هاني القط *
هدم شباك غرفة داره المطلة على الشارع؛ وعلّق كرتونة بيضاء كبيرة، كُتب عليها:
(محل المتوكل على الله عبد السميع فخر)
ثم جلس؛ يتأمّل حروف اليافطة، متذكرًا مشقّة العمل الذي لم يعد يتحمّله، ترك باب المحل الخالي مفتوحًا على وسعه، ودخل إلى داره الفقيرة، تمدّد على الفراش جوار زوجته يشكو لها حزنه، وتشكو إليه يُتمها حتى غيّبها النوم عنه، فاستدار بظهره، يفكّر في النشاط الذي سيقوم به في محلّه وهو المفلس؛ فلم يجد!
لم يعبأ بالدنيا ولم يَعُدَّ حسابًا للأيام، وعلى طول عمره ما اشترط أجرًا لعمله في حقول الناس، فكم جمع قطنًا هو وزوجته في أيام القيظ؛ لقاء فطيرتين وبرتقالة، وكم سقى أرضًا عطشى، مواصلاً الليل بالنهار؛ جزاء عشرة أرغفة قمح وخمس بيضات وقطعة جبنة، ولأنه الحامد دائمًا بالموجود؛ سمّوه “عبد السميع على الله”.
ولم يعد أحدٌ يطلبه للعمل حين رأوا رجفة يده التي تُسقط ما تجمّع من ثمر، ليالٍ طوال قضاها ساهرًا يفرد كفّيه إلى الله ويدعوا أن يُعيد ليده النحيلة عنفوانها كي يستطيع الإمساك بالفأس، فتفجعه زوجته بأنه الآن ابن سبعين!
يتقلب عبد السميع فوق فراشه الخشن؛ وهو يهمس سائلاً الصمت:
-ماذا ستبيع في محلك الخالي غدًا يا عبد السميع وأنت المفلس؟
ولأنه كالطير، ولا عشم له سوى في الله؛ يقول باطمئنان:
-نَم، وسيدبّرها المولى.
مع بشارات الصباح، استيقظ ليجد في وسط دكانه المفتوح على مصراعيه؛ جوالًا من الملح وضعه أحد أولاد الحلال في ستر الليل. وفي الصباح التالي وجد بجوار الجوال ميزانًا قديمًا، فأحسّ بالدنيا تفتح ذراعيها لعبدها الفقير ؛ فطوى أثقال ليله في جبّ قلبٍ متعب والتفت يبيع لزبائنه الملح في القراطيس الورقية بفرح. ولحبّه لونس الناس؛ راح يقطع الشارع باحثًا في السوق القريب عمن يعرفهم من البائعين ليعزمهم على كوب شاي ثقيل، فيُقبل معارفه إلى الدكان يتضاحكون، وأثناء صخب حديثهم الطويل يكون قد غَلَى لهم في برّاده الصدئ تفل الشاي مرّات مع المتاح من السكر، لتفاجئه زوجته بعد انصرافهم أن جوال الملح قد نفد كما قليل المال الذي باع به:
-ماذا سنفعل يا عبد السميع؟
وعندما لم يَرُدّ تركته لصمته وغادرت إلى داخل الدار.
غير عابئ بالدنيا؛ جلس عبد السميع بمنتصف دكانه الخاوي؛ متربّعًا فوق قفص من الجريد، واضعًا قدمًا على قدم، رأسه الصغير المتأمل على راحة كفه، والأخرى تفتل بالأصابع الممصوصة طرف شاربه الأبيض. عيناه الواسعتان الدؤوبتان تبحران في تهويمات طلاء الحائط الجيري أمامه، فترتسم ملامح وجه رجل حزين يحمل فوق ظهره المتعب بجقة ثياب، ودون أن يدري يصيح عليه عبد السميع كي ينتظر. وبهمس يسأله: عن اسمه ومن أين جاء؟، وعندما يبوح ذلك العابر بيُتمه؛ يفتل عبد السميع طرف شاربه الأبيض مجددًا، ويهمس للعابر كي يقصّ عليه حكايته فيروي له حكاية مشحونة بالعشق والخطر والمغامرة!
الليل هبط باكرًا، ولا زاد في الليلة الحزينة غير فيض حكاية العابر النائم بين قشر الجير على الجدار. المحلّ خالٍ، وعبد السميع متعب من جلوسه الطويل فوق قفص الجريد، وكلما فتّش عن قروش مخبّأة في سيّالة جلبابه؛ لا يجد. تنقلب عيناه مستسلمة لحزنها المرير. ولا تمرّ دقائق حتى يحسّ بيد تمتدّ مترفّقة بالحنو:
-ما بك يا عبد السميع؟!
وهو العزيز النفس، لم يهن عليه أن يفضح عوزه لصاحبه:
-نحمد الله على كل شيء، اجلس واشرب شايًا.
ولما لم يجد شايًا؛ أخذ يتلو قصة العابر التي كشفها الجدار، وهو مغمض العينين لا يدري أن الصاحب صار اثنين ثم ثلاثة ثم أربعة، حيث لم يفتح عيناه إلا على سؤال خشنٍ من خامسهم المتربّع بجلبابه على الأرض:
-هل رأيت ذلك العابر يا عبد السميع أم هو الخيال؟
حالفًا بالله أقسمَ أن ما يحكيه رآه بأمّ عينيه، وعلى الرغم من أنهم ما صدّقوا قَسَمَه، فقد ردّد جلساؤه كلّ ما حكاه لمن صادفوهم بشارع السوق مع طلوع النهار. بجوار بعضهم البعض يفترش الباعة الأرض بطول الشارع، تتناقل ألسنتهم الحكاية، ويسألهم الباعة القادمون من القرى المحيطة عن راوي الحكاية المدهشة فيخبرونهم مبتسمين:
-عبد السميع على الله.
ومع بشارة الليل التالي، قدم الخمسة رجال متأبطين مثلهم، غير الغرباء المفترشين لأرضية المحل الخالي، ينتظرون بلهفة، حكاية جديدة أمتع من سالفتها بالأمس. ولأن رزق عبد السميع على الله؛ فما أخزاه الجدار، ليحكي عن طحّانٍ مسنٍ يجلس على جسر نهر وقد أضناه يأسه بعد أن شحّت الغلال وتوقّف حجره اليدوي عن الدوران. لم يجد الطحّان إلا جمع الحصى بكفٍّ ليرمي -زافرًا في قلب الماء الجاري- ما جمعه بكفّه الأخرى. مبهوتًا ينظر الطحان وقد انشقّ الضباب عن رجل بهي يرتدي عباءة خضراء، يقترب مبتسمًا ليسأل الطحّان عن سبب حزنه. وقبل أن يشكو الحال؛ يرمي ما بكف الطحان من حصى ليهبه حفنة من تراب، ويسأله إن كان يريد من الذهب زيادة. وبعد صمت الطحّان المستغرب ما يسمع؛ يلف الرجل البهي عباءته الخضراء على جسده الفارع ويتركه. في يد الطحان ذهبًا. هذا ما يراه بعد أن مسح عينيه مرات. وقبل أن يختفى الرجل البهي عن نظره، ينهض الطحّان مأخوذًا عساه يمسك بالرجل، وكلما أسرع أحس بالخطوات العشر التي تفصل بينهما لا تنقص. ورغم عزمه في اللحاق بالرجل قرب الجسر البعيد، إلا أن الرجل لمّ عباءته، وخطا سائرًا على الماء في يسر، وعند منتصف النهر العميق، استدار مبتسمًا ليخبر الطحان بالسرّ الخفي. وكما كل مرة يُبَاغت عبد السميع بالسؤال الخشن، الذي يفتح له عينيه المغمضتين ليقسم بالحلفان ذاته. وتنتهي الحكاية بكشف غموض الأبطال، فيتهلّل الجالسون فرحًا بأولياء الله أصحاب المقام الذين انتصروا للفقير من الغني وللمظلوم من الظالم. يترك هذا بيضتين، وهذا ملء كفين من حبات الطماطم، وهذا قرطاس سكر، وهذا ورقة شاي، أما أغناهم فيترك ما قُسم لعبد السميع من مال مستحق عن حكاية عجيبة، يرددها كل الجالسين في الصباح التالي على كل من يقابلونهم في شارع السوق.
يعرفه الآن أهل كلّ القرى ويتندّرون على رأسه الصغير وشاربه المفتول بكلمات مسجوعة من وراء ظهره، لكنهم يقطعون المسافات الشاقة من قُرَاهم، ليأنسوا بحكايات عن بشر يراهم عبد السميع على الجدار من لحمٍ ودم، ولتجنُّب صوت السائل الخشن، صار يبدأ الحكاية بقسم غليظ بأن ما يحكيه قد رآه بعينيه، ورغم أن المفترشين لأرضية محله متأكدون من كذبه، فإنهم يصدّقون على قوله متلهفين ليبدأ:
-نصدقك والله يا عبد السميع، فلتبدأ.
عام مَرّ، وها هو التالي يكاد ينقضي، وعبد السميع يجلس مُتربّعًا على قفص الجريد المقوس، يمسح بأصابعه النحيلة عينيه غير مصدِّقٍ أن الجدار يضنّ عليه بالحكاية. يحدّق في تبتُّل وصبر علَّ عينيه تصطادان أي عابر؛ فلا ترى غير جدار باهت ممسوح الألوان والمعالم إثر تساقط الطلاء الذي غشته الرطوبة، وما أن يدخل عليه أحد الأصحاب ليعرف اسم بطل الحكاية الجديد؛ لا يجد من عبد السميع غير الصمت المكبوت بالصراخ. منكفئًا يدخل عبد السميع إلى الدار يملأه الحزن، ودون أن يدري تنفلت من عينيه لؤلؤات دافئة إثر سؤال زوجته عما به!
مع بشارات الليل؛ يطرق القادمون بكفوفهم على باب الدار. عندما يجدون المحل مغلقًا، تفجعهم زوجة عبد السميع بخبر مرضه، فيدعون له بالشفاء ويغادرون وقد ارتسم على وجوههم السخط. فوق الفَرْشة الخشنة يحكي عبد السميع عن وجعه من حائط ميت، فتخبره زوجته بلطف:
-في الصباح رباح يا عبد السميع.
ورغم أنه الصابر طوال حياته لا ينتظر طلوع الصبح، يخرج مهرولاً ببُلْغته، وتجلس الزوجة منتظرة تفكر. يمشي عبد السميع منهكًا بالألم، وعلى جسر النهر يجلس تلفّه الظلمة، يلمّ بالكف الحصى، ويرمي بالأخرى ما جمعه في قلب الماء الجاري. يحدّق كل حين بلهفة، على أمل رؤيته لصاحب العباءة يشقّ النور مقبلاً ليهبه بعضًا من الحكايات في كفه، لكن صبر المنتظر نفد وصاحب العباءة لم يجيء!
بخطى مترددة يرجع مخذول القلب، بسرعة يدخل الدار خوفًا من أن يراه أحد من مريديه؛ فينكشف كذب ادعاء مرضه. مستغربًا يجد امرأته وقد انحنت بجذعها تضع في طست العجين الكبير نصف شيكارة جير لتعجنه بالماء والملح وقليل من زهرة الغسيل، وبفرشة من شجرة نخيل لها يدٌ من البوص الطويل؛ خرجت تدهن الجدران الأربعة للمحل، مع حرصها الكبير على ترك فراغات تسمح لخيال عبد السميع بالعبور لالتقاط أبطالٍ لحكاياته.
وبعد ساعتين من تندّر الناس على امرأة خرفة تطلي محلاً لا يُباع فيه شيء؛ كانت الجدران قد جفت.
مرتجفًا خرج ليتملّى الحوائط الخائنة، أسقط جسمه الخائر متربعًا فوق قفص الجريد، بكفّه مسح عينيه باحثًا في نغبشات الجدار عن بلدة وليدة وعابر جديد؛ يسأله عن اسمه ومن أين جاء؟ وبالفعل يرى عابرًا قادمًا من بعيد، العابر يقترب، وعبد السميع يمسح عينه مندهشًا، وهو يرى نفسه، يضع بجقة ثيابه على الأرض، ويحكي حكايته الأخيرة.