تسعى شعرية فتحي عبد الله منذ ديوانه الأول «راعي المياه» إلى الانحياز إلي كل ما هو جوهري إنساني بامتياز دون أن تحفل بكونها تعبر عن الهامش أو المتن سواء كانوا رعاة أو زراعا، قاطعي طريق أو لصوصا، عمالا أو مهندسين، معبرا عن عالم الريف المستقر. هذا العالم بما يحفل به من طقوس حصاد وري وزراعة وتضامن إنساني يفرضه المجتمع الزراعي.. ولذلك جاءت هذه الشعرية وكأنها نتاج تأثير هذا المكان فكان بها قدر عال من انسيابية البناء وبساطة اللغة وغناها الحسي المستمد من أغاني الفلكلور أو الشعراء الشعبيين والذين كانوا يلعبون دورا قويا ومؤثرا في وعي الأجيال السابقة قبل أن تلعب الميديا هذا، والدور. حتى العنف الذي يمثل رافدا أساسيا من روافد شعرية فتحي عبد الله جاء مكتوما يرفض أن يخدش هذا العالم السحري، وهذا الديوان تجربة مهمة لأنه استطاع يقلص الأداء الزاعق، القعقعة، الصهيل، المباشر، الفاضح، لصالح الأداء الهامس، الأداء الذي هو يومي ولا يفصح، وينقسم الديوان إلى قسمين، سرد متقطع لاهث لتجربته اليومية في الجامعة، في المقهى، على رصيف الحياة، يلتقط شخوصا ويعيد ترتيب المشهد من جديد قاطعاً مع هذا الوقائعية البسيطة، ليخرجها بعد ذلك في إطار جديد، في مناخات جديدة،من خلال روحه القلقة، وهنا يأتي دور الخيال المدهش الذي يهندس المشاهد، في إطار رمزي أشبه بالمتاهة، ولولا أسماء واقعيه، مثل، الزوجة، نسرين والمقهى وغيرها لتحول النص لمتاهة مغلقة، مشفره، تماما
قبل أن أنام / سألت زوجتي عن ساعي/ البريد، وعدد الموتى الذين /خطروا بشقتي /وأنا غائب
قالت : ذو الشال الأبيض /همس بنومين/وترك صحيفة الأعمال /مملوءة بالخطوط /ولم أعرف كم جنازة/ حملها للمصلين /لكنه /أوصى بمراقبة الأشجار /وزيارة المحافل /ربما /نعثر على هواء جديد
هذا النص نموذج دال على ما أريد أن أقوله، من هو ذو الشال الأبيض، وأي صحيفة، وما هو المدون فيها، وما دلالة هذا الجملة، خطروا بشقتي، ومن هم الموتى وأي جنازة، قد يكون النص في جوهره بسيط جدا، وهو أن الشاعر مطارد،هارب من العسس، وهذه اللقاء تم مع زوجته،بصورة ما،في مكان مأمون، «قبل أن أنام» وهذا حوار عادي يسأل زوجته، عن المخبرين،ويتساءل عن التهم الجديدة الموجهة له، ولكن من أوصى بمراقبة الأشجار وما هو المحفل الذي يحوي هواء جديد؟، هل هو ينتمي لجماعة سرية مناهضة للدولة وهل لقاء جماعته يمثل هواء جديد، قد، وقد يكون كل ما قلناه هراء وان ما يدور داخل دهاليز النص، شيء أخر تماماً، أما القسم الآخر من الديوان فهو يتناول تجربة أعرفها بحكم صداقتي للشاعر وكان قد قضى سبعة عشر يوماً او ثمانية عشر يوماً في المستشفي مرافقاً لأبيه أثناء اجراء عملية جراحية له حيث كان سيتم قطع رجله بعد أصابته بداء السكري، هذه التجربة المؤلمة، رصدها الشاعر في مقاطع، عذبه، شجيه، مختنقاً يبحث عن مخرج، ولذلك تكثر في النصوص، مفردة هواء، وهو عنوان لقصيدة من الديوان، الهواء مشاركتى الأخيرة
،أبى يسمع التعاليم /وينعس دون مرارة /لأنه حين راقب الجوهرة،/وجد التماسيح تأكلٌ،/دون مائدة،/والفطريات تشبه السلالة /ولا مجاز بين الكحول،/والأعشاب /القميص من أنبوبةٍ/لأخري
ورائحة» عبد الله» لم تجد/ماشيته /فأخذت نومها بين /حرامه والخشب /،
ثم خرج منذ ديوانه الثاني سعادة متأخرة عن هذا العالم الزراعي إلي عالم المدينة بما تحفل به من عنف وقسوة وقتل وفقدان للبراءة يفرضها المجتمع الصناعي الحديث وبدل أن تصيبه المدينة بنوع من النكوص ليشرد إلي ظلال الميتافيزيقا أندفع ببراءة الحالمين والخياليين العظام, إلي محاولة تدمير المدينة, وبناء مدينة متخيلة بعدسة كاميرا ورؤية مخرج سينمائي, ولذلك جاء الديوان عبارة, عن مشاهد قصيرة تتراوح بين الحادة، والناعمة مستخدما تقنية الفيديو كليب،ولذلك جاء عبارة عن مشاهد قصيرة محكومة ومضفرة، وكأنها قطعة موزاييكو يكون عماد هذه المدينة الحرية والعدالة المطلقة هذه الحرية، التي تكفل العدالة لكل البشر بمن, فيهم الخلعاء والمهمشون،والساقطون من المجتمع وقسوته. ولا يمكن فهم هذا الديوان وهذا العنف الكارثى، المتوحشة، الراديكالية، والذي تركز حول الموضوع دون اهتمام يذكر في الشكل فشكل القصيدة ثابت منذ ديوانه راع المياه؟, لماذا؟ لأنه يمقت الزخارف, يكره الحيل الفارغة، يكره الشكلانية في العمق، يريد أن يصل لما يريد كالطلقة، في خط مستقيم، كالمطوي في عنق صنم، أله، متبجع، فارغ، انه شاعر يمقت، الأكروبات البهلوانية، التزيين، التوشية، هذا الشاعر / روح الطفل، الذي يتصور نفسه قادراً على مواجهة العالم، تحطيم الأصنام ببلطة، الذي يقف كمخرج فاعل وقادر على صناعة حياة بديلة ليقذف في وجوهنا بمشاهدة شديدة القسوة لكى ننتبه لحجم الكارثة، يكشف عن نفسه المعذبة / المحبة، في قصيدته، أبريل أيها الطيب،/ فأصرخ /أبريل أيها الطيب /بقرات أبي /في حاجة إلى دواء /وأولادي مصابون بأمراض الكلاب /ولحيتي طويلة /وأحبها هكذا /لأنني وحيد /وأفعالى كلها/ لي / ولكي تزيح هذا الركام الصلب الظاهري، لتكتشف عمق هشاشة الذات الشعرية عليك أن تقرا
لأنهم مهووسون /وليس لديهم القوة /الكافية /لأن يتركونى /وأنا مللت من الصراخ /و المبارزة
ان هذا ديوان انفجار دلالات تحت محصول لغوي ضنين لا يمكن تصوره، فتحت كل لفظة، تكمن تأويلات لا حصر لها، فلتنظر للعنوان سعادة متأخرة، وتقرأ الديوان، هل هناك سعادة من الأساس، أم أن هناك روحا منهكة، ترزح تحت وطأة ألم ممض، بداية من الإهداء إلى أمي، صاحبة السعادة الذي لم تعرف ما حدث لي في القسوة الأخيرة في أقصى درجاته الدفاع عن الذات، ذاته تعيش في بلد يعاني القهر، العنف،الإرهاب، الفقر، وانعدام العدالة، وكشاعر، مقصى، محذوف من المشهد الشعري في ظل مؤسسة ثقافية، إرهابية, بوليسية، عصابية تتفنن في تعذيب الغير مدجناً تدجيناً كاملاً بحيل شيطانية، أن دور هذه المؤسسة في تصحير المشهد الثقافي لا يقل إجراماً وانحطاطا عن انحطاط وزارة الداخلية بل هى الأكثر عنف لأنها تمارس عنفا رمزيا قاسيا تجاه ذوات فردية بطبيعتها هشة ويسهل كسرها، وهذا المقطع اعتبره دالا عن حجم المعاناة من الجماعة الثقافية المتواطئ مع السلطة الفاسدة.
لم يعلنوا عن زفافي /في المناسب /من الأيام /وأرجعوا ذلك /إلى أنى مصاب /بحمى قريبة أخذتها من أبقاري.
يجب أن نتذكر طقوس العرب للاحتفال بتدشين الشاعر الموهوب حيث تقام الولائم وتذبح الذبائح في وجود الشعراء المخضرمين، وهكذا يكتسب شرعية وجوده كشاعر.
هذا الديوان ليس دفاعاً فردياُ عن الذات، ولكنه دفاع عن الذات الجمعية المهدرة ضد الخصي، أنه ديوان مقاوم بامتياز ضد كل / شذاذ الآفاق / السلطويين / المهيمنين / ضد التنكيل به ودفعه إلى الحائط 2
روافد ثلاثة أساسية بلورة رؤية الشاعر
1- السريالية : لقد حطمت السريالية الحدود والأطر القومية، انها ثورة جذرية، ضد الأطر، ضد التقاليد، ضد المستقر، ضد الأعراف، ضد السائد، اتكاء على منجز فرويد في أهمية الحلم، تسفيه العقل، واعتماد الكتابة الآلية لإلهام العقل الباطني المتروك على سجيته لسرد الحلم، ولذلك تفتقد القصيدة عند السريالى للمنطق وتبرز الصورة كعنصر مشع، فاعل وتصبح القصيدة عدة مشاهد، شظايا، أنوار، التماعات، موزاييك على القاري أن يعيد ترتيبها كما يشاء، فليس للسريالي الأصيل أن يعطي صورة مكتملة أو معنى كاملا جاهزا، بل عليه أن يتعامل مع النص على أنه مجموعة من الرموز الباطنية، وعليه أن يكتشفها أو يؤولها كما يريد هو، كما ان السريالية تمجد الحرب وتعلى من قيمة القتل والهدم، وقد جاء في البيان الثانى للسريالية، على لسان بيرتون (1) «من مقومات ابسط عمل سريالى أن تشهر المسدسات، في الشارع وتطلق النار عشوائياً قدر المستطاع بين الجماهير» ولذلك تحفل نصوص الشاعر فتحى عبدالله بالقتل والجثث والمسدسات والبٌلطة، والمصارعين، والزوجة التي تأكل لحم زوجها، والعنف، ان السريالية داعية، هدم، داعية تفكيك، داعية انتهاك حرمات، أقصى أمانيه الوصول لحالة مشاعة ليس هناك قوانين أو أعراف مشاعة مطلقة، حرية مطلقة، للسحاقيات، اللوطيون، الخلعاء، منتهكى زنا محارم، لنقرأ من قصيدة سعادة كبرى:
عندها سوف يضع السكين/على ذراع أخته الكبرى
التي تلعب الكونغ فو/وتكسر كل مرآه تقابلها/ولو بالصدفة/حتى امتلأت الشقة بالزجاج/وحينما يأخذها/إلى جواره/في السرير/لا تجد أي غضاضة…
تدمير نواة الأسرة والتحلل منها والاندفاع نحو العدمية المطلقة/ لكي يصبح بطلاً/ عليه من الآن
أن يقتل أمه
إن السريالي الحق هو من يبتكر لغة جديدة، لغة بكر، لم تمضغ، لم تستهلك لم يتقيأها الخراتيت، ولذلك رفض السرياليين أطلاق فوق طبيعة على مذهبهم لأنها كلمة موجودة، ومستقره، ولا يمكن أن تخلق لغة جديدة سوى اقتحام مناطق، جديدة، جغرافيا بديلة، مناخات مختلفة، ولذلك يمتح الشاعر من القاموس الغربي في سعادة متأخرة ومن التراث العربى القديم بعد ذلك في دواوين، اثر البكاء، والرسائل عادة لا تذكر الموتى، ولذلك تتناثر، كلمات مثل، لاعبي الكاوبوي و راعى البقر، موسيقى الروك، التانجو، الجاز، ورغم ذلك تظل كلمات محدودة لا تزيد عن عشر كلمات، كما انه يعتبر هذه اللغة جزءا من ميراثه الكوني, ورغم ذلك يتهم الشاعر بأنه تغريبي مستلب، عشر كلمات في ديوان من 100 صفحة، يحفل بلغة نقية عصرية، دالة،مثل، الحصاد، البقر، الروحانيين، الإيقاع، القطار، المقهى، السعادة، تاجر الخردة،القطيع، الخيول، الحارس، خلخال أمه، الحروب، القرآن، الأزهار، أنبياء، الصحراء،القوارب، الكتان، الضريح،، الصلاة، المعزوٌن،البراري، الكعبة، السهول، الشعير، الجبال، المنازل, البوص،القمح، الغناء، المحارب،الهلال،الإنشاد، فسريالية فتحي عبدالله، ان لغة الشاعر لغة صافية، لغة نقية، رغم كونه استفاد من السريالية العالمية ولكنها سريالية خاصة به، سريالية مصهوره داخلة ولذلك كثير من سمات شعرية فتحي ضد السريالية في الصميم، منها فكرة الفن فالقصيدة بنت تراث الفن الشعري، وهذا مهم لأن السريالية، ضد الفن، وضد الشكل الثابت وضد الغنائية،وضد الشفافية المنمقة، فلتقرأ ديوان، اثر البكاء ولاحظ الإيقاع الراقص حد الإنشاد، الموسيقى الناعمة، اللغة السلسة، أقرأ، الرسائل عادة لا تذكر الموتى، نشيد وذكر مستمد من إيقاعات الحضرة التي يقيمها الأولياء والمشايخ في الريف المصري وفي بلدة الشاعر؟
2- نيتشه :أن فلسفة نيتشه هى فلسفة العقل الحر، العقل الواعي، فلسفة قلب القيم وتحطيم الأصنام، والخروج من القيود الذي يرزح تحت نيرها الإنسان، ليكون أكثر خضوعاً، ولذلك كان نيتشه آلة هدم، هدم القيم البالية، هدم للمستقر، يعلى من قيمة الإنسان واختياره كما حرر الفلسفة، من اللغة الكهنوتية، الرمزية المغلقة وانفتح على لغة الشعر، لغة الحياة, ولذلك عندما ترجم إلى العربية, تحول لصرعة لجيل شاب من الشعراء والفنانين، كما أنه يبجل القوة، حملت لواء النضال ضد أخلاق السادة وكرَّست أخلاق العبيد، بما فيها من ضعف وعجز،لذلك وقف نيتشه موقفه الرافض للمسيحية, لما تكرِّسه من أفكار، فدعا إلى تجاوُزها، وبناء أخلاق جديدة تقوم على إرادة القوة وقد تم استخدام فلسفته لتبرير العنف لدى النظم الفاشية وقد تأثر السرياليون بفلسفة نيتشه وكانت زادا وملهما لكثير من أفكارهم خاصة فكرة الهدم والعدمية.
3 ذ كانت السريالية فتحت وعي الشاعر على مناطق جديدة في الكتابة، فعين الشاعر الفاحصة، للواقع المعيش كانت لها أبلغ الأثر في تكوين رؤية الشاعر، فالشاعر لم ينكفئ على ذاته في عزلة فوقية مكتفي بالزاد المعرفي العميق، بل انخرط في تجربة معيشة غاية في الثراء، زاده الناس من كل الطبقات، لا يستقر، ينتقل من مكان لآخر، من مقهى لآخر، صديق الجميع وعدو الجميع، مفترى عليه ومفتر علينا, فهو لا أخلاقي تماما، ملوث، خائن، مخادع، ماكر,، إذا قسته على الفضائل والمثل التي يكرسها المجتمع، الأخلاق الزائفة التي تكرس للضعف والجبن، والوضاعة تحت ستار معان نبيلة وفاضلة، ولكن لو قسته بكونه شاعرا سرياليا حقيقيا، فستكتشف في العمق كم هو، فهو هنا متسق مع نفسه تماماً، أن السريالي الأخير يريد أن يقدم انجازا معتدا به باعتباره طهرانيا وصوفيا، عتيدا ودرويشا.
أما ديوان: موسيقيون لادوار صغيرة، فهو ديوان الومضات الصغيرة، الفلاشات المكثفة الناعمة والمستفيدة من تقنية الفيديو كليب يجمع فيها بين عناصر المكونة للواقع وتضفير مشهد يعبر عن إيقاع المدينة ترصد، الراقصة، العواد، الممثل، العجوز من قيمة كل ماهو حسي، فقد جاء تعبيرا عن دور المديا في الحياة الحديثة وتعظيم دور اللذة حتى أدى إلى استلاب الإنسان فغلب عليه العدمية وانعدام الجدوي،
يخرجون جماعات/ إلى الصيد/لا قوارب /ولا أسماك.
كما يعتمد بناء القصيدة من خلال ضمير غائب في بداية القصيدة يقوم بالدور الوصفي للمشهد ثم يسلم إلى راو آخر دائماً ما تكون شخصية داخل المشهد لتعبر عن مذاقها الوجودي او تكشف عن جانب مظلم من المشهد أو تعلن خبرا ما غامضا ثم يتبعه دائماً الجانب الطقوسي في النص ثم يعود مرة أخرى الصوت الأول او شخصية أخرى لتفل القصيدة، وهذه السمة المكونة للقصيدة، لا تختلف من قصيدة لأخري، وكأنه يرتب بعناية النص من خلال الذهن الحاد، ولم تخرج القصيدة عنده عن ثلاثة ضمائر، قد تقل ولكن لا تزيد، وخير معبر عن ما نريد أن نقول نجده في قصيدة رجل الساونا من «موسيقيون لأدوار صغيرة»، الضمير في البداية يقوم بالدور الوصفي:
بعد حمامها/ في الصباح/ وسماع الآيات من/القارئ الأعمى /تعود لحجرة البخار /وآلام المفاصل
وفي منتصف القصيدة دخول ينتقل الضمير لشخصية لتعبر عن أحوالها:
لا تكن قاسيا هكذا / ففي الزيارات الأخيرة/
لم تسمع هذياني/ كما تعودت/ ولم تتحدث عن جارتك / التى تأكل في الليل والنهار
ثم يختم القصيدة بضمير ليعبر عن شخصية أخرى لترد على المرأة التي ظهرت في بداية القصيدة:
لا اسمع إلا أصواتك/ في الشارع / او في المقهى
او داخل المصعد / فتألمي بسماحة/ أكثر من هذا
أن لعبة الأصوات المتعددة هي الأساس في تعقيد القصيدة لدى الشاعر فتحي عبدالله وبمجرد ما تفكك هذه اللعبة الخبيثة سيشرق النص بدلالته، بشخوصه بعوالمه أن عوالم الشاعر فتحي عبدالله عوالم مختلفة وسرية وتعبر عن مناطق غامضة في حياتنا، لا يمكن أن تظهر لنا سوى في الأحلام حيث البراءة والنصاعة والشفافية, أما الخيال لدى الشاعر فهو خيال باذخ، خيال فانتازي مخيف ويحتاج لدراسة نقدية منفصلة لتعطيه حقه.
3
أثر البكاء ديوان فارق في تجربة الشاعر فتحي عبد الله، فقد تم كتابته أثر حرب الخليج الثانية وسقوط بغداد تحت ضربات قوي تحالف الشر، في هذا الديوان الأكثر تعقيداً، والأكثر غموضاً تحت وابل من الأقنعة والرموز الذي يصعب تضفيرها في سياق ما، فكل دواوين فتحي السابقة هناك وحدة الديوان، تحت راية فكرة مركزية فهو لا يكتب قصائد متناثرة، وقد يكون سقوط بغداد، تكئة ليستعيد بغداد، الذي عاش فيها فترة مهمة من حياته، بغداد، الحلم الآسر بشخوصه القريبة إلى روحة، سعدي، يوسف، تركى نصار، سركون بولس، مايكل جاكسون، ويتمان، الموالد والأذكار، الحسينيات والمشاهد الطقوسي المرعبة..
أيتها الشفيعة/ الهاربون لم يتركوا لنا
قمصانهم/ أو بوصلات الله/أين ذهبوا بقطعانهم/
التي تملأ المخابئ؟/ الجسور إلى الجنة/ محفوفة بالرجال السود/والرعاة يضربون الرمل
أما الجانب الآخر فهو يرصد ثنائي الحرب، الأمريكان والتحالف وصدام ودولته في طقس احتفالي، كرنفالي، وكأنهم دراويش في حلقة ذكر، وليس في حرب، إجرامية سافلة يحمل تبعاتها الطرفان بل أن صورة صدام في الديوان صورة ولى من أوليا الله الصالح، او درويش من دراويش المخطوفين بالسحر الإلهي وليس دكتاتورا دمويا قذرا،
لحيته البيضاء حنان زائد/ عن الحد/ وأمومة لجناحين سوداوين/ ترى الجنازات في الشوارع/والحدائق/بينما أصحاب الرؤوس الحليقة/يحملون المحفات/والجثث إلي الطائرات/ويصرخون في النهار/كالأرامل/لابد أنه راجع من شمال
من قصيدة الملاك الحارس من ديوان أثر البكاء
أو
وأن تكون لحيته في المشهد/ الأخير/ وأن يرى بعينيه اللامعتين/ ابنته الكبرى/ تقتل زوجها/وتصرخ في المطارات/ والموانئ:/ إن الله زاره/ في الممرات/ أثناء الحرب/ وأعطاه كوفية خضراء/ يلبسها في الزحام/ ويقتل أصدقاءه/حتى يعودوا إلى جناحه/ الأبيض/ ويحملوا روحه/ إلى رعاة في الجبال
أما صورة مايرز في مخيلة الشاعر فيأتي كالآتي
مايرز ببذلته الزرقاء يوزع السعوط على الزنوج
ويذكر أن الأعراب/ لهم صحراء/ وأولياء يخرجون في ساعة/ الصفر/ يجمعون القنابل بالنظرات/ الطويلة/ وعندما يصلون يرتفعون/ كأنهم طيور/
وترجع أرواحهم/ إلى القمح والشعير
4
أما ديوانه الأخير «الرسائل عادة لا تذكر الموتى» الصادر عن دار «الدار للطباعة والنشر» ليمتح فيها من مسارب شديدة التشعب وكلها مصادر باطنية وسحرية دافئة سواء كانت هذه المصادر من التراث العربي والإنساني.. أرواح المتصوفة الكبار، ابن عربي، الحلاج، الدرويش في الصحراء محفوفين بالرمال. الحشاشين، القتلة. المقتولين دون أي نبرة من الإدانة أو روح سليطة، وإن كان هناك بالتأكيد أسى على المحبوب والفقد، أو ألم هذا الألم الذي يؤانس الشاعر سواء كان الشاعر البرتغالي بيسوا أو روح آنا أخماتوف الشاعرة العظيمة في أول الرحلة (مثل هذا الألم ماكان في طاقتي واحتمالي) أو من خلال اليومي بما فيه من استعراض وطقوس ومشاهد آسرة أو من المناخ السريالي والحلمي، والتي حولت الجملة الشعرية من كونها دالة محملة برموز فقط إلي طاقة روحية وإنسانية آسرة.
هذا ديوان الألم الخالص والعذابات التي تحاول الذات الشعرية ليس النكوص والانزواء تحت هول الضربات أو التعالي الأجوف بل الانفتاح والكشف، وأول هذه الجروح المؤلمة هو غياب الصديق، الأرواح الكبيرة التي يستند إليها الشاعر مثل ابن عربي أو الحلاج.
أو الأب الذي يغيب، لن أقول مات فالشاعر لا يصدق أن هناك موتا وعلينا أن نصدق الشاعر على اعتبار أن الموت الحقيقي هو فقدان الفاعلية وبذلك يكون الحي فاقد الفاعلية ميتا والميت الفاعل حيا.. وهاهو ينشد..
(كان يغلق أبي خزانة الطعام
ويطمئن على نوم أمي
وأنا ألهث كمن هبط من أعالي الجبال
ولا أقبض على قميصه الأزرق
ربما اختفي..
أو يطمئن علي الحقل أو يصل رحمه أو زيارة مريض. وارتبط ظهور الأب أو الأصدقاء أو الأرواح العظيمة في التاريخ بلحظات الألم والقسوة اللإنسانية باللهاث أو التخبط في السلالم أو القتل والسجن والموت، إنهم الإشارات الطيبة والرحم الإنساني الذي يستند إليه لتجاوز المحن والشرور. حتي جثته برمزها المؤثر في الثقافة الإسلامية لا يؤمن عليها إلا المفقود حافظ الأناشيد لكي يمر بها علي البيوت ليروا كم الجروح والطهر. ورغم أن هواجس الموت تسيطر علي ذات الشاعر في هذا الديوان إلا أن هذا نوع من التقية أو السطح الخادع، فتحت هذا السطح سيل من تمجيد الحياة والحب والضحك والاحتفال والخصب والأشجار الحلوية، الأزهار. اللوز، الطيور.
الألم الآخر والذي يعل على الذات الشاعرة هو الاعتقال وسلب الحرية التي يعتز بها، بل الأساس الراسخ داخله لو فقدها فقد الحياة تماما، إضافة إلي التعذيب الوحشي من أدوات السلطة القهرية التي تحول السلطة من راعية للعدالة إلى دولة بوليسية تشكك في ماض وتهدم في مستقبل.. في هذه القلعة المحصنة بالعدوان يهتف:
في سجن القناطر
لا أبواب ولا مراوح
بل عيون تقطع الأنفاس وتترك الأنامل في رعشتها وحيدة
أو كلما دخلوا إلي غرفة
تخرج الطيور منه كأنها مذبوحة
ومن يعود إلى غرفته
وأقدامه صالحة للمشي أو علقوا جثتي في الممر الطويل
واخبروا الأصدقاء
أنهم سمعوا هذياني طوال الليل)..
هذا العوالم الكابوسية والأرواح الشريرة التي تطارده في نومه تجعله يتطوق إلى الحرية هذه اللفظة اللعينة التي استهلكت من قبل المرابين والنخاسين والجلادين والطغاة، وباسمها تم تدمير روح البشر واستعبادهم، ورغم ذلك ستظل هذه اللفظة تميمة الفقراء والمضطهدين، والدراويش والأنبياء. وسوف نجد دلالة هذه الكلمة في كل جملة شعرية في الدواوين بل من أول جملة كتبها الشاعر، لأن الشعر هو ذاته محرر الإنسان من ربقة المادة وقمة التحرر لدى الشاعر هي التعري، وهي الكلمة الأكثر دلالة وانفتاحا ورحابة سواء كان تعري جسد الإنسان المادي البسيط أو التخلي عن الزخارف الاستهلاكية التي تكبل الإنسان وتعتقل الروح في أفق ضيق. ولذلك فالشاعر مفتون بكل من له القدرة علي تحدي قيم المجتمع المغلق السلطوي بعاداته وتقاليده الجامدة الثابتة الغبية، ويصبح الدراويش المنخلعون من شريان المجتمع أو الشواذ والسحاقيات والعاهرات والموسيقيون، دون أي تعال أو انحياز فوقي بل هو يحسب نفسه جزءا من هذا المشهد :
فأنا درويش
لا شجر لي
ولا حقائب
وطعامي من هواء الناس
ولأخرج في الصباح بدون إنذارت
/ أو إشارات واضحة )..
كل ذلك في لغة قد تكون مسا من السحر الشفيف، انها شعرية الماس والبئر الصافي أعاد فيه الاعتبار لدور اللغة الحيوي بعد أن تم إهدار هذا الدور بحجة فذلكات المعتوهين وأنصاف المواهب الذين غمروا الساحة الشعرية بسيل من الدواوين الفاخرة حتي سرت في الوسط الثقافية مقولة موت الشعر.
هذا هو الشعر.. والذي يتم حذفه لصالح دائرة فاسدة من أصحاب المصالح وغياب النقد الحقيقي الفرازة. الشيء المثير للسخرية والذي يدل علي تعاظم دور الشائعة وغياب القراءة الواعية أن الشاعر فتحي عبدالله شاعر ذهني؟ وهذا قمة السخرية فتحي عبدالله شاعر الهلاوس والأحلام والكوابيس، إنه ابن المدرسة السريالية العظيمة التي حررت الشعر من الجمود والتقاليد الكلاسيكية، ومن تعاظم دور العقل في ظل سطوة مرحلة التنوير، وهذا لا يعني غياب الذهن تماما في هذه الشعرية، بل يلعب الذهن دورا حقيقيا في الإطار وهل يمكن تصور قصيدة بدون إطار حتى الإطار لدي الشاعر فضفاض في كثير من الأحيان وليست إطارا جامدا فقصائد كثيرة تتوالد من بعضها أو تظهر مكملة لها في منطقة أخرى أو ديوان آخر
1 تاريخ السريالية .. موريس نادو