مـــقدّمة:
لماذا كُتب هؤلاء الثّلاثة دون غيرِهم؟ لقد تبيّن لنا خلال دراسة كُتب السّيرة النّبوية الحديثة في نطاق أطروحة الدّكتوراه(1)، أنّ الدّراساتِ الجادّة غير التقليدية قليلة، إذ خبا الجديد في أكثر الكتب والمقالات التي اتّخذت من مدوّنة السّيرة مصادِرَ للدّراسة، ونزع جمعٌ وفير من الباحثين العرب والمُسلِمين إلى تلبيس الدّراسة بالعقيدة، فأنتجوا دراساتٍ «دينية» تُمجّد وتذُبّ عن صاحب الشّريعة. وسعى فريق منهم في تلخيص الآثار المدروسة دون أن يصلوا إلى نتائجَ علميّة تتعلّق بسيرة محمّد التّاريخيّة أو بنشأة الإسلام. ونعتقد أنّ ما كتبه الكُتّاب الثلاثة الذين نروم قراءةَ أعمالهم نَأَى عن نهج الدراسات السّائرة، إذ حاول أصحابُه أن يتّبعوا سبيلا نقديّا في التّعامل مع أخبار السّيرة، وراجعوا أصولا من «عَمودها» السّائر، فجاءت مُؤلّفاتهُم «بِدْعة» بين الدّراسات، فهل هي كذلك حقيقةً؟
في التّعريف بأعمال الكُتّاب الثّلاثة:
أوّل هذه الكُتب تأليفا هو كتاب الشّخصيّة المحمّدية أو حلّ اللّغز المقدّس، للشّاعر العِراقي معروف الرّصافي (ت. 1945)2، ولهذا الكِتاب قصّة تدُلّ على كونه «بِدعة» في زمانه وفي زمان مَنْ جاء بعده، إذ أُرِّخت مقدّمتُه بسنة ثلاث وثلاثين وتِسعِمائة وألف (1933)، والنّسخة التي اعتُمِدت في الطِّباعة اكتتبها كامل الجادرجي سنةَ أربع وأربعين وتِسعِمائة وألف (1944)، أمّا النّشرة الأولى للكِتاب فلم تظهرْ إلاّ عام اثنين وألفين (2002)! وهكذا ظلّ الكِتاب أسيرا زُهاء ستّةَ عُقودٍ،لم يخرُج فيها للنّاسِ. وقد أدرك صاحبُه الخَطرَ الذي كان بِسِفره مُحدِقا فقال: «أمّا سُخطُ النّاسِ من أجل أنّني خالفتُهم لِوِفاقها [الحقيقة]، وصارحتهم في بيانِها جَريا على خِلافِ ما جروْا عليه من عاداتٍ سقيمة وتقاليد واهِية، فلستُ مُبالِيا به، ولا مُكترِثا له ما دمت لا أطلب بما أكتب إلا رضا الحقيقة:
لَعَمْرُك إنّ الحُرَّ لا يَتَقيَّدُ
ألاَ فليَقُلْ ما شاءَ فيَّ المُفنِّدُ
وإنّي لأعلمُ أنّهم سيغضَبون ويصخَبون، ويسُبّون ويشتُمون، فإن كنت في قيد الحياة، فسيُؤذيني ذلك منهم، ولكنّي سأحتمل الأذى في سبيل الحقيقة […] وإن كنت ميْتا فلا ينالني من سِبابهم خير، كما لا ينالهم منه خير»(3). فماذا حوى الكِتابُ حتىّ يتنبّأَ له الكاتبُ بمصيرٍ صَدَقَتْه الأيّامُ؟ وهل تسنّى للرّصافي الشّاعر وأستاذ الأدب العربي أن يأتيَ في العَقد الرّابع من القرن العشرين بما لم يأتِ به الأوائل في السّيرة؟
صدر ببيروت سنةَ أربعٍ وسبعين وتِسعِمائة وألف (1974) كِتاب باللّغة الفارسية وُسِم بـبيست وسه سال، وقد نُشِر عاطِلا من اسمِ المُؤلِّف، وتاريخ النّشر ومكانه. ثمّ أتت الأيّامُ بأخبار هذا الكِتاب وصاحبه، إذ تُرجِم إلى العربيّة بعُنوانِ: 23 عاما، وعُزِيَ إلى الكاتب الإيراني علي الدَّشتي (ت. 1981؟) الذي قال إنّ مكان نشْره هو بيروت(4). ويُدلّ العُنوان بداهةً على عُمر النبوّة أي ثلاثة وعشرين عاما، قضّى منها محمّد كما اشتهر في الأخبار ثلاثَ عَشْرَةَ سنةً بمكّة وعشْرَ سنواتٍ بالمدينةِ. وقد جاوز بحث الكاتب هذه الفَترة، إذ خصّص فصلا للنّظر في مصير الجماعة الإسلامية بعد محمّد (الفصل الخامس الأخير «بعد محمّد»). وينـزع الدَّشتي في قراءة سيرة محمّد نزعة «عقلانية» مثلما تردّد في غير موضع من كتابه، فإلى أين قاده هذا المنهج؟ ولماذا تخفّى حين نشر الكِتاب، وهل فيه من الآراء الجديدة ما يدعو فعلا إلى ذلك؟
أمّا ثالث الثّلاثة من الكُتّاب فليس بشاعِرٍ ولا رجل سياسة وإنّما هو المُؤرّخ التونسي هشام جعيط، وهو باحث جامعي مرموق في الأوساط الأكاديميّة(5)، نشر في أواخر القرن العشرين كِتابه الأوّل في السّيرة النبويّة، الوحي والقُرآن والنبوّة (1999)، ثمّ ثنّى بعد بضع سنوات بكِتاب آخرَ وسمه بـتاريخيّة الدعوة المحمّدية في مكّة (2007)(6). وقد جاء الكِتاب الأوّل نظرا تاريخيّا وفلسفيّا في قضايا تتّصل بماهية القرآن وخصائص نبوّة محمّد بين سائر النبوات السّابقة… أمّا الكِتاب الثّاني فقد غلبت عليه القراءة التّاريخيّة للدّعوة الإسلاميّة، إذ بدأ الكاتِب بتقويم المصادِرِ التّاريخيّة في السّيرة، ثمّ خاض في تفسير بنية المجتمع المكّي حين ظهر محمّد. وفحص عن أمر المراحل الأولى من الدّعوة كالهِجرة إلى الحبشة والتهجير إلى يثرب… فهل أصاب المُؤرّخ ما أغفله الشّاعِر معروف الرّصافي في العقد الرّابع من القرن العِشرين؟ وهل أدرك في قراءة السّيرة قراءةً تاريخيّة مالم يُدرِكه رجلُ السّياسة والفكر الإيراني علي الدَّشتي؟ وما هي موارد الائتلاف، ومظاهر الاختلاف بين هؤلاء النّاظرين الجُدد في سيرة محمّد، وقد حُبِّر فيها خلال القُرون الخالية عَشرات التّصانيف؟
المُنطلقات المنهجيّة:
لكلّ كاتب من الكُتّاب الثّلاثة منهج صريح أو خفيّ قاده في قراءة سيرة الرّسول، ولا شكّ أنّ النّفاذَ إلى معالم المنهج الذّي حكم أعمالَ الجماعة يرُدّ نتائجَ كثيرةً متفرّقةً في كُتبهم إلى أصول معلومة، ويُمكِّن المُراجِع لأعمالِهم من توجيه نظره إلى تلك الكليّات دون أن يغرَقَ في الفُصول. لكن هل احتكم الكُتّاب الثلاثة إلى أصول واحدة على اختِلاف العصر والمِصر والثّقافة؟ فمِن هؤلاء مَن غلبت عليه الثّقافة العربيّة الإسلاميّة التّقليديّة كالشّاعِر معروف الرّصافي، ومنهم من تشبّع بالثّقافة التّاريخيّة والفلسفيّة الحديثة كالمُؤرّخ التّونسي المُعاصِر هشام جعَيْط، وثالِثُهم كاتب إيراني اكتنفه فضاء ثقافي إسلامي شيعي عُموما، لكن غير عربي. أفلا يكون جَمعُنا تخليطا، وحشْرا لأعلام تباينت مصادر ثقافتهم ومناهج درسهم للسّيرة؟ إنّنا نعتقد أنّ تناظُرا مَّا قائمٌ بين بعض الأصول التّي اعتمدوا عليها مع اختِلاف في طرائق الاستِناد إليها، وإجرائها على تاريخ النبيّ.
1ــ القِراءة التّاريخيّة للسّيرة النّبويّة:
نعني بالقِراءة التّاريخيّة للسّيرة محاولة الكُتاب الثّلاثة أن يُنزلوا تاريخ محمّد داخل التّاريخ العام بوجوهه الاجتِماعيّة والثّقافيّة والدّينيّة… وهذه الغاية تهفو إلى إدراكها الدّراسات العِلميّة المُعاصِرة لتاريخ الأديان، إذ تتدبّرها باعتِبارها أشكالا مقدَسة «معيشة» في تاريخ البشريّة(7). فمقصدُ الجماعة يُوافق مقاصِدَ العِلم سواء وعَوا ذلك، أم جاء اجتِهادُهم بمعزل عن تأثير الثّقافة الحديثة. ولا يَخفى أنّ المُؤرّخَ هِشام جعيط هو الوحيد بين الجماعة الذي تشبّع بالمناهج الحديثة في دراسة التّاريخ والأديان، وأحال على مصادرها الأوروبيّة في كتابيْه عن محمّد. وحَسْبُ القارِئ أن ينظُر في هوامش الكِتاب الأوّل والثّاني ليَظْفرَ بأسماء أعلام الثّقافة الحديثة والمُعاصِرة، وأسماء جُمهور واسع من المُستشرِقين، حتّى مَن كتب بأخَرَة ولا تزال آراؤه غيرَ معروفة على نطاق واسع مثل ك. لكسبورغ (Ch. Luxenber)(8). أمّا الرّصافي في زمانه ووسطه الذي عاش فيه فلم يُصِب من الثّقافة الحديثة إلا بعضَ ما تُرجِمَ منها مثلما سيتبيّنُ في موضعه، وهذا النّزر الذي أصاب لا يُحيلُ عليه في هوامش الشخصيّة المُحمّديّة، وإنّما دلّتنا عليه قراءةُ كتابه قراءةً تاريخيّة أيضا! وكذلك يقلّ الاعتِماد على الدّراسات المحمّديّة الحديثة في كِتاب الإيراني علي الدَّشتي(9).
إنّ السّيرة النبويّة موضوع شديد الصّلة بالمُقدَّسِ، لأنّها تتعلّق بشخصيّة صاحِب الشّريعة. وكم كانت معرفتُها أصلا من أصول الدّيانة لدى كثير من أرباب السّير والمُؤرّخين قديما، وفي هذا المعنى نقل السّخاوي (ت. 902هـ): «إنّ السّيرة النبويّة بخُصُوصها منه ممّا يحِّق على المرء المسلم حفظُها، ويجب على ذي الدّين معرفتُها»(10). أمّا عِلم التّاريخ فهو عِلم وضعي وقد أشار جعيط إلى عُسر الدّراسة التّاريخيّة الصِّرفة لموضوع السّيرة إذ قال عن كتابه الثّاني إنّه: «دراسة تاريخيّة بحتة في موضوع حسّاس جدّا لأنّه يلتصق بالماورائي ويتّصل بالمُعتقد، والتّاريخ إنّما هو عِلم وضعي وأرضي يتناول فعاليات الأفراد والمُجتمعات البشريّة في الماضي، ويخرُج عن دائرة الإيمان والمُعتقد»(11). ولا شكّ أنّ الأمرَ يكون أكثَرَ «حساسيّةً» إذا كان الكاتِبُ مُسلِما، ويُخاطب جُمهورا عربيّا مسلِما في مُعظمه، إسلامَ اعتِقاد أو إسلامَ ثقافة تكتنف الإنسان، وتُسهم في تكوينه النّفسي، وتُشكِّل مِخيالَه… وإلى هذه المُعضلة العِلميّة أشار المُؤرّخ المِصري محمّد عبد الحي شعبان، بل جعل الحديث عنها فاتِحة كِتابه في التّاريخ الإسلامي(12).
لقد خرج التّاريخ في القديم من صُلب السّيرة، إذ كان يُسمَّى «عِلمَ السّيرِ والأخبار»، لكنّه أصبح بعد ذلك أشملَ منها وأعمَّ، وأضحت هي فرعا منه. لكنّ هذا التّقسيمَ للعُلوم لا يتحرّكُ في فضائه المعرفي المُحدَثون، إذ أثّرت في ثقافتهم الثّورة الفلسفيّة والعِلميّة التي قطعت صِلاتِ أغلب العُلوم بالدّين. وقد رسَخت هذه الثّورة كما اشتهر منذ عصر الأنوار في القرن الثّامنَ عَشَرَ. ونعتقد أنّ الرّصافي والدَّشتي وجعيط حاولوا جميعا أن يُدرِجوا تجرِبة النبوّة في التّاريخ، وقرأوا سيرة محمّد في ضوء صراع مكوّناته، لا حدثا مُتعالِيا عنه. وهذه قراءة غير دينيّة للسّيرة، وغير تقليديّة وإن اختلفت درجةُ «تاريخيّتها» من كاتب إلى آخر.
ليس غرضنا في هذا البحث أنْ نُحيطَ بكلّ ما قاله الكُتّاب الثّلاثة في سيرة محمّد، فذلك يُظفَرُ به في كتبهم ذاتها، وإنّما سنحاول أنْ نستصفِيَ من مقالاتهم في السّيرة ما نرى فيه جديدا، وخُروجا عن مألوف المقالات في ما كُتِب عن الرّسول لدى العرب خاصّة والمُسلِمين عامّة. ولن يستقيمَ ذلك إلا بأسلوب، فارتأينا أن نتقصّى آراءهم مُتّبِعين هيكل السّيرة المعروف: مُبتدأ، يتعلّق بحياة محمّد قبل البِعثة. ومبعَثٌ يبدأ بعوارض النبوّة، وينتهي بنهاية الفَترة المكّية، والهِجرة إلى يثرب في سنة اثنتين وعِشرين وسِتِّمائة (622م). ومغازٍ، تتعلّق بحياة النبيّ بالمدينة حتّى وفاتِه في السّنة الحاديةَ عَشْرَةَ (11هـ) من الهِجرة. وقد ورد هذا «الهيكل» في مصادرَ مكتوبة مُتأخّرة عن زمن الدّعوة، وأنتجت الفَترتان المكيّة والمدنيّة شريعة، كان للكُتّاب في مسائلَ منها آراء مخصوصة.
يخرج الرّصافي عن حدود الخِطاب التّمجيدي القديم الذي يُسلِّم بميلاد الرّسول عام الفيل، ويُقدَّرُ عادةً بسنة سبعين وخمسِمائة (570م)، ويرى أنّ الرّواياتِ التي تتعلّق بحياة محمّد قبل النبوّة «مُظلِمة»، يطبَعُها الاضطِراب لأنّ النّاسَ لم يهتمّوا به إلا بعد وفاته بزمن طويل، وهكذا اضطربت روايات المولد: «فانظُرْ إلى الرّوايات التي جاءت في عامِ وِلادتِه مثلا، فإنّك تجِدُ فيها اختِلافا بالِغا إلى أحدَ عَشَرَ قولاً، وتجد المدّة التي يتضمّنها اختِلافُهم تتراوح بين ما قبل الفِيل بِخَمسَ عَشْرَةَ سنةً، وما بعدَه بسبعينَ سنةً»(13). أي يُجاوِز اختِلافُ الرِّواية في المولد المُدّةَ التي عاشها النبيّ، وهي نيفٌ وستّون سنة في أغلب كتب السّيرة والتّاريخ الإسلاميين(14).
إنّ شكّ الرُّصافي في روايات المولِد يستنِدُ إلى تلك الرّوايات نفسِها، وهو ما يجعله شكّا منهجِيّا متينا، رغم أنّ صاحِبَه لم يُقرّر تاريخا بعينه لولادة محمّد. وقد أصاب إذ لم يفعلْ، فليس بين يَدَيْ الباحِث في عهده، وقبلَه وبعدَه من تاريخ النبيّ إلا «الكلمات» أي المصادر المكتوبة بعد قرنين من حياة محمّد(15). وما يذهب إليه المُستشرِقون من ولادة الرّسول سنة ثمانين وخمسِمائة من الهِجرة (580هـ) أو بُعيدها بسنة أو سنتين(16)، تقريبٌ تاريخي لا يقوم على شواهد مادّية. وقد وَجدتْ سبيلُ الشكّ العِلمي التي اخططّها الرّصافي مَنْ أقام الحُجّة على ضَعفِ الرّواية التي تربِط بين ولادة محمّد وعام الفِيل، إذ يُقرر المُؤرّخ جعيط أنّ حملة أبرهة على الحبشة وقعت سنة سبعٍ وأربعينَ وخمسِمائة (547م) حَسَبَ النّقوش(17).
يُصدِرُ الرُّصافي في كتابه عن روح مُتحرِّر من أسر الاستنساخ وهو داء أصاب كتابة السّيرة قديما وحديثا، ولعلّ هذه النّزعةَ في تفكيره هي التي أنتجت «حُدوسا» علميّة مفيدة في كتابته لتاريخ محمّد، رغم أنّ الكاتِبَ لم يستطِعْ أن يُقِيم البرهان على تلك الحُدوس في كثير من الأحيان لعدم امتِلاكه لثقافة تاريخيّة حديثة متينة، ولكونه كتب قبل أن تتطوّر الدّراسات المحمّدية في الغرب تطوّرا كبيرا منذ النّصف الثّاني من القرن العِشرين. ولا غرابةَ في أن يصدِمَ الرّصافي إيمان المُؤمن المُقلِّد إذ يُقدّمُ له صورة غير مُطّرِدة للنبيّ محمّد، رغم أنّ ما يقوله في مواضع لا يغُضّ من الدّيانة بقدر ما يغُضّ من الصّورة التّاريخيّة التي شكلّها المُسلِمون للنبيّ، وهي نموذج يُجاوِزُ الحُدود البشريّة التي نصّ عليها القُرآن نفسُه.
إنّ تنـزيلَ التجربة النبويّة في التّاريخ قاد الرُّصافي إلى الإقرار بأنّ «محمّدا كان قبل النبوّة خامِلَ الذّكر» غيرَ مُشتهِر ولا معروف عند العرب(18)، وهذا يُناقض الرّواياتِ الإسلاميّة في كُتب السّيرة والتّاريخ إذ تتحدّث عن مآثره في الجاهليّة، وتحكيمه حين اختلف العرب في إعادة بُنيان الكعبة…(19). ويندهش القارِئ عندما يجد عند جعيط وغيره من العُلماء الذين جاؤوا بعد الرصافي نتائِجَ تُقارِب نتائجَه وتُناظِرُها حتى في اللّفظ، إذ يُسائِل جعيط نفسه «كيف أنّ محمّدا خرج من هذا الوسط الخامل أي بني هاشم»(20). وتُردّد ج. شابّي (J. Chabbi ) نفسَ الرّأي مع اختِلافِ اللّسان(21). لكن البلاذري (ت. 279هـ) -وهو مصدر من المصادر الأربعة المُحترَمة التي يُسمّيها جعيط «أناجيل محمّد»- يتحدّث عن سيادة بني هاشم، ويُسر هاشم: «لمّا صارت الرِّفادة والسِّقاية لهاشِم، كان يُخرِجُ من مالِه كلّ سنة للرِّفادة مالا عظيما، وكان أيسَرَ قُريش»(22)، ويُقر جعيط نفسه بتلازم الثّراء والشّرف في المجتمع المكّي(23)!
يُشير الرّصافي إشارة لبيبة إلى قضيّة هامّة تتعلّق بحياة محمّد قبل البِعثِة وهي أسفارُه، إذ يقول: «فأسفارُهُ هذه هي التي تستحقّ العِناية بدرسِها ومعرفة تفاصيلها حقّ المعرِفة، إذ بها وحدها تنكشف لنا أسرار كثيرة من حياة محمّد قبل النبوّة ولكنّا -مع الأسف- نراها غامضة أيضا كحياته قبل النبوّة»(24). ويرى الكاتب أنّ ما جاء في كتب السّيرة من أسفاره منقوص(25). ولعلّ توجيه النّظر إلى مسألة الأسفار أهمّ من محاولة ضبطها، مادام الكاتِب لا يمتلك موارد تُمكّنه من ذلك ولم يمتلكها مَنْ جاء بعده، فإذا كان الباحِث في تاريخ الإسلام لا يجد شواهد ماديّة من عِمارة أو نقوش أو سِكّة… فكيف سيظفر بها لكتابة تاريخ محمّد؟
إنّ مسألة الأسفار هامّة لأنّ التّجارة التي امتهنها محمّد قبل النبوّة «من أقوى أسباب السّفر»(26). وقد بيّنت أبحاث تاريخيّة هامّة أنّ التِّجارة والدّيانة «كانتا في أيّام ما قبل الإسلام أمرين متّصلين، وأنّ نجاح إحداهُما كان يُؤدّي إلى نجاح الأخرى»(27). ويدُل عُنوان كتاب المُستشرِقة ب. كرون دلالة قاطِعة على هذا التّلازُم: التّجارة المكيّة وبُزوغ الإسلام(28). ويذهب جعيط أبعدَ من الرّصافي في تفسير مسألة الأسفار إذ يقول: «النّقطة المُهمّة في هذا الصّدد هي تعاطي محمّد للتِّجارة، وإذن سفراتُه إلى الشّام ومن المُمكِن إلى اليمن، وخروجه من ضيق الأفق المكّي. قد يكون حصَلَ هذا الخُروج في سفَرات مُتتالية وعديدة، وقد يكون النبيّ استقرّ بالشّام لمُدد تطول أو تقصر […] ذلك أنّ القُرآن مُفعم بمعرِفة دقيقة للتّراث المسيحي وللتراث اليهودي، والمسيحي أكثر من اليهودي»(29).
إنّ بحثَ أسفار محمّد قبل البِعثة يكتسِبُ قيمتَه العِلميّة التّاريخيّة من كونه-حسَب جُمهور الباحِثين- يُجلّي علاقة الإسلام بالمسيحية الشّرقيّة وتعاليمها، وقد أجحف بعض العُلماء الغربيين في هذا الاتّجاه حين اعتبروا أنّ الإسلام نشأ بالشّامِ وليس بمكّةَ أو المدينة(30). وبعيدا عن مُجادلة هذه الأطروحات فإنّ أسفار محمّد قبل النبوّة تُفيد في كشف علاقة الإسلام بالدّيانات المُجاورة، وضمن هذا المنحى يتنزّل عمل ج. شابي الأخير: تفكيك رموز القُرآن، صور كِتابية بأرض العرب(31).
يلتقي الشّاعر مع المُؤرّخ المُعاصر مرّة أخرى، إذ ذهب الرّصافي إلى القول إنّ عُموم الرّسالة حصَلَ لمحمّد بالمدينة بعد فتح مكّة(32). ويُؤكّد جعيط نفس الرّأي بقوله: «إنّ قصص الأنبياء والإلحاح على «اللّسان العربي» تُبرِز أنّ الدّعوة القُرآنيّة دعوة «وطنيّة» إذ لكلّ قوم نبيّهم، وهذا أساسي في الفَترة المكّية»(33). وفي هذا ما فيه من مُخالفة لما استقرّ في الضّمير الإسلامي من أنّ دعوة محمّد عَالَميّة في المبدَإ والمُنتهى. وههنا يبرُز البون بين ما سمّيناه قراءة تاريخيّة للسّيرة، وما يُمكن تسميتُه قراءة دينيّة إيمانيّة. وأغلب ما كتبه المُسلِمون في السّيرة خلال العصر الحديث يتنزّل في الصّنف الثّاني من القِراءة.
يُلِحّ الكاتب الإيراني علي الدَّشتي على إدراج الشّريعة الإسلاميّة في تاريخ الأديان، ويُبيّن في غير موضع أنّ تشريعات المدينة «مُستمدّة إمّا من التّشريعات اليهوديّة، أو من العادات العربيّة الوثنيّة»(34)، كالتّشريع المُتعلّق بالزّواج(35). ولا يقف بحث الدّشتي عند التّاريخ بل يُجاوزه إلى النّضال الفِكري ضدّ الشّريعة كقوله: «ليس بمقدورِنا أن نجِدَ أيَّ مُبرّر عقلاني أو ديني للحِفاظ على مُمارسات وثنيّة قديمة في شعيرة الحجّ الإسلاميّة»(36). ومُصطلح «عقلانية» وما أُخِذ منه مُتواتِر في الكِتاب، ولا يُفهم منه إلا نزعة الكاتِب إلى نظر عقلي في الشّريعة. ومهما يكن الأمرُ فإنّ عقلانيّة الدّشتي لا تخلو من بُؤس، فحين يتحدّث عن «وثنيّة» شعائر الحجّ الإسلاميّة فإنّه يُكرّر ما قاله المسيحيون الطّاعِنون على الإسلام منذ قرون خلت، إذ انتقد يوحنّا الدّمشقي (St. Jean Damascène) الذي تُوفّي سنة تِسعٍ وأربعين وسبعِمائة من الميلاد (749م) القِطاعَ «الوثني» في الإسلام كتقبيل الحجر الأسود…(37).
ويُؤكِّد هشام جعيط -وهو مُؤرِّخ- في كتابيْه صلةَ الإسلام بالشّرائع السّابقة، ليُظهِر أثرها فيه. وهكذا يرى أنّ محمّدا ما كان لينجحَ في دعوته لو وُجِدت سُلطة دينيّة قويّة بمكّة إذ قُتِل يحيى (يوحنا المعمدان) آخر أنبياء بني إسرائيل، وصُلِب المسيح وماني لوجود قوّة دينية مُؤثّرة في الحُكّام(38). ويتّبع جعيط منهجا تاريخيّا-فيلولوجيّا في استقراء علاقة الإسلام بالأديان السّاميّة السّابِقة، إذ يقول في هذا المعنى إنّ «جبريل» يعني في العِبريّة قُوّة اللّه (جبر-إيل)، ولذلك وُصِف في القُرآن بـ«ذي قُوّة» «وشديد القُوى»(39). ويذكر أنّ «الأفق المُبين» في القُرآن [التّكوير : 23] يُمكِن أن نرُدّها إلى عِبارة «أفَك» الأكّاديّة، وتعني مقرّ الإله العلوي(40)… وهذا المنهج الذي اتّبعه جعيط في جوهره يُساير منهجيات البحث التي سادت إبّان القرن التّاسع عشَرَ، وهي لا محالة قديمة في زمانه (1999).
ويرى جعيط أنّ لاسم الرسول «محمّد» علاقةً بلغة السُّريان وبالبارقليطس اليونانية، من طريق عبارة «محمدان» السُّريانيّة، وهو لقب كان يُطلَق على أمراء غسّان المسيحيين، أخذه السُريان من الرّوم، فنقلوه إلى لغتهم، وقد كان الروم يخلعون هذه الصّفة (Vir illustris) على البطارقة والأمراء. و«محمّد» ترجمة للبارقليطس و«هي عِبارة تفخيم ورِفعة اتّخذها النبيّ في المدينة بعد أن ارتفع مقامه، لكنّه أكسبها معنى دينيا وربطها بتراث المسيحية زيادة على معناها الدّنيوي»(41)… لكن المُؤرّخ العِراقي جواد علي -وهو ثَبتٌ- يعتمد على النّقوش (شواهد قبور) ليُثبِت انتشار اسم محمّد في الجاهليّة(42)، أفلا يُؤكّد هذا قُصور المنهجيّة الفيلولوجيّة وحُدودها؟
2ــ الشكّ ونقد الأخبار:
قال الرُّصافي في مقدّمة كِتابِه: «أصبحت لا أقيم للتّاريخ وزنا، ولا أحسُب له حِسابا، لأنّي رأيته بيت الكذب ومُناخ الضلال، ومُتجشّم أهواء النّاس، إذا نظرت فيه كنت كأني منه في كُثبان من رِمال الأباطيل قد تغلغلت فيها ذرات ضئيلة من شذور الحقيقة، فيتعذّر أو يتعسّر على المرء أن يستخلِص من طيس أباطيله ذرات شذور الحقيقة»(43). بهذا البيان بدأ الرّصافي فأظهر خروجا جليّا على نسق الكِتابة التسليميّة التمجيديّة في السّيرة النّبويّة، وهي صفة أغلب ما كتبه المُسلِمون المُحدَثون. ويمَضي الكاتِب في ثنايا الكِتاب في تفصيل ما أجمله عن التّاريخ إذ ينتقد المرويات التي حوتها كُتب السّيرة والحديث انتِقادا لاذعا، فالرّواية المُتواتِرة يكاد وقوعها يكون مُستحيلا، والرّواية بالمعنى خطر «لأنّ معاني الكلام إنّما تُوزَنُ بميزان الألفاظ»(44). ولا يختلِف أمرُ الحديث عن باقي ضروب الخبر حسَب الرُّصافي إذ لا تُراعِي معايير المُحدِّثين مُطابقة الخبر للقرآن والمعقول، بل تُراعِي «ثقة» الروّاة، ولهذا وقعت في كُتبهم أحاديث مُنكَرة كحديث الذّباب(45).
مع هذا الشكّ المنهجي في المرويات نجد الرّصافي ينهل منها في بطن الكِتاب، فلا تكاد تخلو صحائفُه من الإحالة على كِتاب في السّيرة مُتأخِّر جدّا وهو إنسان العُيون في سيرة الأمين المأمون، لعليّ بن برهان الدّين الحلبي (ت. 1044هـ/1634م)(46)، وقد حشا الحلبي كِتابَه بِصُنوف من الأخبار المُنَمَّقة عن الرّسول تنـزع إلى الخيال، وتَساهَل في الرّواية إذا لم تتعلّق بالحلال والحرام(47)… فكيفَ يُشنّ النّقد على كُتب التّاريخ، ولا يَعمّ مصادرَه المُتأخّرة وهي عند المؤرّخين بالنّقد أجدرُ، فكلّما كان المصدر بعيدا من زمن الأحداث قلّت درجة الوُثوق به؟
أدّى الشكّ في المرويات بكثير من كُتّاب السّيرة إلى الإقرار بأنّ القُرآن رأسُ مصادر السّيرة وأوثقِها، إذ يقول علي الدَّشتي «والأهمّ من بين هذه المصادِر هو القُرآن، الذي يُمكِنُ أن نتحصّل منه على معرِفة بكثيرٍ من حوادث ذلك الزّمن»(48). ومِن قبلِ الدَّشتي ذهب الرّصافي هذا المذهبَ حين اعتبر القُرآن أوثقَ من باقي المصادر في معرفة حياة محمّد(49)، وكذلك ما فتِئ جعيط في كِتابيْه يُؤكِّدُ أنّ «القُرآنَ مُعاصِرٌ للأحداث، فهو المصدرُ الأساسي»(50). والطّريفُ في المسألة أنّ الشّاعِرَ المُتقدِّم بزَّ الكاتِبَيْن اللّذيْن جاءا بعده في حلْبةَ الشكّ إذ وجّه سِلاحَ نقدِه إلى القُرآنِ باعتِباره مصدرا لحياة النبي، فهذا الكِتاب حسَبَ الرُّصافي «لم يخلُ بالمرّة ممّا وقع في الرّواية من زيادة ونَقص ومن تغيير وتبديل خُصوصا بواسطة تعدّد القِراءات»(51). ولا شكّ أنّ الرّصافي ينطلِق مِمّا أُثير في بعض كُتب التُّراث من عِناية بخِلاف المُسلِمين في تدوين المُصحَف(52). ولا نجد لِمُناقشة هذه القضيّة في كِتاب جعيط أيَّ أثر وهو المُؤرِّخ المُتشبِّع بأصول الثّقافة الحديثة، ومناهج النّقد التّاريخي.
تكاد السِّير الحديثة تُجمِعُ على توثيق سيرة عبد الملك بن هشام (ت. 218هـ/833م)، وهي «تهذيب» لسيرة ابن إسحاق (ت. 150هـ/768م) التّي تُوسم بـالمبتدأ والمبعث والمغازي، وقد اعتمد ابن هشام في كتابه على رواية أحد تلاميذ ابن إسحاق، زياد بن عبد الله البَكّائي (ت. 183هـ). وينفرد الرّصافي بنقد لاذع لمرويات ابن هشام ولمنهجه في التّعامل مع سيرة أستاذه(53)، إذ عاب عليه حذفه مقالات أعداء محمّد خاصّة، ولهذا يرى أنّ ابن هشام لم يختصر سيرة ابن إسحاق بل «قتلها وأماتها»(54). لكن إزاء هذا الرّوح النّقدي المُتحرِّر من سلطة النّصوص شبه المُقدّسة لدى المُسلِمين، يُعوِّل الرّصافي على مصدر متأخِّر جدّا وهو السّيرة الحلبيّة مثلما تقدّم، بل يعتبرها «أجمع كتب السّير لأقوال الرّواة»(55)، فإذا كان اختِصار المُتقدِّمين «إماتة» للرّواية، فكيف يكون جمع المُتأخِّرين مزيّة في التأريخ؟
ويذهب المُؤرِّخ هشام جعيط أبعدَ من الرُّصافي في الشكّ في أخبار السّيرة، إذ يقول: «نحن لا نعتمد على ما أُكمل به الإسلام فيما بعد من سيرة وتاريخ وطبقات وحديث، لأنّ القاعدة أنّ كلّ ما دُوِّن بعد مائة سنة من الحدَث فاقد لثقة المؤرّخ»(56)، ويرى في معرِض نقده لما رُوِيَ عن الزّهري عن هشام بن عُروة عن عُروة عن عائشة، أنّ الأسانيد لا يقبَلها المؤرِّخ لأنّها سلسلة أسماء «وُضِعت بعد الأثر»(57). لكنّ المُؤرِّخ يُوشِك أن يُناقض رأيَه هذا في الكِتاب الثّاني إذ اعتبر رسالة عُروة بن الزّبير إلى عبد الملك بن مروان وثيقةً تاريخيّة هامّة(58)، رغم أنّ ناقِلَها -وهو الطّبري- من أهل القرن الهِجري الثّالث.
يشكّ جعيط كذلك في تحنّث النبيّ قبل البِعثة كغيره من الحُنفاء(59)، ويأتي في الكِتاب الثّاني برأي يُناقض بالجُملة ما ذكره في الكِتاب الأوّل: «تقول السّيرة بخَلوة النبيّ في غار حِراء، فهذا يجعل منه شخصا قريبا من نموذج النُسّاك، وأصحاب الصّوامع: هذا السلوك ممكن جدّا»(60). ومردّ هذا التناقض بلا ريْب هو شُحّ الموارد المادّية المُتعلِّقة بتاريخ الإسلام، فلا مناصَ من التوسّط في نقد المصادر المُدوَّنة منذ القرن الثّاني، ولِمَ الشكّ في بعض الأخبار المُتواتِرة بصيغ مختلِفة؟ إذ هي حمّالة لنَوَى أحداث يُمكِنُ أنْ تحظى بقَبول المُؤرِّخ. ولا مفرّ من الاعتِماد على بعض الأخبار المُتقدِّمة بعد فحصها، ما دام القُرآنُ لا يُقدِّمُ لنا لوحةً مُكتمِلةً لحياة النبيّ وهو رأي باحِث حصيف كمنتغمري واط(61).
3ــ تأثير الاستِشراق:
لا يتّسِعُ هذا المقال لنخوض في معنى الاستِشراق، فقد قُتِل الموضوعُ بحثا من قبل أساطين الدّارسين من أمثال محمّد أركون وإدوارد سعيد في كتابه عن الاستِشراق، وإنّما نودّ فقط أن نُؤكّدَ على المعنى الجامع للاستِشراق باعتِبارِه دلالةً على مؤلّفات الكُتاب الغربيين في الإسلام. لكن هذا الاستِشراق عموما ينقسِم إلى فروع، فهناك استِشراق كلاسيكي تُمثّله أعمال الكُتّاب الأوروبيين في القرن التّاسِعَ عشرَ والعُقود الأولى من القرن العِشرين كنولدكه (N ldeke) وغولدتسهر (oldziher) وغيرهما. وفرعٌ يتعلّق بالكِتابات الغربيّة بعد الحرب العالميّة الثّانيّة كمؤلّفات رودنسن وواط، ثمّ كوك (Cook) وكرون (P. Crone)… وقد اختلط العِلم بالتعصّب في بعض الكِتابات الأوروبية عن الإسلام خاصّة لدى المُؤلِّفين الذين اضطلعوا بوظائف تبشيريّة كالأب البلجيكي لامنس (ت.1937 [H. Lammens])، والكاتِب الإنقليزي مُويِر (W. Muir) الذي كان ناشِطا في مجال التّبشير بالهِند في النّصف الثّاني من القرن التّاسِعَ عشرَ، وهو مُؤلِّف كتاب حياة محمّد (Life of Mahomet, 1861)…
إنّ تلبّسَ الاستِشراق بالعقيدة الدينيّة في أحيان أنتج آراءً في الإسلام وتاريخِه لا نُجانِبُ النَّصفة إذا وسمناها بالتعصّب، وقد وصفها بذلك كُتّاب غربيون أيضا. وهذا الخلط جعل عِبارة «استِشراق» مذمومة في الوعي العربي الإسلامي على حدّ عِبارة محمّد أركون(62). لكن لا ينفي تهافتُ بعض الكِتابات الأوروبيّة في تاريخ الإسلام وجودَ كِتابات تهفو إلى النّصفة، وتطلُبُ العِلمَ لذاتِه. وقد أثّرت الكِتابات الاستِشراقيّة بصِنفيها المُتقدِّمِ ذكرُهُما في الكُتاب الثّلاثة الذين راجعنا أعمالهم في هذا البحثِ. واختلفت أوجهُ التّأثير إذ لم يتسنّ للرّصافي في زمانه أن يطّلِعَ إلا على بعض الآراء الاستِشراقيّة الكلاسيكيّة، في حين اطّلع الدّشتي وجعيط بدرجات مُتفاوِتة على الكِتابات الأوروبيّة المُعاصِرة في الإسلام وتأثّرا بها على هيئات مُتبايِنة.
إنّ تقريرَ الكُتّاب الثّلاثة -مثلما تقدّم- بأنّ القُرآنَ أوثق المصادر لحياة محمّد، وانتقادهم المصادر المُتأخِّرة، والرّصافي أوّلهم في هذا المذهب(63)، لا يُمكِنُ أن يُفهمَا بمعزلٍ عن الكِتابات الاستِشراقيّة الكلاسيكيّة على اختِلافِها، إذ دعا المُستشرِق الإيطالي كِيتاني إلى نقد صارم للمصادر الإسلاميّة المُتعلِّقة بتاريخ الإسلام، ولم يثق إلا في القُرآن لمُعاصرته للدّعوة(64). وقد اتّبع خُطاه لامنس، وبلاشير… لكن ذكرنا في معرِض تقديمنا لكِتاب الرّصافي أنّه لا يُحيل على أيّ كِتاب أعجمي، فكيف تسنّى له أنْ يطِّلِعَ على آراء كِيتاني مثلا؟
أكبر الظنّ أنّ تأثير الاستشراق في السّيرة التي صنّفها الرّصافي حصَلَ من طريق قِراءة ترجمات لكُتب المُستشرِقين، فقد أقام الرُّصافي بالآسِتانة، وانتُخِب عُضوا بمجلس المبعوثان العُثماني سنة اثنتَيْ عَشْرَةَ وتِسعِمائة وألف (1912)، وألّف رسالة في الألفاظ العربيّة المُستعملَة في اللّغة التّركيّة وبالعكس(65). ويقتضي عملُ مثل هذه الرّسالة قدْرا من الإحاطة باللّغة التّركية. وقد تُرجِمت حوليات كِيتاني إلى التركيّة في أواسط العقد الثّالث من القرن العِشرين(66)، ونُرجّح أنّ الرّصافي قرأ في هذه التّرجمة رأسا لِما في كِتابه من آراء استِشراقيّة أخرى عديدة سنعرِض لبعضِها.
إنّ من مظاهر التأثُّر البيِّن بآراء المُستشرِقين قول الرّصافي في عوارض النبوّة التي كانت تطرأ حين نُزول الوحيِ: «وإذا أنعمنا النّظرَ جيِّدا في أعراضِها التي هي الرِّعدة، وشِبه الإغماء، وتربُّد الوجه، واحمِرار العينين، والغطيط كغطيط البِكر، وتحدّر العرق من الجبين في البرد الشّديد […] علِمنا أنّها ليست إلا حالة كحالة المصروع لأنّ هذه الأعراض ليست إلا من أعراض الصّرْع، وأنّ كلّ مَنْ بِه صرْع لا يكون إلا كذلك»(67). وما أغنانا في مثل هذا العمل اليسير عن الإسهاب في إبراز أنّ هذه «التّهمة»، أي تفسير عوارض الوحي بالصّرْع (épilepsie) مقالٌ ضارِبٌ في القِدَم، إذ صدر عن المُجادِلين البيزنطيين القُدامى، وورِثه عنهم بعضُ المُستشرِقين المُحدَثين(68). فالجديد الذي ظنّ الرُّصافي أنّه أتى به خليقٌ، وجدل ديني مسيحي قديم.
ومن المقالات الاستِشراقية الكامِنة في سيرة الرّصافي قوله في غير موضع إنّ دعوة محمّد «ثبتت دعائمُها، ورسخت أركانُها بالسّيوف الصّوارم»(69)، وأنّ محمّدا أعلن الحرب الهُجوميّة لمّا قَوِيت جماعتُه بالمدينة(70). ويُكرِّر الكاتب الإيراني علي الدَّشتي نفسَ الرّأي بل يزيد فيه شِدّة وانتِقادا لموقف النبيّ من الحرب، فقد «دعا في مكّة إلى الإيمان والرّحمة»، ثمّ «راح يُغيِّر مساره في المدينة شيئا فشيئا وبدأ يُصدِر أوامر القِتال»، وههنا يأتي بآيات قُرآنيّة(71). ويخلُص الدَّشتي إلى النتيجة الآتية: «هكذا تحوّل الإسلام شيئا فشيئا من رسالة روحيّة صِرفة إلى منظّمة مقاتِلة وعِقابيّة، يعتمد تقدّمها على الغنائم التي تأتي بها الغزوات وعلى الدّخل الذي تُغلّه الزّكاة المفروضة»(72). ولا يخلو كتاب جعيط الثّاني عن محمّد من آراء شبيهة بما تقدّم إذ يقول عن مسار الدّعوة بين مكّة والمدينة «تحوّل النبيّ بذلك من المُسالِم المُضطهَد إلى سياسي وقائد مُتهجِّم، فهو الذي ابتدأ بالاعتِداء على قُريش»(73).
إنّ في ما عرضنا من آراء الكُتّاب الثّلاثة تشابُها عجيبا على اختِلاف العصر والمِصرِ، ونحنُ نعزو هذا إلى كثرة ما راج في كُتب المُستشرِقين من «توارث» لاتّهام محمّد باستعمال السّيف على خُصومه، وحربه لبني قومه… وقد بيّن الباحث البريطاني ن. دانيال بتفصيل عِلمي أنّ الجدل المسيحي ركّز منذ نشأته في القرون الوُسطى على الطّعن على نبيّ الإسلام بالقُوّة، وحبّ المرأة(74). فأين التّاريخُ؟ وأين العِلم في تِكرار هذه المقالات؟ فإن كانت حصيفةً فقد مجّتها أقلام المستشرِقين، وإن كانت مُتهافِتة فإنّه حرِيٌّ بناقِلها أن يفحصَ عن أمرِها ولا يُسَرُّ بنقلِها. ثمّ إنّ تاريخَ العُنف لم يُكتَب بمعزَل عن المُماحكات الدينيّة والإيديولوجيّة فـ«كلّ واحد يتّهم تاريخ الآخر بالعنف وينسى نفسه»(75).
أمّا اتّهام محمّد بالوجد بالنّساء فيكثُر في كِتاب الدَّشتي خاصّةً، إذ يُورِد القُرآن باعتِباره مُبرِّرا لشهوات الجسد مثلما جاء في حديثه عن مُلك اليمين(76)، ويُقرّر تصريحا أنّ محمّدا لمّا أصبح رجلَ دولة بالمدينة التفت بقوّة إلى المرأة: «أمّا بعد الانتِقال إلى المدينة فقد توافرت الفُرص ووجدت شهوة النبيّ الشّديدة للنّساء مرتعها الفسيح»(77). وقد تقدّم الكلام في هذه «التّهمة»، وما الاحتِفاء بها إلا دلالة على منـزع إيديولوجي مُناضل لدى الدّشتي يُخرِجُ كِتابه من التّاريخ إلى السّياسة وشتّان ما هُما، ودلالة على خُضوع الكاتِب لسُلطة الاستِشراق الكلاسيكي (مُوير ولامنس…) وهو في مُعظمِه مُلوَّنٌ بالعقيدة المسيحيّة.
إنّنا لا نستغرب خضوعَ الرّصافي في وقته (1933) لسُلطة الاستِشراق الكلاسيكي، وتأثُرَ الدَّشتي رجل السّياسة الإيراني ببعض الآراء الاستِشراقية الحديثة القديمة في جوهرها، لكنّنا نعجَب من تأثير هذا الاستِشراق في مُؤرِّخ مُتشبّع بالثّقافة الأوروبيّة المُعاصِرة كهشام جعيط الذي كتب كِتابه الثّاني في السّيرة بعد الألف الثّانية. فاحتفى فيه بمقالات بعض أعلام الاستِشراق القديم، إذ خصّص الفصل الخامس لِما سمّاه «مشكلة التّأثيرات المسيحيّة»، فبيّنَ المُوافقاتِ بين المسيحيّة السّوريّة والقُرآن مُعتَمِدا على كتاب طور أندري أصول الإسلام والمسيحية(78) .
يُشير جعيط تصريحا إلى كِتاب أندرِي في الفصل الخامس(79)، ثمّ ينقُل عنه نقلا يكاد يكون لفظيّا، خُصوصا ما يتعلّق بآراء إفرائيم (Ephrem) وهو من آباء الكنيسة السّوريّة. وحتّى عناوين الفُصول تتشابه، إذ وسم أندري الفصل السّابع من القسم الثّاني من كِتابه بـ»إفرائيم» ومثله فعل جعيط حين جعل عُنوان المسألة الثّانية من الفصل الخامس «آراء إفرائيم والقُرآن»(80). وههنا ينقل ما ذكره أندري من تناظر بين آراء إفرائيم والقُرآن في وصف السّاعة حين تأتي في لمح البصر، وما يُصاحِبها من تناثر النّجوم، وكيف تكفهرّ وجَلا من هول السّاعة…(81). ويُواصل جعيط إظهار التشابه في وصف الجنّة بين إفرائيم والقُرآن، فيوشك على نقل كلام أندري «بلفظه»، بل ينقُل عنه حتّى بعض إحالاته(82)!
إنّ الإفراطَ في الاعتِماد على كتاب أندري جعل جعيط ينتهِج نهجا في البحث قديما قديما، إذ اتّبع المُستشرِقون في العُقود الأولى من القرن العِشرين المنهجيّة الفيلولوجيّة التّاريخية القائمة على المُقارنة، وهي منهجيّة البحث في القرن التّاسعَ عَشَرَ. ومورد القِدم الثّاني ينبع من تأخر مناهج المُستشرِقين عن مناهج الباحِثين في المجال الأوروبي وهم يمتلِكون أحدثَ المناهج(83). فهل يُمكِن أن نأتِيَ بجديد في دراسة السّيرة النبويّة من خلال التّعويل على مقالات ومنهجيّات استِشراقيّة قديمة مرّتين؟ يعسُر ذلك، وبخاصّة إذا ردّدنا كلام المُستشرِقين الكلاسيكيين بحذافيره، بلا توظيف نقدي كفعل جعيط بكلام أندري في إفرائيم وتعاليمه، وكفِعل الرّصافي والدّشتي في ترديد بعض المقالات الاستشراقية المُلوَّنة بالجدل المسيحي القديم.
النّقد الجديد
ذكرنا في مقدّمة كلامنا أنّ ما ميّز أعمال الرّصافي والدَّشتي وجعيط هو خُروجها عن نسق الاستنساخ الذي طبع كتابة السّيرة لدى المُسلِمين قديما وحديثا، وقد تبيّنت بعضُ أوجهِ الاختِلاف فيما تقدّم. ولا يعني انتِقادنا لتأثّر الكُتّاب الثّلاثة بمقالات استِشراقيّة كلاسيكيّة انتِفاء الجِدّة عمّا كتبوا، فقديم المُستشرِقين لا يخلو من أيّة فائدة، لا سيّما إذا كان عدد من الكُتاب المُسلِمين يرفضون التفاعل مع إنتاج المستشرِقين جُملة، وإنّه لموقف سلفي بعيد عن روح العصر العِلميّة والفلسفيّة. فما مظاهر التجديد في سير الثّلاثة الكُتّاب؟ وما هي حُدودُها؟
1ــ هدم الثّوابت:
دار جدل منذ القديم حول «أمّية» الرّسول، لكنّ جمهور المُسلِمين يعتقِدون أنّه النبيّ الأمّي في معنى النبيّ الذي «لا يقرأ ولا يكتب». وبهذا التّأويل يحتجُّ المُسلِمون على صِدق الرّسالة مثلما قيّد ذلك علي بن ربّن الطّبري في القرن الثّالث: «فمَنْ جاءنا بكتاب هذه نسبته ونعته وله من القلوب هذا المحل والجلالة والحلاوة، ومعه هذا النّصر واليُمن والغلَبة، وكان صاحبُه أميّا لم يعرف كتابة ولا بلاغة قطّ، فهو من آيات النبوّة لا شكّ فيه ولا مِرية»(84). وقد رفض ثُلّة من المُحدَثين هذا التّأويلَ إذ يذهب الرّصافي إلى أنّ المقصود بالأمّيين في القُرآن هم الأقوام الذين ليس لهم كِتاب مُنزَّل في مُقابلة واضحة مع أهل الكِتاب: «فمحمّد لمّا قام بالدّعوة إلى الإسلام أراد أن يُميِّزَ في كلامِه بين الأمّة التي لها كِتاب والأمّة التي ليس لها كِتاب، فسمّى العرب بالأميين»85. ويحتجّ الكاتب لمذهبه بما جاء في آيِ القُرآن من تقابل بين الأميين وأهل الكِتاب(86).
ويزيد الرّصافي على احتِجاجه لعِلم الرّسول قولَه إنّ معرفة محمّد الواسِعة بأخبار الأمم الماضية، والحديث النبوي يدلان على أنه كان يُحسِن القِراءة والكِتابة(87). وهي ذات النّتيجة التي يُقرِّرها هشام جعيط في كِتابيْه(88)، ويذهب كذلك إلى ما ذهب إليه الرّصافي من أنّ «النبيّ الأمّي يعني النبيّ المبعوث من غير بني إسرائيل»، وأنّ لعِبارة «أمّي» و»أمّيين» مُرادِف في العِبريّة وهو «أُمُم عُلام» أي أُمم العالَمين. ولا يُمكِن تأويل الأمّية التي وردت في القُرآن بجهل القِراءة والكِتابة لأنّ الصّفة تعلّقت بالعرب كافّة، وليس جميعُهم أمّيّا بهذا المعنى، إذ كان منهم القارِئ والكاتِب(89)…
لقد غيّب جعيط آية من القُرآن يحتجُّ بها المُسلِمون في أميّة النبيّ وهي: وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت : 48]. وهذه الآية هي التي تُثبِت أمّيّة النبيّ لا الآيات التي وردت فيها مُقابلة بين الأميين وأهل الكِتاب حَسَبَ بعض الكُتّاب(90). أمّا الرُّصافي فقد تأوّل الآية بأسلوب لا يخلو من تعسُّف حين قال إنّ الآية المذكورة لا تنفي معرفة محمّد بالكِتابة بل تنفي إظهارَها ووُقوعَها «ولا يلزَم من معرِفة الكِتابة وقوعُها»(91)!
إنّنا نرغب عن الخوض طويلا في هذه القضيّة إذ فحصنا عن أمرها بإسهاب في دراستنا للسّير الحديثة(92)، وانتهينا إلى أنّ النبيّ لا يُمكِن أن يكون أمّيا في معنى جهل القِراءة والكِتابة في الأقل بعد البِعثة، إذ أُوكِلت إليه وظيفة تعليم الكِتاب مثلما تنُصّ على ذلك الآية: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة : 2]. فأنّى لِمَن لا يعلَم أن يُعلِّمّ! ثمّ إنّ بيئة النبيّ العلمية لم تكن قائمةً على الكِتابة بل على المُشافهة، وهكذا تبدو صلة العِلم بالقِراءة والكِتابة واهية. ولم يكن غرض المُسلِمين من القول بالأميّة السّائرة إلا تنـزيه القُرآن عن كلّ «حِكمة أرضيّة» على حدّ عِبارة ابن ربّن الطّبري، من أجل الردّ على مطاعِن أهل الكِتاب. وقد ردّ عليهم القُدامى بقولهم هَبْ أنّ النبيّ «قارئ كاتب فما لهم لم يؤمنوا به من الوجه الّذي آمنوا منه بمُوسى وعيسى عليهما السلام؟»(93). فلا نفعَ للفِكر الإسلامي في التشبّثِ بمفهوم الأمّية المشهور.
وعلى هذا النّحوِ هدم جعيط قصّة نزول الوحي بغارِ حِراء، لأنّها مثل مسألة الأميّة تؤكّد على أنّ القُرآن كلام الله بحذافيره لفظا ومعنى: «فقصّة الغار وما حفّ بها تريد أن تُشيرَ إلى أنّ النُبوّة فُرِضت على محمّد من الخارج»(94). ويرى المُؤرِّخ أنَّ القُرآنَ لا يُشير إلى الغار ألبتّة، وأنّ الوحيَ حصَل في وقت التجلّي في الأفق، ولم يحصل في زمنٍ آخر، ولا موضع آخر، وهو ما تُشير إليه سُورتا التّكوير والنّجم(95). وإنّ في اعتِماد المُؤرِّخ على القرآن المُعاصِر للدّعوة وفَتراتها حُجّةً كفيلة بدحض قصّة غار حِراء وغيرها من القَصص الذي نُسِج بأخَرة حول سيرة محمّد، وبدأ يتضخّم مع الأعصُر حتى امتزج بالأساطير التي كادت تحجُب السيرةَ التاّريخية لمحمّد النبيّ البشر.
ومن ذلك القَصص الذي اطّرحه المُؤرِّخ القول بالإسراء مناما «المُحقَّق أنّ الإسراء تمّ بالرُّؤيا «الحقيقية» في النّوم بتدخُّل من اللّه، وليس أبدا بالجِسم»(96). وليس هذا القول بجديد إذ افترقت روايات المُسلمين في الإسراء إلى ثلاث مقالات، منها مقالة الإسراء مناما وهي تعتمد على روايات قديمة لعائشة ومُعاوية(97). وإنّما يكمُن فضل المُؤرِّخ في إبراز ما أخمله الفِكر الإسلامي السُنّي (الرّسمي)، وفي الالتِزام بصريح القُرآن كرأيه في ما يُسمّيه المُسلِمون «هِجرة»، في حين أنّه تهجير كما نصّ على ذلك القُرآن في غير آية: وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ لَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ [محمّد : 13]، و فَ لَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِنْ دِيَارِهِمْ [آل عِمران : 195]…(98). وإنّ في الالتِزامِ بالقُرآن مصدرا للسّيرة قيمةً تاريخيةً بإجماع الدّارسين مشرِقا ومغرِبا. وبالاستِناد إليه نبذ جعيط المُعجِزات التي اختلقها المُسلِمون للنبي منذ العصر الأموي، «فالنبيّ الذي يتكلّم عنه القُرآن عقلاني إلى آخر درجة»(99).
2. تخطِّي أسيِجة الفكر الإسلامي الرّسمي:
يختلِف الباحِثون في تحديد الفكر الرّسمي، فمحمّد أركون يُسمِّيه أرتودكسياّ، ومنصف بن عبد الجليل يُسمّيه سُنّيا (سُنّية سُنيّة وسُنيّة شيعية)، ويُعرِّفه بكونه «الفهم المركزي للنصّ الإسلامي، وهو فهم كرّسته نواة راسخة من الفقهاء ومراجع التقليد»(100). وهذا الفهم يُمثِّل أحد عَمَدِ النّظام السّائد حسَب أركون إذ يحظى بدعم الدّولة المركزيّة(101). وقد سيطر «الفهم المركزي للنص الإسلامي» على مخيال المُؤمنين فبات نقضه أو نقده تجاسُرا على الإيمان ذاته لأنّ جُمهور المُسلِمين لا يُميِّزون بين النّصوص الإسلامية المقدَّسة والفكر الإسلامي باعتِباره فهما للنّصوص الأصليّة، وهو فهم بشري وتاريخي. بل يستحيل نقدُ الفهم المُسيطِر في أحيان خُروجا عن الدّين لدى عامّة المُسلِمين. فما حظُّ الكُتّاب الثّلاثة من خلخلة الفهم «المركزي» لسيرة محمّد؟
يقول الرّصافي في تعليقه على بعض الأخبار «لا ريب أنّ اللّه أعظم وأجل من أن يعمَدَ إلى إنسان فيُرسِلُه إلى النّاس ليُخبِرَهم عنه بما يُريد، فإنّ هذا لا يليق بذاته الفعّالة المُطلَقة، ولا بوجوده الكُلّي السّرمدي اللانهائي»(102). فهل يعني هذا إنكارا للنبُوّات كمذهب بعض المُفكِّرين في التّاريخ الإسلامي؟ لا يبدو ذلك بيِّنا في كِتاب الرّصافي إذ تحدّث عن النبوّة والوحي، وإن تمثلّها بطرائق تُخالِف في أمور ما ساد وراج. وإنّما هي شذرات تعبِّر عن فكر تجرأ على «المسكوت عنه» أو «اللامفكّر فيه». وههنا تكمن قيمة منهج الرّصافي مهما كان موقفنا الإيماني منه، فالقُدامى فكّروا في ما أصبح لدى المُحدَثين محظورا كنظرهم في خلق القُرآن وماهيّة الوحي…
وإنّ بعض الآراء التي تبدو بِدعة لدى المُحدَثين نجد نظائرها في كتب التُّراثِ كقول الرّصافي إنّ قدرة الله غير مُطلقة لأنّها لا تتعلّق بالمُحال، وقد أشار هو نفسه إلى رأي عُلماء الكلام في المسألة، إذ قالوا بما يقول(103). وهكذا ترى تواطُؤا بين أصحاب التفكير المُتحرِّر على اختِلاف الأزمِنة، وتَرى أنّ المسألة التي لا يَنظُرُ فيها حديثا إلا ثلّة من المفكّرين كانت قضيّة للنّظر لدى القُدامى، فكم يحتاج الفكر الإسلامي المُعاصِر إلى التشبُّع بالتّراث ليتحرّر من سلفيّته الوهميّة.
أفضى التّجاسُر في نقد المُسلّمات الدّينيّة الرّاسِخة في الكُتب والأذهان بالرّصافي إلى نِقاش حِجاج القُرآن، فانتهى إلى أنّه لا «يُناسِبُ ذكاء محمّد»(104). وقد أسهب الكاتب في ضرب الأمثلة لإظهار ما رآه «ضَعفا» في جدل القُرآن. ومثله فعل جعيط دون إفاضة حين قال: «إنّ ردّ القُرآن قبل سورة النّجم وضمن هذه السّورة، على اعتِبار الآلهة «بنات اللّه» غير مُقنع بتاتا، فبرهنته خَطابيّة محضة. القرشيون يُفضّلون البنين على البنات وينسبون مع هذا إلى اللّه بنات، أي ما لا يُحبّون هم لأنفسهم: «تلك إذن قِسْمَةٌ ضِيزَى»، يقول القُرآن. أيعني هذا أنّهم لو نسبوا له آلهة ذكورا، مثل سعد وسواع… إلخ، لكان هذا مقبولا؟»(105).
إنّ المُتدبِّرَ لما كتبه الجماعة في السّيرة يجد صعوبة في تقويم آرائهم وما انتهوا إليه من نتائجَ، فإمّا أن يتّخذ منها موقفا دينيّا فيرى في بعضها اجتراء على نقد أصول العقيدة، فلا يقبله، ويعترِض على بعضه بحُجج أخرى. أو يقف موقف الباحث مثلما نروم أن نفعلَ، فيُحاوِر الفكر حِوارا عِلميا ما استطاع إلى ذلك سبيلا دون أن ينزِلق إلى إطلاق الأحكام الشخصيّة. وفي كلتا الحالتين إسهام في إغناء الفكر الإسلامي، أمّا ثالثة الأثافي فهي الإحجام عن معرِفة صميم ما قال الكُتاب الثلاثة ورميهم بأحكام دينيّة تحرّم التفكير والبحث في المسائل المُتّصِلة بالمُقدّس. ومهما كان موقف القارِئ فإنّ نقد الفكر الإسلامي، والقراءة التّاريخية لذاك الفكر لا صلة لهما بالعقيدة لأنّ الفكر تاريخي وبشري. فعندما يقول جعيط إن الرّسول كان يبحث عن الحقيقة في اتّجاهات عديدة قبل البِعثة، فإنّه ينتقد الصّورة التي بناها المُسلِمون للنبيّ، ولا ينتقد النص الإسلامي الأصل، لأنّ القُرآنَ يُؤيِّد رأيَه، وقد احتجّ به(106).
3. حُدود المُقاربات:
لا تخلو محاولات الرُّصافي والدَّشتي وجعيط في دراسة سيرة محمّد دراسةً غير «نمطيّة» من تهافت في جوانب من مناهجها ونتائجها، وقد أشرنا إلى بعض ذلك فيما تقدّم من مقالنا. ونذكر ههنا أوجها أخرى تتعلّق بكل كاتب مُنفرِدا، إذ ينتقد الرّصافي الأخبار التّاريخية التي دُوِّنت بعد عصر النبي، ويُقرِّر أنّ الرّواية المُتواتِرة يكاد وقوعُها يكون مُستحيلا(107)، ثمّ يُعوِّل في فصول كتابه على السّيرة الحلبيّة، وهي مصدر شديد التأخر يعود إلى القرن السّابعَ عشرَ ميلاديا! وكذلك يُناقض قوله في الشّعر الجاهلي إنّه كان من المنحول والمنسي، والمفقود(108). ثمّ يقول في موضع آخر إنّ القُرآنَ أخذ من شعر زيد بن عمرو بن نُفيل وأميّة بن أبي الصّلت بعض أخبار الأنبياء السّابِقين كيونُس وغيره(109).
ويقول الرّصافي: «ولا ريب أنّ الجنّة التي وصفها محمّد بأوصافها الباهرة المعلومة، بالشّكل المُبهِج العجيب، غير مذكورة في التوْراة ولا في الإنجيل»(110)، وههنا نكتشف حدود الآفاق المعرفية للكاتب، إذ بيّن ط. أندري (1930) أنّ وصف الجنّة في القُرآن يُشبِه ما جاء في تعاليم المُبشِّرين النّصارى السُّوريين(111). ونكتشف حُدود الحداثة في كتاب الرّصافي حين يقارن بين الاستِقسام بالأزلام في الجاهليّة والخِيَرة بالسّبحة لدى الشّيعة المُحدَثين، فُيُحيِي المُماحكة المذهبيّة القديمة(112)، كما يُذكي الخِلاف الطّائفي يبن المُسلِمين والمسيحيين حين يذمّ النّصرانيّة و«شِركها»(113). وليست هذه معالِمَ تجديد حقيقي في خطاب السّيرة، خِطاب التّاريخ.
ولا يختلف الدَّشتي عن الرصافي كثيرا في الاعتِماد على المصادر المُتأخِّرة إذ عوّل على تفسير الجَلاليْن، جلال الدّين المحلّي وجلال الدّين السّيوطي (ت. 911هـ)، فلم تكد تخلو فصول الكِتاب من ذكرِهما(114). وقد عاش السّيوطي كما نعلم بداهة في عصر غلب عليه جمع عُلماء مِصر لتُراث المُتقدِّمين من أجل حفظه بعد أن أفل دور بغداد الثّقافي. ولم نر أحدا من أهل العِلم يعكِف على مُؤلّفات أهل القرن العاشر فيستعيض بها عن المصادر المُتقدّمة الأصول. ثمّ إنّ الدّشتي لم يكن أمينا في بعض نقله عن المُفسِّرين، إذ يقول في قصّة زواج النبيّ من زينب بنت جَحش: «فعلى الرّغم من وضوح الأدلّة التي توفِّرها الأحاديث ووُضوح المعنى في الآية (37)، لم يستطِع الإمام والمُؤرِّخ العظيم الطّبري أن يقبَلَ أنّ فاعِلَ الفِعل في جُملة «وتُخفي في نفسِك» هو محمّد، ولذلك فهو يرى أن المُخاطَب هنا هو زيد، وأنّ زيدا هو الذي كان يُخفي في نفسه»(115).
وقد راجعنا تفسير الطّبري فوجدنا نقيض ما نسبه إليه الدَّشتي: « وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ . يقول: وتُخفي في نفسِك محبَّة فِراقِه إيّاها، لتتزوّجَها إن هو فارقها، واللّه مُبدٍ ما تُخفي في نفسِك من ذلك»(116)، ويُؤيِّد الطبري تأويلَه بروايات تدلّ بجلاء على أنّ المُخاطب هو محمّد، كرواية قَتادة التي ورد فيها تعليقا على العِبارة المُتقدِّمة من الآية «ولو كان نبي اللّه صلى الله عليه وسلّم كاتِما شيئا من الوحي لكتمها»(117). فلا لَبس في تفسير الطبري في أنّ المُخاطَب هو محمّد، وإنّما التخليط في كلام الدّشتي، تخليط يدعو القارِئ إلى التحرّي في أسانيده، وإلى السُّؤال عن مقاصده في تحريف تأويل الطّبري، وهو كتاب سائر مطبوع منذ عُقود من الزّمن؟
يبدو أنّ تشكيل بعض الأخبار في كتاب الدَّشتي يَخدُم الرُّؤية الإيديولوجية «العقلانيّة» التي يتحدّث عنها في مواضع، إذ يحكُم بأنّ النبيّ كان صاحِب «شهوة شديدة»، ثمّ يُورِد قائمةً بعِشرين امرأة تزوّجها محمد مثل أسماء بنت سباء، وهبلة بنت قيس…(118)، وهذه الأسماء لم نعهد لها ذكرا في مصادر السّيرة والتّاريخ المُتقدِّمة، ولم تذكر هذه المصادر سِوى ثلاثَ عشْرَةَ زوجةً(119). إنّ سياسة انتِقاء الأخبار وتشكيلها بأسلوب يُوافِق رأي الكاتِب منهجٌ سلكه المُستِشرِقون والسلفيون في دراسة حياة محمّد، وهو مُتهافت لديهما لأنّه قائم على الاستِصفاء والإقصاء في التعامل مع الأخبار، ويطلُب مقاصدَ فكرية وإيديولوجيّة بعيدة عن علم التّاريخ الحديث الذي يطلُب المعرفة لذاتها.
ويكثُر في كِتاب الدّشتي الإسقاط التّاريخي، أي إسقاط قيم العصر الحديث على التّاريخ القديم، إذ يقول في «لُجوء الرّسول إلى السّيف» من أجل نشر الدّعوة وإقامة الدّولة إنّه نَهج «ينطوي بالضّرورة على دوس لواحد من أثمن حقوق الإنسان، أعني حريّة الفِكر والاعتِقاد»(120)، ولا جِدالَ في أنّ الخوض في مسائل حقوق الإنسان يعود إلى القرن الثّامن عشر، وإلى فكر الثّورة الفرنسيّة خاصّة، فأنّى لمحمّد أن يستلهم هذه القيم في عصره وبِيئته؟ ومَثَلُ الإسقاط التاريخي المُتقدِّم كمَثَلِ ما ذكره الكاتِب عن «ضَعف الحُجج» التي تَسوقها الشّريعة الإسلاميّة دِفاعا عن غلبةِ حظّ الذُّكور على الإناث في المواريث وغيرها…(121). ويُؤدّي الإسقاط التّاريخي إلى قِراءة غير تاريخيّة أصلا للتّاريخ، قد تُفيد أهل الإيديولوجيا والسّياسة، لكن لا تُفيد أهل العِلم. ولا يخلو كِتاب الدّشتي من عصبيّة تنأى به عن إنصاف العُلماء كحديثه عن مُجاوزة العرب القُدامى الحدَّ «البربري المُعتاد» في مُعاملة النّساء(122)!
إنّ المُؤرِّخ هشام جعيط أقربُ الثّلاثة إلى حُدود العِلم، وأكثرُهم التِزاما بِحِياد العُلماء، لكنّ ذلك لا يمنعُ من نقده في مسائل، كقوله إنّ ما يُدوَّنُ بعد مائة سنة من الحدث ليس جديرا بثِقة المُؤرِّخ(123)، وفي هذا القول نظرٌ إذ قد يُدوَّنُ الأثر مُبكِّرا ولا يُوثَق به، فكِتابة التّاريخ متينة الصّلة بالسُّلطان مثلما بيّن الدّرسُ شرقا وغربا. ويُكتَبُ التّاريخ في أحيان كثيرة لأسرة حاكِمة أو سياسة قائمة على مذهب أو مِلّة، ويشهد التّاريخ العربي على مثل هذا في العهد العبّاسي وبعدَه، حتّى أنّ كثيرا من كُتُب التّاريخ تُوشَّى عناوينها بذكر السّلطان الحاكِم.
خاتمـة:
ليست قِراءة أعمال الكُتّاب الثّلاثة الرُّصافي والدَّشتي وجَعيْط بالأمر اليسير، لا سيّما هشام جعيط لتخصّصه العِلمي في التّاريخ، وامتِلاكه لآلة المُؤرّخين المُعاصِرين من إحاطة بالمصادر القديمة مع قدرة منهجيّة على نقدها، فضلا عن حذقه لأكثرَ من لسان أوروبي مكّنه من الإفادة من مُساهمة الغربيين المُحدَثين والمُعاصرين في دراسة التّاريخ الإسلامي… وقد حاولنا أن نعرِض آراء الجماعة وما ضمّته كُتبهم من نتائج كبرى تتعلّق بسيرة محمّد، لكنّنا آثرنا العرض النّقدي. فتبيّن لنا أنّ هؤلاء الكُتّاب اختطوا نهجا جديدا في دراسة سيرة النبيّ، فلم يَرضوْا باستِنساخ ما جاء في الكتب القديمة منهجا، وهي مزية كبرى، إذ تكاد الكُتب الدّائرة بحياة محمّد تكون مُطّردة، وقد نبّه إلى ذلك المُثقّفون منذ عُقود من الزّمن، إذ صرّح أحدُهم بأنّه كان يتلهّف لقراءة شيء جديد عن الرّسول، وفسّر ذلك بقوله: «كنت كلّما ظهر كتاب حديث عليه اسم «محمّد» (ص)، أُسارع لاقتنائه، ذلك لأنّني كنت ولا أزال في رغبة شديدة أن أسمع عن الرسول العربي العظيم، وعن سيرة النبيّ الكريم شيئا جديدا»(124).
ولا تخلو كِتابة الجماعة من جديد، فقد انتقدوا الأخبار التي دُوّنت بعد قرنين من حياة محمّد، وهي بنقدهم خليقة إذ داخلها التّهويل، وصُنِعت لأغراض سياسية، ومذهبيّة في مُعظمها. ووثّق الكُتّاب الثّلاثة القُرآن وقدّموه على غيره من المصادر لِمُعاصرته للدّعوة، وفي ذلك التِزام بحُدود التّاريخ، فكلّما كانت الوثيقة قريبة من زمن الأحداث ازدادت قيمتها التّاريخيّة. ويُعتبر الشك في كثير مِمّا حوته مصادر السّيرة والتّاريخ معلَما يُميّز أعمالهم على اختِلاف درجات ذاك الشكّ، كانتِقاد الرّصافي لبعض مرويات ابن هشام وهو مصدر أصبغت عليه أجيال المُسلِمين قداسة في حين أنه إنتاج مُؤرِّخ في ظرف تاريخي معلوم، يعتريه حتما ما يعتري فكر البشر من زلل ونقصان…
ولعلّ قيمة أعمال الثّلاثة الكُتّاب تكمُنُ في عدم خُضوعهم لسُلطة «عمود» السّيرة الذي أُرسِخ منذ القديم، فأضحى رسميّا لا يُقبَل الخُروج عنه، بيد أنّه صناعة تاريخيّة تقبلُ النّقد التّاريخي. وقد أوغل في هذا النّقد هشام جعيط خاصّة، فكسر حلقات من قصّة السّيرة المشهورة كإثباته أنّ عام الفيل علامة زمنيّة فحسب، ولا تُناسِبُ سنة ميلاد محمّد لأنّها حدثت حسَب النّقوش قبله بأكثرَ من ثلاثين عاما..
. ولم يخل كِتاب الشخصيّة المحمّديّة من إشارات تاريخيّة لبيبة كإلماعه إلى قلّة الاهتِمام بأسفار محمّد، وإقراره بأنّها قادرة على كشف جوانب هامّة من سيرته، كما أنّ المنهج التّاريخي الذي توخّاه الدَّشتي في ربط الإسلام بالشّرائع السّابقة قويم بغضّ النّظر عن بعض النّتائج التي ناقشناها في مواضعها، وقد عِبنا عليه وعلى الرّصافي وجعيط شديدَ ارتِباطهم بمقالات الاستِشراق الكلاسيكي إذ لُوِّن بألوان الجدل المسيحي القديم. ومهما اختلف القارِئ والباحِث في تقويم أعمال الجماعة فلا مناصَ من الإقرار بكونها حَرِيّة بالدّرسِ والمُحاورة، وتُمثِّل نهجا مُتحرِّرا في دراسة السّيرة يُمكِنُ أن يُغنيَ الفكر الإسلامي في مسار تجديده.
الهوامش:
1ـ حسن بزاينيّة : كِتابة السّيرة النّبوية لدى العرب المُحدَثين، اتّجاهاتهُا ووظائفُها- دُكتوراه في الحضارة العربيّة، نُوقشت بكليّة الآداب والفُنون والإنسانيات بمنّوبة في 01 مارس 2010، مخطوطة بمكتبة الكلية المذكورة.
2ـ معروف الرّصافي : كتاب الشّخصيّة المحمّدية أو حلّ اللّغز المقدّس-ط.1-منشورات الجمل-ألمانيا2002. ومعروف الرّصافي عرَفناه شاعرا، وقد وُلِد ببغداد وبها تلمذ لمحمود شكري الآلوسي في علوم العربيّة، واشتغل بالتّدريس ببغداد والآستانة، ثمّ انتُخِب نائبا في مجلس «المبعوثان» العُثماني، فهجا دعاة «اللّامركزية» من العرب. وبعد الحرب العالميّة الأولى عُيِّن أستاذا للأدب العربي بدار المُعلمين في القُدس. وعاد إلى بغداد ليشتغل في لجنة التّرجمة والتّعريب، وبالصِّحافة، وتدريس العربيّة، والسّياسة (عضو في مجلس النُوّاب)… وقد توفي ببغداد سنة خمسٍ وأربعين وتِسعِمائة وألف. راجع ترجمة الرصافي في الأعلام-ج.7-ط.15-دار العلم للملايين-بيروت2002-ص ص. 268269.
3ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية- ص.16.
4ـ علي الدَّشتي : 23 عاما، دراسة في الممارسة النبويّة المحمديّة-ترجمة ثائر ديب-ط.1-مؤسسة بترا للنّشر والتوزيع/ رابطة العقلانيين العرب-دمشق 2004 (ط.2 سنة 2006، عن نفس المؤسسة، وهي الطبعة المُعتمدة في هذا البحث). وعلي الدَّشتي كاتب إيراني توفي في آخر سنة 1981 أو بداية 1982، تضلّع في العلوم الشّرعيّة والآداب الفارسية والعربية، كما تعلّم الفرنسيّة. ويُفهم من سيرته أنّه كان منتصِرا للشّيوعيّة، إذ أصدر صحيفة «شفق سرخ» ( الفجر الأحمر: 1922-1935)، ودُعِي لزيارة روسيا في مناسبة الذّكرى العاشِرة للثّورة البلشيفية. وقد ولِي الدَشتي مناصِبَ سياسيّة منها السِفارة لبلاده بمِصر ولبنان، والنّيابة في مجلس الشّيوخ حتّى قيام الثورة الإيرانيّة، فاعتُقِل وضُرِب… راجع : مقدّمة المُترجِم.
5ـ وُلِد هشام جعيط بتونس الحاضرة سنة 1935 في عائلة اشتهرت بالعِلم. وقد أقامَ طويلا بفرنسا حيث أتمّ بُحوثه الجامعيّة، وحصّل شهادة الدّكتوراه في التّاريخ الإسلامي من جامعة باريس في 1981، ثمّ انتصب مُدرِّسا للتّاريخ الإسلامي بالجامعة التّونسيّة، التي لا يزال بها أستاذا مُتميِّزا، ودرّس زائرا بجامعات عالَمية أخرى في بيركيلي وكالفورنية ومونريال… له تآليف كثيرة في الفكر العربي والتّاريخ الإسلامي حرّر معظمَها بالفرنسيّة، ثمّ تُرجِمت ككتاب الشخصية العربية الاسلامية والمصير العربي (1974)، والفتنة، جدليّة الدّين والسّياسة في الإسلام المبكِّر (1989)… أمّا كتاباه في السّيرة النّبويّة، وهما موضوع بحثنا، فقد حرّرهما بالعربيّة ابتِداءً.
6ـ هشام جعيّط : في السّيرة النّبوية1 : الوحي والقرآن والنبوّة – ط.1- دار الطليعة- بيروت1999 (ط.2 سنة 2000)، وفي السّيرة النّبوية2 : تاريخيّة الدعوة المحمّدية في مكّة-ط.1-دار الطليعة -بيروت2007.
7ـ Puech…., Histoires des reliions, ditions allimard, 1994, III, p.1279.
8ـ Christoph Luxenber, Die Syro-Aram ische Lesart des Koran, Berlin, 2000.
وأطروحة لوكسبرغ الرّئيسة تقول إنّ لغة القُرآن ليست العربيّة، ويتوجّبُ فهمُه تأليفه في ضوء اللّغتين السُّريانيّة والآراميّة.
9ـ يذكر نولدكه في ص.60، وغولدزيهر في ص.109… راجع : علي الدَّشتي : 23 عاما، دراسة في الممارسة النبويّة المحمديّة -ترجمة ثائر ديب-ط.2- مؤسسة بترا للنّشر والتوزيع/ رابطة العقلانيين العرب- دمشق2006.
10ـ شمس الدين محمّد بن عبد الرحمان السّخاوي : الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ التاريخ-تح. محمّد عُثمان الخُشت-مكتبة السّاعي-الرّياض1989-ص.64.
11ـ هشام جعيط : تاريخيّة الدعوة المحمّدية في مكّة-ط.1- دار الطليعة -بيروت2007 ص.5.
12ـ محمّد عبد الحي شعبان : التّاريخ الإسلامي في تفسير جديد-ترجمة عبد المجيد حسيب القيسي دار الدّراسات الخليجية-لبنان [المطبعة البولسية] د.ت- ص.21، وقد اُرِخت مقدّمة المُؤلّف بــ1971 = «الكِتابة الموضوعية المُجرَدة عن ظهور الإسلام أمرٌ صعب وكذلك في واقع الحال أمر الكِتابة عن أيّ من الأديان الأخرى».
13ـ معروف الرّصافي : كتاب الشّخصيّة المحمّدية أو حلّ اللّغز المقدّس-ط.1-منشورات الجمل-ألمانيا 2002- ص ص.101-102.
14ـ أحمد بن يحيى البلاذري (ت. 279هـ) : أنساب الأشراف-تح. سهيل زكّار ورياض زركلي-ط.1-دارالفكر بيروت1996ج.1- ص.127 = «أُنزِل القُرآن على النبيِ صلّى الّله عليه وسلّم، وله أربعون سنةً، ثُمّ مكث بمكةّ ثلاثَ عشْرَةَ سنةً، وبالمدينة عشْرَ سنينَ، وقُبِض وله ثلاثٌ وسِتون سنةً».
15ـ Jacqueline Chabbi, Le coran décrypté, fiures bibliques en Arabie, Fayard 2008, p.26 = اRien que des mots».
16ـ جواد علي : تاريخ العرب في الإسلام، السّيرة النّبوية-ط. دار الحداثة-بيروت1988-ص.114 [صدرت الطبعة الأولى عن مطبعة الزعيم ببغداد سنة 1961].
17ـ هشام جعيط : تاريخية الدّعوة المحمدية في مكة- ص.143.
18ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية-ص.103، ويذكر في موضع آخر من الكِتاب أنّ محمّدا لم يكن عند العرب «من عُظماء الرّجال» (ص209).
19ـ راجِع القِصّة مُقتضبَة في ابن خلدون : سيرة الرسول-تح. سعيد هارون عاشور-مطبعة الآداب-القاهرة1999 2000-ص ص.13-14. ويذكر ابن خلدون في ذيل القِصّة «واستمرّ على أكمل الزّكاء والطّهارة في أخلاقه، وكان يُعرَفُ بالأمين…» (ص.14).
20ـ تاريخية الدّعوة- ص.253.
21ـ Jacqueline Chabbi, «Histoire et tradition sacrée. La bioraphie impossible de Mahometب, in Arabica, Janv. 1996, p.198 =تاOr, celui-ci ne pouvait être, à lصépoque, quصun comparse de la scène mekkoise, vraisemblablement, un personnae tout à fait insinifiant».
22ـ البلاذري : أنساب الأشراف-مرجع سابق- ج.1- ص.67.
23ـ تاريخية الدّعوة- ص.136.
24ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية- ص.173.
25ـ راجع المصدر نفسه ص.98، وقد ذكر الرّصافي في موضع آخر أنّ أسفار الرّسول المعلومة من الكُتب «سبع سَفَرات: ثلاث إلى الشّام، وأربع إلى اليمن» (ص.197).
26ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية-ص.198.
27ـ محمّد عبد الحي شعبان : التّاريخ الإسلامي في تفسير جديد- مرجع سابق-24.
28ـ P. Crone, Meccan Trade and the rise of Islam, Princeton, 1987.
29ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية- ص.173.
30ـ هذه هي الأطروحة الرّئيسة لكرون وكوك في كتابهما :
– P. Crone & M. cook, Haarism, Cambride, 1977.
31ـ Jacqueline Chabbi, Le coran décrypté, fiures bibliques en Arabie, Fayard 2008.
32ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية- ص.137.
33ـ تاريخية الدّعوة- ص.287.
34ـ 23 عاما- ص.158.
35ـ نفسه-ص ص.189-190.
36ـ نفسه-158.
37ـ راجع كتاب جواد علي : تاريخ العرب في الإسلام-مرجع سابق- ص ص.25-26.
38ـ الوحي والقرآن والنبوّة- ص.136، هـ.76. ويذكر جعيط في الكِتاب الثّاني أنّ المُجتمعَ الوثني «مُتسامِحٌ في الدّين وأديان الحقيقة -التّوحيديّة- هي المُمتلِئة بذاتِها». تاريخية الدّعوة- ص.262.
39ـ الوحي والقرآن والنبوّة- ص ص.53-54.
40ـ نفسه- ص.114، هـ.13.
41ـ هشام جعيط : تاريخيّة الدعوة المحمّدية في مكّة-ص.148.
42ـ تاريخ العرب في الإسلام-مرجع سابق- ص.95.
43ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية- ص.15.
44ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية- ص.56، وما قبلها.
45ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية- ص ص.67-68، ونصّ حديث الذّباب الذي أورده البُخاري مثلا «إذا وقع الذّباب في شراب أحدِكم فليغمِسْه، ثمّ لينزِعْهُ، فإنّ في أحد جناحيْه داءً، وفي الآخر دواء، وإنّه يتّقي بجناحه الذي فيه الدّاء».
46ـ هذه السّيرة المُتأخِّرة -كما ترى- لخّص فيها الحلبي بعضَ السّير المُتقدّمة كالسّيرة الشّاميّة، وعيون الأثر لابن سيّد النّاس.
47ـ إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون-ط. دار إحياء التّراث العربي-بيروت-د.ت-ج.1-ص.4 [ثلاثة أجزاء].
48ـ 23 عاما- ص ص.195-196.
49ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية-ص.74.
50ـ تاريخيّة الدعوة المحمّدية في مكّة-ص.183، واُنظر ص.315، من نفس الكِتاب (رأس الصّفحة).
51ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية- ص.53.
52ـ راجع في هذا : تأويل مُشكِل القُرآن لابن قُتيبة (ت.276هـ)، شرحه ونشره السيّد أحمد الصّقر- د.ن- ود.ت، باب «الحِكاية عن الطّاعِنين». وكتاب المصاحف لأبي بكر السِّجِستاني-تح. آثر جفري (A. Jeffry)- ط.1- دار التكوين- دمشق2004، أبواب: «المصاحف العثمانية»، و»اختِلاف المصاحف التي نُسِخت من الإمام»…
53ـ ابن هشام : السّيرة النّبوية-تح. مصطفى السقّا وآخرين-ط.1- دار المُغني-السعودية1999- ص.32، حيث يقول : «وتاركٌ بعضَ ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب، ممّا ليس لرسول الله [صلّى الله] عليه وآله وسلّم فيه ذكر، ولا نزل فيه القرآن شيء، وليس سببا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرا له، ولا شاهدا عليه، لِما ذكرت من الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أرَ أحدا من أهل العلم بالشّعر يعرفها، وأشياء بعضُها يشنع الحديث به، وبعضٌ يسوء بعضَ الناس ذكرُه، وبعضٌ لم يُقِرّ لنا البَكّائي بروايته».
54ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية-ص.130.
55ـ نفسه- ص.199.
56ـ الوحي والقرآن والنبوّة- ص.94.
57ـ الوحي والقرآن والنبوّة- ص ص.135-136، هـ.73.
58ـ تاريخيّة الدعوة المحمّدية في مكّة- ص ص.265-266.
59ـ الوحي والقرآن والنبوّة- ص.39، واُنظر أيضا : ص.138، هـ.83، حيث يقول «أشكُّ في التحنّث النبوي الذي يبدو وكأنّه تقليدٌ للزّهد المسيحي». والتحنّث «التألُه والتبرُّر، وكان إذا أهلّ هلال شهر رمضان، دخل بِحِراء فلم يخرُجْ حتّى ينسلِخَ الشّهر…». راجع : البلاذري : أنساب الأشراف-مرجع سابق- ج.1- ص.92.
60ـ هشام جعيط : تاريخيّة الدّعوة المحمدية في مكة -مرجع سابق- ص.173.
61ـ Montomery Watt, Muhammad at Mecca, Oxford University Press, 1968, p.xv.ت
62ـ محمّد أركون : قضايا في نقد العقل الدّيني-ط.2-دار الطليعة بيروت2000-ص.67.
63ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية-ص.74.
64ـ Réis Blachère, Le problème de Mahomet, essai de bioraphie critique du fondateur de lصIslam, P.U.F, Paris, 1952, p.9.
وقد أصدر المُستشرق الإيطالي ليوني كِيتاني مجموعة من المؤلفات تتعلّق بحياة محمّد، وتاريخ الإسلام، سمّاها «حوليات الإسلام» :
(Léone Caetani : Annali dellIslam. Milano, U. Hoepli, 1905ذ1926, 10 vol.)
لان اللّذان نُشِرا تِباعا سنة 1905 وسنة 1907 بحياة النبيّ محمّد.
65ـ راجع ترجمة الرّصافي في الأعلام للزِّركلي-مرجع سابق-ج.7- ص.269.
66ـ إسلام تأريخي، ترجمة حسين جاهد-إستانبول1924.
67ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية-ص.115.
68ـ راجع حول هذه المسألة كتاب طور أندري :
– Tor Andrae, Mahomet, sa vie et sa doctrine, trad. J.. Demombynes, Paris, AdrienذMaisonneuve, 1945, p.50.
69ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية- ص.180، واُنظر : ص.207، حيث يقول «ولا شكّ أنّ دعوته لو لم تقترِن بالقُوّة المُسلّحة لَما نجحت ذلك النّجاح الباهِر في مُدّة يسيرة».
70ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية- ص.235.
71ـ 23 عاما- ص.161.
72ـ نفسه- ص.162.
73ـ تاريخيّة الدعوة المحمّدية في مكّة-ص ص.251-252.
74ـ N. Daniel, Islam and The west, the makin of an imae, Edinburh University Press, 1960, p.274 = اThe two most important aspects of Muhammadصs life, Christians believed, were his sexual license and his use of force to establish his reliion».
75ـ أركون : قضايا في نقد العقل الدّيني-مرجع سابق- ص.152.
76ـ 23 عاما- ص.190.
7723 عاما – ص.201.
78ـ طور أندرِي مُستشرِق سويدي توفّي سنة 1947، وهو صاحب كِتابين في تاريخ الإسلام هما :
– Tor Andrae, Muhammed, hans liv och hans tro, Stockholm, Natur och kultur, 1930.
وقد تُرجِم الكِتاب إلى الألمانية سنة 1939، ثمّ نقله المستشرق الفرنسي ديمومبين إلى الفرنسية (عن الترجمة الألمانيّة) سنة 1945 :
– Mahomet, sa vie et sa doctrine, traduit de lصAllemand par Jean audfroyذDemombynes, AdrienذMaisonneuve, Paris, 1945.
أمّا الكِتاب الثّاني فقد صدر سنةَ 1925، وتُرجِم من الألمانيّة إلى الفرنسيّة :
– Tor Andrae, Les oriines de lصislam et le christianisme, traduit de lصallemand par Jules Roche, Adrien-Maisonneuve, Paris, 1955.
79ـ تاريخيّة الدعوة المحمّدية في مكّة- ص.165.
80ـ نفسه- ص.171 وما بعدها، وكِتاب أندري المُتقدِّم ذكرُه ص.145 وما بعدها (الترجمة الفرنسيّة).
81ـ راجع جعيط ص.168، وأندري ص ص.147-148.
82ـ قارن مثلا بين الفقرة الآتية في كتاب جعيط : «هذا في خُصوص قيام الساعة والحِساب في آثار الكنيسة السّوريّة. ونجد أيضا موازاة كبيرة في توصيف الجنّة، وقد لفت النّظر إلى هذا الأمر غريمه في كتابه عن محمّد…» (ص.168). وهذه الفقرة في كِتاب أندري :
«rimme a indiqué que la fantaisie de Mahomet dans la description des joies du paradis devait avoir randement bénéficié du souvenir des imaes employés par Ephrem…صصب. P.151.
83ـ يُشير أركون إلى التمييز «شبه العُنصري» بين الأقسام الاستشراقيّة وغير الاستِشراقيّة في أوروبا، وما انجرّ عنه من تأخر الأقسام الاستِشراقيّة. راجع : قضايا في نقد العقل الدّيني- مرجع سابق-ص.67، وص ص.111-112، وص130، وص.150.
84ـ علي بن ربّن الطبري : الدّين والدولة، في إثبات نبوّة النبي محمّد صلى الله عليه وسلم-تح. عادل نويهض-ط.4-دار الآفاق الجديدة-بيروت1982-ص ص.98-99.
85ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية- ص.166.
86ـ الآيات التي ذكرها الرّصافي واحتجّ بها غيرُه مِمّن يذهب مذهبه هي : وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ [آل عِمران : 20]؛ و هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ [الجمعة : 2]. نفسه- ص.167.
87ـ راجع : ص.170 وما بعدها.
88ـ راجع : الوحي والقرآن والنبوّة- ص.46، حيث يقول : «أعجب لكونهم [المستشرِقين] من خلال هذه النِّظرة لم يشعُروا بسَعة عِلم النبيّ ومقدرته الفذّة في معرِفة التّراث الدّيني واللّغات العِبريّة والسُّريانيّة واليونانيّة التي نجد أثرَها بالِغا في القُرآن ومُعرَّبا في الشّكل». وتاريخيّة الدعوة المحمّدية في مكّة- ص.155.
89ـ الوحي والقرآن والنبوّة- ص ص.42-43.
90ـ محمّد عزة دَرْوَزَة : سيرة الرسول، صُور مقتبسة من القرآن الكريم، وتحليلات ودراسات قرآنية-ط.2-مطبعة الحلبي بمصر1965-ج.1- ص ص.45-47.
91ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية- ص.169.
92ـ اُنظر الهامش الأول من هذا البحث.
93ـ أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت. 538هـ) : الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل-تح. الشيخ عادل أحمد عبد الموجود (….)-ط.1-مكتبة العبيكان-الرياض1998ج.4- ص.555.
94ـ الوحي والقرآن والنبوّة- ص.41.
95ـ نفسه- ص.37 وما بعدها.
96ـ نفسه31.
97ـ القاضي عياض : الشفا بتعريف حقوق المصطفى-ط. دار الفكر-بيروت1988- ص ص.187188.
98ـ راجع الآيات الأخرى التي احتجّ بها جعيط : تاريخيّة الدعوة المحمّدية في مكّة- ص.291.
99ـ الوحي والقرآن والنبوّة- ص.125، هـ.47.
100ـ الفرقة الهامشية في الإسلام، بحْث في تكوّن السُنيّة الإسلامية ونشأة الفرقة الهامشية وسيادتها واستمرارها-ط.1-دار المدار الإسلامي-بيروت2005- ص.835.
101ـ أركون : قضايا في نقد العقل الدّيني-مرجع سابق-ص96.
102ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية-ص.183.
103ـ نفسه- ص.78.
104ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية- ص.77، وقد قدّم الرّصافي أمثلة كثيرة من حُجج القُرآن يعتقد أنّها غير شافية ويُمكن نقضها، كالردّ على مَنْ يتّهم الرّسول بالأخذ عن الأعاجم : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ [النحل : 103]، ويُعلّق الكاتب على هذه الحجّة بقوله : «وتعليم المعاني مُمكِن ولو بلغة فيها لُكنة أعجميّة، فلم يكن هذا الجواب، دافِعا للتُّهمة المُوجَهة إلى محمّد». ص.78. وانظر أمثلة أخرى في الصّفحات اللاحِقة.
105ـ تاريخيّة الدعوة المحمّدية في مكّة-ص.202.
106ـ الوحي والقرآن والنبوّة- ص.100، وقد احتجّ جعيط بهذه الآية : وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى [الضّحى : 7].
107ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية- ص.54.
108ـ نفسه- ص. 52.
109ـ نفسه- ص.133.
110ـ نفسه- ص.95.
111ـ Tor Andrae, Mahomet, sa vie et sa doctrine, op. cit., p.87.
112ـ كتاب الشّخصيّة المحمّدية-ص.260.
113ـ نفسه- ص129.
114ـ 23 عاما، دراسة في الممارسة النبويّة المحمديّة. اُنظر مثلا الصّفحات الآتية : 167، 177، 178، 185، 192، 193، 205…
115ـ نفسه- ص.218، والآية 37 التي تُشِير إلى قصّة زواج الرّسول من زينب هي : وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً [الأحزاب : 37].
116ـ أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري-جامع البيان عن تأويل آي القرآن-تح. عبد الله التركي-ط.1-دار هجر-القاهرة2001-ج.19-ص.115.
117ـ نفسه- ص.116.
118ـ 23 عاما- ص.201 وما بعدها.
119ـ راجع ابن هشام : السّيرة النبوية- مرجع سابق- ص ص.12861289، وفيها : كان جميع مَنْ تزوّج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثَ عشْرةَ، بنى منهنّ بإحدى عشْرَةَ، وردّ اثـنتين منهنّ. وقد مات قبله من زوجاته اثنتان : خديجة بنت خويلد، وزينب بنت خُزيمة، وتوفيّ عن تسع. وقد كان له من السَّراري اثنتان، وهما مارية القبطية، أمّ إبراهيم ولد رسول الله، أهداها له المقوقس صاحب إسكندرية ومصر، وأمّا الثانية فريحانة بنت عمرو، اصطفاها من بني قريظة وتسَرّى بها. («ذكر أزواجه صلى الله عليه وسلم أمّهات المؤمنين»).
120ـ 23 عاما- ص.159.
121ـ نفسه- ص.186.
122ـ نفسه- ص.187.
123ـ الوحي والقرآن والنبوّة- ص.94.
124ـ إبراهيم الواعظ : «السّيرة النبوية وكيف يجب أن تُكتَبَ»- مجلة «الرسالة» (مصر)-السّنة الرّابعة عـ162ـدد، 10/8/1936 – ص.1306.
—————
————————————————————
—————
————————————————————
1