سميحة خريس
روائية أردنية
مثل فَرسَي رهان شرستين تتسابقان في دمي، تشكلت الأمومة والكتابة معًا، الطفلة التي ترنو إلى السماء ويطربها حفيف الشجر، ويثير أشجانها شذا الأزهار، وتلك التي يعجبها ما يخط القلم على الورق أو حتى على حائط البيت، هي التي ترقد إلى جوار دمية لطيفة المظهر تشبه طفلًا صغيرًا، وهي نفسها التي تجرب غرز الإبرة والخيط في القماش علها تصنع لدميتها ثوبًا زاهيًا.
الأمومة، الدور الذي نتهيأ له بالفطرة والشوق، حتى ليخيل إلينا أننا لا نكتمل إلا به، نظنه في حينها بعض أفراح الالتقاء بالأرواح التي تشبهنا وتواصل مسرّتنا، تنطوي ظنوننا على أوهام أحيانًا، لكننا نسلم ونتعلم عبر الرحلة الطويلة أنه دور طبيعي لاستمرار البشرية، ليس خاصًا بنا وبأرواحنا، رغم أننا ككل نساء البشر نتغير ونصير مخلوقات مختلفة حين تصاحبنا الأمومة، هذا الغول العظيم الذي يبتلع نساء الأرض راضيات مقبلات، كيف له أن يتماشى مع غول خفي يقضم الروح، إنها الكتابة بكل جنونها وقدسيتها وقدرتها على الاستحواذ، كلا الجانبين تناهبا روحي فكنت ما أنا عليه.
في مرحلة من العمر، حين تستوي الكتابة سيدة على النفس، قد نفكر بأنفسنا خارج الإطار النمطي لكل أدوار الأنوثة، نحلم بصنع معجزة في تشكيل الذات على نحو غير مسبوق وغير متوقع، نضيق ذرعًا بكل ما يبعدنا عن مهمتنا الإبداعية، لكن الأمومة تتسلل بنعومة، تفرض وجودها، كذلك يفعل الحب ويمهد الدرب لالتقاء الذكر والأنثى، عبر نظام اجتماعي مكرس يسمى الزواج، حتى المرأة الكاتبة لا يمكنها تصور الزواج دون غيمة الأمومة تظلل المسيرة الصعبة والأرض الوعرة، كل هذه السطوة للأمومة هل يمكن أن تمر مرور العابرين على سطور الكاتبة؟ أشك بذلك وإن لم أفحص نصوصي لأستل منها آثار خطوات الأمومة فوقها، لا بد أنها هناك تتجلى في امرأة نرسمها شخصية داخل النص الإبداعي، ولكننا على المستوى الشخصي والخاص سنعيش صراعًا بين متطلبات الكتابة اللحوحة ومتطلبات الأمومة التي تتصدر حياة المرأة قضية مركزية مهمة، لن تمنحنا الأمومة هدنة نعتكف خلالها وننصرف إلى الكتابة كأنها فعل مقدس، وكما تعبر الأمهات عن إلحاح الكائن الصغير المشاغب المحبوب حين يبدأ وصلة البكاء بمجرد جلوس أمه إلى تناول طعامها، يحدث أن الحيل لا تنتهي حين تجلس الكاتبة إلى كتاباتها، ستزداد الطلبات إلحاحًا، وسيتم شد الوقت في كل اتجاه لمصادرته واحتكاره، فالأمومة أنانية، كذلك هي الكتابة، هكذا تكون المهمة عسيرة ومعقدة. لن تغضب المرأة من صغارها وهم يقفون عقبات في طريقها إلى الاكتمال الإبداعي، لكنها قد تحول ذلك الغضب إلى الأب أو المجتمع أو العمل، نعم الحرمان من الإبداع ولو كان مؤقتًا يشعل نارالغضب في نفس الكاتبة، كما يصنع تحولًا كبيرًا في شخصية المرأة التي تتعلم مزيدًا من الاحتيال على الوقت وعلى العائلة، المحظوظة من تتمكن من ترتيب أولوياتها وتوزيع وقتها وتلك التي تنجو من الاكتئاب الناجم عن الحرمان من أمر ما تحبه، فما بالك ونحن معشر الكاتبات واقعات في حب أمرين، أمومتنا والكتابة.
تبدو الصورة نمطية ومبتذلة حين يقول الكتّاب إن كتبهم هي أبناؤهم الحقيقيون، ولكنها حالة متوحشة تسيطر على الكاتب إبان الكتابة، يتحول إلى مخلوق شرس على استعداد للدفاع عن أبنائه الكتب بأظافره وبجبل من التضحيات، ثم سرعان ما يعتدل هذا المزاج مع تقدم العمر، يمكننا في مرحلة ما أن نقول إنها مجرد كلمات وصيحات قد تضيع في برية الحياة الشاسعة، بينما لا يمكننا أن نقول ذلك عن أولادنا الذين من لحم ودم، في طفولة بناتي كانت الغيرة تحبطهن وهن يرقبن انشغالي بالكلمات، وفرط معايشتي لشخوص رواياتي، كانت ابنتي تمر بي عابرة وتسأل بجدية تامة: كيف حال مزنة وعقاب؟ هذان بطلا روايتي التي كنت أعكف على كتابتها حينها. إنهما أَخَوان غير منظورَين يصادران وقت العائلة الحقيقية التي تفتقد الأم.
تعبر الكاتبة تلك المتاهة ببراعة، بعضنا يخفقن ويخسرن جانبًا على حساب الآخر، يحدث ذلك في فئة الفنانات أكثر لأن عوامل جانبية تلعب دورًا عنيفًا، عوامل تتمثل باستحقاقات الشهرة والجمال والحفاظ على الرشاقة واللياقة، بينما تخف حدة هذه العوامل لدى الكاتبات. لا يرفضن الأمومة بكامل تفاصيلها، هن فقط يقايضن على الوقت، ويطالبن بمساحتهن الخاصة، بينما تقع بعض الفنانات في فخ رفض الأمومة كونها حدث عظيم سيؤثر على شبابهن وظهورهن وسيصادر جل وقتهن.
المبدعة الكاتبة أقدر على موازنة الحالة والسير في حقل الألغام هذا، وهي أقدر على فلسفة أمومتها وولعها بالكتابة بحيث تستثمر ما تركه الفن والأسطورة والأدب والأيديولوجيا من أفكار حول قدسية الأمومة حينًا وحول تحولها إلى تحد وجودي حينًا، يمكن للكاتبة إذا غضبت أن تدلق غضبها على الورق وتشفى ثم تتصالح مع المخلوق الذي هو منها لكنه صار خارجها وما زال يتطلب اهتمامها. إنه سير على حبل مشدود، تتقنه الأمهات، وقد تفشل بعضهن لكن الفشل فيه ليس منوطًا بفئة المبدعات فقط، إنها مقامرة كونية، وتطور اجتماعي جمعي يحدث في العالم كله، لكن المبدعات يتعاملن معه بحساسية مفرطة كونهن يحللن ويفكرن ويحاولن إعادة رسم الخطوط التي يسرن فوقها.
أعرف بعد الوصول إلى العمر الذي أتأمل فيه تجربتي وأحاسب فيه نصوصي وأعمالي، أن الأمهات تركن آثارهن على كلماتي أيضًا وعليّ شخصيًا، في مجمل أعمالي ومهما كان موقع المرأة الأم فإني أبحث عن نماذج لنساء قويات الشكيمة قادرات على رسم مصائرهن، متخففات من الغلو العاطفي الذي يثبت حركتهن أو يردها إلى الوراء، دون أن تكون المرأة في نصوصي جافة متبلدة الأحاسيس بإمكانها أن تكون قوية محبة معطاءة، وأظنني أتمثل في كل امرأة أكتبها الجدات الأوائل اللواتي كن يرسمن مصير العائلة بصمت وحكمة ويمثلن في أضعف الإيمان الميزان الذي يقود الشخصيات إلى مصائرها، كانت جدة أبي قد بلغت من العمر عتيًا حين راقبتها وأنا طفلة صغيرة، أعرف أنها أم ولكنها سلطة بحد ذاتها، التقطتها وكتبتها فيما بعد، كذلك جدتي عالم من الجمال والحكمة والاقتدار وأمي، تلك التي تبدو أكثر توهجًا من مجرد امرأة قابعة في بيتها، هكذا عرفت الأمهات، وكما كنت أحاول لعب مجموع أدوراهن في حياتي، انعكست صورتهن الحية في بطلات النصوص الروائية، وحين يحتاج النص إلى امرأة مقموعة ضعيفة وأم يعتريها النقص لابد أنها في مساحة ما ستجد دربها لتنعتق كما العنقاء من النار، ربما هذا فهمي العميق للأمومة، وهو ما ساعدني على الهرب في كتاباتي من بكائيات ولطميات المرأة الشرقية حين تتكالب حولها المظالم، وهذا ما ساعدني على الصعيد الشخصي على خلق علاقة من التكافؤ بين أمومتي وكتابتي.
كما كتبنا أولادنا، كذلك أولادنا الذين تشكلوا في أرحامنا هم أجمل المنجزات الواقعية الحية في حياتنا، وإن انفصل هذا الكائن البديع عنا في حياته، ولم يعد الطفل الذي يمسك طرف ثوبك، ومهما كان شكل ذلك الانفلات، بالسفر أو بناء عائلته وحده، أو بالرحيل المر، وقد أصبت بتلك التجربة التي غيرت حالي وجعلتني أقلب كل الأفكار المسبقة والقناعات، كثيرًا ما أواجه نفسي: هل حقًا رحلت ابنتي وهي شابة جميلة غضة؟ ليس لأني أنكر الموت، ولكني لم أقتنع بالرحيل التام ما دام وجودها معي في أفكاري وكلماتي ثابت كأنها جالسة أمامي، هذه التجربة العاصفة جعلتني مكبلة أمام الكتابة، لسبب أجهله لا أريد أن أكتب عن رحيلها ولا يعنيني أن أفجر عين الأحزان في أعماقي، ولا استمتع بنكء جراحي، وأيضًا لم يعد سهلًا أن أكتب عما في خارج كهفي، وهكذا أجدني في أزمتي الراهنة أستجدي ابنتي الراحلة أن تساعدني على إيجاد الشعلة أو الومضة التي تعيدني إلى الكتابة. يبدو أنها العلاقة الأزلية بين الأمومة والكتابة، ما زالت هي الحل حتى حين يغيب الجانبان.