخدامها من لدن أدونيس آلية السرد التصويري، التي تبرز تضايف الشعر والسرد، وعليه فأدونيس كان مدركا بأن النص الشعري قادر على احتضان كل المنطلقات المعرفية التي تستند على السردية التي تمثل « تشكيلا جماليا باللغة إلى جانب كونه نشاطا إنسانيا يعكس حركة واقع اجتماعي تاريخي محدد عكسا خاصا»
الشيء الذي يؤكد على أن التقنيات السردية شقّت طريقها إلى النص الشعري الأدونيسي وغدت واحدة من جمالياته الجديدة يقول أدونيس: (38)
( الحياة هزيلة في هذه الدقائق من العمر، النهار لا حواجب له. وليس للشمس أهداب طويلة. ولا همس في بردى والفرات، لا تململ. السلالة عاقر في بلادي وخرساء والتاريخ يحمل بقاياه إلى أرض أخرى)
هذا المقول الشعري نلمس فيه نفسا سرديا، تتجلى فيه عناصر السرد وتقنياته جلية الملامح والدلالات، فهو يقدّم لنا الحياة في تصويرية سردية تقرأ حال أمة مشلولة الإرادة؛ حيث الزمن فاقد المعالم ومنتفٍ، وبأسلوبية مفارقة لتصوير مكابدات الذات الشاعرة. وعليه يمكننا القول «إن الشعرية العربية لم تعد تولي اهتماما خاصا بتفرد دلالة النص، بقدر ما تهتم بمجموع المستويات الفاعلة التي تشكّل البنية الكلية للنص بكل ما بداخلها من علاقات ظاهرة أو خفية أو تقاطع مع نصوص أخرى» (39)
إن البنية السردية حاضرة بجلاء في تجربة الشاعر عبدالله راجع؛ ذلك أن هذه السردية تحقق بعدا دراميا ، وتشحن الخطاب الشعري بالتوهج الدلالي، والعمق في الكشف عما يخالج الذات من توترات باطنية تعبّر عن « حركة مفتوحة في مظهرية الخارج وحركة عميقة في باطنية الداخل»(40) وليس غريبا القول إن تجربة الشاعر منبثقة من هذه الأصالة السردية، فهو يسرد، بلغة شعرية، سيرة شخصيات محتفى بها في خطابه الشعري كصالح الشكدالي وعروة بن الورد، وعبد الرحمن الأشعث والمتنبي؛ فالسرد حاضر بقوة في نسيج التجربة الشعرية لديه يقول: (41)
( يعدو.. سروالا فضفاضا وقميصا متّسخا
يعدو.. عيناه الضيقتان تشعّان بومض بريق
يغرق في صوفية يوما
ويفيض بخُبث عن لقمته بالعدو على قدم
لم يعرف نعلا يعدو، والرأس العاري… )
إنها سردية تشكيلية لشخصية صالح حيث يقدّمه الملفوظ الشعري في صورة مأساوية تعرّي حقيقة الإنسان العربي الذي يتعرّض لكل أصناف التهميش الاجتماعي والوجودي. ويقول الشاعر صلاح بوسريف « إن الكتابة تفرض نوعا من الجرأة المستمرة في اختبار المآزق، وفي تجاوز اختناقاتها، وهذا يتطلب في نظرنا لا يمكنه أن يحدث إلّا بوجود وعي نظري يتيح للشاعر أن يلتقط لحظات الانتقال أو الانعطاف «(42) بتعبير آخر إن الكتابة مغامرة تجترح لذاتها مسارا تجديديا يستجيب للحظة التاريخية التي يحيا فيها الشاعر، فإذا كانت النصية الإحيائية تمكنت من العودة إلى الماضي باعتباره موردا يلبي نداء الثبات، فإن النصية التفعيلية هي الأخرى لم تخرج عن نداء الذات التي تسعى إلى تحطيم القيود الوزنية الضاربة في التقليدانية؛ من أجل بنية نصية تفتح أفق الخلق على مداه اللانهائي، ثم جاءت قصيدة النثر لتكسر كل هذا المنجز الشعري لخلق نص شعري لا يؤمن إلا بإيقاع الداخل وتشظي الخارج عنه، وهذا ما يلحظ على مستوى التجديد النصي والانفتاح على أفق السردية العربية، وهذا لن يتحقق إلا بامتلاك تصور واضح للعملية الإبداعية، فتسريد الشعر هو منحه القدرة على الإيغال في عوالم الذات الغامضة والملتبسة، وهذا ما تحقق مع الشاعر صلاح بوسريف الذي أبدع نصية شعرية تحتفي بالسرد الشعري.
يقول: (43)
( الشارع الوحيد الذي كان يفضي إلى بيتنا
شجره اغتيل، طيوره التي، كم قوّضنا أعشاشها
لاذت بشقوق المنازل
لم يعد للخضرة مكان فيه تُزاول عشبها
لا
مكان للغناء هنا.
أصوات كثيرة تأتي من كل الجهات
وَلا
مكان للغناء …)
فالذات الشاعرة تحاول قدر الإمكان أن تحوّل المكان سرديا إلى فضاء مفعم بالتمخُّضات المهولة التي أصابته، بفعل عوامل الحياة المدنية التي تبتلع كل ماهو حميمي، فجاء السرد مسترسلا يبين مكابدة الذات مع عالم سنته الجلبة، ولا وجود للحياة في مكان تغتصب فيه الحياة. فالشخصية الساردة تتخذ موقفا رافضا تجاه هذه التخريب الذي تتعرض له الذاكرة فتشكيل المكان سرديا تمّ عبر صور شعرية ضاربة في متخيل الطفولة بما تحمله من مشاعر بريئة؛ لكن الذات، عبر آلية الاستغوار الباطني، تكشف القلق الذي يساورها أمام مجابهة هذا الواقع الشرس، وعليه فالشاعر» يقهر الوجود الهش بإعادة صياغته جماليا حتى يتطهّر من درن الواقع الباطش» (44)
وينخرط الشاعر أحمد بركات في سردنة الشعر، عبْر كتابة مفتوحة على أفق شعري مغايرة مختلفة عمّا مألوف في القصيدة النثرية؛ ذلك أنه خلق نصية شعرية تفرض إيقاعها السردي على الخطاب الشعري؛ غير أن هذه الكتابة « تنمو في اتجاه الأعماق في سريرة الإنسان ودخيلائه، وتنمو أفقيا، في تحولات العالم. وهي لا تصدر مصادفة عن «مزاج» أو «وحي»، بل تصدر بدفعة واحدة ورؤيا واحدة، وحدس واحد «(45) يقول الشاعر: (46)
( حذر أخطو كأني ذاهب على خط نزاع
وكأن معي رسائل لجنود
وراية جديدة لمعسكر جديد
بينما الثواني التي تأتي من الوراء تقصف العمر
هكذا
بكثافة الرماد…)
فالسرد هنا غارق في تفاصيل الحكي لذات في حالة حرب مع الحياة؛ وذلك من خلال سردية مشهدية؛ خارقة للمعتاد النصي، ضاربة في مجازية موحية بدلالات مفتوحة على تآويل جديدة، فالصعقة تصيب ذائقة المتلقي؛ إذ يرى الشخصية في صورة تكشف توتر الذات حيث الزمن المقيت يقصف العمر بكامل الرماد الكثيف. ويعرّي حقيقة تشظي الذات الشاعرة. ومن ثم فالحكي يمثل عصب بنية المقطع الشعري المنثور بمجازية مذهلة، وكاتمة الصوت التي تصيب مكمن إبداعية كان رهانها نصية لا تنبثق إلا من جوهر المكابدة الذاتية والوجودية. ولا غرابة في ذلك ما دام الشاعر الذي ارتضى توبيخ العالم بوردة المحبة. وعليه فالسمة السردية هي السائدة على الخطاب الشعري الذي يؤسسه أحمد بركات الذي ترك الحياة بسرعة؛ لكن خلَّف وراءه تجربة تستحق الإنصات والتأمل.
فاصلة:
إن قصيدة الحداثة تمكّنت من خلق وعي جمالي؛ لعب دورا مُهِمّا في تثوير الشعرية العربية، وفتح آفاقا جديدة لكتابة شعرية لا تركن لمبدإ نقاء النوع الأدبي؛ بقدر ما انفتحت على كافة الممكنات التعبيرية التي بِمُكْنِها أن تبلور تصورا حديثا لبنية نصية قائمة على سردنة الشعر، بمعنى إعطاء نَفَسٍ جديد لقصيدة شعرية حداثية تنشغل بالأعماق كجوهر أساس في العملية الشعرية؛ وتنفتح على الواقع بحمولاته التاريخية والحضارية والسياسية والاجتماعية، فالوعي الجمالي هو الذي يحدّد شعرية القصيدة وليس الوعي بالشكل، ذلك أن الشكل قد يقتل الدفقة الشعورية؛ ويجعلها جامدة؛ تفتقد لشرط الحياة الإبداعية.
الهوامش:
(1) رشيد يحياوي: الشعرية العربية: الأنواع والأغراض، إفريقيا الشرق، ط1، 1991، ص 5.
(2) أدونيس: مقدمة الشعر العربي، دار العودة، بيروت، لبنان، ط1، 1971، ص117.
(3) رينيه ويلك: مفاهيم نقدية، ترجمة محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة 110،الكويت، فبراير 1987، ص 176.
(4) أ. د. عبد الناصر هلال: تداخل الأنواع الأدبية وشعرية النوع الهجين (جدل الشعري والسردي)، منشورات النادي الادبي الثقافي بجدة، ع 164، المملكة السعودية،ط1، 2012،ص 19.
(5) نفسه ص19.
(6) نفسه ص 19.
(7) د.أحمد مداس: السردي في الخطاب الشعري، مجلة كلية الآداب واللغات، جامعة محمد خضير ? بسكرة ? العددان العاشر والحادي عشر، يناير/ يونيو 2012، ص 34 و35.
(8) ينظر: محمد مفتاح: تحليل الخطاب الشعري: استراتيجية التناص، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت/ المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، د. ت. ط، ص 149.
(9) د. أحمد مداس: السردي في الخطاب الشعري، م. مذكور، ص 36.
(10) ميخائيل باختين: الخطاب الروائي، ترجمة محمد برادة، القاهرة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع،1987، ص58.
(11) أ. د. عبد الناصر هلال: تداخل الأنواع الأدبية، م. مذكور، ص 54.
(12) د. أحمد مداس: السردي في الخطاب الشعري، م. مذكور، ص 34.
(13) جيرار جنيت: مدخل إلى النص الجامع، ترجمة: عبد العزيز شبيل، مراجعة: حمادي صمود، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1999،ص 8.
(14) أ. د. عبد الناصر هلال: قصيدة النثر العربية: من سلطة الذاكرة وشعرية المساءلة (دراسة في جماليات الإيقاع) مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، ط1، 2012،ص 128 و129.
(15) بول شاوول: مقدمة في قصيدة النثر، مجلة فصول، مج 16، ع 1،صيف 1997،ص 148.
(16) سوزان برنار: قصيدة النثر: من بودلير إلى أيامنا ، ترجمة: زهير مجيد مغامس، القاهرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1996، ص 16.
(17) عبد القادر غزالي: الشعري والسردي في القصيدة المغربية المعاصرة، مجلة نزوى، ع 87، يوليو 2016، ص 85؟
(18) نفسه ، ص 86.
(19) نفسه، ص89.
(20) نفسه، ص 88.
(21) عبد المالك مرتاض: نظرية الرواية: ص 13.
(22) د. عباس الحداد: الشعر العربي الحديث وقضايا العالم العربي، ضمن ندوة الشعر العربي لحديث، أعمال الندوة الرئيسية لمهرجان القرين الثقافي الثاني عشر،10/ 12 ديسمبر 2005، ج2، الكويت، المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، ص 43.
(23) أ. ثابت الألوسي: شعرية النص، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، ط1، 2016، ص20.
(24) أدونيس: زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ط1، 1972، ص 60.
(25) أبو حيان التوحيدي: المقابسات، تحقيق: د. السندوسي، الكويت، دار سعاد الصباح،1992، ص245.
(26) بدر شاكر السياب: شناشيل ابنة الجلبي (ديوان) ، منشورات دار الطليعة، بيروت، 1965، ص 5.
(27) نفسه ص 5.
(28) صلاح عبد الصبور: الناس في بلادي، دار العودة، بيروت،ط1، 1973،ص 23.
(29) صدوق نور الدين: النص والتأويل، كتاب الرافد، ع 130، نوفمبر 2016، ص108.
(30) محمود ابراهيم الضبع: قصيدة النثر وتحولات الشعرية العربية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط1، 2003، ص 15.
(31) أحمد عبد المعطي حجازي: قلب بلا مدينة، دار الآداب، بيروت، ط1، 1959، ص 17 و18.
(32) محمود درويش: لماذا تركت الحصان وحيدا، دار الريس للكتب والنشر، ط1، 1995،ص 36.
(33) تداخل الأنواع الأدبية، م. مذكور، ص 64.
(34) صلاح بوسريف: حداثة الكتابة في الشعر العربي المعاصر، إفريقيا الشرق، 2012، ص221.
(35) عبد الوهاب البياتي: خمسون قصيدة حب، دار سحر للنشر،ط1،1971، ص 39.
(36) أمل دنقل: أوراق الغرفة رقم (8) ،1983، ص 12.
(37) د. إدريس بلمليح: المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب…» منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط ، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، ط1، 1995،ص284.
(38) أدونيس: الأعمال الكاملة ج2، دار المدى للثقافة والنشر، 1996، ص22.
(39) محمود ابراهيم الضبع: السرد الشعري، رسالة ماجستير، مخطوط كلية البنات- جامعة عين شمس، ص50.
(40) محمد صابر عبيد: الخطاب الخفي: كنز السيرة وسحر المخيلة، كتاب الرافد، ع 129، يونيو 2016، ص 10.
(41) عبد الله راجع: الأعمال الكاملة، منشورات وزارة الثقافة، المملكة المغربية،2013، ص 294.
(42) صلاح بوسريف: مضايق الكتابة : مقدمات لما بعد القصيدة، دار الثقافة ، ط1، 2002، ص 20.
(43) صلاح بوسريف: شرفة يتيمة ( خبز العائلة يليها حجر الفلاسفة)، فضاءات للنشر والتوزيع، ط1، 2015، ص128.
(44) د. عبد الناصر هلال: قصيدة النثر العربية، م. مذكور، ص 228.
(45) أدونيس: مقدمة للشعر العربي، دار العودة، بيروت، لبنان، ط1، 1971، ص106.
(46) أحمد بركات: الأعمال الكاملة، منشورات وزارة الثقافة، 2014، ص115.
Haut du formulaire
أعجبني
أحببته
ا
أحزنني
أغضبني
Bas du formulaire
صالح لبريني