توماس بِنابِنتي
مخرج سينمائي وفنان تشكيلي تشيلي
حينما كنت أدرس في الصف الثالث بكلية الفنون الجميلة، كان الشاب حنوش معتادًا خلال الصيف نسخ لوحات الانطباعيين. لقد اكتشف فيها المادة الخام، الإلهام الذي يحتاج إليه ليبتعد عن الفن الأكاديمي، الذي لم يثر اهتمامه، ربما لتكوينه الديني. لقد غُرِس فيه أن الإنسان لا يستطيع منافسة الله في الخلق، فلا يجب أن يحاول محاكاة العالم. هذه الفكرة أسست جذورها في تفكيره الجمال. ومع السنوات، بدأ يصيغ أسلوبًا يفضّل استخدام الخيال، دون أي ثقة مطلقة في ما تراه الأعين.
وبالإضافة للحرية في التعبير عن نفسه، أتاح له نسخ اللوحات تدريب يده وإدراك اللون. في شهور الإجازة تلك، كان يحبس نفسه في غرفة بيت من طابقين يتقاسمه مع عائلته. وكان الانتقال إلى بغداد صدمة مكثفة. في الكوفة مسقط رأسه، كان يرى سيارة كل شهر. وحين ولد حنوش، لم يكن شيء متبقيًا من فكر المدينة المجيدة وثقافتها. مع ذلك، حمل الماء والهواء إرثًا عبر نهر الفرات.
كانت بغداد، في المقابل، عاصمة حديثة، بملايين السكان في شوارعها وسياراتها يخلقون الزحام المروري. كان التغيير فظيعًا لولد خجول مثله، لكن لم يكن سلبيًا في كل وجوهه. لأول مرة، يرى فتيات متبرجات، ومنذ فترة كانت لديه رغبة راسخة: تكريس حياته للرسم. هذا الحنين كان يعززه لتجاوز أي صعوبات.
كان يروق له الرسم وهو يستمع إلى الراديو. كان ولدًا صامتًا جدًا، حد أن عائلته كانت تظن أنه ليس بالبيت. لكنه كان بالداخل، يعمل ويركز في صمت. ما لا يمكن إخفاؤه كانت رائحة زيت التربنتين، إحدى الروائح التي كانت تستفز جدته. لم تكن الحياة معها سهلة، والأدهى لو كان الحفيد يمتهن مهنة غريبة وغير مربحة.
في تلك الأزمنة من نهايات السبعينيات، كان ثمة معارض ينظمها الفن المعاصر ببغداد، وكان يمكن لمن أراد أن يعرض أعماله. حينها اختاروا لحنوش كتلميذ نجيب واحدة من لوحاته. كان حلمه أن يعرض أعماله بعد سنوات من الجهد. وبعد أيام قليلة، تلقى مكالمة من مسؤول المتحف ليخبره بأن عمله بيع بمبلغ هائل. ولأن خبرته قليلة في سوق الفن، لم يكن يعرف أن اللوحات تباع. قرر حينها أن يحضر المتحف بدافع الفضول. وكانت مفاجأة كبيرة حتى تلقى في يديه حفنة من الأوراق المالية، شيء يشبه ألفي يورو اليوم. وبالنسبة لشاب في سنّه كانت ثروة.
أتخيله يعبر شوارع بغداد سيرًا على قدمين، أو ربما راكبًا حافلة، ينال نصيبه من الزحام الخانق في العودة إلى البيت. مهووسًا من السعادة، ويده على الورقات المالية حتى لا يفقدها. يمكنني أن أتخيل تعبير وجه جدته حين تلقاه غير مصدقة. وتساءلت:”كيف يمكن أن تباع لوحة بهذا الثمن؟”. بدايةً من تلك اللحظة، انفتح عالم أمام الفنان الشاب. وبعد نصف قرن، غدا مرسم حنوش في “روندا دي أتوتشا” واحة من الهدوء وسط صخب الشارع المدريدي. بداخله، ينسى المرء العالم الخارجي ويغوص كليةً في عالم لوحاته. لا شيء يقطع الصمت إلا راديو مفتوح دائمًا على الأخبار، سواء بالعربية أو بالإسبانية.
أول انطباع يأتي من لوحاته استخدامه للألوان، الحية والمبهجة، التي تفتتح تجربة على الحواس. وما إن يتأملها المرء، يبدأ في اكتشاف الصور البشرية، المرسومة بخطوط رقيقة مستوحاة من الخط الكوفي لمدينته. أتذكر ما قاله جان كوكتو: “بالنسبة لي، الكتابة هي الرسم، إنها ربط الخطوط بطريقة ما تخلق كتابة، أو إطلاقها بطريقة ما فتستحيل الكتابة رسمًا”. تستعرض لوحات حنوش قصصًا مرتبطة بالخط، أو من الممكن أن تكون لوحات كتابية، حيث تتعايش الذكريات الشخصية والصور التي يستلهمها من قراءات تركت فيه بصمتها.
في أركان متعددة من مرسمه، بين الأوراق والمواد والفراشي المستهلكة وعلب الألوان التي تنتظر دورها، ثمة أوراق معلقة باللون الأبيض. أوراق مكتوبة بخط حنوش، تبدو للتذكِرة أو إرشادات في حياته اليومية. أقرأ إحداها: “رجل بلا كتب رجل بلا روح”، يقول شيشرون. “نحن أبناء من نريد، وأبناء من نكره”، يرد الجريكو. ويقول أورتيجا إي جاسيت: “حيث لا قلق، لا حياة”. و”حتى نصدر حكمًا، يجب أن نتمتع بتوازن بين حدسنا الشعوري وتجربتنا العقلية”، يكتب حنوش نفسه.
بعد مسيرة عامرة بقائمة طويلة من المعارض والجوائز، يكتسب المنهج الذي حدسه الشاب المولود في الكوفة معنى أكبر. نسخ لوحات الانطباعيين الآن صار تدريبًا أساسيًا يُدرّس في فصول الرسم. إنهم يعلّمون الطلاب انطلاقًا من النسخ، ودراسة اللون بدقة وكذلك البقع. قبل الشروع في مغامرة الإبداع، ينبغي تعلم محاكاة بول سيزان ومعاصريه، حيث نجد ما هو جوهري.
يدعونا حنوش للحفاظ على مهنة الرسم، التي تبدو في تراجع، وإلى النظر أبعد من الفن الأكاديمي، حيث يغيب التجديد ويغزر التكرار. إنه يفكر مثل فنان حقيقي، وليس كمجرد رسام. مهمة قد تستغرق العمر بأكمله.
في إحدى الورقات البيضاء المعلقة في مرسمه، يقول سان خوان دي لا كروث: “لم نأت إلى هنا لنرى، وإنما كيلا نرى”.