تُعتبرُ الرواية عالماً فنيا وفكرياً مبنياً بوسائط جمالية يقتضيها الجنس الروائي، وإبداعاً سردياً منفتحاً على موضوعات متعددة ومختلفة. لكن الرواية لا تستكين لموضوعات جاهزة، وأبنية فنيّة معيارية، بل تخضع لشرطية التخييل السردي، مما يجعل تشكلها محكوما بمعطيات سياقية يحتكم إليها المبدع في بناء عالم الرواية. لهذا، يبقى الروائيّ، وهو يبني عالم روايته الفنّي والدلالي، مسكوناً بروح الإبداع الخلاٌّق، وراسماً أفقاً معرفيا وجمالياً بإنتاجه، وباحثاً عن “عالم نوعي” لزمنه التاريخي والثقافي الذي يتكشّفُ من المتخيَّل النَّصي لروايته.
بهذا المعنى، فإنّ الروائيَّ الحقيقيَّ هو الذي يشتغل على روايته باعتبارها إبداعاً فنّياً، فيتجاوز الكَوْنُ السَّردي الحدود النصّيّة للعالم المعروض في مرجعية الرواية، بآليات سردية وخطابية ولغوية وتقنية خاصة، صوب العوالم الثقافية والتاريخية والإيديولوجية، بمختلف أنساقها المضمرة والخفيَّة. من هنا، فالروائيُّ الحقيقيُّ هو الذي يخضع لإغواء التحوُّل التاريخي، والثقافي العام، فينتجُ ما يُدعِّمُ الدِّينامية الممتدة لكافة مناحي الحياة، وينتهكُ، عبر إبداعية خلاَّقةٍ، النَّسقَ والتاريخَ المألوفين، ويُشيِّدُ عالماً متخيّلاً قادراً على مُلامسةِ الكينونة البشرية في امتداداتها المختلفة، لكن بما يُناسبُ “سلطة” الكتابة الروائية، ويُلائمُ تشكُّل مرجعيتها النَّصية.
تُسعفُ هذه المعطيات في القول إنَّ رؤيتنا النقدية تنبني على التأويل باعتباره آلية منهجية، مما يمكّنُ من قراءة الرواية العجائبية «حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس»1 للروائي السوري من أصول كردية سليم بركات، وتحليل علامات مرجعيتها النصية، لأجل اقتراح دلالات على العالم المسرود فيها، وليس البحث عن تلك الدلالات داخلها بوصفها دلالات ثابتة ونهائية.
تجدر الإشارة أنَّ الرواية موضوع الدراسة هي الجزء الثاني، الذي لم يفصح الكاتب عنه مباشرة، لرواية سابقة لسليم بركات «كهوف هايدراهوداهوس»(2)، لأنها تحتفي بنفس الشخصيات والفضاء الخرافي المغرق في التجريد، ولكنها تضيف إليها شخصيات جديدة ووقائع جديدة وعلاقات جديدة.
1 – عجائبية الرواية: التجريد الميثولوجي
بَنَى سليم بركات في مرجعية رواية «حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس» عالماً مغرقاً في التجريد الأسطوري؛ فتجلت معالمه الكبرى في فضاء وكائنات ميتولوجية متخيّلة، وفي علاقات أساسها الرُّعبُ والتدمير المحموم بفعل طموحات الحكم والسلطة. لهذا، في الفضاء المتخيل الكهوف الكبرى، المسمَّاة نصّياً هايدراهوداهوس، تَتَجلَّى كائناتُه خرافيَّةَ التَّكوين تُعرف باسم الهوداهوس. إنها مخلوقات من نوع السنتور الذي تصفُه الأسطورة الإغريقية بأنه مخلوق مزدوج التركيب؛ حيث يتجلى نصفُه العلوي جسمَ إنسان، بينما نصفُه السُّفلي جذعَ حصان بأربع قوائم. وبالتالي، فهذه المخلوقات العجيبة هي الشخصيات البانية لمرجعية الرواية، إضافة لمخلوق أسطوري آخر من نفس الفصيلة يسمى “أُوغلو”؛ لأنه «بأربعة حوافر كالهوداهوس. بجذعٍ، من الصدر حتى الذيل، كالهوداهوس. بلا ذراعين، لكنَّ له عنقاً طويلاً ينتهي برأس مستطيل، وعينين على جانبي جبهته العريضة، وأذنين منتصبتين، وشعر طويل، من عُرْفه امتداداً على ظهر عنقه الطويل، حتى أوَّل جذعه المتصل بالعنق»(3). إن هذا المخلوق، وغيره، ذو طبيعة خارقة يدعِّمُ الطابع الفانطاستيكي لمرجعية الرواية؛ فالكائن الذي «نصفه إنسان ونصفه الآخر حصان.. يُشكِّل في الواقع معرضاً حقيقيا لصوّر الجسد الهجين.. وذلك يُشكل تخيلات تشريحية ذات نزعة غروتيسكية جامحة»(4).
يَضعُ الساردُ القارئَ، منذ أول المقاطع السردية في الرواية، داخل عالم هذا الفضاء الميثولوجي المتخيّل، بكائناته الأسطورية الغريبة وتركيبتها المدهشة، وبطبيعة علاقاتها بالساهرين على تدبير شؤونها سياسياً وتنظيمياً: «مخصيون من خلصاء الأمير القتيل ثيوني، الملقى جثة في كهفٍ أوصده ستة وثلاثون عاملاً، تحت رقابة أنستوميس، مروِّضةِ الرسوم في كهف فيفلافيذي- مكتبة هايدراهوداهوس. ذُبح ثيوني المتنكّر بخنجر السوداء دِيْدِيْس، فاستعيض عنه، بحكمة الحيلة، ببديل شبيه هو الشاعر آزينون، الذي قدَّمه ميدراس، للخروج من مأزق اختفاء الأمير، إلى الكاهن السابق كيدرومي. أحكمت الحيلةُ جسارةَ التبديل، فلم يعرف بأمر البديل غير الكاهن كيدرومي، المنتصب جثةً بلا شاربين في أخدود تاييس، وإكسيانوس-أخي ثيوني، الذي حزَّ عنقه المحاربُ الكهل نِيسْيانو، والأميرة أنيكساميدا، والفلكيِّ الشاعر ميْدراس، مدبِّرِ الحيلة برمَّتها مُذْ تعرف إلى آزينون الشاعر في حانة من حانات كهوف الرمال»(5).
يُعلنُ هذا المقطعُ السَّرديُّ عن تَقوية عالمِ الرواية المغرقِ في التجريد الميتولوجي، وانفتاحٍ على شخصيات غريبة مؤطَّرة بصراع سياسي أسهم في تعطيل دينامية الذات القائدة، ودفعها للتصفية وجوديا (القتل)؛ حيث توِّج الصراع بقتل أمير أرض هايدراهوداهوس (ثيوني)، وعوِّضَ بأمير مزيف يشبهه كنسخة تطابقه (آزينون). من هنا، يتجلَّى المتخيَّل الباني لمرجعية الرواية مُؤسَّساً على الخداع والمكر الذي تفرضه مقتضيات الصراع حول السُّلطة، مما يفجِّرُ الصِّراع حولها، وتَتولَّدُ رغبات التحكُّم في القيادة والحُكمِ. هكذا، لم يبقَ الصراع حول السلطة مقترناً بالوجود الإنساني، بل اقترن بعالم الكائنات الأسطورية. لهذا، تتبدَّى السلطة المؤسطرة في صورة دموية مؤلمة وبشعة، ويبقى، بذلك، جوهرُ الصِّراع السُّلطوي حَوْل القيادة والحكم حالةً ميتافيزيقية تتجاوز حدود المحدّد (الإنسان) إلى المجرّد (الكائنات الميثية). بهذا المعنى، فعجائبية الأحداث البانية للرواية تتقوَّى بكيفية تدبير «لعنة السلطة»؛ باعتبارها لعنةً جميلةً تُشكِّلُ مَطْلباً مُلحّاً للكثير من الكائنات المختلفة النوع والهويّة، ما دامت السلطة كفيلةٌ بتحقيق نِعمةِ السَّعادةِ والهناءِ، لأنَّ «السلطة هي الوحيدة القادرة على صُنع السعادة الحقّة»(6).
شَكَّلَ البَحثُ عن سعادة السُّلطة لحظةً فارقةً في تاريخ هايدراهوداهوس، لأن التآمر على الأمير الأصلي قادَ لتصفيته واستبداله بأميرٍ مزيَّف كان شاعراً من قبلُ. هكذا، ظهر زمن البشاعة السلطوية، في تجليه الميتولوجي، لحظة انتصار الخديعة على الحقيقة: ««أنت أمير هايدراهوداهوس» رمتْ كلماتِها نرْداً ثقيلاً على منضدة روحه. هزَّ آزينون-ثيوني رأسه:
-أنتِ حاكمةُ كهف فيفلافيذي.
«أنتَ الأميرُ» ردَّت أنستوميس.
«أميرٌ سطرٌ من شِعر لن أعثر على بقيته»، تمم آزينون- بديلُ ثيوني القتيل.
«البقيةُ خُدعة»، قالت أنستوميس.
حمحم الشاعر الأمير آزينون-ثيوني. دار من حول أنستوميس نصفَ دورة. نظر إلى دندروسا متكلماً من غير أن يعنيه بكلامه:
-إذا كانت البقيةُ خدعة، فما يسبقُ البقية خدعةٌ أيضاً، أيها الهوداهوس الشاحب»(7). صارت خديعة تزييف الأمير الأصل معروفةً لدى الخاصة، بينما حقيقة تزييف الأمير النسخة شائعة عند العامة. صَدَّقَ الأمير المزيّف إمارتَه، وصار يحكمُ بما يخوله له الزيف والخداع. لهذا، تتجلى قمّةُ التجريد الميتولوجي بارزة حينما تَرْضَى الذَّاتُ التَّحوُّلَ من كينونتها الخاصة، والانفصالَ عن مختلف عناصرها المهاوية، لتصير ذاتاً أخرى بكينونة ووجُودٍ مُؤطَرٍ بالتزييف كلِّياً. إنّهُ إغواءُ السُّلطةِ والمنصبِ، وإنْ كان «الأميرُ حيلةَ شكلٍ»(8).
لم يعِ الأميرُ حيلةَ تنصيبه، أو لم يُردْ أن يعي كينونته في النسخة المزيفة. لذا، تآلفَ مع الحُكْمِ والقيادةِ، بإغراءاتهما المتعدِّدة، وأطلقَ العنانَ لأحلامه السُّلطوية. وهو حلمُ كل طارئٍ على السلطة، والمتطلِّعِ لإشباع جوعه التاريخي من موائدها. لكن الأميرَ المزيَّفَ لم يدرك أن الحاكمَ الأصليَّ (ثيوني) قُتل لأنه أفشى سرَّ الحلم الذي يشترك فيه اثنان في هايدراهوداهوس، فشقَّتِ ديديس حُنجرته بضربة من خِنْجَرها الحادة. يُفهمُ من هذه الواقعة، أنَّ لكلِّ طائفة حيَّة قوانينها المقدَّسة، ومُنتَهِكُها قد يُعرِّض نفسهُ لخطَرِ القَتْل والتَّصفية، مهما كانت درجته الاجتماعية ورتبته السلطوية. لهذا، لم يَقدِرْ الأميرُ المزَّيفُ على التعايش مع الدور الذي حُدِّد لهُ، فتسرَّب المللُ إلى نفسه؛ لأن وَضعهُ كأمير لم يُعفِهِ من الشتيمة والإهانة، من لدُنِ الأميرة الحقيقية زوجة الأمير المفقود، ولم يمنحهُ حُريَّة الفِعل والتَّصرُّف: «ماذا تفعل أيها الغبي؟ ما بِكَ هذه الليلة؟»، ساءلت أنيكساميدا الأميرَ همساً مطحوناً بمدقَّة الغضب الأخرس، فرد ثيوني-آزينون:
-مملٌّ أن أكونَ أميراً»(9).
يعطي هذا القولُ الانطباع أنَّ الزهد في السلطة أفضلُ من التطلُّع لامتلاكها، لكنَّهُ في العُمق قولاً يكشفُ استراتيجية للفهم والوعي بعوالم السلطة من جهة، ومحاولة التكيُّف مع وضعية الذات المزيفة في هويتها ووظيفتها الجديدة من جهة ثانية؛ حيث «إنَّ جوهر النُّسخة ليس مِنْ مَهمتِه سوى أنْ يَكونَ شبيهاً بالأصل. ومقياس نجاح مهمته هذه هو أن يميز المرءُ الأصلَ في النسخة. وهذا يعني من طبيعة النُّسخةِ أن تفقدَ وُجُودَها المستقل، وتعملَ كليّة على تَوسُّط ما هو مستنسخ»(10). كانت لُعبةُ إخفاءِ جريمة قتلِ الأميرِ الأصلِ محكمةً، وتعذَّر كشفُ الأصل في النُّسخةِ (ثيوني-آزينون). لكن رغم ذلك،لم يتورع الأمير المزيف في كشف انسجامه مع وظيفته الجديدة، وبدأ يتصرف كأمير، دون نسيان هويته الرمزية كشاعر. لكنَّ، جبروت السلطة يقتضي رفع الذات الحاكمة عن كل دنسٍ ثقافي؛ حيث الشعر بإمكانه تليين مبدأ الترويع والعنف والرَّدع في الفعل السياسي، وهو ما يجب ألا يسقط فيه كل أمير محنّك وقائد عظيم. الثقافة والسياسة لا يلتقيان في ذات واحدة، وشرط اجتماعهما معا يفرض تواري الثقافة، أو انهزامها أمام الحكم والسياسة. لهذا، قد يتعوَّد الشاعر على منصبه كحاكم، ولكن يجب على الحاكم أن ينفي عن ذاته أي شاعرية ممكنة؛ لأن الفعل الثقافي عند رجل السياسة ثرثرة وهزل وأحلام طوباوية: ««ما العارُ في كون المرء شاعراً وأميراً؟».
«مهازل المبالغات لا تليق بأمير»، ردّت أنيكساميدا، فاحتدمَ آزينون-ثيوني:
-سهلٌ أن يكون المرء أميراً. انظري إلىَّ. كان الأمر سهلاً، أليس كذلك؟..
«إسمعْ، أيها الثرثرة. تمتَّعْ بما أنت فيه»، قالت أنيكساميدا»(11).
لا يدافعُ الأميرُ المزيَّفُ عن شرطية وجُوده التاريخي كشاعر، ومنه يُعلي من شأن الثقافة في موقع السلطة والحكم، ولكنه يؤكدُ انغماسَهُ في المستنقع السياسي القائم على صراعات الزعامة، ويحاول البحث عن كيفية تدبير القناع والتكيُّف مع سلطة النسخة. لهذا، فصدمة الوجود لا تبقى حبيسة الإهانة ممن نصّب الأميرَ المزيف أميراً على أرض هايدراهوداهوس، بل تتجاوزه صوب جعله يفقدُ كل قدرة على إبداعية شعرية، ويفقد، معها، المبادرة على انتهاك الخدعة، والقدرة على كشف حقيقتها المأساوية: «-لا أعرف لماذا تحتفظ الأميرة بي في الكهف الأعظم؟. مقاليد هايدراهوداهوس في يديها. هي لا تحتاجني. هي لا تحتاج إلى هذا التدبير الخدعة.
«غادرْ، إذاً»، قالت توكسا باللسان المستنطِق هوى قلب آزينون، فردَّ:
-لوعتي أنني لم أعد أنشِد شعراً يتدبَّره عقلُ قلبي لي. لكنني أقيم الآن، في نشيد خياليَ كأميرٍ»(12).
تظهر السلطة نسقاً دامجاً للذات المبدعة ومحوِّلاً لها، فتتجلّى هذه الذاتُ فاقدةً لكُلِّ تميّزٍ نَوعيٍّ داخلَ الهويَّةِ المزيَّفةِ. وكأنَّ السلطةَ والقيادة تجرِّدُ الكائنَ المبدعَ من كلِّ فكرٍ خلاَّقٍ، وتُصيّرُهُ مجرَّدَ كائنٍ صلدٍ مُتخشّبِ الإحساسِ ومُتكلِّسِ الأفكارِ. وتزدادُ مأساة القائد السياسي حينما يكونُ مسيَّراً بسُلطٍ خارجةٍ عن ذاتهِ، مما يصيّرهُ فاقداً لروح المبادرة والأداء القيادي بمسؤولية ذاتية. بهذا المعنى، يتحوّل القائدُ إلى دُمية وفزَّاعة، ويغدو المنصبُ “فضاءً” لتجلِّي فساد النسق السياسي، ولبروز ضياع وتيه الفاعل فيه: «ردَّ آزينون من غير أن يحاول تصويبَ شَعرةٍ في جديلة قَدَره المنحلَّة، كأنما جُوِّف فصفَّر في فراغه ما ينبغي أن تقوله الريح:
-أنا الشاعر آزينون.
«عرفتُ أنت لست أبي. أنت لا ترى أيَّ شيء من حولك إلاَّ بعينَيْ أمي»، قالت توكسا.
«ماذا ستفعلين الآن؟»، ساءلها بصوتٍ غريقٍ، فردَّت الفتاة ذات الدرعِ الودعِ، والحلقات النحاس على صدرها:
-لا شَيء. ممتعٌ أن أراقب أميراً ضائعاً في ظلِّ أمير مفقود»(13).
ينفتح الاقتران بالسلطة السياسية على ذوات مختلفة؛ بعضها يَعيشُ ويُعايشُ تَوحُّش نَسَقِها الفظيع، والبعض الآخر يتخذُ هذا التوحُّش فرجةً وملهاةً. لهذا، تكمنُ فداحةُ الفعل السياسي في خُضوعٍ مُضاعفٍ؛ خضوعٌ للذات الطامعة في امتلاك قُوَّة المنصبِ الرَّفيعِ بآثاره المادية والمعنوية المختلفة، وخضوعٌ للآخر المسَيْطِرِ الذي يدبِّر مواقع الفعل السياسي بمنطق شيطاني ينتصر للغايات، مهما كانتْ نتائجها مأساوية. من هنا، فمَنْ يُشرف على التوجيه السلطوي للآخرين يتذرعُ بمنطق بناء “الدولة”، وحفظها من أي انهيار محتمل، حينما يستجد أيُّ طارئ سياسي. لكن، الساهر على هذا الإجراء الوقائي السلطوي ينسى أنَّ تدبير مرافق الدولة المختلفة هو وليد التوافق والتشارك والتفكير الجماعي، وليس نتاج “أهواء” الذات الفردية التي لا تدافع، في العمق، عن السيرورة الطبيعية للاستقرار السياسي، بفعل تحوّل معين، ولكنها تدافع عن موقعها في السُّلم السلطوي الذي يكفلُ لها الكثير من الامتيازات: ««آزينون»، قالت أنيكساميدا بصوت أقرب إلى الهمس: «قلتَ لي لِمَ أُبقيك في الكهف الأعظم. كانت بي خشية، في البداية، من إرباك قد يصيب هايدراهوداهوس أن علمَتْ بفقْد أميرها»»(14).
تصوغ “أنيكساميدا” سياسة هايدراهوداهوس بمنطق التآمر والخديعة والاستفادة، ويحاول الأمير المزيف التمرّد على قرارات القائدة مُدبِّرةِ مكيدة الأمير الخدعة. تولَّد قلق الأميرة من رغبة “أزينون-ثيوني” في الظهور بهويَّة شاعر في الكهف الأعظم بالهايداهوداهوس، لكن قلقها سيتبدَّد كليّاً حينما يكتشف الأمير المزيف أخاهُ وشبيهَهُ، الذي يمكنُ إدماجه في لعبة-خدعة جديدة تجهزُ على الأمير الشاعر، وتنصّبُ بَدَلَهُ شبيههُ: ««مأزق أن يشبهني أحدٌ مَّا»، ردَّ أزينون.
-أهذه كلمات من أشعارك؟. أنا أخوك، يا آزينون.
«لا ينبغي أن تشبهني، يا ميكلون»، قال آزينون بصوتٍ هامسٍ أضحك ميكلون، الذي رقَّق الكلمات في صوته المتسائل فضولاً:
-ما المأزق في أن أشبهك، يا آزينون؟..
-أن يشبهني أحد، يا أخي ميكلون، يعني أن الأقدار على وشك أن تكمل الأسبابَ لاختفاء أمير»(15).
يتجلى منصبُ الأمير مطلوباً بمنطق السِّياسي المخذول والمنزوع الإرادة، وتظهر رغبة استعادة هوية الشاعر الضائعة مؤطرة بمنطق التظاهر بالزهد في منصب القيادة. وكأنَّ الإنسان المجرور لحلبة الصراع السياسي نموذجٌ رمزيٌّ لكائن مغلوبٍ، لكنهُ يحاول تسويق صورته القوية المتمردة والجاهرة برغبة دفينة في مقامات تقتضي التستُّر على ذلك. من هنا، تكشف رغبة الأمير المزيف إخفاء أخيه لحقيقة تشابههما، في عمقها، عن تضايق من احتمال فقدانه السلطة والسلطنة، وعن تشبث قويٍّ بمنصب القائد والأمير؛ لأن حياةً يكون فيها الكائن متمتعاً بامتيازات السلطة ووجاهة السلطان، لا محالة، أفضلُ من حياةٍ بئيسة لمثقف (شاعر) مسكُونٍ بالموقع الرمزي الذي يكفلُه التعبير واللسانُ. من هنا، يبقى للإمارة سحرها الخاص، فينخرط الأمير المزيف في تدبير مكيدة قتل الشبيه-الأخ. إنه إجراءٌ يقبلُ عليه كلُّ من يهيمن عليه التفكير في همُّ القيادة، فيضحِّي بأقرب المقربين منه. يُعبّر البطش بالأخ الشبيه، وقتله بطريقة وحشية، عن الرغبة الجامحة في الحفاظ على المنصب السياسي، مما يترتب عنها انحدار فظيع في سلّم القيم الإنسانية؛ حيث تُفرغُ الذات، بموجبه، من كلِّ قيمة نبيلة، وتصير ممتلئةً بالشرِّ والتّسلط.
يتولّد من التجاذب حول موقع الإمارة، لأجل التحكم في القيادة، التسلُّح بالحيلة، على اعتبار «أنَّ الحيلة هي الوسيلة التي تستخدمها الذات المغامرة لتضيع ولتحافظ على ذاتها بشكل أفضل أيضاً»(16). لهذا، أن يَقدمَ الأميرُ المزيَّفُ على الفتكِ بأخيهِ-شبيهِهِ، فمعناه أنَّهُ يعلنُ عن موت كليِّ للإحساسِ بقيمة الأخوّة لدَى كلِّ متعلِّقٍ بالمنصب السياسي تعلُّقاً مَرَضياً، ولدى أيِّ كائنٍ راغبٍ في الاستمتاع بامتيازاته. إنّهُ إعلانٌ يَفتحُ باب تقويّة الخصوم، فيبدأُ التخطيطُ لإزاحةِ القائدِ من منصبه. بهذا المعنى، فالواقع السياسي المأساوي القائم على تدبير المكائد، في عالم أسطوري تجريدي أو واقعي تجريبي، يدعِّم سُلطةَ الإلغاء المتبادل؛ حيث تعترف الذات بالآخر القائد مُضطرة، لأن وراء اعترافها رغبات كثيرة في إزاحته من موقع القيادة، إن لم يكن إلغاؤه وإعدامه نهائياً: «لم يكن آزينون-ثيوني على غفلة من تدبير توكسا. صارحته صباح ذلك اليوم: «سأخطف الكهف الأعظم صخرةً صخرة»، قالت له. «سأطحن الحقائق والذرة، معاً، تحت حجارة الأرحية في كهف الطواحين»»(17).
يكشف الخطف رمزية التعايش مع القائد السياسي بمنطق الاستعداد الدائم لإزاحته، فتظهر السلطة سجناً فكرياً لمنْ ينتظر لحظة السيطرة على الموقع النَّوعي والرَّفيع في تدبير السلطة. وكأن ذهنية وحياة الفاعل السياسي تظلُّ مؤطرةً بحقيقة خفيَّة قوامها الاستعداد الدائم للسيطرة على القيادة، وإنْ تطلّب الأمر تفعيل سلطة الردع والقتل؛ لأنه لا معنى لرجل سلطة متخلّق وهو يتابع الآخرين يتمتعون بوجاهة الحكم وامتيازاته، بل معناه كائن في زمنية امتلاكه الإمارة والقيادة بقوَّة القتل الرادع: «كان خنجر توكسا هو الذي تماوج في صفحة الدرع الصقيلة، مزاحماً صورة آزينون. خطفاً شقت حنجرته، وابتعدت وثباً تتفادى البتْرَ المنْشخب.
سقطت الدرع من يدي آزينون، اللتين جاهد أن يسدَّ بهما الشِّق الواسع. دار من حول نفسه في مركز الألم الموزَّع، دائرياً، على كيانه بأقواس متناسقة. تخبط متراخياً. حمحم بلا صوت. سقط على حافة العربة الواطئة، التي تحمل الشكل المستطيل، المنتصب. تشبث بحاشية الغطاء الأسود فانسَلَت الغطاء عن جثة ميكلون الجافة، البيضاء تراكمت عليها طبقةُ الكلس المنثور وقتاً بعد آخر. صهلت توكسا هلعاً من رؤية الجثة (..) آزينون المذبوح قرب عربة ينتصب فوقها هيكلٌ مسخٌ للنصف الأمام الآدمي من مخلوق الهوداهوس مبتوراً من نصفه الجواد»(18).
تشتغل السلطة في هايدراهوداهوس بمنطق التآمر الدائم، فليس مهماً امتلاك الإمارة والوصول للقيادة بل المهم هو الحفاظ عليها. لا شيء يكفل ذلك سوى المكر، لأن معنى الأمير، أو القائد الأعلى، كامن في قدرته على تدبير الخُدَع، وليس في تسيير أمثلَ لـ”أرض” شاسعة بمخلوقات غريبة. قُتل الأمير الحقيقي (ثيوني) بمكيدة دبرتها الزوجة، وجيءَ بالأمير المزيف (الشاعر أزينون) خلفاً للأمير المفقود، ثم قُتلَ الأمير الخدعة على يد ابنة الأمير الحقيقي المفقود (توكسا) التي تسلمت مقاليد حكم أرض الكهوف الكبرى. سلسلة من القتل والترويع، مما يكشف صراعاً حول السلطة، بامتداداتها المختلفة، بمنطق فوضوي يهندس القوة ضمن حدود السياسة. إن هذا الوضع المربك يدفع للتساؤل: ما هي الأبعاد المتولّدة من ترميز السلطة، بإيحاءاتها الدنيوية، ضمن فضاء ميثولوجي تجريدي؟
2 –ما وراء الحكاية: أسطرة السلطة
لم تَبقَ دلالات الخطاب الروائي مُنشدَّةً للتجريد الخرافي في كينونته المغلقة ووجوده الخاص، بل تجاوزته لتطرح التنوع الدلالي والفكري، عبر آليات رمزية ووسائط جمالية، الكاشف الطابع المعقّد للسلطة، وذلك بفتح العوالم العجائبية للرواية على الاشتغال الرمزي لهذه الموضوعة الدنيوية المثيرة. هكذا، عَمِلَ سليم بركات في رواية «حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس»، على غرار الرواية التي تُمثِّل جزءها الأول (كهوف هايدراهوداهوس)، على مطارحة «الترميز البدئي لموضوعة السلطة .. فيغوص عميقا في استكشاف حفريات السلطة، حين يجعل منها وجهاً ميثياً مضاعفاً، بقدر ما هو مجرد في صورته الخرافية، فإنّه حاضر بثقله الجحيمي الشيطاني»(19).
يتجلَّى العالم الميثولوجي الباني لمرجعية الرواية منفتحاً على إشكالية السلطة، فتنبثق من تلك المرجعية جملة من الأبعاد والدلالات التي تبقى مشدودة للسلطة في تجليها المؤسطر نصّياً. بهذا المعنى، فإن قيمة السلطة في المرجعية النّصيّة للرواية تستدعى عوالم الكائن البشري الممكنةِ والمحتملةِ، فتولِّدُ “الواقعَ” من الأسطورة الخرافية، وتَنشُدُ المعنى من عالمٍ مُغرقٍ في التجريد الخرافي. لهذا، فالمعالجة الفنية والفكرية للطابع الميثولوجي للسلطة لا تضعها ضمن نسق مغلق منفصل عن أيِّ دنيوية محتملة، بل، عكس ذلك، يفتحها على تمثُّل كارثي للسلطة، مهما اختلفت العوالم المرتبطة بها؛ حيث «يكشف [تخييل] خرافة ما بعد الحداثة، على مستوى من المستويات، عن عملية التّمثيل السردي لما هو واقعي أو وهمي، وعلاقاتهما المتبادلة»(20).
تأمَّلَ سليم بركات إشكالية السُّلطة خارج النسق الأطروحي المغلق، وبعيداً عن إيديولوجية التبشير بنمط سياسي معين. لهذا، تبدّت السلطة موضوعاً رمزياً “يؤرخ” لزمنية واقعيتها في خرافيتها، ولزمنية خرافيتها بوصفها صورةً مقلوبةً لواقعها. وكأن أسرار السلطة السياسية تتجلى بقوة في مرآة الخرافة؛ حيث يفكِّكُ السَّردُ أعرافَ السلطة، ويعيد تركيبها بما يوافق سلطة النقض والتعديل. بهذا المعنى، فمرجعية الرواية تدمج السلطة في إطار «التحدِّي التدميري»(21)، فيتمُّ ترميزها بما يلائم صياغتها الجديدة، بَعْدَ تدمير معياريتها أو أُلفتها. لهذا، تتجلَّى السلطة السياسية نمطاً لبناء ممارسة خادعة، لتظهر في عمقها الرمزي فعلاً مؤطراً بالمآسي. إنّ ذلك يدمج الذات الفاعلة في منظومة الأزمة المستمرة مع المحيط والآخرين، فتصير ذاتاً موغلة في المكر ومنفصلة عن خطاب الحقيقة؛ لأنَّ الفاعل السِّياسي لا يريد أن يعيش حياة ملؤها القلق والمعاناة، بل يطمح لكسب امتيازات السلطة، فـ«إنْ يكنْ أحد ما على حق، دائماً، يكُنْ مقيماً في المأزق»(22).
يَرغبُ الفاعل السياسي في تجاوز المآزق، ولا يريد معايشة الأحزان؛ لأنه قلَّما يكون على حقّ. وكأن جوهر السياسة هو اقتراف الباطل، بلغة أخلاقية، وبحث دائم عن حياة مثالية لبنية مجتمعية لا تخلو من طوباوية، بلغة أخرى. لكن، في الوضعين معاً، يبقى الفعلُ السياسيُّ بعيداً عن أي حقيقةٍ وحقٍ كائنٍ، وقريباً من حقائقَ مأساويةٍ محتملة وممكنة. إن هذا يصيِّره فعلاً مخترقاً بميتافيزيقا المأساة، التي تفترض انحداراً قيمياً وأخلاقيا للفاعل السياسي، بفعل انتهاك فعله الدائم بسلطة شيطانية تُدنِّسهُ، وتجعلُه فعلاً شيطانياً مفتوحاً على البشاعة الأبدية والإغواء باقتراف المحظور، ما دام «مقرُّ الشيطان الرسمي هو الحقل السياسي»(23). إنَّ منْ يمارس السياسة يعايش الشيطان دائماً، والشيطان يعايش من يمارس السياسة بشكل مستمر. لهذا، يتجلى الفاعل السياسي شيطاناً يهندس السلطة بمنطق الخديعة، وسلطة الإغواء المفضي لإنتاج البشاعة؛ خاصة إذا كان سياسياً قادته “صدفة فيزيقية” للاندماج في المعترك السياسي: ـ«قرع آزينون-ثيوني أرضَ المخدع بحوافره. حَمحَم بغيظٍ مَكتُومٍ:
-ما الذي جاء بي إلى الكهف الأعظم؟
«وجهُكَ – المصادفةُ»، ردَّت أنيكساميدا»(24).
يمحُو قانون الصدفة أيَّ تميز للقائد السياسي، لأن وجودَهُ لم يتولَّد من الوعي النظري والعملي بالممارسة السياسية الذي يجعله كائناً نخبوياًّ نوعيّاً، وإنما انبثق من التماثل التشابهي مع الأمير الأصل. إنّه ترميز دال على مأساة كل فاعل سياسي تقوده الصدفة لممارسة السياسة، فيبدو فاعلاً فاسداً حقيقته في البحث عن الامتيازات المختلفة. لهذا، قد تتبدَّى ذاتية السياسي ناقصةً في تحققُّها التجريبي لدى الآخرين، لكنها تظهر مُكتملةً حينما تتجلَّى العناصر المغيبة والمخفية في كينونة الفاعل السياسي المؤطر بوجود ميثولوجي: «حَمحَم سايلو مُحدِّقاً إلى رسم الأمير. رفعَ صوتَه عالياً ليُسْمَعَ:
-قد لا يشبهك هذا الرسم، أيُّها الهوداهوس الأمير، في بعض تفصيله، لكنَّك تشبهه في تفاصيله كلها»(25).
يتضمَّنُ هذا الوجود المزدوج، بين النسخة والأصل، للقائد السياسي تحقُّقاً لذات مثيرة وغريبة بمواصفات ميثولوجية خاصة، تؤكد الوجه الخرافي للسياسية. لهذا، فإنَّ التَّجلِّي الغامض للفاعل السياسي يبرز الطابع المزدوج لكينونة الكائن الحيّ؛ يدلُّ أحدهما على الطابع السُّفلي للصِّفة السِّياسية، لأنَّ الذات، في وجودها الميثولوجي، تبدو متأرجحة بين صورة التحقُّق ووضع التمثُّل. وثانيهما، يعبِّر عن انتفاء الوعي بالنقص والانفصال لدى الفاعل السياسي، لذا يختزل وجوده في اكتمال الذات الذي يقوض أيَّ احتمال لإسقاط قناع السلطة، مما يسعف في ظهور “الوجه” الحقيقي البشع والمرعب لهذا الفاعل.
تَشتغلُ السُّلطة ضمن إطار أسطوري، مما يُصيرها موضوعة مؤسطرة، فتتكشف مأساويتها القاهرة والمليئة بالخرق والخطأ. بهذا المعنى، فتاريخ السلطة هو تاريخ التجاذبات والصراعات على القيادة والحكم، بيد أنَّ أسطرة الفعل السلطوي يساعد على تقوية حمولته الدلالية وأبعاده الفكرية. لهذا، فوراء الفضاء والشكل الخرافي للشخصيات الروائية تتجلى السلطة في زمنيتها المعاصرة، وتتبدى معبّرة عن زمن إنساني تتفكك، بموجبه، الرموز النصية، وتصير دالة على السيرورة الوجودية للكائن البشري في تحقّقه السياسي النظري والعملي النوعي؛ حيث «إنَّ الرموز الغرائبية هي وحدها القادرة على الاحتفاظ بهالة قدسية»(26). تُمثلُّ القداسةُ انتهاكاً للإقرار بأحادية الدلالة، مما يجعل أسطرة السلطة، كما تبرزها العلامات المتنوعة البانية لمرجعية الرواية، منطويةً على “معرفة” عميقة بعوالم الكائنات الحية المختلفة في الوجود من جهة، وبطبيعة الفعل السلطوي وفرقائه والفاعلين فيه ونظام علاقاتهم من جهة ثانية.
لا تكشف أسطرة السلطة عن خلل في التدبير، بل تبرز نقصاً في وعي بالذات ضمن سياقها الوظيفي الخاص. لذا، تبدَّت سلطةُ القيادة مُغرقة في المكر والخداع، فصار الجميع يتكئ على التآمر لكسب المنصب القيادي. بهذا المعنى، فلا مجال “للعبٍ” لا يليق بمنطق السياسة المخادع، مما يدفع الذات لتدبير وجودها، ضمن كَوْن ميثولوجي عجيب، بما يلائم موقعها الوظيفي والمهني، وإنْ تعلق الأمر بتدبير الخطأ في سياق كاشف لخرق المألوف: «حدَّق إليها آزينون-ثيوني في صمت يشوبه انكسارٌ خفيٌّ. تمتم: «أما من أحد يردُّ إليَّ خطأً جَسوراً كما ينبغي للخطأ أن يكون؟». صهلَ عنيفاً:
-أريد خطأً أكبر مني.
نهضت أنيكساميدا من مجلسها. أمسكت عضُدَه: «تعال»، قالت بصوتٍ خفيض. حمحمتْ تنظر إلى الجلساء:
-اعذروني. استمتعوا بشرابكم. سآخذ الأميرَ إلى خطأٍ يليق بأمير»(27).
يجوز للأمير الخطأ، لكن الخطأَ المناسبَ لموقع الإمارة والقيادة. من منظور عقلاني، الخطأ خطأ سواء ارتكبه أمير غني أم غفير فقير، غيرَ أنّ السياسة تضع لكل إنسان خطأً على مقاسه. بهذا المعنى، لا يجوز للقائد السياسي ما هو مسموح به لغيره. قد يبدو في هذا الأمر حيفاً ضد الكائن السياسي، الذي يحتل موقع القيادة، بيْدَ أن الأمرَ دالٌ على عبثٍ فكري كاشف فساد المنظومة السياسية، وأفول عقلانية تدبير عالمها. لهذا، فقضية أسطرة السلطة في الرواية توضّح عمق السياسة، باعتبارها موضوعة مفتوحة على الكذب والنفاق، وصناعة القائد بما يوافق واقعه ووضعه. هكذا، تصير القيم الكونية مخترقة ومنتهكة بما يؤكد تسلط الفاعل السياسي، ويبرز انخراطه في دينامية امتلاك القيادة ضمن إطار السلطة المختلَّة؛ لأنها مبنية بمنطق “المراوغة”، فيغدو كل قائد، في علاقة بحاشيته وأتباعه، محكوما بهذا المنطق، على اعتبار أن «المراوغة السياسية، وهي فن مريب، أو أسلوب فني يكفل عدم اتخاذ موقف واضح ويكفل البقاء والازدهار في الوقت نفسه»(28).
تتوافق منظومة السياسة والفاعل فيها، في صورتها الرمزية، بين العوالم الأسطورية المغرقة في التجريد، والعوالم الأرضية القريبة من التحديد. لذا، تتجلى السياسة عالماً غارقاً في الخطأ، وليس ثمة حلولٌ لتجاوزه سوى منطق “المراوغة”، بوصفه منطقاً مختلاً يفضي لمضاعفة هذا المنطق بنسق مراوغ وخادع، فيصير كلُّ شيء مفتوحاً على العدم والانتهاء: «عادلاً كان الصوت، الذي دحرجَ الخبرَ العادل إلى الكهوف كلها: «لا نجاة لمارقٍ، أو عابثٍ، في هايدراهوداهوس»»(29).
3 –المتخيّل العجائبي: قانون الازدواج
يتجلى قانون الازدواج بارزاً في المرجعية البانية لرواية «حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس»، كما تكشفه الذوات المشكلة للفضاء العجائبي، وما تُولِّده أفعالها وعلاقاتها ومشاعرها وأفكارها.. إلخ. هكذا، تتبدَّى معالم الازدواج في الكينونة الوجودية النوعية لمخلوقات الهوداهوس، لأنها «مخلوقٌ كاملٌ ذو نصفٍ مفقودٍ»(30). يظهر فقدان الازدواج واضحاً في تركيبة المخلوقات النصف التي رأسها إنسان (جذعها غائب) وجذعها حصان (رأسها غائب)؛ حيث الفقدان هو الكمال، والكمال هو الفقدان. يتكامل في الكينونة الوجودية للمخلوق النّصف الإنسان والحيوان، ليتمرد، هذا الكائن الغريب التركيب، على «شقاء الشكل»؛ لأن في تحقُّقه الوجودي لا ينشغل بالازدواج كوضع معيق للفعل والتّصرف، بل يتخذه إمكاناً وجودياً لإغناء كينونته بعقلانية الإنسان وسلوك الحيوان، دون السقوط في التنافر بينهما داخل الذات الغريبة الشكل والتكوين. من هنا، لا يُعبّر شقاء الشكل عن أزمة وجود وفعل لشخصيات المتخيل العجائبي، لأن «الأشكالَ وقحةٌ، أحياناً، في منطقها»(31)، بل يدلُّ على كينونة وجودية لذوات تحتفي بالنقصان، ولا ترى مانعاً من الاكتمال الفعّال للكائن الناقص في وجوده وفعله. هكذا، قد يبدو، الكائن النّصي المشروخ بازدواج التكوين، كائناً نوعياً يُدرك وجوداً مفتوحاً على عوالم مختلفة البنية والدلالة، كما قد يبدو هذا الكائن «أنه متحرّرٌ من نصفه»(32).
يكشف التحرر من النصف ثقل الاكتمال، فتتصرف الذات بمنطق ازدواج قوامه امتلاء وفراغ. لهذا، يدلُّ التكوين المزدوج لشخصيات المتخيل العجائبي، رمزياً، على نقصان دائم في المخلوقات، التي تظلُّ محكومة بالاختلاف النوعي. بهذا المعنى، لا يشكل النقص، في السيرورة الوجودية للمخلوق النّصف عامة، اختلالاً في التركيب، بل يعبّر عن مأساة النقصان الأبدي التي تعانيها الكائنات في تحققها الفعلي، مهما كانت طبيعتها النوعية، فتظل باحثة عن اكتمالها بكل الطرق. لذا، فإضافة النقصان للذات هو كشف لجوهر تشكُّلها، لأنها تصير ذاتاً مؤسسة على الازدواج؛ حيث المحقَّقُ، من الذات، دالٌ على حدّ للوجود، بينما الغائبُ معبّرٌ عن امتدادات لا متناهية للكينونة. من هنا، فالتكوين الغريب للمخلوقات النّصية يشتغل ضمن رمزية انفتاح الذات على التعدّد والتنوّع، وتشكُّلها من التعالق التكاملي بين الحد الملموس والامتداد المجرّد؛ على اعتبار أنّ «كل ما يمكن القول إنه مَوجودٌ إنما هو مكوّن من واحد متعدّد، وإنه يحتوي في ذاته على الحدّ والتناهي ملتحمين أصلياً»(33).
لا تتفاعل شخصيات المتخيل العجائبي (السنتور)، ضمن وجودها الخاص ونظام علاقاتها، بما يُمليه عليها مكونها البشري (الشق العلوي إنسان)، أو امتدادها الحيواني (الشق السفلي حصان)، ولكن بما تفرضه الطبيعة النوعية لهذه الذات المزدوجة التركيب: «حمحم جونامو متلقفاً تورية دندروسا مجابهةً خافتةً من مجابهات اللسان. تمايل عُرْفه الطويل في رأسه الحليق إلاَّ من ذلك العرف منتصباً. اهتز شارباه الطويلان، الممسَّدان بشمع العسل الجبلي: «الطواحينُ منطقٌ، أيها الهوداهوس دندروسا»، قال، فردّ الشيخ الشاحب..»(34). هكذا، تصير كينونة الذات جامعة للفعل والتعبير الإنساني والحيواني معا؛ فيتجلى تركيب الكائن النصي غريباً، فتتفاعل البنية والصوت الحيواني (العرف الطويل، حمحم) بالشكل والتعبير البشري (الشاربان، قال، ردّ).
يُحيل هذا النمط من المخلوقات النصية على رمزية الازدواج الخلاّق، فتصير ذواتاً نصّيةً قادرةً على تدبير فعلها الوجودي بما يلائم تركيبتها العجائبية. لذا، تُكملُ الذاتُ الحقيقةَ بالخداع؛ حينما يعوِّضُ شاعرٌ أميراً مفقوداً (آزينون-ثيوني)، فيصير الشاعر نسخة كاذبة للأمير الحقيقي المفقود. لهذا فالكينونة المشكَّلة من امتدادين، بشري حيواني، تجعل الذوات تتصرف بما يلزم ذلك التركيب؛ فتتبدى أفعالها وأخلاقها متولّدة من روح الإنسان المنفصل عن رتابة الوجود، فيخرق المحظور وينتهك الأعراف، ولكن بما يوافق كينونته القائمة على الازدواج الغريب: «نزل آزينون-ثيوني عن المصطبة في هدوء منكسرَ النظرةِ، منخفضَها؛ منخفضَ القلب بوصةً عن موضعه. مضغ زهرة قثاء مخللة، ثم تجرع كوزاً من النبيذ بتمامه. حمحم كأنه يتوارى في حمحمته، فانتشله من حرج وجوده عارياً..»(35).
يُعبِّر هذا الوصف عن حقيقةِ كائنٍ مشروخٍ بالازدواج؛ لأنه كائن يعاقر الخمر بإسراف، ثم يعربد متجاوزاً حدود فعل الأمير، ليصير أضحوكة الندماء، ويسبِّب حرجاً للأميرة وانكساراً نفسياً للذات، ويزداد الحرج والانكسار حينما ينتصر لحيوانيته ويصبح عارياً. إنها صورة مدهشة للذات، لكنها تحقق انسجاماً مع تركيبتها المزدوجة. وكأن هذه الصورة تجهرُ، رمزياً، بأن الكينونة الوجوديَّة للكائن البشري تظلًّ مفتوحة على الإنساني والحيواني فيه؛ فلا إنسانيته الظاهرة تُلغي بعضَ تصرفاته وأفعاله الحيوانية، في سيرورة وجوده، ولا حيوانيته المضمرة تَسلُبُه قيمَهُ وأفعالَهُ المؤطرة بعقلانية الإنسان. هكذا، انتهت الذات وجودياً، حينما انفصل شقُّها البشري عن شقِّها الحيواني، بما يعنيه ذلك من تدمير للازدواج الخلاّق للمخلوق الغريب التركيب أثناء الصراع القويّ على السلطة والقيادة: «قادتها [ديديس] إلى مرمى الهلع الباذخ مكشوفاً: آزينون المذبوح قرب عربة ينتصب فوقها هيكلٌ مسخٌ للنصف الأمام الآدمي من مخلوق الهوداهوس مبتوراً عن نصفه الجواد. انقبض لسانُها فلم تستطع حمحمةً. تراقصت حوافرها عشواء. اقشعرَّ ذيلُها فتقوَّس من عصعصه»(36). يظهر أن ازدواج ذات “السنتور” يفضي لكينونة نوعية وخاصة تحقِّقُ وجوداً وامتلاءً، بينما التركيب الأحادي للذات، عبر انفصال قهري (القتل) بين المكوِّنُ البشريُّ والحيوانيُّ، ينتهي لعدمٍ وفراغٍ.
4 –البناء السردي: تشييد المعرفة
يفصح المتخيل العجائبي في «حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس» عن الترميز الدال للصراع الدائم حول السلطة والامتلاك، مهما كانت الطبيعة النوعية للكائنات المتصارعة، وأينما كانت فضاءات صراعها. لكن، البناء السردي للمرجعية النصية تبين أنّ الإبداع الروائي يشكلّ وعياً بعوالم مختلفة، وذلك عبر المعرفة المتخيلة المجردة من اليقينية والمباشرة، لتتجلى معرفة سردية رمزية ونسبية متولّدة من مقاطع سردية متنوعة للرواية. بهذا المعنى، تقدّم مرجعية الرواية المعرفة بما يلائم مقومات التخييل الروائي، فتتجلَّى معرفة نصيّة، لا تمنع إمكانية تحققها خارج النص؛ حيث «تتميّز المعرفة التي تحملها الرواية عن بقية المعارف المتداولة، كونها تربط المعرفة بالتخييل والوصف والسرد، وتُعيدُ تشخيصها من خلال مناخات وفضاءات تضفي النسبية والحيوية على المعرفة التي تؤطر مسار السرد الروائي»(37). من هنا، نتساءل: ما طبيعة المعرفة التي تشييدها المرجعية البانية لرواية «حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس»؟
تنبثق المعرفة النّصية، بشكل مهيمن، من الحوارات، فتعبّر الشخصيات الروائية عن الكثير من القضايا التي تتخذ طابعاً معرفياً نوعياً. إنها معرفة سردية لا تنفصل عن الإنسان في عوالمه المختلفة، لكنها تبقى معرفة مقترنة بالقيم الفكرية والأخلاقية والوجودية للإنسان، بالأفعال والقضايا المتصلة بالسلطة والفعل السلطوي. وبحكم الكثافة المعرفية التي تظهر على مسار السرد، أحياناً، فإننا سنقف عند نماذج تبين هذا المكون البنائي في سيرورة السرد؛ نماذج متصلة بقضايا وجودية تخصُّ الإنسان في كينونته البشرية، ونماذج مرتبطة بقضايا سياسية تهمُّ الإنسان الحاكم من موقع تدبير السلطة.
تفصح المقاطع السردية والمحاورات النّصية، بين المخلوقات الغريبة، عن معرفة بعوالم الإنسان المختلفة. يظل الإنسان باحثاً عن معنى لوجوده، فيفكِّر في المآزق الذي تواجهه، ويعمل على تجاوزها. الحياة تجبر الإنسان على معايشة المعاناة، والإنسان بأفعاله، التي لا تخلو من مآسي، يدبر وجوده بمنطق التغلب عليها. لكن، ما سبب مآزق الإنسان؟
يفضي التأمل في مقطع حواري، إلى الإجابة عن السؤال المطروح، هو كالآتي: «-أنتِ على حق، يا صديقتي كانيسا. أنت على حق دائماً. ذلك مأزقُكِ. إنْ يكنْ أحد مَّا على حق، دائماً، يكُنْ مقيماً في المأزق.
«لا مانع أن أكون مقيماً في حديقة المأزق، وسرادبه، وردهته، ومخدعه، إذا قُيِّضَ لعقلي، وللساني، أن يجعلاني على حقٍّ، دائما»، علَّق تورانو على تخمين لوكمو لطباع الممكنات المفترَضة. «سأكون جرحَ كلِّ شيء. سأكون جرحَ الكمالِ ذاتهِ»»(38). المأزق يولّد القلق، والقلق يعدُّ مأزقاً. من هنا، فالوضوح الجارح قد يسبب أزمة للإنسان المعبّر عن أفكاره ومواقفه بوضوح، ولذلك يواجه كل إنسان متفاعل مع غيره على قاعدة الحق والواجب أزمات متعددة. بهذا المعنى، فالكينونة الوجودية للكائن المعبِّر عن حقائق تبقى محاطة بالقلق من جهة، وتظل مرهونة في وجودها لتعبيرها الذي ينعكس عليها سلباً. إن المأزق، في دلالته الجوهرية، هو الانفصال عن الحقيقة، أما الاقتران بها فهو مأزق دالٌ على إثبات وجود، ومحوِ سلطة مهادنة الواقع ومداهنة فراقائه.
يفضي الوضوح لشرخ الذات بحقيقة صادمة، مما يصيّرُ الذات المستهدفة أو المنتجة مأزومة. إن الأزمة تزداد وتتقوّى حينما يكون المطلوب وصفه من الفئات الخاصة في المجتمع (أمير مثلاً): «رفع ميكلون الزقَّ عالياً. سكبَ في فمه شلالاً رقيقاً من مشافهات العنب المعتصرة. حدَّق إلى تورانو:
-كيف يبدو الأمير؟
«يبدو كقُبلة جامحةٍ تنتهي باقتطاع اللسان عضاً»، ردَّ تورانو من فوره. أثار فضولَ الأعين. اجتهد في تبديد فضولها بعد إدراكه أنّه تسرّع قليلاً: «يبدو كقُبلة في رسم»، قال. أعادَ ترتيب اجتهاده في التوصيف: «الأميرُ حيلةُ شكلٍ». صمت برهةً. أدارَ فمَ الزّقِّ على الكوزينِ، اللذين لم يفرغا من النبيذ بعدُ. «يشبهُ الأميرُ ما أعرف، وما لا أعرف».
«وصفٌ خطأٌ هو الصوابُ بعينه، أحياناً»، قالت لوكمو السوداء. «حاذِرْ أن تكون مُصيباً في وصف الأمير، أيها الهوداهوس تورانو»»(39). يحيل هذا المقطع السردي على معرفة نصيّة متنوعة؛ أولاً، إن الكائن المنزوع من سياق التفكير السليم، لأنه في وضعية المخمور، يعبّر بشجاعة عن أمور قد يعيد فيها النظر في كل لحظة وحين، وتعبيره يكون جارحاً قد لا يقوى على إنتاجه لو كان في سياق آخر. وثانياً، ليس كلّ فاعل مهم في السلطة (الأمير هنا) بمنأى عن الخطأ، لذا قد تكون صورته النموذجية مقترنة بالجمال والمتعة، لكن المنفتحين على القبح والبشاعة. وذلك، يجعل صورة الذات الممتلكة لوضع اعتباري تنفتح على تمثيلات مغرقة في التجريد، ومفتوحة على الغرابة والالتباس، ومقترناً بعدم إصابة الحقيقة في تحديد تلك الذات، وضبط امتداداتها وحدودها.
تنفتح مرجعية الرواية على قضايا وجودية، من زاوية نظر الفاعل السياسي. إن ذلك ما يعبّر عنه الحوار الآتي:
«تلفَّت آزينون إلى ليوسيد. طوّق عينَه الصفراء البرتقالية، الوحيدة، بيدَيْ عينيه
-ما الموت أيها الهوداهوس ليوسيد؟
اتسعت عينُ ليوسيد الوحيدة. حمحم عميد الحرس بينو متحيِّراً في سؤال آزينون-ثيوني:
-الموت هو الموت، أيها الهوداهوس الأمير…
حمحم آزينون-ثيوني:
-لا تعرفون ما الموت. ذلك حقُّ العقل عليكم. لكن الشعراء يعرفون ما الموت، لأنهم يخطئون تقديرَ الموت. والموتُ هو ما ينبغي أن نخطئ في تقديره. الموتُ خطأٌ. كل جواب في أمره جوابٌ خطأٌ في أمر خطأٍ»40. هل كل كائن قادر على تحديد الموت؟ الجواب بالنفي هو السليم؛ حيث القول بأن «الموت هو الموت» ينطوي على الجهل بوضع وجودي يستعصي على الوصف خارج المعايشة، وأن معايشته، بكل تأكيد، ستستبعد وصفه. لهذا، فمعرفة الموت تكشف غرابة التفكير وخطأ التعبير، لأن من شروط الوعي به الإمعان في تحديد معانيه وأوصافه، المتأبية على التحديد النهائي، مع ما يحتمله ذلك من خطأ، وليس وصفه بدقة، لأنه رغم كونه حالة وجودية يعيشها الكائن الحي بالتحقق، فهو، قبلها، لا يعبّر عنها إلا بالتقدير والاحتمال.
تنفتح المعرفة النّصية على قضايا الوجود والعدم، والبدء والانتهاء. لهذا، صار التفكير في السلطة مفتوحاً على التآمر والتدليس، وعلى التخطيط والتأسيس. إنها القضايا المعرفية التي يمكن توليدها من المقطع السردي الآتي: «.. فجأته بما ألهبَ حوافره:
أبلغ الأختين سافينوس، وروسينا، أن تبلغا أمي أن ديديس قتلت الأميرَ..
ليلة السّمر المأمولة في الكهف الأعظم نُهشت عضاً بأسنان الخبر الدموي. لكن ترتيباً صارماً ضبط القلقَ بقيده، حين اختلت ديديس، وحدها، بالغطاريف وحدهم، في جناح الإدارة الدائري: «سيتولى كلٌّ منكم، أيها الجِلَّة الهوداهوس، تدبير الشؤون في هايدراهوداهوس، إلى جواري، فصلاً من السنة». حمحمت متأوّهة: «خسر الكهفُ الأعظم أميراً». تصنّعت شهيقاً، فحمحموا متأسِّين. تمالكت صوتَها: «خسر الكهف الأعظم أميراً لكنني سأملأُه بالأمراء». جالت ببصرها عليهم. بادلوها نظراتٍ تلتمع عافيةً من رواء الرضى. وهمُ لم ينصرفوا من الكهف الأعظم، تلك الليلة، إلاَّ بعد ما انظم إليهم العمداء، والأعيان، محيطين بالأميرة أنيكساميدا، التي سألتهم التأييدَ في مبايعة توكسا أميرةً، فبايعوها من فورهم»(41). حياة الكائن السياسي المتموقع في القيادة محاطة بالتآمر، ومنصبه يثير أطماع الكثيرين. لسلطة الحكم لذتها، وللانقلاب على السلطان الحاكم لذة مشابهة. الحاكم يُدبّر أمر شعبه بمساعدين وفاعلين وأطر، وهؤلاء يرهنون حياتهم لكل حاكم امتلك القوة، وإن تمرّد وتآمر على قائده. وكأن إرادة التدبير المؤسساتي لدولة معينة لا تبقى محصورة في الحاكم القائد، بل تكون في أيدي كل الناس، انطلاقا من موقعهم في ذلك التدبير. لذلك، فالتحكم، بعنف معنوي ورمزي، في مؤسسات الدولة من لدن الحاكم، لأجل ضمان استمراريته، قد يكون دافعاً للرد عليه بعنف فعلي وعملي (التصفية)، ومسايرة مخطط قبلي لتسيير أجهزة الدولة ومؤسساتها برؤية وأسلوب مختلفين.
5 – تركيب:
يظهر أن رواية «حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس» تطرح قضايا وإشكالات متصلة بالوجود السياسي الإنساني، بوسائط جمالية يقتضيها الجنس الروائي، لكن عبر علامات نصيّة معبّرة ومنفتحة الدلالة. بهذا المعنى، اشتغل سليم بركات، باقتدار رفيع، على عالم السياسة انطلاقا من مكونات أسطورية مثيرة وغريبة؛ فتبدَّت معها السياسة عالماً مؤسطراً، لكنه عالم قريب من الإنسان في كينونته ووجوده. لهذا، أسعف تأويل مكونات المرجعية العجائبية البانية للرواية في إعادة إنتاج رموزها الدالة وعلاماتها المعبِّرة، ليصير التأويل آلية معرفية ومنهجية لقراءة المعلن والخفي في المرجعية البانية للرواية، مما يساهم في تبلور الدوال النّصية ضمن سياق تعبير أساسه مفهوم «التأسيس»، بتعبير غادامير، الذي يعني «أصلَ وجود شيء ما منظوراً إليه كعلامة أو شيء يؤدي وظيفة رمزية»(42). من هنا، فالتأويل يقترح دلالات على العمل الأدبي، ويعتبرها قابلة للتعديل والتجديد، ولا ينظر إليها بوصفها مدلولات جوهرانية ثابتة ونهائية.
الهوامش
1 -سليم بركات، حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس، رواية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2010.
2 – سليم بركات، كهوف هايدراهوداهوس، رواية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 2006 .
3 – سليم بركات، حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس، ص: 107
4- ميخائيل باختين، أعمال فرنسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة، ترجمة: شكير نصر الدين، دار الجمل، بيروت-بغداد، ط1، 2015، ص: 444.
5 – سليم بركات، حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس، ص: 10-11.
6- ماكس هوركهايمر- ثيودور ف. أدورنو، جدل التنوير، ترجمة: د.جورج كتورة، دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2006، ص: 202.
7 – سليم بركات، حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس، ص: 22.
8 – نفسه، ص: 42.
9 – نفسه، ص: 42.
10 -هانز جورج غادامير، الحقيقة والمنهج، ص: 216.
11 – سليم بركات، حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس، ص: 93.
12 – نفسه، ص: 97.
13 – نفسه، ص: 99.
14 – نفسه، ص: 163.
15 – نفسه، ص: 177.
16- ماكس هوركهايمر- ثيودور ف. أدورنو، جدل التنوير، ص: 72.
17 – سليم بركات، حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس، ص: 256.
18 – نفسه، ص: 342 – 343.
19 -محمد بوعزة، سرديات ثقافية: من سياسات الهوية إلى سياسات الاختلاف، دار الأمان-منشورات الاختلاف-منشورات ضفاف، الرباط-الجزائر-بيروت، ط1، 2014، ص: 87.
20 -ليندا هيتشون، سياسة ما بعد الحداثة، ترجمة: د.حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2009، ص: 118.
21 – نفسه، ص: 86.
22 – سليم بركات، حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس، ص: 40.
23 -ريجيس دوبريه، نقد العقل السياسي، ترجمة: د.عفيف دمشقيه، دار الآداب، بيروت، ط1، 1986، ص: 88.
24 – سليم بركات، حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس، ص: 94.
25 – نفسه، ص: 103.
26- أمبرتو إيكو، التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، ترجمة: سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- بيروت، ط1، 2000، ص: 31.
27- سليم بركات، حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس، ص: 144.
28- إدوارد سعيد، المثقف والسلطة، ترجمة: د.محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، مصر، ط1، 2006، ص: 99.
29- سليم بركات، حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس، ص: 326.
30 – نفسه، ص: 29.
31 – نفسه، ص: 104.
32 – نفسه، ص: 109.
33 -جاك دريدا، صيدلية أفلاطون، ترجمة: كاظم جهاد، دار الجنوب للنشر، تونس، ط1، 1998، ص: 124.
34- سليم بركات، حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس، ص: 13.
35 – نفسه، ص: 205.
36 – نفسه، ص: 109.
37- د. محمد برادة، الرواية العربية ورهان التجديد، كتاب دبي الثقافية، الإمارات العربية المتحدة، الإصدار 49، ط1، مايو 2011، ص: 68.
38- سليم بركات، حوافر مهشمة في هايدراهوداهوس، ص: 40.
39- نفسه، ص: 42 – 43.
40- نفسه، ص: 121 – 122.
41- نفسه، ص: 346 – 347.
42 -هانز جورج غادامير، الحقيقة والمنهج، ص: 237.
عبد الرحمن التمارة