لا يستسلم الشعر للشاعر. إذا لم يحقق في ملكوت اللغة وجمهراتها، في بواطنها وظواهرها، واشتقاقاتها وكيماوياتها، وكأن عليه التفلت من قيود التعبير وانحباساته، واشتراطاته النثرية، وزحمة المعاني والانشاء. للذهاب الى خلاصه في القصيدة عبرا لكلمات والأشياء. وعبر المعاني التي تتكون وتتكوكب في أروقة ودهاليز اللغة الشعرية، في لحمتها وسداتها، وتشيشها ونشيجها وفي نسيجها الحي الذي يفضي الى استشعار الغوامض والى استبصار الخفايا واللامرئيات، والى استجلاء المرئيات من التباسها وموارباتها وتورياتها. حتى يقيم تلك المبادلات الحصيفة في مرايا تعتكس
فيها روحه الشبقة الشاعرة، التواقة الى الحرية والانعتاق، من الجاذبية.
وأسر الوجود القاسي، الى أثيرية تحتدم فيها مخيلة الشاعر، وتحتلم، عبر القصيدة التي تدرك نفسها وتتدارك عدمها، بأن تطلق الاستغاثات الأخيرة. التي ترن في ضمير الشاعر وتتقد، حتى تندمل في جرح اللغة، وجرح الوجود عبر ابتداع مناخها الساحر الآسر، الذي يقول ما لا يقال إلا في الاعتراف والصلوات. وبوح العشق ومطارحات الذات للأحلام المتغايرة والكوابيس التي ينذر بها الشاعر نفسه وأقرانه، وناسه. أو يحاول استقراء أفاعيلها وأباطيلها في الصيرورة. عن الحياة. والحب، عن الحرب والموت. عن الأماكن والأزمان والكائنات التي تتفلفل وتنفل في ضمير الشاعر. وما من مهاد أو مراح لها سوى فضاء القصيدة الشعشعاني…!
والشاعر لامع الحر في مجموعته الجديدة "فتى الظل يبحث عن يديها"
التي يتعاصف فيها الشعر ويتقاصفه، وكأنه يتقاطر في مجرات القصيدة، ويتهاطلها شعرا ونباهة في استباقها واستراقها، من غياب وغيوم، وأثير. ومن أرواح وأجساد وأحلام وأضفاث أحلام. وتمايلات وأباطيل، ومن ذكورة وأنوثة، وعشق وهيام، يجعله في بؤرة الجرح الذاتي، والعام، وف جرح القصيدة والشعر، يمارس الفيض والبحران، الأسفار والهجرات، للوصول الى خلاص ما. مما تفجر وزوبع في وطنه وأهله ومما احترق في ضميره، من أعمار وحيرات. ومدائن. ومما انقطع من وشائج وتواصلات، ومما احترب واشتجر في السماء كما على الأرض، وكأن البراكين والزلازل الخبيثة. تعزف حركاتها ومكناتها في قصيدته التي يتشاوف فيها داخلها، كما في الخارج وتلك خصائص شعرية، يتوارد اليها الشاعر ويراودها. وكأنه ينازل الكلمات، ويطالعها في إسراءات القصيدة ومعراجاتها. عدا عن توا شجها مع الموضوع حتى لو كان عن الشاعر. أو عن بعل، أو عن الروح. والغضب والرؤيا. والرحيق. فكل شيء يتناسج في قصيدته ويتناسخ، ويتعمر وينبني كلمة كلمة. وتعبيرا تعبيرا، مدماكا ومشهدا. وسقوفا سماوية. ونجمية من الجنوح والجموح. ومن التأويل والتدويل، لما يلتبس في داخلها. ولما ينكشف أو يتخافى مما يرغب الشاعر في استحضاره أو مواربته على حد سواء.
وهكذا تكون ملكة البوح. وشهوة الانشاد من قرائن القصيدة، ومن براثنها النهمة الفراسة الأكول. التي تستشف الوجود والعدم. وتذهب في الخطيئة والغفران وترتد الى النكران. تمجد الموت داخل حياة ميتة. والحياة، داخل موات حي. وتحتكم الى المدائح والمراثي في صبواتها وصهواتها. ومنعرجاتها في تمييهها وتصخرها، وصلوداتها، رغم مياه اللفة السارية المفعول في تعبيرها الشعري العاشق والوجودي، والمطل على توثبه وتوقده، على اضطرامه واصطفاقه. على تدويمه وتحويمه في الفضاء والأثير. وعلى التماع بروقه وقعقعة أو إرزام رعوده في الأرض والمنحدرات والوديان المتأخرة.
ما يضرب الشاعر في متاهاته وهاوياته. عبر قصائده، هو الجرح الشعري اللازم اللازب، حتس يكون الشعر دراميا. معادلا لحياة دراسية وزمان فجائعي وتفجعي، مليء بالقتل والغياب والفقدان، فمن جرح الحب الى جرح اللغة. الى تنازفات القصيدة ورعافاتها الى المردودات الخلية الخفية والشقاقات في الحب.. الى الذي يستحضر الشاعر أرواحه المؤتلفة والمختلفة. أو أرواحه المفارقة حيث يستنطقها عما يتخايل له. وعما يتوهمه ويبثه كمشاعر، متشافقة متناسقة. من رحم القصيدة الجواني، الى نبضها وعصبها ودمها ولحمها وخلاياها، وكأنها تتجاسد في اللفة حتى تتنافر فيها الحياة. كما يتفاخر الموت، وما بينها الاحباطات والنكوصات المعلنة. كذلك في الحب حيث التعاشق المزغول، وكأن الشاعر يقدم روحه وقلبه على مائدية العشق سهره ونعاسه. وتسهيده، وعتمة لياليه وأقمارها. ولا يحظى سوى بما "يرضى القتيل وليس يرضى القاتل " لكن عريفه المنفرد والجمعي عن الحب في قصيدته يتقد بجماليات حالمة. وأنوثات رؤومات ويشتعل باللهفة والحنين، وتستنهض الذاكرة مراياها الاسترجاعية، ومرأياها الابتكارية. كي تولف نشيد عشق عابقا بروائح الأرض وألوان الفصول، وفانتا زيا الطفولة، وصلات الرحم والانساب والصداقات، وغيابات الأحبة. حتى لكأن الشاعر يرفض دمعا. ويتفصد دما في قصيدته بسبب من هذه الشؤون والشجون التي تعتريه. تتفشى فيه أو تناوشه. أو تنتاشه. أو ترتجيه. ويتقلب فيها وتتقلب فيه، وكأنهما معا على جمر النوى والجوى!
ويستسقي الشاعر لقصيدته، غمائم الروح الغاديات الراشحات ويشيلها من جوعها وظمئها.. ويتقن مصاولتها ومجاولتها. عبر مشهدياتها ومقاطعها، لكأنه يرتكن الى مواجهاته ومجابهاته لها في تكثيف اللغة. وتخميرها وتقطيرها. وفي نفحها بالعطور، والعمل على اشتقاقاتها وكيماوياتها. سواء بالاستعارات أو الكنايات.
بالتشابيه والمجازات. وأساليب فنية. يتساوق فيها السرد والقص، وربما الضمائر، على أن التكلم أو الخطاب الشعري يستفيض بالأنا، ويستفيق على عربداتها ومجونها، وعلى غواياتها وغلمتها داخل التعبير وخارجه. وكأنها تتقول وتتأول الشعر، وكأنها تتصاوته وتتصامته في آن واحد!
إن مغامرة الشاعر لامع الحر في مجموعته. وفي تدفق قصائده الطويلة خلالها يتيحان له التوغل في التداخل والتخارج في اللفة الشعرية وعنها، وكذلك في المعاني المركبة. والتوازنات بين المادي والمعنوي منها وفي القبض على كريات التراث البيضاء والحمراء لشحن القصيدة بالطاقة الكهربية والمغناطيسية للشعر. كما أنه يبتدع لنفسه سياقات مفتوحة. مرفوعة ومنصوبة ومجرورة. في التدافع من البدايات. الى اللانها يات. فما من قصيدة تختتم شعر الشاعر سوى الموت، ومع ذلك يظل الشعر طائر فضاءا ته. ويظل الشاعر يشتغل بما لا يمكن شغله، وكأنه يضرب المستحيل حتى تجيء القصيدة. في أبهي حلة. مجلوة كعروس مشدودة ممدودة ممشوقة. متجذرة وسابحة متماوجة رقراقة باسمة أو حالكة لكنها في كامل صبوتها ونشرتها على تشويق الغياب. وتشفيف الحضور. وكأن عالم الشاعر يتسع للحيوات والأحلام، والأماكن للأزمان والكائنات. من باب تحفيرها وربما من استغراقه في فراديسها أو جحيماتها.حين يتجاذبها بين الماء والنار، أو حين يمد الجسور اللامرئية. بين الذ كورة والأنوثة. بين الليل والنهار، الخير والشر.الملائك والشياطين. أو حين يتعابث ويتلاهى مع الالهة القديمة. أو المدائن المحتربة.
إن خطاب العشق عند الشاعر شفاف وجلي. وحافل بالمعاني والروح الانساني. لكنه يوحي ويدل. أكثر مما يتكاشف ويتجاسد فيه. وتتناوح الرغبات، وتتأرجح بين الفعل ورد الفعل، وهو يوارب الشهوات ويواريها، فما من مرأة جنة، وما من مرأة جحيم. وما من مرأة مشخصنة في عريها وأحشائها وحواشيها، بل هناك أطياف امرأة وأشباحها، وانسانيتها. وكأنها لا تصل مقام الشاعر الذي يلجأ اليها، ويناجيها في القصيدة، ويناجي القصيدة بها، المرأة المعشوقة لها العاشقة، والأم والجدة وغير ذلك، عبر أنوثة القصيدة واندغامها في عسل الحب، وفي مراودته الشجية الشهية، كذلك أنوثة الأرض، والحياة وحتى المدينة المحتربة والحرب. أنوثة البلدة جباع، بمحتويات قلبها من فوق ومن تحت. لكن فضل وحسين مروة، وبعل. والشهداء في ذكورة دائمة هائلة وبليغة الى حد الشقاق والاشفاق..!
والشاعر محكوم ومدفوع بالشوق في شعره. فما من شيء يقربه الا ويشتاقه، ويمارس التوحد والذوبان فيه. ولديه من الشغف ما يكفي ويفيض، وهو يضرب في شبق العناصر وحماها. وحميميتها، فكما أنه مدنف عشق وصبابة. هو فارس وقوي في الصمود والموقف والمقاومة، حتى لكأنه يتراشق شعره مع نفسه مرات. ومرات يتشارده ويتشاهده وعلى مرمى القلب، على مرمى حجر وبروق ورعود وخطوات مسافات وآفاق وأعداء. في تجوين القصيدة، وتجويدها. واجتيافها ومضايقاتها، وموسيقاها التقليدية حينا، عندما تسيطر القوافي "قافية الكاف " في بعل وغيرها، وحديثة سيمفونية ينظمها الهارموني، وجاز وبلوز مرات أخرى. وهو يتقول ويتغور من القصيدة المألوفة. الى المقطعية الى المدورة الى البرقية وفي كل ذلك يكون هزجه وجذله. كما يكون غناؤه وانشاده، كما يكون همسه وصراخه، وهديله وصليله. بتنوع الأصوات والنأمات والنغمات كما لو على سرير الموسيقى الشرقي، وفي قصيدة مصر. شي ء من الكهرمات والتمامات والمغنطات مع عوالم ناغمة غامرة. ساحرة آسرة. بعواطف جياشة. للدخول الى خلايا بلد ومدنية، وحياة وحلم وتاريخ وذكريات، وأضواء وظلال.
على أن مفعول الذاكرة الشعري، رجعي وتقدمي في آن، فهي تستطلع الماضي وتعلق أحيانا في شراك تعبيره. كما تبتكر الحاضر والمستقبل. وتؤثر وتتأثر. لكن المرجعيات في الشعر. نائية بعيدة، يستصلح الشاعر تربتها، ويعاود استنباتها، كما يتأتى له ويلائمه من مناخ وجواءات تستعر لديه، في ماشيتها، وخصوبتها وروائها. وكأن رؤياه الشعرية هي التي تسيطر، فتهضم وتصهر، وتتمثل كل ما يطالعها من مثاقفات. وتناصات، لابد للشاعر منها، لكن من مسافات وأعماق يظل دويه وصوته ومجراته. وقبائله وعشائره وقرابات دمه وأنسابه في شعره،هي التي تتقاوى وتتغاوى حتى يحقق أسلوبه وسماته الشخصية والشعرية وحتى تتجل روحه. وينجلي جسده ويورق لسانه، ويورق ابان استعرائه واستعراضه للغة شعره، واقتراف ما يحل فيها واجتياح محرماتها أيضا!
واذا كان الشعر في تشعباته يحتمل الكثير من الهواجس والظنون والاشكالات فإنه يعاين الأرق والقلق. يعاندهما. ويعانيهما، ويسعى لمقابسات الروح، وتصعيد الرغبات من أجل استيهام الفرح والسعادة وافتراضهما، وما جدل الخطاب الشعري عند الشاعر إلا من هذه الأبواب، ومن أطواق الحمائم، وكأنه حي بن يقظان، غريب وفريد، متوحد ومنفي. ويعمل في حقول الذاكرة والنسيان على استحضار أحيائه وأمواته، وعلى استقراء حيواته وميتاته المحمولة على ومزيتها، حيث الشاعر يتخفى كثيرا في أساطيره، ويحول عوالمه المسحونة المرتعدة الراعبة الى خرافات. وأحيانا حكاية أطفال يرويها لنفسه، كي يهديه روعه، وكي يهديء روعه المفهومة. المنهوبة. المنهكة المنتهكة أحيانا. والجياشة أو المتهالكة، كي تقر وتستكين. كي تنعس وتنام. ولو أن ذلك من المحال عند الشاعر الذي يحلم الشعر والعالم ويستحلمهما. إلا أنه ينقبض وينبسط، ينفرد وينجمع، يلثغم ويتشظى، لكنه دائما يعاود سيرته الأولى فيما يصمته، ويعاود تباريح القول الشعري مرة إثر مرة لأن هذا ديدنه وهذه أشراكه ومصائده ومصائره ومقاديره كذلك.
إن الشاعر يتطارح إشكالية الشعر في مجمل قصائده وعبر نسيجها الدرامي المتفاقم من موت الشاعر الى مساءلات كثيرة في محاججة القصيدة ومهاجاتها أو امتداحها أحيانا، لكن علاماته ومرسلاته تظل في حيز الممكن وأطوار الشك واليقين، فمن الوعي واللاوعي يتجارى الشعر ويتجارف اللغة وينحفي كالرشم في الأوراق، ومن تمثلاته وتفريقاته وتقاسيمه يتبين العالم. والمناخ والجواءات التي يتشاهقها الشاعر، ويتزافرها ويتلاهثها أيضا، وكأنه في رياضات روحية غابرة وعابرة. وكأن تحفير الطفولة والنبش في حيثياتها ودقائقها وتفاصيلها هو مايروم الشاعر استباره واستشعاره في الرقم والآثار والمستحدثات. والأزمنة التي تتوالى وتنقضي، وتفوت أمثولاتها وتنزاح كائناتها. تتناسخ وتتحول حتى في اللغة. وهذا ما يعرض الشاعر للاثارة والاستئثار بنفسه ومخالعة العالم الذي هو فيه، وطلاقه. للاستحواذ على عالم من تخليقه وابتداعه، حتى لو كان مواطنه ومستوطنه الوحيد. فوطن الشاعر الشعر. وكأن هويته المتحركة تتحدد به وفيه : وكأن لاعزاء له غير الشعر. إذا كان للشاعر من عزاء في هذا الزمن الرماد.
زهير غانم (شاعر من سوريا)