(كلماتنا ليست لنا، لا اليوم
ولا غداً، إنّها أرواحنا الهاربة)
نوري الجراح
لم تكن نيّتي أبداً أن أفرد لنوري الجراح قسماً خاصّاً في هذه المجموعة!. بل بالعكس، كنت متردّداً في أن أجمله بين شركائي، هو المنفرد النائي الذي يعرف الجميع نفوره من أن يكون ضمن أيّ فريق أو مجموعة، مهما تكن!؟. غير أنّي من بعض القصائد التي تضمّنها كتاب علي بدر عن نوري: (أميرٌ نائمٌ وحملةٌ تنتظر)، كتبت قصيدة طويلة نسبياً لم أكن راضياً عنها تمام الرضى، فما كان منّي إلاّ أن أرسلتها له على عنوان بريده الالكتروني، الذي مرّة يجيب عليه بعد خمس دقائق، ومرّات يهجره دهراً: (نوري أرسل لك قصيدة استللتها من شعرك. وستكون بحال موافقتك في كتاب، جميعه عبارة عن قصائد مشتركة مع شعراء سوريين. فإذا كان ذلك لا يرضيك، فلا بأس. على فكرة إن لم تجب على رسالتي هذه فسأعتبر صمتك، مثل صمت كل عذراء، علامة موافقة!؟) جاءني جوابه سريعاً: (لك منّي دائماً ما تريد، كلّ ما تريد. جميل هذا التصادي مع الكلمات، كلماتنا ليست لنا، لا اليوم ولا غداً، إنّها أرواحنا الهاربة).
ماذا يربطني بنوري لأكون السوري الوحيد الذي يدلي بشهادة عنه في برنامج بثّته إذاعة فلسطين؟. ماذا يربطني بنوري حتّى يتصل بي شوقي بغدادي طالباً مني مساعدته في إعداد مختارات لشعراء سوريين مع تعريف بهم، منهم رياض الصالح الحسين ومرام مصري ونوري الجراح ومحمد سيدة، لأحد أعدا الموسوعة الشعرية التي تصدرها مؤسسة (كتاب في جريدة)، فإذ بالمحرر، لا أدري لماذا، يحذف نصف مقدمتي ونصف مختاراتي عن نوري بالذات، مما أوصلني الآن أستلم مصنفاً سميكاً مرسلاً من قبل وزارة العدل اللبنانية يتضمن استدعائي للمثول شخصياً في إحدى المحاكم القضائية في بيروت بتهمة الإساءة إلى حقوق المؤلف، الذي هو نوري الجراح!؟. ماذا يربطني بنوري حتى إنه في أوّل لقاء يجمعنا في لندن نيسان /2008/ يكرس ثلاثة أيام من حياته ليعمل لدي دليلاً سياحياً، نزور متاحف، ونكرع بيرة جينيس في البوبات، ونأكل سندويتشات فلافل، بسعر ثلاث باوندات للسندويتشة الواحدة، ونتنقل بسيارات الأجرة الرولز رويس السوداء لمسافات بعيدة على حسابه؟ فأقول له: (حسناً، حسناً، لقد أريتني كيف توقع في غرامك الفتيات)، ماذا يربطني بنوري حتّى يرسل لي أكثر من شاعر، أكثر من مرة، نسختين من مجموعته الجديدة، واحدة مهداة لي والثانية مهداة لنوري، وكأنّني عنوانه البريدي!؟
ولكن هل ما سبق وذكرته يبرّر أن أخصَّ نوري بقسم يتضمن عشر قصائد دفعة واحدة؟. لماذا كلُّ هذا الاحتفاء؟ ماذا في نوري الجراح، وأنا بالكاد أستطيع القول إنّني عرفته وخبرته، يرجح كفّته عن بقية الشعراء؟، لماذا هذا التمييز!؟. من قبلي أنا على الأخص، الذي أقمت مباءتي على أنّ الشاعر بي هو جزء من إنسانيتي، بينما الإنسان في نوري جزء من الكلِّ الذي هو الشاعر، كونه شاعراً هو جوهره، بل كينونته. أقول هذا وأعرف أنّه قد يبدو للبعض لا أكثر من شطط في الكلام، لكنّي أصدّق نوري هكذا. حياته بتمامها، مع فوائضها، أحداثاً وأشياء وشخوصاً، تتخلّق وتجري وتفني نفسها في شعره. يقول هو نفسه، في مقدمته، إنّه يولد في كلِّ قصيدة، ولكنّه يولد انتحارياً إرهابياً، تهجس روحه بالموت، فليمت وتحيا القصيدة. هو يدعوك: (انس اسمي وصورتي، خذ القصيدة واتركني). المختلق الغامض حتى يكاد يكون محض وهم، الشارد النائم ونفير أبواق تصدح، ولكن من أين له جيش!؟. حيث الماضي والحاضر في دائرة اللاّ زمن، واللغة بكيانها الماسي تحنو وتتكور على ذاتها مولدة معانيها ورموزها. حيث تحتشد وتتراكم قوالب وتراكيب، ثنائيات وطباقات، وتتراصف مترادفات، وبذات الوقت تتفكّك وتنفرط الجمل والكلمات، حتّى إنه أحياناً يدفع، دون أي إحساس بالشفقة، كلمة وحيدة في أعلى الصفحة لتؤدي كامل العرض، حيث اليقظة والنوم، الكأس والسيف، المطلقات وكسور التفاصيل، الأزلي والهالك، الترفّع والمهانة، الثأر والنسيان، المأسوي والنافل.. وأنا الصورة السالبة لكلِّ هذه الحالات.!؟
ولكن يا للمفاجأة، في كتابه الأخير الذي يحتوي مجموعتيه (طريق دمشق والحديقة الفارسية). يشير نوري في نهاية قسم (أنشودات) إلى أنها: (كتبت فيما يشبه الاشتباك العنيف بين حالة نفسية طاغية وقراءة امتصّت مناطق القوة والنفوذ الجمالي في قصائد خير الدين الأسدي الموسومة: (أغاني القبّة) بحيث يصعب القول إنها لي وحدي، فهي له أيضاً..). وهذا، لولا ذلك الاختلاف في طبيعة المفردات التي يحلو لكلّ منا استخدامها، يكاد يطابق حرفياً ما كتبته في مقدمتي: (دبّورٌ يَجني رحيقَ الأزهارِ ليصنعَ العسل)..
لِصُّ القُبَلِ الَّتي ينفرِطُ عِقدُها
(الصبي)
لا تلمُسْ يدي
لا تلمُسْ يدي
أنا لستُ من تظِنُّ
أنا لستُ أنتَ.
الصَبيُّ الَّذي يَخرُجُ منَ المدرسةِ
ويدخُلُ في الهواء
الصاعدُ درجاتِ السلَّمِ
إلى السابعِ والعشرينَ من أيّار
من النافورةِ الصدئةِ في المنزلِ المهجورِ
إلى الجرَسِ المُعطَّلِ
في بُرجِ كنيسةِ اللَّه.
الوجهُ الَّذي ينظرُ إلى بُرَكِ المياهِ
من وراءِ الزجاجِ بأسى
الكلبُ ابنُ الكلبِ الَّذي يرمي مَيِّتاً
أمامَ بيتِكَ
لِصُّ القُبَلِ الَّتي ينفرِطُ عِقدُها
الضاحكُ للبُقعِ الزرقاءِ والرماديةِ
تَحتَ عينَيها.
الحبُّ رجلٌ مسلَّحٌ
يدخُلُ ويفتحُ النارَ على الجميع
ولا يُصيبُ ولا يقتُلُ أحداً غيرَك
فلستَ أنتَ
مَن يترُكُهُ الحبُّ مُضرَّجاً
ويَمضي..
***
كمقدرتِكَ على السُطوعِ في الدُخان
(رجلٌ تَذكاري)
الجميعُ يهبِطُ ويذهبُ
يهبِطُ ويذهبُ
والحافِلةُ تَجرُفُ من خلفِها الهواءَ
وتلطِمُ بِجنباتِهِا الأغصان
…
وأنتَ باقٍ على المقعد.
أن تُوَدَّعَ براحةِ ضَمير
أن تُرفَعَ على هوائي
وتُقنَصَ مِراراً
كمقدرتِكَ على السُطوع
في الدخان.
كما لَو كُنتَ تعرِفُ
أنَّ الفجرَ سيُرفرِفُ قريباً
في الغُرفةِ اليتيمةِ
وسيضَعُ النِسيانُ من جديدٍ
على رأسكَ قبعته..
***
أيُّها النَسّاجُ الأعمى إنَّكَ تفلِتُ الخيط
(مُجاراةُ الصوت)
هَبْ أنَّكَ مُمدَّدٌ في قَعرِ قاربٍ
في وَحدةٍ أخيرةٍ
مأخوذاً بحماقاتِكَ
تضرِبُ عميقاً بِمجاذيفَ يائسةٍ
في مَمالِكِ الغَرقى.
يا لكَ من مُستمعٍ
تَجرُّ كُرسيّاً إلى الرَماد
وتَجلِسُ مُنصِتاً إلى رَواحٍ ومَجيءٍ
كأنَّما المارَّةَ هُم كلُّ شيء
فيحُطُّ عليكَ إلَهٌ يأخذُ ما يشاءُ بإيماءةٍ
يُبكيكَ
لتسقُطَ دُموعُكَ في كأسِهِ.
على حائطِ كافيتيريا (قصيدة نثر)
في اللاذقية
كتبوا بِخطٍّ أسودَ عريض:
(أيُّها النَسّاجُ الأعمى
انتبهْ..
إنَّكَ تفلِتُ الخيط)..
***
ترِنُّ كضِحكاتٍ في الضوءِ الغامر
(كأسٌ سوداء)
تنزِلُ الظِلالُ.. الظِلالُ الَّتي لا لأحد
الخفيفةُ بلا مَلمَسٍ
وترقُدُ تَحتَ الزمن.
الشواطئُ حبيسةُ الأصداف
المُسلحةِ بكراسيها وذِكرياتِها
كفُقاعاتِ غسيلِ الغرقى
الروحُ الفاني لنسمةٍ قبلَ أن تتدلّى من ثيابِها
على الحائطِ اللاّهب
صليلُ سيوفٍ وراءََ الأبواب
وقعُ أقدامٍ
والجلبةُ الدامية على الرخام.
الكلماتُ
أشخاصٌ في حفلٍ
رسلٌ جُدُدٌ
يُمرِّرون أيديَهُم على حريرِ النهار
فترِنُّ كضحكاتٍ في الضوءِ الغامرِ..
***
ظِلُّكَ الَّذي تكسَّرَ وهَوى خلفَكَ
(القصيدةُ في المرآة)
إلَهي
أنتَ تعرِفُ لماذا أرتَجِفُ
فقد أعطيتُكَ كلماتي لتبُثَّ فيَّ الرُوحَ
وتَهُبَّ في وجُهي الطيور.
إلَهي
أنا الَّذي كنهرٍ في منظرٍ وليلٌ ينزِلُ عليه
فلا يراني إلاّ مَن يَراكَ
ولا يُضاءُ عُريي ما لَم يكُن عُريَكَ.
إلَهي
الضَحوكُ على المطرزات وفي يدِكَ الأزهار
الَّذي أُطفِئُ لكَ الضوءَ وأغطّيهِ باسمِكَ
فتلهو بي وألهو بكَ.
إلَهي
أنا ظِلُّكَ الَّذي تكسّرَ خلفَكَ وهوى ثقيلاً
وأنتَ الهواءُ المطيِّرُ كلَّ ورقةٍ
إلى مصير..
***
كما لَو أنَّكَ مَلاكٌ عابِرٌ في فِكرةٍ عابِرة
(طفولة موت)
مَن لَم يأتِ إلى هُنا يوماً
وملابِسُهُ مُعلَّقةٌ في الخِزانة
فيكسُرُ آنيتَهُ الغاليةَ ليُنبِّهَكَ
مَن بلا وَجهٍ أو صوتٍ يَخرُجُ ليعترِضَكَ
كما لَو أنَّكَ ملاكٌ عابِرٌ
في فكرةٍ عابِرة.
العاشقُ مخلوقٌ نائمٌ في زورق
تطيرُ لهُ القُبَلَ
تنزِلُ إليهِ بالألوان
فيشهَقُ بضِحكةٍ
تُمزِّقُ كالسكينِ حريرَ الليل.
أنا مَن يأخذُ حياتَكَ إلى معنى يهِبُها إلى معنى
حياتَكَ التي تَموتُ إلى حياتِكَ التي تَحيا
أنا من يأتي ليراكَ سعيداً
فأجِدُكَ كمَن تركَ كلَّ شيءٍ للموتِ
ليأخذَهُ..
***
المقاعدُ هلَكَت في المطر
(صعود إبريل)
لأنَّكَ الهواءُ في الخفقَةِ
الهواءُ في الرئةِ الخائفةِ
لأنَّكَ الهواءُ يَهُبُّ في المِصباح
سوفُ تُقاتِلُ بالسيفِ حتّى تصِلَ بتلكَ الضِحكةِ
إلى حافَّةِ النوم.
نَمْ في الصَدَفةِ المنهوبةِ
نَمْ في زينةٍ سقطَت عليكَ من سماءٍ مائلةٍ
وما جَنَنتَ
نَمْ في مَقاعِدَ هلَكَت في المطر
نَمْ في ثيابٍ أضاءَتكَ
ونَسمةٍ مرّت على خَدِّكَ المحمومَ
لتكونَ بلا عُمرٍ.
1965:
يدٌ دفعَت الزورَقَ في اللُجَّة
1967:
الموتُ يتوَّعدُ
(خُذْ هَذا النهارَ واصرعهُ بعيداً)
1984:
حياتُكَ بابٌ ما طرقتهُ يدٌ من قبلُ
1997:
ما قُلتَ لَم يكُن كلامَكَ
بل صمتُ شخصٍ كانَ أنتَ ذاتَ يومٍ
2004:
ما من أشواكٍ تكفي جَبينَكَ
فلا شمسٌ ولا مساميرُ
ولا خَلٌّ..
***
لأنَّكَ لَم تكُن في كلماتِكَ غيرَ الألَم
(حدائق هملت)
نادني باسمي لأُعطيكَ كلَّ ما أُعطيت قَبلاً
نادني باسمي ثانيةً
لأفرحَ بقدمَيكَ تُفاجئانِ الرقعة
وأتلقاكَ بكَتِفي التي نالَ منها السهمُ.
هل رأيتَني
الزهرةُ في عُروةِ القميصِ والكاحِلُ يشربُ
هل أحببتَ دُخولي بالسيفِ وخُروجي بالأوهام
وأنا يا ربُّ فمي ممسوكٌ بالصمغ
وكلمتي مِرساةٌ ثقيلة
مسحوراً أطوفُ حيثُ هلَكتُ
والأرجحُ يا ربُّ أن أظَلَّ هُنا بين فَلقَتي النهار.
بِتُّ أشبِهُ حَديقتي
شيءٌ منّي يصفَرُّ
وشيءٌ منّي يَخضَرُّ
وليسَ بينَ هؤلاءِ المبتهجينَ والكؤوسُ في أيديِهم
أحدٌ يأتي وينظُرُهُ..
***
نفرَت سَمَكةٌ سوداءُ وسبحَت في الهواء
(طريق دمشق)
بدأتَ بلا أملٍ في شيءٍ
حتّى إنَّكَ لَتعجَبُ من الأوهام
كيفَ تطاوِعُك.
ألَم تكُن يدُكَ
المرفوعةُ بالكأسِ طوالَ العام
كتِمثالٍ من الجَبس
شقَّقَ الضوءُ مرمرَ عينَيه.
ألَم تكُن فأساً
هذهِ التي رهجَت وهيَ تَهوي في نومِكَ
وألَم يكُن دمُك
اللؤلؤَ في الشَوكِ.
صوتُكَ نَرجِسٌ مَيت
ونظرتُكَ حُلكةٌ تَذهَبُ في حُلكة
ولَمّا نفرَت سمكةٌ سوداءُ وسبَحَت في الهواء
تلكَ كانت
حياتَكَ البارِقة..
***
كما لَو هزَّت قَيلولتَكَ أبواقٌ بعيدة
(الحديقة الفارسيّة)
كما لَو أنَّكَ أبدلتَ كأساً مُترعةً بكأسٍ مُترعة
وكأساً فارغةً بأخرى فارغة
واضعاً السيف على الركبة
والسِفحُ يشربُ صرخةَ الطائر.
كما لَو أنَّكَ نمتَ في ظِلِّ شجرة
وهزَّ قيلولتَكَ نفيرُ أبواقٍ بعيدة
ووَقعُ حوافرِ أحصنةٍ على الصخورِ
تقتربُ
حتّى تكادُ تَرى فُرسانَها مُجندلينَ
في الهواء.
مَن أنتَ حتّى يَجيءَ المُزارعونَ بالغار
ويكوِّمونَهُ على عَتَبةِ بيتِكَ
مَن أنتَ حتَى
تغرُفَ الصورَ من دِماغِك
بِمِلعقةٍ كبيرةٍ
مَن أنتَ حتّى تُنادمَكَ
وتطوفَ بكَ الملائكة..
نوري الجراح – منذر مصري