تعد كلارا خانيس (برشلونة 1940) إحدى أهم الأصوات الشعرية المعاصرة في اللغة الإسبانية، وهي على الرغم من حضورها القوي والمتميز كشاعرة ومترجمة لروائع الشعر العالمي إلى اللغة الإسبانية – وقد كوفئت جهودها في هذا المجال بنيلها الجائزة الوطنية للترجمة سنة 1997- فإسهاماتها الإبداعية تتخطى مجال الشعر نحو حقول أوسع إذ تتوزع ما بين أجناس أدبية مختلفة وأشكال متعددة للكتابة…
ففي مجال الرواية كتبت عدة أعمال أهمها:
1- ليلة أبيل ميشالي1965 – انشطار 1969 – رسائل إلى أدريانا 1976- دروب رومانيا 1981 – أفراس الحلم 1989 – رجل عدن 1991 – سراب 1991
وفي مجال القصة القصيرة أصدرت مجموعتين قصصيتين :
1- محاولة اللقاء، محاولة النسيان 1972 – مرايا الماء 1997 ولها ثلاثة كتب في مجال السيرة وهي : – الحياة الصامتة لفيديريكو مومبو 1972 – بستان ومتاهة 1990 – بوريثا كانيلو 1981 .
أما في مجال البحث والدراسة فقد أصدرت العديد من الكتب: – أن تتعلم كيف تشيخ – فيديريكو مومبو حياة ونصوص ووثائق. – كلام القبيلة : الكتابة والكلام – ثيرلو : اللاعالم والشعر التخيلي .
ورغم هذا الغنى والتعدد الإبداعي، تبقى كلارا خانيس الصوت الشعري الأكثر تميزا في الشعر الإسباني المعاصر، فهي في نهاية المطاف شاعرة، وشعرها يتميز بتكثيفه، وبشفافيته وبقدرته الخارقة على الحدس وعلى خلق عوالم خاصة تلتقي فيها الرؤى والتقاليد الصوفية التي تمتد إلى ثقافات ضاربة في عمق التاريخ، وفي عمق الأصالة، وتشتمل على أكثر من تراث شعري إنساني، وكل هذا يمر عبر قناة الذات التي ترسم ملامحها من خلال صوت الأنا الأنثوي الذي ينسج اشتباكات نصية رمزية يبرز فيها البعد التأملي، وتتمظهر فيها الرغبات الدفينة، والأسطرة لصورة الأم، وللذكريات المتأرجحة بين أزمنة تلاشت وأخرى بعد لا تزال آثارها تلتمع عبر الذاكرة، وتحدث فعلها الممتد في الذات، في العالم وفي الأشياء، أزمنة أخرى سوف تأتي لتجتاح مناطق من الذات تعتبر بعد بكرا وخصبة، وهي أشبه بحلم كبير، أو بأرض للا أحد.
تنتمي كلارا خانيس إلى الجيل السبعيني، الذي أطلق عليه في البداية اسم التحديثيون، وهي التسمية التي تمت استعارتها من عنوان الأنطولوجية الشهيرة للناقد خوسيه ماريا كاستييت: الشعراء التسعة التحديثيون الإسبان، والتي صدرت ببرشلونة سنة 1970، وضمت أهم الشعراء المجددين في فترة السبعينات من القرن الماضي، وهذا الجيل الشعري ستطلق عليه أيضا تسمية أخرى هي البندقيون، نسبة إلى مدينة البندقية، التي ترد في عنوان قصيدة شهيرة لأحد أهم زعماء هذا الجيل الشعري، وهو الشاعر الكطلاني بيري جيمفرير، وعنوان هذه القصيدة: أغنية للبندقية أمام مسارح البحر. ويضم هذا الجيل شعراء كبارا مثل: بيري جيمفرير، غييرمو كارنيرو، خايمي سيليس، أنيبال نونييث، أنطونييو كوليناس، لويس ألبيرطو دي كوينكا، خوسيه ميغيل أويان، أنطونيو كارباخال، خينارو طاليس، فيلكس أثوا، خيسوس موناريث، أنطونيومارتينيث ساريون، أنا روسيتي، خوان لويس بانيرو، وليوبولدو وماريا بانيرو، لويس أنطونيو دي بيينا… وغيرهم. وأهم ما يميز تجربة هذا الجيل على مستوى التكوين الأدبي والثقافي أنه توفر على تكوين يمتح من روافد الثقافات والآداب الأجنبية والعالمية، وهذا يفترض:
1- الرفض للتقاليد الشعرية الإسبانية السائدة حينها مع بعض الاستثناءات التي مثلها شعر كل من بيثينطي ألكسندري ولويس ثيرنودا وخايمي خيل دي بييدما…من بين آخرين
2- اكتشاف عباقرة اللغة الإسبانية من خلال شعراء أمريكا اللاتينية وخصوصا منهم أوكتافيو باث وأوليبيريو خيروندو وخوسيه ليثاما ليما.
3-الاعتراف بأستاذية الثقافويين من أمثال : ت.س. إليوت وإزرا باوند وقسطنطين كفافيس وسان جون بيرس ووالاس ستيفينس والسورياليين الفرنسيين… وغيرهم.
أما على مستوى الخطاب الشعري فقد تمثل هذا الجيل التصورات التالية:
1- الحرية المطلقة من الناحية الشكلية.
2-الكتابة التلقائية واعتماد تقنيات الحذف والاختزال والكولاج.
3- ادماج عناصر دخيلة ومصطنعة وإبراز تأثير الأعمال الفنية والموسيقية ووسائل الإعلام الجماهيري والسينما على وجه الخصوص.
4- تأثير الثقافة والأساطير والحكايات الشعبية والأغاني والأفلام والأحدوثة.
5-الاهتمام باللغة والأسلوب باعتبارهما غاية في ذاتهما والتعبير عن نوع من الارتيابية العميقة والواضحة بخصوص وظيفة الشعر والشعراء والقيم التي يدافعون عنها، فالشعر عندهم بناء لغوي وأسلوبي لايحقق شيئا خارج ذاته، فهو بناء مكتف بذاته ولاغير.
6- الميتا شعرية والثقافوية وسنفصل القول في هذين العنصرين باعتبارهما خاصيتين مميزتين للتجربة الشعرية لهذا الجيل الشعري:
خاصية الميتاشعرية : وهي إنتاج خطاب شعري موضوعه فعل كتابة الشعر ذاته والعلاقة بين المؤلف والنص والجمهور، وبمعنى آخر فالميتا قصيدة هي قصيدة ذات مستويين خطابيين متوازيين: في المستوى الأول يتعلق الأمر بما يعرف عادة بالقصيدة وفي المستوى الثاني الذي يمضي بموازاة مع الأول ويمتزج به، نجد القصيدة تتأمل فيه طبيعتها الخاصة كقيصدة شعرية أصلها وشرطيتها وظروفها… وقد تتألف الميتا قصيدة على الأقل في البداية من المستوى الثاني فقط أي المستوى التأملي وهذا يستدعي أن يفهم أن المستوى الأول كامن في جماع العمل الشعري السابق للمتكلم في القصيدة…. فالميتا شعرية تعتبر أنها مسك الختام لمسار شعري معين… وهنا يجب الإشارة إلى شيئين أساسيين هما:
– أن ممارسة الميتا شعرية تستلزم القدرة على التأمل والتفكير حول قضية الكتابة، وهذه القدرة تتبلور في ظل التعامل مع علوم اللغة، وهو ما يعزز الاعتقاد الذي يتهم الشعراء التحديثيين بالنخبوية.
– لا وجود للممارسة الميتا شعرية دون أن يكون ثمة ممارسة شعرية، أي قضايا فكرية ثم استيعابها واستدخالها عاطفيا ونظريا.
خاصية الثقافوية : وهذه الخاصية ظهرت في شعر النصف الثاني من القرن 19 لدى شعراء التحديث في شعر الإسباني وشعر أمريكا اللاتينية، ونجدها أيضا في شعر كفافيس، وجيل 27 ولدى جماعة كانتيكو الإسبانية (أي نشيد )، ولدى شاعر إسباني آخر اهتمت به كلارا خانيس كثيرا وهو خوان إدواردو ثيرلو. ومن أهم النصوص التي مارست تأثيرها الخاص على الجيل السبعيني نصوص ثيرنودا وروبين داريو وكفافيس كما أسلفنا…. لقد طرح مفهوم الثقافوية كعنصر لافت للنظر، شديد التميز في القطيعة التي أعلنها الشعراء التحديثيون، وكان ذلك سببا أساسيا للغرابة والعداء اللذين أثيرا حول هذه التجربة الشعرية، ولا يزال حتى الآن يثار بين القراء والنقاد غير المهيئين لتقبل الشعر «نخبوي» بامتياز، يمتح من نظريات أدبية تعتبر الأدب بشكل ما أداة للمعرفة، مطورة بذلك اتجاهات أكثر حداثة في الشعر المعاصر، وإلى جانب هذا الباعث العام لعدم تقبل الخاصية الثقافوية ينضاف عنصر آخر، مرتبط بالأفق الثقافي لمرحلة الستينات وبداية السبعينات، لأن الثقافوية تفترض تحديا وتهديدا جذريين لتوقعات شعراء المرحلة السابقة ولقراء الشعر عموما، تلك التوقعات التي أملتها – كما يحدث في أية لحظة تاريخية معطاة – التيارات المهيمنة في الماضي القريب جدا من خلال الممارسة الشعرية للجيل الذي يمثل لحظة النضج حينها ومن خلال نوعية القراءة المنتخبة والمختزلة للتقاليد الممارسة والمستوعبة من قبلهما … ولو حاولنا أن نجمل هذه التوقعات فلن نجد بدا من تحديدها في عنصرين: الواقعية الاجتماعية والمكاشفة الحميمية للذات.. فالواقعية الاجتماعية في منتصف الستينات كانت قد بلغت إلى الباب المسدود، إن على المستوى الإبداعي كما على مستوى التحقق النظري حتى وإن كان مدفوعا بجمود يتجلى أساسا في الطابوات والتحفظات والإدانات التي يشتمل عليها تصوره، والناشئة أساسا عن الجزم بضرورة الوضوح والشفافية في الشعر، والتلقي المباشر والأوحد للنص باسم فعاليته المفترضة كأداة للإقناع الإيديولوجي، وفضح الديكتاتورية والتحريض الجماهيري لإفساح المجال للتغيير الثوري للمجتمع، فالشعرية الواقعية الاجتماعية تقصي كل ما قد يبدو بعيدا عن متناول المتلقي البسيط للثقافة البروليتارية والذي يبدو في نظر البعض قارئا شعريا وهميا مستحيل التحقق على المستوى الفعلي، وأما المكاشفة الحميمية للذات فتتأسس في تجلياتها القصوى على تولي تيمة شعرية محورية هي التأمل الأخلاقي في قضايا وشؤون تتعلق بالشرط الإنساني، يتم عرضها بلغة مباشرة ليست تختلف كثيرا عن اللغة المستعملة عادة في التواصل غير الأدبي مع حضور لأنا ذات طبيعية نيورومانتيكية وتعبيرها الذاتي، ولايمكن الادعاء بأي شكل من الأشكال بأن هذه الحميمية هي بشكل جوهري- وانطلاقا من الحميمية ذاتها- لا شعرية دون تفسير القطيعة الثقافوية التي تمتد إلى ما قبل ثلاثين سنة خلت، وهي قطيعة لا يعتبرها غييرمو كارنيرو: أحد منظري الجيل الشعري السبعيني «ضرورية اليوم، ولكنها نافذة المفعول، ما دامت الحميمية الثقافوية والكلاسيكية التي تم تحديدها سابقا يمكن أن تتناغم جيدا، كما تبرز ذلك أعمالي الشعرية في تطورها وحتى اليوم…» فالثقافوية هي في الأصل محاولة لتجاوز اللغة وذهنية تلك الحميمة الكلاسيكية أو الأولية، التي كانت تبدو مستهلكة من جراء تكرارها في الشعرالإسباني لربع القرن الذي أعقب الحرب الأهلية الإسبانية، وإشكالية عدم الاستيعاب الذي تصطدم به الثقافوية يقوم في الأساس على أنه إعادة صياغة للحميمية، ويفهم على أنه هروب أو أنه ممارسة لتلميعات أدبية بمنأى عن العمق العاطفي، وبعيدا عن التجربة التي هي منبت العواطف والمفجر لينابيع الشعر الذي لا غنى عنه، إذ لا يمكن أن يكون هنالك شعر أصيل بدون حميمية، لكن ليست كل حميمية أولية أو نيورومانتيكية، ولا هي ممكنة خارج التجربة، والتجربة هي في النهاية شيء يتجاوز المعنى المختزل الذي يفهم من هذه الكلمة، «وعدم فهم الحدود والتعدد الممكن للحميمية وللتجربة هو الخطأ الأساس للذين يرفضون الثقافوية كلعبة خارج الصدق العاطفي» كما يقول كارنيرو…
يوجد إذن إطاران للتجربة: الأول تشكله وقائع الحياة اليومية، وتكون مادة شعرية لو مارست الحساسية تأثيرها عليها، وتشكله أيضا، وفي الحال نفسه الوقائع الثقافية التي تنتمي إلى التجربة من الدرجة الثانية أو تلك التي تصدر عن الأدب والتاريخ والفنون، هاتان التجربتان – اليومية والثقافية- تبدوان مترابطتين بشكل طبيعي وتلقائي في الاشتغال الحقيقي للفكر ولتوليد العواطف واستكشافها وصياغتها. فالتجربة الثقافية لا تضع ذاتها فوق الخطاب الذي يتولد في الأصل بعيدا عنها، والذي لا يستجيب لأية رغبة جامحة في التتويج البلاغي أو الزخرفي، مشتغلا من تلقاء ذاته، مجترحا التجربة اليومية، والعكس بالعكس أيضا…ففي التاريخ السيكولوجي القبلي للقصيدة والمتأسس عنها أسباب الوعي القبلي والأولي التي سوف تشكلها والإحالات الثقافية الحاضرة من قبل، والتي تشكل العقدة المحورية التي حولها سوف تتبلور الحدوس والتي سيشكل تطورها النص الشعري، فالثقافوية تعني إرادة وغاية مقصودتين في الإتصال الثقافي، إنها علامة خارجية على الانتماء إلى التراث واعتراف بحيويته التي لا تنضب وهي رغبة في الإشارة إلى الغنى الذي يتلقاه العمل الشعري في ألفته مع هذا التراث المليء بالاكتشافات الروحية والجمالية.
وخلاصة كل ما تقدم اعتبار أن الثقافوية إجراء تجديدي للتعبير عن الحميمية، وهو يتجاوز ما يسمى بالحميمية الأولية مادام يفسح المجال لإمكانية تحقق التجربة اليومية عبر التجربة الثقافية وتجنب الحدود الضيقة للأنا الغنائية النيورومانتيكية، فالثقافوية تتيح إمكانية الحديث عن الأنا دون ذكره حرفيا، والإشارة بالطريقة ذاتها إلى وضعيات وجودية من الحياة اليومية عبر صيغة تعبر عن هذا وذاك من خلال التماثل والتناظر. فالمؤلف يختار شخصية تاريخية أو أدبية أو مشخصة في عمل فني حينما يرغب في تجسيد وضع مماثل لوضعها، أو قد يحدد عملا أدبيا أو فنيا حينما يود أن يعبر على أن هذا الأخير يعني شيئا مماثلا لما ترغب ذاته أن تعنيه وأن تعبر عنه.
هذا وتتوزع الجماعة الشعرية للتحديثيين أي لشعراء الجيل السبعيني إلى تيارين أساسيين يتعايشان هما: الثقافوي ويمثله غييرمو كارنيرو، بيري جيمفرير، خوسيه ماريا ألباريس، كلارا خانيس، أندريس سانشيث روباينا، أنطونيو كوليناس وأنطونيو كارباخال وغيرهم والضد ثقافي أي التيارالذي يعتمد الثقافة الجماهيرية والجمالية الشعبية ويمثله مانويل باثكيث مونطالبان وليوبولدو ماريا بانيرو وأنطونيو مارتينث ساريون وأنيبال نونييث… وغيرهم
شعر كلاراخانيس الشرق أو طريق المعرفة الصوفية:
في مقال لها بعنوان «المعرفة المقلقة لكلارا خانيس» تقول الشاعرة البلغارية رادا بانشوفسكا «هي تحس فضولا نحو أجوبة العلم، وهذا تثبته ثقافتها الواسعة وتأملها النقدي الذاتي، لكن عطاءها في مجال الكتابة يمضي بها بعيدا عبر دروب المعرفة الفنية للعالم ولذاتها، مفرحة القارئ الذي يستمتع باكتشافاتها الشعرية".
حقا فكلارا خانيس القلقة أبدا والصامتة والمتأملة مستعدة دائما أن تكشف للقارئ عن أصوات جديدة، فعالمها الشعري ليس مغلقا أو ذاتيا ولا هو ينظر إلى ذاته دون أن يبرحها، بل إن قصائدها تولد من محاورتها لأهم ينابيع الشعر الإسباني وأروعه قديما وحديثا، أعادت خلق أساطير وأيقونات ورموز وتقاليد وهي عالمة مدققة في حفريات الكلمة، شعرها يتراوح ما بين المكاشفة والمعرفة، وتجد عبارتها في التصوف وفي وحدة الوجود وفي تكثيف البيت الحميمي وفي عالم التنبؤات وفي الإيروسية وفي الأجواء الشرقية وفي التوجهات الطليعة فكلارا تغني بهاء الحواس وبنفس الطاقة الخلاقة تدخل القارئ نحو أقاليم الكشف والمكاشفة، أليست مترجمة ديوان الحلاج ورباعيات جلال الدين وكتاب الأسرار لفريد الدين العطار ولمائة قصيدة وقصيدة لحافظ الشيرازي ولرباعيات الخيام ولقصائد المتنبي… إن حب كلارا للشرق جعلها تكشف للقارئ الإسباني عن العديد من شعراء اللغة العربية والتركية والهندية والفارسية القدماء منهم والمحدثين وهي تدافع دائما عن هذا العالم العربي وعن ثقافته ففي حديث صحفي لها مع الملحق الثقافي لـ«إلموندو» بخصوص تأثرها بالشرق سألها الصحفي: لا ريب أن الشعر الشرقي كان ولا يزال أساسيا في عملك الشعري؟ فكان جوابها : ماهو شرقي ينتمي إلى ميولاتي، فبواكير بداياتي الشعرية كانت قصائد شبيهة بقصائد الهايكو، وبعدها اتسعت الرؤيا فأبي تعرف على غارسيا غوميث، وأنا ما أزال بعد مراهقة حينما أخذني للاستماع إلى محاضراته، ومباشرة شرعت في قراءة الشعراء الأندلسيين العرب وفي نفس المرحلة تقريبا اكتشفت سان خوان دي لاكروث وشعراء جيل 27 وبعدها اكتشفت الشعراء العرب ثم الأتراك ثم الفرس وفي كل الأحوال فالكلاسيكيون بالنسبة لي إلى جانب هولان هم ت س إليوت وريك وتراكل وأونغاريتي وراموس روسا…
إن قصائد كلارا تتنفس الهواء الشعري العربي ففي ديوانها المعنون بديوان حجر النار صاغت في أربع وثمانين قصيدة شعرية قصة الحب العذري لقيس وليلى أو قصة المجنون على لسان بطيلها إذ تعترف ليلى في القصيدة:
«أنت أيها القلب/ الجنة
الرمال الساكنة
حجر النار المشتعل
إلى أين أيها البرق تقودني
هالة من التوافق تنحني في الباب
في نعوتها
يأخذني الذهب والأشعة السبعة في دورانها
تشتعل النار الخفية
طاوية الظلال
وأدخل كطائر
في الأبيض اللانهائي."
ويقول المجنون القصيدة الأخيرة قبل أن يقضي نحبه
"على قبر محبوبته :
تراب في تراب ليلى
وفي اللاشيء ضاع بهاؤها
أن أكون لا شيء في اللا شيء
هو مرادي
فطريق الموت
يجمعنا في العوالم الخفية»
وإذ كان شعر كلارا خانيس يبقى هو الغاية التي نتقصدها في هذا التقديم، فمن الواضح جدا أنه لن يكون بإمكاننا أن نستعرض تجربة شعرية امتدت خلال ما ينيف عن أربعين سنة واشتملت على ستة وعشرين ديوانا شعريا ولكن يهمنا أن نعكس قليلا بعض الجوانب الشرقية عموما والعربية على وجه الخصوص في التجربة الشعرية لهذه الشاعرة الإسبانية البارزة فهي في قصيدتها المطولة «وردة الحلاج» تستند في استهلالها إلى المعتقدات المصرية القديمة والمتعلقة بمولد أتوم رع، الشمس المكتملة والناجزة، وهي تشير كذلك من خلال العبارة الحكيمة إلى كتاب التقاييد الذي يضم جماع أغاني الحب لدى المصريين القدماء كما تشير أيضا إلى كتاب الموتى وإلى كتاب السحر لكليوباترة تقول في هذا الاستهلال:
«ينبش التموج ذاكرة محيط بلا نهاية
والشمس طافية فوق القافلة المعتمة.
فوق الليالي والأيام،
ارتجل الجعل رقصة
وعلى ضفة النهر، استهل البردي لحن أغنية حزينة زرقاء:
العبارة الحكيمة أشد خفاء
من الأحجار الكريمة.
قال الملك ابحثوا عن تلك العبارة.
وغاصت أسماك النيل في الطمي
ورفعتها أزهار اللوتس من الطين نحو الأعالي
وظلت العبارة داخل الوصفة
التي خطها الساحر
ما بين طرفي القمر.
بجلته الملكة وضمته لكتابها.
بحبر من الزعفران رسمت على الأوراق الصقيلة
الشكل الذي لا ينتهي.
ووضعت كتابها جنب كتاب الموتى.
حين تأزف الساعة
ستخصب علامات الضمادات،
ورفقة الشمس سأدخل البحر،
سوف تحجبني كتابة الماء، لفات الأشرعة على الخط،
سوف أقطع كل المسالك،
وسوف أجتاز كل الأبواب،
وسوف يسطع الحرف الذي هو ثعبان
والذي هو ريشة طائر يشير إلى الفرح.
باستيت سيأمر بعزف الجنك
لكي تمتلئ الغيوم بالاوز
وسيصطاد القناص ظبيا،
وستصل الشاطئ ناقلات الأزهار
بينما جسدي
يطلق لروحيه التحليق.
والموجة المتهتكة داعبت خطوط الضفة
ومحتها.
و البحر انثنى على ذاته."
وفي نفس القصيدة كما في قصائد أخرى تستند إلى ملحمة جلجامش أيضا، وإلى الأساطير السومرية والأكادية:
كانت حروفا تنادي أسلافها
بمناقير حادة في جبل لجوج.
فليأت لوح محفور،
مكتوب بمرقم من قصب ومجفف في الشمس،
هنالك حيث يُحكى أصل العالم،
الحساب الأكبر الذي يولد منه الآخرون.
فليأت الحكماء ولنتعرف ما الزمن،
وكيف يتجزأ،
ولنتعرف ما الفضاء،
ولنأخذ الأقيسة بالمسطرة والفرجار.
فليأت الذين أبدعوا خشبة المسرح ليحكوا
والذين يخطون دوائر
السماوات السبع محاطين بملائكة،
تركض لأجلها حيوانات خريطة الأبراج:
كل شيء يوجد تحت سلطة العلامة،
كل شيء مشفر في مواقع النجوم،
إذ أن من يلقي البذار
ويسكب الماء في الأخاديد ويحفر السواقي،
ينظر إلى نجوم الشرق والغرب
فالوقائع والتنبؤات مؤشر عليها بنور في السماء
بما في ذلك نزول إنانا نحو الجحيم،
ومفاخر جلجامش
الذي حينما أحس في جسده جدب الأرض
بحث عن المياه العميقة،
وهكذا كان يقنع الشيوخ:
لكي ننهي الآبار، لكي ننهي كل آبار البلاد
لكي ننهي الآبار والتجويفات الصغيرة للبلاد.
لكي نعمق الآبار ولكي نكمل الحبال التي تـُربَط
لن نستسلم لبيت كيش، فلنهاجم بالسلاح.
وصنعتِ الأسلحة
صهرت المعادن التي كانت مخبأة،
فليس ثمة مكان يداس فيه الياقوت والذهب،
فكل شيء يوجد مخفيا.
لكي ننهي الآبار، لكي ننهي كل آبار البلاد…
ماء
ماء يخصب حتى الفلاة القاحلة
ويمنحها وردة، تراصفا بلوريا ليليا
سليل البرد الفجائي،
البرد الذي لا تستطيع التعازيم شيئا ضده
البرد الذي يشل الرمال…
الريح قبلت كل الحروف بعذوبة ودمرتها.
ونقلت فيما بعد كثيبا نحو المنطقة الممحوة.
ومرة أخرى تستعيد صورة من ملحمة جلجامش في إحدى القصائد من ديوان شعري لها بعنوان «زهور النار» تقول:
نجمة الغروب ما بين الأشجار
سفر نحو الأيام النائية للطفولة:
متون الجبال
كانت رداء من أحلام.
كل جذع جسد للمعشوق
المياه اللامتغيرة
ترسم الانخطاف
وفي الخط الأحمر للشفق
كانت الأغصان تتشابك
موقدة نارا في القلب.
نجمة الغروب،
نحو مشاهد بعيدة، أيها الدرب،
بعيني أبلغك
وقبل أن تخضعني الظلمة
أرجع إلى الوجود
أصِلُ حتى أيام أوتْنَابيشْتِيمَ
وأتأمل الأراضي
التي غسلتها مياهُ الفرات.
بل إن ديوانها الهلال الخصيب خصصته بالكامل للمكاشفة الصوفية وللعشق الصوفي مازجة بين مفاهيمه المتعالية وبين أساطير الشرق القديم وعوالمه تقول في إحدى القصائد:
«أتزاوج مثل عشتار أمام هيدامو لما أحب،
فريسة في ارتعاش أنا، سوف أنزل البحر وأغني.
سأرفع أعضائي في عري نجمة
كي يبرز وجهك هكذا ما بين المياه،
ومتشامخة سألقي بجسارتي على الشاطئ:
سوف أصرخ: «إن الغضب يغطيني
كما تغطي الأدغال الجبال". وذليلة أمام قدميك،
حتما سأوقظ بكلماتي حواسك»
إن كلارا خانيس جعلت من الثقافوية ومن الميتا شعرية – كمكونين شعريين يميزان الجيل الذي تنتمي إليه شعريا، وهو الجيل السبعيني- ثقافوية وميتا شعرية شرقية بامتياز، وذلك بولوجها عالم التصوف بكل تصوراته ومفاهيمه من جهة، ثم بإحيائها وتمثلها لأساطير الشرق القديم بمختلف دلالاتها وأبعادها من جهة أخرى. إن عشق كلارا الجنوني للشرق عموما وللعالم العربي على وجه الخصوص جعلها مقيمة فيه بالقوة، بل إنها غدت مرجعا معرفيا وثقافيا لكل الشعراء الإسبان في هذا المجال، ومن تم فهي كانت ولاتزال صديقة حميمة للشعر والشعراء العرب، ومدافعة وفية عن القصيدة العربية في العالم الناطق بالإسبانية، ولأنها قريبة من عالمنا ومن همومنا، ولأن أعمالها الشعرية المتأملة والعميقة في مجموعها غدت ذات بعد كوني وترجمت لأكثر من أربعين لغة، فقد صار واجبا علينا أن نقدم بعضا من دواوينها للقارئ العربي، ونحن في ذلك إنما أكمل ما سبقني إليه في هذا الباب الشاعر المغربي محمد بنيس والكاتب والمترجم المصري طلعت شاهين وقد اخترنا لأجل ذلك قصائد مختارة من دواوين متميزة وجديدة لكلارا خانيس.
من ديوان: ورود النار
أود أن أسحب ضياء القمر
فوق مياه الليل،
أن أكون فيها مِجْذفاً فضياً وأن أشقها،
أن ألتبس فيما بعد بالنجمة
التي توقظ الطريق النائم للنور.
أود حينها أن أتيه
في إكليل شعاعي بعيد ومطوق،
أن أبقى ثابتة أعشق في نِدِّيَّةٍ ما لا يدرك
دون أن يُستشعَر وجودي
وأن أستمر هكذا
في لا نسيان النهار.
الفجر الرمادي في عمر الزواج
بينما وجهه الكالح
يتسلل
ما بين زهر العسل…
غذاء هو حنيني
إلى تشرده الحر.
بغنائه ينهي
سهري المتلهف
والهبة ما استقبل.
مثل زهرة في حضن الماء
ويمتد فيَّ الوجود
عبر طراوة صوته
الذي يفتتح في الغسق
مجراتٍ بلا نهاية.
نجمة الغروب ما بين الأشجار
سفر نحو الأيام النائية للطفولة:
متون الجبال
كانت رداء من أحلام.
كل جذع جسد للمعشوق
المياه اللامتغيرة
ترسم الانخطاف
وفي الخط الأحمر للشفق
كانت الأغصان تتشابك
موقدة نارا في القلب.
نجمة الغروب،
نحو مشاهد بعيدة، أيها الدرب،
بعيني أبلغك
وقبل أن تخضعني الظلمة
أرجع إلى الوجود
أصِلُ حتى أيام أوتْنَابيشْتِيمَ
وأتأمل الأراضي
التي غسلتها مياهُ الفرات.
من ديوان: السكون المنفلت
إلى إدواردو شيييدا
ينفث الفجر بتلات نور.
يرتعش الفراغ
في حركة خفية
ويغري بالتوجيه.
يكشف سر الصمت
وجوده السري:
سكون الحب
بلا عمق.
يكذب الماء الجلي
سقوط الجسد
الذي كان مسافة
وهو الآن قبلة تسندها
قوة العتمة
حينما يصمت الحجر
يكشف النور:
قلبه الشهواني،
شكيمة صقيلة
لأجل رغبة الجوف الخفية
لأجل الشفاه الشرهة للفضاء،
لأجل جرعة اللانهاية.
ليس ثمة خيط يفك شيفرة
متاهة البحر،
فليس البحر مسارا،
يا له من تخطيط أولي للامرئي هو البحر،
تكثيفات وميولات،
ياله من ماض متأبد هو البحر،
أصل، مادة أمومية،
بلا شكل وبلا ظل هو البحر،
البحر شهوة خالصة،
احتمال خالص.
تقشرات، تلاصفات بلورية، بلورات على سطح الأحجار،
سطيحات، طبقات صخرية، قعيرات،
كسريات، تعاريق، خيميات،
غبيرات، مآبر، انفلاق،
مطر، تقزح، إشعاع،
امتصاص، خفة، جاذبية،
عتمة الموت اللافقارية،
تواتر النار في النبض القلق،
خط حلزوني مفتوح للفضاء المسهد،
دوامات الزمن
بحثا عن الخاتم الخفي
لليل.
من ديوان: زوايا اختلاف المنظر
الشجرة
في حالة تنويم مغناطيسي
من ثبات المشهد،
تستفرغ ذاتها من كل تفكير،
لكن الطائر
ينقل في عيونه
مشعل الصورة
ويحوله
بتحليقه إلى علامات
ويمدد كتاب السماء.
يتقدم حصان نحو البركان،
عرفه شرارة
النزول نحو الليل.
تهربُ في فوضى الأشكالُ
ويمتدُّ المجال المتوقع
لكي يزيل الحلمُ
التنكرَ اليومي.
اِنس عناياتك أيها الجسد،
استسلم للراحة
لا تُحاكِ عمى النهر
الذي لا يعرفُ التوقفَ.
يطقطق الخشب والبلور
يأخذ صوت شظية.
إنها الطلقة الأولى للشمس.
احفظوا مجوهراتكم في الخزائن.
احملوا نعش الليلة
المهجور في الحديقة.
سلموا جلابيب الحلم.
يبحث بحر النهار الأبيض
لكفنه عن رجل عار.
لا تقولوا شيئا.
اخفوا الكلمات.
اخفوا الأشجار
في الكلمات.
من ديوان: كسريات
بـلا ختم
يتموج ظل فراشة
فوق البتلة
الخفيفة
وتهوى أنة في الماء.
التيار إعصار
يلتصق بالليل،
وبدءا من ذلك الليل يتضاعف الصوت،
يطفو، يرتقي الأشجار،
يركض عبر الغيوم،
يرقص ويمطر ويرقص.
يمطر أبعد من البحر،
مشرعا الأفق،
الخط المنقطع
بلا ختم،
والذي يوحد ساعاتنا
المتباينة
إلى أن تشتتها
رياح بحر الشمال.
البحر الأصغر
شبكة النور
تعانق الهدهدة المتأنية
للموسيقى المتموضعة
في الزرقة قاطبة،
لكي ترقص قدمُك
الخفة الخالصة
ألا تعرفَ.
ألا تعرف سوى الجاذبية التي تهرب.
وأفق العينين أزرق أيضا.
حين تضحك فأنت الماء
وذلك النور المطوق
الذي لا ينتهي.
البحر الأكبر
خطوتك
خلف لاشيء
ومن لا شيء تُنَصَّبُ،
يكتشف
ثلاثة أسطر قصيرة،
ثلاثة خطوط تتكرر في تموجاتٍ
وتمتد
فوق رمالٍ مُكَمَّمَةٍ.
واصِلْ
واصل رسمك للمَعْبَر
نحو التحليق.
بهذه الأحرف
سأكتب لك ماهو جسديٌّ في الكلمة،
فالصَّابُورَةُ بَعْدُ
تقتلع اللمعانَ
من المادة.
في أعماق البحر،
يتجمع صدى إمكان
العشق ويكفهر،
ووحده السطح المستوي يهدئُهُ.
في اللاشيء
وخلف اللا شيء….
أن يمضي الفرح ذو الأثر الشفيف؟
يستسلم نسيمٌ
لربما يلطف السقطة
في حلم الموت.
وجهاتٌ
المشهدُ الهاربُ مرةً أخرى،
والبحيرة والوديان
والأشجار التي تجري مثل الأنهار.
تأتي غيمة
وتعمي النظرة،
وبعدها تكتشف
بحرا ونارا.
حينما تنام
تلتم شمعة زمنكَ،
يمَّحِي الكتابُ
بسحر الظلال
ويسلم الكتابة لأحلامك.
ولعيني
اختفاء نهاركَ،
ومكوثي في نهاري وفي ليلي.
ينساب الجمال في مداره.
و في الجزيرة التي تنأى
تُوَتـِّرُ القوسَ.
يُتابعُ السهمُ وجْهتهُ
و أنا وجْهتي.
قبر حافظ
أبَجِّلُ الشجرةَ والأرضَ
والرملَ العاشقَ ليديكَ
في البُلاطَة.
هي تستقبل نورَ
الجهةِ الأخرى.
أما أنا فأنطلق باتجاه غابةِ
اللامُبالاة.
يُخطـَّطُ فوق رُؤوسنا
ارتقاءٌ أزرقُ
يمتدُّ
حتى الكواكب الليلية.
أبجل الشجرة والكواكب
التي تشق طريقها في عيوننا،
مرايا تلك الليلة
التي تتجاوز حدود الليلة.
تلتف الأغصان الإثنا عشر
وتتبعثر الأزمنة،
ويمكث الضياءُ المستديمُ الأخرسُ
لعمق هوةٍ لا تسبرُ أغوارُها.
من الضباب
رأيتُ جرسا في أصفهان
وكان مثل قبة مذهبة.
كان يلتمع
وصوته
كان يلتمع أيضا.
يصلني الآن تلألؤه
عابراً الحِصَاراتِ.
هو العلامةُ
التي ينقلها ليلاً
خفقانٌ هامسٌ.
أعرف أن النهر قد جف.
وأعرف أن الجسر، المُعَمَّى بالنجوم،
يُغمَى عليه،
بينما تترنم
الأرض بنواح
للغياب.
أيها الغياب
اكشِفْ عن ذاتكَ، أبرزْ شكلكَ
رغبةً خالصة ًوخرافة ً.
أنتَ هناك
وإن أتى المطر،
أنت هناك
وترسم العشقَ
لكن في الأعمق
في الأشدِّ عمقاً،
الليلُ
يفترسُ كلَّ خيالٍ.
لماذا لا يتوقف، إذن، ذلك اللمعانُ،
ذلك الخفقانُ
لنَفَسٍ يُبَثُّ
من ضبابِ اللُّغز؟
بَيْتُ مَازَانْدَرَانْ
إلى عَسْكَرِي بَاشَايْ
بينما الليل يحاصرنا،
نصعدُ الأَرُوكَارِيَّة َ.
كان الزمن يتهدهدُ في الأرجوحةِ.
كان العشقُ نائما في طراوة العشب.
وكان صدى الرقصات القديمة
يلتف حول شجرة الجوز
وكانت ذكرى أمْهَار تُرعِشُ الحقولَ.
فوق البيت الصامت
كان الإله مَارِسُ يفرضُ إرادةَ سلالتِهِ
بينما كانت أصفاده العصية
تُسْندُ العتمة.
مضت الحياة كلها في تلك الساعاتِ
وتمزقت الرغبة البدئية ما بين العوسج،
واقتحمت الموسيقى المرايا،
برزتْ في السوادِ قريةٌ نائحة ٌ
الأصدقاءُ الموتى ينتحبون.
لكن يد الهواء وُضِعَتْ فوق الألم
وفي صوت الفتى نَزفَ دمُ الماضي.
رُوِّضَتِ الظلالُ.
وكان العشق نائما في طراوة العشب.
لا تستفق!
لا تدخل العجلة!
ولنتوِّج الفجرَ بالياسمين.
وحينما فـُتِحَ الجفنان
أزْهَرَتْ قصيدَةٌ
وردة الحلاج
وعلى الشاطئ كتب: لكن توجد ثقة النجمة
في كل النجمات.
ينبش التموج ذاكرة محيط بلا نهاية
والشمس طافية فوق القافلة المعتمة.
فوق الليالي والأيام،
ارتجل الجعل رقصة
وعلى ضفة النهر، استهل البردي لحن أغنية حزينة زرقاء:
العبارة الحكيمة أشد خفاء
من الأحجار الكريمة.
قال الملك ابحثوا عن تلك العبارة.
وغاصت أسماك النيل في الطمي
ورفعتها أزهار اللوتس من الطين نحو الأعالي
وظلت العبارة داخل الوصفة
التي خطها الساحر
ما بين طرفي القمر.
بجلته الملكة وضمته لكتابها.
بحبر من الزعفران رسمت على الأوراق الصقيلة
الشكل الذي لا ينتهي.
ووضعت كتابها جنب كتاب الموتى.
حين تأزف الساعة
ستخصب علامات الضمادات،
ورفقة الشمس سأدخل البحر،
سوف تحجبني كتابة الماء، لفات الأشرعة على الخط،
سوف أقطع كل المسالك،
وسوف أجتاز كل الأبواب،
وسوف يسطع الحرف الذي هو ثعبان
والذي هو ريشة طائر يشير إلى الفرح.
باستيت سيأمر بعزف الجنك
لكي تمتلئ الغيوم بالإوز
وسيصطاد القناص ظبيا،
وستصل الشاطئ ناقلات الأزهار
بينما جسدي
يطلق لروحيه التحليق.
والموجة المتهتكة داعبت خطوط الضفة
ومحتها.
و البحر انثنى على ذاته.
وفي الفلاة كتب: لكن توجد ثقة النجمة
في كل النجمات.
كانت حروفا تنادي أسلافها
بمناقير حادة في جبل لجوج.
فليأت لوح محفور،
مكتوب بمرقم من قصب ومجفف في الشمس،
هنالك حيث يُحكى أصل العالم،
الحساب الأكبر الذي يولد منه الآخرون.
فليأت الحكماء ولنتعرف ما الزمن،
وكيف يتجزأ،
ولنتعرف ما الفضاء،
ولنأخذ الأقيسة بالمسطرة والفرجار.
فليأت الذين أبدعوا خشبة المسرح ليحكوا
والذين يخطون دوائر
السماوات السبع محاطين بملائكة،
تركض لأجلها حيوانات خريطة الأبراج:
كل شيء يوجد تحت سلطة العلامة،
كل شيء مشفر في مواقع النجوم،
إذ أن من يلقي البذار
ويسكب الماء في الأخاديد ويحفر السواقي،
ينظر إلى نجوم الشرق والغرب
فالوقائع والتنبؤات مؤشر عليها بنور في السماء
بما في ذلك نزول إنانا نحو الجحيم،
ومفاخر جلجامش
الذي حينما أحس في جسده جدب الأرض
بحث عن المياه العميقة،
وهكذا كان يقنع الشيوخ:
لكي ننهي الآبار، لكي ننهي كل آبار البلاد
لكي ننهي الآبار والتجويفات الصغيرة للبلاد.
لكي نعمق الآبار ولكي نكمل الحبال التي تـُربَط
لن نستسلم لبيت كيش، فلنهاجم بالسلاح.
وصنعتِ الأسلحة
صهرت المعادن التي كانت مخبأة،
فليس ثمة مكان يداس فيه الياقوت والذهب،
فكل شيء يوجد مخفيا.
لكي ننهي الآبار، لكي ننهي كل آبار البلاد…
مـــــــاء
ماء يخصب حتى الفلاة القاحلة
ويمنحها وردة، تراصفا بلوريا ليليا
سليل البرد الفجائي،
البرد الذي لا تستطيع التعازيم شيئا ضده
البرد الذي يشل الرمال…
الريح قبلت كل الحروف بعذوبة ودمرتها.
ونقلت فيما بعد كثيبا نحو المنطقة الممحوة.
وكتب على لحاء شجرة: لكن توجد ثقة النجمة
في كل النجمات.
وكانت الشجرة تصمت،
كانت تختزل ظلها لكي تلتمع الكلمات.
والإلهة التي كانت تسكنها سمحت برؤية صورتها.
قالت: أحمل طائرين
واحد في القمة التي تتأمل كل الأفلاك،
وآخر في الأغصان يقتات من الثمار،
خالد وفان، إدراك وحركة، معا
يشكلان القوة والهشاشة،
نور الروح،
والذي فوق الإنسان
الذي هو أبعد من الوجود واللاوجود،
واقع الواقع،
البذرة التي ترى الكل وتحاكم الكل،
لأن الحيوان لا يحاكم،
والنبات لا يحاكم،
والجبل والصخر والبحر لا يحاكمون.
سوف نكون مع الحيوان.
سوف نكون مع النبات.
مع الجبل ومع الصخر ومع البحر،
إذ تتسع أعماق القلب لكل الكون
السماء والأرض والنار والريح والشمس والقمر والبرق والنجوم،
ومنصهرة لكن دون أن تكون حائرة تلتف،
وتلتف عجلات الأنا واللا أنا،
من نور وظلمة
ولادة وموت
تهيم مثل الشمس التي تتقدم مدوية.
سوف نكون الشمس، بأرجل وأياد،
وبالذهن، الأسرع للطيور.
ينبغي الجلوس فوق الأسد،
التخلص من الشر مثلما يتخلص الحصان من عرفه
التخلص من الجسد
مثلما يتخلص القمر من فم الخسوف…
والتمدد على ظهر الماء،
تبجيل الأرض ومربعاتها الصاعد منها والنازل.
عدم تلبيد السماء بالغيوم.
وعدم قطع شجرة ولا لبلاب ولا خلنج.
وجاء الحيوان وعلى المكتوب،
خربش بالأظافر علاماته
واستل الخشب
إلى أن ترك الجذع عاريا من غلافه الخشبي
السابق على الرسائل.
وكتب على ورقة: لكن توجد ثقة النجمة
في كل النجمات.
وكل التثليثات،
كل مواليد برج العذراء، والمبعوثون،
والملقون في بئر،
والمهجورون في سلة بمجرى النهر،
والذين حولوا العصا أفعى،
والذين شقوا المياه،
والذين مشوا فوق المياه،
والذين تنبأوا بقدوم المسيح،
والذين بنوا المعابد والقصور،
والذين كتبوا أسفار الحكمة
وتغذوا من التجديدات،
لأنه وإن جف الشجر، فالجذور تمنحه النسغ،
ولن يتوقف مسار التعاقبات،
ولا التحولات والكوارث،
والحروب وتبدلات الحظ…
الموت والتلاشي والبعث
ينادون بالصبر.
وصبر الأشد اصطبارا ينادي
هو الذي يزيح الجبال عن أماكنها دون أن تتفطن لذلك ويخضخضها في احتدامه.
هو الذي يرج الأرض عن موضعها فتترنح أعمدتها.
وكإنسان، يقوم الأشد اصطبارا،
ينتصب واقفا، ويغالب ذاته
كما يطوي الحداد المعدن فوق السندان،
ويقف فردا أمام الإله:
من جلد ولحم كسوتني ونسجتني من عظام وعصب. […]
تطاردني مثلما تطارد أسدا وعلى حسابي تعيد بسالتك.
وإنسانا، ابن إنسان سيولد الإله الجديد
وحتى المعبد سوف يكون جسدا للإنسان
وسيقدم الإنسان الإله ذاته كبش أضحية.
سوف تنخسف الشمس، وتنفتح السماوات
وسوف يصير النهار ليلا
وسيقوم الأموات من تحت الثرى.
وكل شيء سيظل محاطا بالألغاز
ومكتوبا على جلد الحيوانات.
الموت والتلاشي والبعث…
لكن عشق الإنسان للخط المستقيم،
عشق الحوار والفكرة والقياس المنطقي والمعادلة…
اختراق كل نقط رسم الشكل
وولوج الهيولى،
فيما كانت عليه…
والكتابة المخصبة بالعقل،
تجاوز الحرف الرنان لرجال كنعان
والحرف المصوت لميكينا.
فكل الحروف تهيمن في مواقعها
في كتل ديوريت، مسلات، جدران
لفات أوراق البردي، ألواح طينية،
بقايا الخزف، مخطوطات قديمة،
لأنه يجب أيضا كتابة ما لم يُكتَب،
تلك التموجات الخفية التي تولد من الدماغ،
ذلك الذهاب والإياب، وتكثيف الأفكار وتشتيتها،
ذلك الإبتهال المتواصل أمام الغيب،
ذلك الغناء الذي ينبثق من المفاجأة
لدى رؤية الأوراق وهي تتراقص دون مادتها في الماء
والطائر الذي يعبرها دون هيولاه، يليه ظله الشفيف،
والياسمين الذي لا يستطيع التخفي وإن في الظلام…
وهكذا تخط الريشة الصينية
علامة ممزوجة يفك الجميع رمزها،
ترسم حصانا هو ألف حصان،
وتوازن كما في ختم الخطوط الدالة،
وتنذهل كل الحروف
أمام رسمها على الحرير والورق الناعم.
وتعلن عبر تفجيرات البارود:
أبعد من اللامحدود
اللامحدود
أبعد من اللامتناهي
اللامتناهي
من يتجرأ على طرح سؤال آخر؟
ولسوف يلتزم الصمت أمام الجسد والذهن،
ولسوف يلتزم الصمت ويعيد الرجل على ذاته
الكلمات المطمئنة:
حالته التي هي عديمة الجدوى.
ما الذي قد يستطيع أن يشوشها؟
سوف يكتشف السكون المنفلت على متون الزمن،
الأناة أمام سلة تفاح
أو متنزه أشجار الأكاجو؛
سوف يعتني بالمناظر الطبيعية لأن جسرا وطريقا ومعبدا
ينبغي أن تتوافق مع الجبال والأنهار
مشكَّلة بالريح وبالماء.
يقول أحدهم:
في حضن الجبل،
جنب الوهدة،
البيت منعزل وصامت.
ويقول آخر:
أعود إلى بيتي،
وأرى في العشب قطرات الندى.
ويقول ثالث ماهو أبعد:
عالم من ندى
وفي قطرة واحدة
ووحيدة
الشقاق.
ويقول رابع قريب وهو يتأمل الوقائع:
ماذا تـُراها تكون سوى قطرات ندى المروج؟
ويعدو الموت الأسمى
بغيوم من غبار وقرع حوافر.
ولا يرتبك الفارس القشتالي،
لكن الراهب البودي يطلق قهقهة
ويكتب بأنفاسه الأخيرة:
يتقطع سيفي في مواجهة السماء
بنصله الصقيل سأضرب عنق بودا
وكل قديسيه.
فلتهو الصاعقة حيثما تشاء.
عالم ندى، عالم ندى فوق ورقة…
وبكت الأمطار فوق كل الأوراق، وفوق تلك أيضا
وألقت بها للنهر.
وكتب في ورقة – لكن توجد ثقة النجمة
في كل النجمات.
ولا أحد اعتقل الشمس.
وقفزت الشمس إلى الجانب الآخر للبحر
وتوجت ذاتها بريش ملون
ومنحت ريشا لأفعى الماء
ولحيوانات أخرى
وجعلت الأحجار ترقص وتغني
والرجال والآلهة يتخفون خلف أقنعة وقبعات.
مرت الشمس فوق حقول الذرة
والأهرامات المتدرجة حيث تنحدر الأفعى،
كهنة الريح لا يعنون لها شيئا،
أسياد الأحمر الغسقي،
لا شارب الليل،
ولا الفراشة السبجية،
ولا طِيثْكاطْلِيبُوكَا،
مرآة مدخنة
بصَوَّاناتِ رأسِهَا،
لا أفعى الغيوم،
ولا إله المطر المزين في روعة،
سترة من ندى،
عقد من يشب
رداء من مغنطيس أرضي
لجلب الأحجار البلورية.
لماذا هي كل الشموس جمعا وكل شمس على حدة،
الأربعة الأولى نَمِرٌ، والأربعة الثانية ريح،ٌ
و الأربعة الثالثة مطرٌ، والأربعة الرابعة ماءٌ،
والأربعة الخامسة حركة.
تأتي وردة الجلد الذهبي بلعبة الخشخاشة،
تأتي الزهرة الخماسية التي تعزف على كل الآلات الموسيقية،
تأتي زينة النهار
الواهبون للأصفر ! الواهبون للأخضر
وبالأخضر وبالأصفر
وبكل الألوان القزحية، تضع عُقـَداً
إنسان هذا الجزء من العالم يكتب تِيكْبُوسَاتِهِ
وفي اللحاءات الناعمة جدا والمطوية للشجر
يجمعُ الغناءَ المنغمَ مُصاحَباً بالطبول،
نايات من قصب ومحارات بحرية…. وفي أقاصي البحر…
في أقاصي البحر، الصبارات الهائلة، الأشجار السامقة، الغاب
غابٌ وغابٌ وغابٌ حراسة المجهول والجذور
وغابٌ حراسة الهواء المتموج حيث كُتِبَ كلُّ شيءٍ
فلنكن غاباً، فلنكن هواءً لأن الهواء أنفاسٌ
هواءٌ يوقظُ النارَ
وما كتب يجب أن يكتب بأحرف من نار.
أبَجِّل الذي يستدعي حِكَمَهُ في الحُبِّ :
فوانيس من نار،
ولِلَّتي تقول:
دون معرفة ما ينبغي أن أعمله
أقص فتيل الشموع.
وأمتدحُ ذلك الشخصَ ذا الشَّعرِ الأشيبِ
الذي يركض في الشوارع ويقفز كي ينتزعَ غُصَيْنَ شجرةٍ
ويسحبَ خلفه مُدَجِّنَ طيور
والسلطانُ أحمدُ والزهرةُ في يدهِ…
وأبجل الذي في حذر
يحملُ إناءً مليئاً بالحليبِ مع قطرةٍ من دمٍ
ويبحث عن صفاء ماء النبع.
وللذي وهبني خيط الفضة
كي أنسج هذه القصيدة.
وللذي
مثل برومثيوس،
سرق الأعراف القديمة
اتحاد الوردة بالنار.
وأدْنَتِ الجذوةَ يدٌ
فاحترقتْ كلُّ الكلمات جمعا وإفرادا
وتحولت إلى رماد.
حينها كانت هنالك امتدادات كبيرة للصمت،
بينما كان الرمادُ يتوحد حتَّى شلَّ الأرض بكاملها.
لكن دجلة والفرات فاضا، النهرين الخصيبين،
وانطلقا في المساحة ببطء.
وتحت ذلك الرماد اكتُشِفَ الجَمْرُُ
وردة على تويجاتها الطينية كُتِبَ
بكتابةٍ مسماريةٍ لا تمَّحِي:
لكن توجد ثقة النجمة
في كل النجمات.
ترجمة وتقديم: خالد الريسوني شاعر ومترجم من المغرب